قال كُمَيْل بن زياد: أخذ بيدي أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فأخرجني إلى الجبّان (1) فلمّا أصحر(2) تنفّس الصّعَدَاء
(3) ثمّ قال:
يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ، إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ (4) فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا
(5) فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ:
النَّاسُ ثَلاَثَةٌ:
فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ
(6) وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ،
وَهَمَجٌ (7) رَعَاعٌ (8) أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ (9) يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ.
يَا كُمَيْلُ،
الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، ا
لْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ.
وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو (10) عَلَى الْإِنْفَاقِ،
وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ.
يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ،
مَعْرِفَةُ الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ.
يَا كُمَيْل بْن زِيادٍ،
هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ،
وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ.
هَا إِنَّ ها هُنَا لَعِلْماً جَمّاً (وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلى صَدره) لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً (11)!
بَلَى أَصَبْتُ لَقِناً (12) غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، مُسْتَعْمِلاً آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، وَمُسْتَظْهِراً بِنِعَمَ اللهِ عَلَى عِبادِهِ، وَبِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ،
أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ (13) لاَ بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ ( 14) يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ.
أَلاَ لاَ ذَا وَلاَ ذَاكَ!
أَوْ مَنْهُوماً -شهوة الطعام(15)
بِالَّلذَّةِ، سَلِسَ الْقِيَادِ (16) للشَّهْوَةِ، أَوْ مُغْرَماً (17) بِالْجَمْعِ وَالْإِدِّخَارِ (18)
لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، أَقْرَبُ شَيْءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنَعَامُ (19) السَّائِمَةُ(20)!
كَذلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ.
اللَّهُمَّ بَلَى!
لاَ تَخْلُوالْأَرْض ُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً،
وَ إَمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً * الظلم غطاه غهو لا يظهر (21) لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ.
وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولئِكَ؟
أُولئِكَ ـ وَاللَّهِ ـ الْأَقَلُّونَ عَدَداً، وَالْأَعْظَمُون َ عِنْدَ اللّهِ قَدْراً،
يَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ،
حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ،
وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ،
هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ،
وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ،
وَاسْتَلاَنُوا (22) مَا اسْتَوْعَرَهُ (23) الْمُتْرَفُونَ
(24) وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ،
وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى،
أُولئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أَرْضِهِ،
وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ،
آهِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ!
انْصَرِفْ إذَا شِئْتَ.
الهوامش
الحديث
أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/80)
وقد حكم بضعفهِ محقق كتابِ " الفقيه والمتفقه " (1/183) فقال : " إسنادهُ ضعيفٌ ؛ علتهُ أبو حمزة الثمالي ، واسمه : ثابتُ بنُ أبي صفية . قال أحمدُ بنُ حنبل : " ضعيف الحديث ليس بشيء " . وضعفه أبو زرعة ، وابنُ معين ، وأبو حاتم ، والجوزقاني ، وقال ابنُ عدي : " ضعفه بين " . وفي الإسنادِ أيضاً : عبد الرحمن بن جندب الفزاري ، قال في " لسان الميزان (3/408) : " مجهول " .ا.هـ.
***
وعلى الرغم من ضعفه
قال المحققين من اهل العلم ان هذا الاثر صحيح المعنى
قال الخطيبُ: "هذا الحديث من أحسنِ الأحاديث معنًى، وأشرفِها لفظًا، وتقسيمُ أميرِ المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالبٍ الناسَ في أولِه تقسيمٌ في غايةِ الصحة ونهاية السَّدادِ؛ لأن الإنسانَ لا يخلو من أحدِ الأقسامِ الثلاثة التي ذكَرَها مع كمالِ العقلِ، وإزاحةِ العِللِ، إما أن يكونَ عالمًا، أو متعلِّمًا أو مُغفلًا للعلمِ وطلبِه، ليس بعالمٍ ولا بطالبٍ له".
وقال ابنُ عبدِ البرِّ: "وهو حديثٌ مشهورٌ عندَ أهلِ العلمِ، يَستغْنِي عن الإسنادِ؛ لشهرتِه عندَهم"
اهتم ابن القيم بشرح هذا الأثر في كتابه " مفتاح دار السعادة " (1/403) ، وابنُ رجب الحنبلي في رسالته " كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة " .
على أن بعضَ أهل العلم قد حكم بضعفِه، وقد شرح هذا الأثرَ وعلَّق عليه شيخ الإسلام ابنُ تيميةَ في "جواب الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية"
*قال شيخ الإسلام: "وأما قولهم: " وإما غائب مستور" فمن أكاذيب الرافضة الذين يزعمون أنه أشار به إلى ما لا حقيقة له.وليست هذه الزيادات في شيء من الروايات إلا في مثل نهج البلاغة الذي أكثره موضوع، وضعه واخترعه الشاعر المعروف الرضي". انظر: جواب الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية
1- الجَبّان ـ كالجَبّانة ـ: المقبرة.
2- (أصْحَرَ): أي صار في الصحراء.
3- تنفّسَ الصُعَدَاء: أي تنفس تنفساً ممدوداً طويلاً.
4- أوْعِيَة: جمع وِعاء، وهو الْإناء وما أشبهه.
5- أوْعَاها: أشدّها حفظاً.
6- العالم الرَبّانيّ - الرفيع الدرجة في العلم، العالي المنزلة فيه
7- الهَمَج ـ محركة ـ: الحمقى من الناس.
8- الرَعَاع ـ المتبدد المتفرق
9- الناعق -الصائح؛ وهو في هذا الموضع الراعي يقال نعق الراعي بالغنم ينعق إذا صاح بها
10- يَزْكُو: يزداد نماءً.
11- الحَمَلَة ـ بالتحريك ـ: جمع حامِل، وأصَبْتُ: بمعنى وجدت، أي لو وجدت له حاملين لاَبرزته وبثثته.
12- اللَقِنُ ـ بفتح فكسر ـ: من يفهم بسرعة.
13- المُنْقادُ لحاملي الحقّ: هو المنساق المُقلّد في القول والعمل، ولا بصيرة له في دقائق الحق وخفاياه، فذاك يسرع الشك إلى قلبه لاَقل شبهة.
14- في أحنائه: أي جوانبه، ومفردها حِنْو.
15- المَنْهوم: المُفْرِط في شهوة الطعام.
16- سَلِس القِياد: سَهْلُه.
17- المُغْرَم ـ بالجمع ـ: المُولّع بجمع المال.
18- ادّخار المال: اكتنازه.
19- (الأنْعَام): البهائم.
20- السائمة: التي ترسل لترعى من غير أن تُعْلَف.
21- مغموراً: غمره الظلم حتى غطّاه فهو لا يظهر.
22- اسْتَلانُوا: عدّوا الشيء ليناً.
23- اسْتَوْعَرَه: عدّه وعْراً خَشِناً.
24- المُتْرَفُون: أهل الترف والنعيم.