أثر الثقافة العربية في العلم والعالم (1)
الشعوب كالأفراد، فيها من يولدون على حكم الطبيعة، ويعيشون على هامش الحياة، ثم يغوصون في ظلال العدم، لا ينعم بهم وجود، ولا يغنم منهم إنسان، ولا يعبأ بهم تاريخ. وفيها من يقبلون إقبال الربيع ينضرون الحياة بالجمال، ويمرعون الأرض بالخصب، ويفيضون على الدنيا سلامًا ووئامًا وغبطة! أولئك الذين يصطفيهم الله من خلقه لإعلاء حقه، فيُودعهم سره ويحمِّلهم رسالته فيعيشون لأجلها، ثم يموتون في سبيلها، بعد أن يخلِّدوا في صدر الزمان وعلى وجه الأرض آثار جهادهم في الله، وجهودهم للناس، وفضلهم على المجتمع. وهؤلاء هم أدلاء ركب الحياة، وحمال ألوية الخليقة، يَقلُّون قلّةَ الصفوة، ويبطئون إبطاء الخير، ولكن آثارهم تشغل ذهن العالم، وأخبارهم تملأ سمع الزمن!!.
هذا التاريخ على طوله وفضوله لم يسجل من الأمم التي بلَّغت رسالات الله بالخير والجمال والحق إلا أربعًا: العبران في الدين والسلم، واليونان في الفن والعلم، والرومان في النظام والحكم، والعرب في كل أولئك جميعا!
(والعرب في كل أولئك جميعا) فقرة أقولها وأنا أعلم أن الشك فيها سيحك الآن في بعض الصدور؛ لأن ما أقرته التعاليم المريضة في الأذهان من أن اليونان والرومان هم مصادر الثقافة العالمية، وأن العرب أعجز بفطرتهم عن العلم، وأبعد بطبيعتهم عن التمدن، يجعل هذه القضية على إطلاقها سخيفة!
لقد آن للنظر الصحيح أن يرى، وللعقل المجرد أن يحكم!. أما الأحكام التي صدرت عن موتوري الشعوب وتجار العقائد وورّاث الأحقاد فلا وزن لها في نظر المنطق ولا شأن لها في رأي العلم.
كان العرب في الشرق فاتحين وحاكمين فلا بدع أن تعصف ثورة العصبية، وتقوم دعوة الشعوبية، وتظهر فكرة الإسماعيلية والإسحاقية. ويبقى من آثار ذلك ما نشاهده اليوم وقبل اليوم في سياسة الترك والفرس من ازورار عن العربية واضطغان على العروبة. وكان العرب في الغرب فوق ذلك شرقيين ومسلمين فلم يكن بد من تصادم العقائد وتعارض الطبائع وتحكم الجهالة. فتنشأ محاكم التحقيق، وتصدر عقوبة التحريق والتمزيق، ويشاب التعليم بالتضليل والتلفيق. ويبقى من آثار ذلك أن تظل كنيسة الحمراء تقرع نواقيسها أربعًا وعشرين ساعة قرعًا متداركًا في ثاني يناير من كل عام ابتهاجًا بجلاء العرب عن الأندلس! فكيف يرجى من هؤلاء وأولئك الإقرار بفضل العرب على الثقافة. والاعتراف بجميلهم على الحضارة. وفي النفوس من غلبة الفاتح وتر، ومن عظمة الحاكم حقد، ومن دين المجاهد إحنة، ومن سلطان الدخيل نفور؟ والنهضة الحديثة لم تستطع بفلسفة ديكارت وحرية الفكر ونزاهة التعليم أن تصفي العقول من شوائب هذه المذهبية القديمة، فلا يزال نفر من العلماء يكابدون ازدواج الشخصية فيهم. فهم يجمعون في أهاب واحد بين رجلين مختلفين: حديث يتأثر بالدراسة الشخصية والبيئة الخلقية والفكرية. وقديم يتكون على بطء من تراث الأجداد ومخلفات القرون. وهذا الرجل العتيق هو الذي يتكلم في أكثر الناس، فيملي عليهم الآراء، ويلبس عليهم وجوه الحق. فإذا تنبه الرجل الحديث وتكلم وقع صاحبهما في التناقض وتعسف من جرائهما في الحكم. وأصدق الأمثلة على هذا الصنف من الباحثين العالم المؤرخ (ارنست رنان) خالق فكرة السامية والآرية، وأعدى الكتّاب للأمة العربية. فإن ازدواج الشخصية فيه جعل آراءه في العرب متناقضة يدفع آخرها أولها. له محاضرة معروفة عن الإسلام ألقاها في السربون؛ وقد جهد أن يدلل فيها على وضاعة شأن العرب في التاريخ وقلة غنائهم عن العلم؛ ولكن الرجلين القديم والحديث كانا يتعاوران الكلام على لسانه فينقض أحدهما ما أبرمه الآخر. فبينما هو يقول مثلا: (إن العلوم والآداب والحضارة مدينة بازدهارها وانتشارها للعرب وحدهم طوال ستة قرون؛ وإن التعصب الديني لم يعرفه المسلمون إلا بعد أن دالت دولة العرب وخلفهم على ولاية الإسلام الترك والمغول) إذا به يقول بعد ذلك: (إن الإسلام كان لا ينفك مضطهدًا الفلسفةَ والعلم وأنه جعل من دون الحرية الفكرية سدًا في كل بلد احتله). ثم يعود فيفيض القول في فضل العرب على القرون الوسطى وفيما كانت عليه إسبانيا من الرخاء والارتقاء في عهدهم. فإذا فرغ من ذلك سارع الرجل القديم فيه إلى القول بأن الذين نهضوا بالعلم من المسلمين لم يكونوا من العرب وإنما كانوا من سمرقند وقرطبة وإشبيلية؛ وأنساه شيطانه أن هذه البلاد عربية وأن الدم العربي والعلم العربي قد تغلغلا في أصولها منذ طويل؛ وأن تقسيم العرب إلى عرب وعرابوفون سلاح لا تفلت منه أمته نفسها إذا حلل هذا التحليل نسبَها وأدبَها.
