بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإنّ ذبيحة المرتد المنتسب على الطريقة الإسلامية من المسائل الخلافية، والمرتدّ عن الإسلام إما أن يكون منتسبا للإسلام أولا،
فإن لم يكن منتسبا فإما أن يرتدّ إلى دين أهل الكتاب -اليهود والنصارى - أو لا،
والراجح من قولي العلماء: أن ذبيحة المرتدّ المنتسب إلى الإسلام، وإلى أهل الكتاب جائزة إذا كانت على الذبحة الإسلامية.


وهنا أبحاث مختصرة في استجلاء المسألة:

البحث الأول: ثبوت الخلاف في ذبيحة المرتدّ
قال إسحاق بن منصور الكوسج (251هـ) في مسائل أحمد وإسحاق: «قلت: ذبيحة المرتد؟
قال (أحمد: 241هـ): أكرهها. قال إسحاق (ابن راهويه: 238هـ): إن كان ذهب إلى النصرانية، فذبيحته جائزة، كذلك قال الأوزاعي (157هـ)، خالف هؤلاء، واحتج بقول عليّ رضي الله عنه "من تولى قوماً فهو منهم"». مسائل أحمد وإسحاق (8/ 3960).
وقال إسحاق بن منصور أيضا: «قلت: سئل سفيان عن ذبيحة المرتدّ