ثم تنتهي المعركة بين الرجلين في (رينان) بقوله في صراحة مفاجئة: (ما دخلت مسجدًا قط إلا تملكني انفعال شديد هو - لو أفصحت عنه - نوع من الأسف على أني لم أكن مسلمًا!).
على أن هناك فريقًا من صفوة العلماء الأوربيين تحرروا من حكم الهوى، وتحللوا من قيد الغرض، فأقروا الحق في نصابه، وأرجعوا الفضل إلى أهله سنجعلهم شهودنا في إثبات ما نقول. فإن أشد ما شهد امرؤ على نفسه وأقرب الآراء إلى الحق رأي الفرد في جنسه.
كان العالم شرقه وغربه في أوائل القرن السابع للميلاد قد استحال كونه إلى فساد. فحضارته تتحطم بالترف والرخاوة. وسياسته تتحكم بالغلول والأثرة؛ وأخلاقه تتفكك بالسرف والشهوة، وعقائده تتنزى بالجدل والتعصب ودماؤه تهدر بين الروم والفرس لغير غرض أسمى ولا مبدأ مقدس. وكانت شعوبه منذ طويل قد فقدت مثلها العليا فهي تعيش عيش الهمل السوائم: فلا عظمة روما تحفز الرومان، ولا مجد السلف يهز الفرس، ولا سمو الغاية يسدد وثبة البربر.
على هذه الحال خرجت أمة العرب برسالتها الدينية والخلقية إلى هذا العالم المنقض والهيكل البالي فجددت أخلاقه على الرجولة؛ وطبعت عقيدته على التسامح، ورفعت مجتمعه على المحبة؛ وصمدت للجهاد والفتح في سبيل هذا المثل الأعلى لا تطمح من دونه إلى سلطان ولا تطمع من ورائه في غرض حتى أنشأت فيما دون القرنين مُلكًا طبَّق الأرض. وحضارة هذبت العالم وثقافة حررت العقل، ولم يكن ذلك مستطاعًا لغير الأمم الموهوبة التي هيأها الانتخاب الطبيعي لتبليغ رسالة أو تجديد دعوة أو تحقيق (اديال Ideal).
وكأين من أمة قوضت سلطان أمة أو أمم، ولكنها لم تَعدُ ما يفعل مَنْسرٌ من اللصوص سطا على قافلة، أو قطيع من الوحوش عدا على قرية، فالشعوب الجرمانية والهونية والسلافية تعاقبت غاراتها على الرومان في الشرق والغرب فاجتاحوا ملكهم؛ والقبائل التركية والمغولية قد دهموا العرب فثلوا عرشهم. ولكن شعباً من هذه الشعوب لم يصغ قلبه للمدنية؛ ولم يُجد فتحُه على الإنسانية، فظلوا بعداء عن الحضارة غرباء عن العلم إلا ما كان من ترويجهم بعدُ لحضارة المغلوب وثقافته.
أما القبائل العربية فلم يكادوا يضعون عن كواهلهم عتاد الحرب وينفضون عن وجوههم غبار الصحراء؛ حتى صعدوا في مراقي الحضارة بسرعتهم في طريق الفتوح. واستطاعوا أن يرفعوا على أنقاض اليونان والرومان والفرس حضارة ثابتة الأصول باسقة الفروع لا يظهر في عناصرها المختلفة الا روح الإسلام وفكر العرب، ثم كانت من القوة بحيث طاولت الدهر، وصاولت المغير، وأخضعت لسلطانها حضارات لم تخضع لفاتح من قبل. وسخرت لدعايتها خصومًا لم يتحرروا من آثارها بعد.
ولو رحنا نتلمس أسرار هذه القوة وأسباب تلك العظمة وجدناها أولًا في إلهام الطبع وسلامة الفطرة وجاذبية المثل الأعلى، وثانيًا في القابلية الطبيعية لفقه الحضارة، وهي صفة لا تكتسب عفو الحاضر ولا طوع التقليد. وإنما تتأصل في الشعب بتقادم عهده في الثقافة، وطول رياضته على التمدن. فالعرب لم يكونوا جميعًا كما يصورهم الأدب القديم جفاة الطباع بداة الاجتماع. وإنما كان منهم في اليمن والحجاز والشام والعراق متحضرون لابسوا أرقى أمم العالم بالتجارة منذ ألفي سنة، وكان لهم قبل الإسلام ثقافة أدبية ومدنية لغوية لم يكن من المعقول أن تظهرا في التاريخ فجأة. فإن تطور الأفراد والشعوب والأنظمة والعقائد تدريجي بطيء لا يبلغ كماله إلا حالًا على حالٍ ودرجة بعد درجة.
والحق أن الأخبار والآثار والعقل تتناصر كلها على إثبات حضارة عربية في المدن الجاهلية. وإذا كان بدو الجزيرة هم الذين أنتجوا الشعر وفتحوا الفتوح فإن حضر الحجاز هم الذين حكموا الناس ونشروا المعرفة وأقاموا الحضارة.
______________________________ ______________________________
المصدر:
مجلة الرسالة، العدد (1) بتاريخ: 15 - 01 – 1933م
منقول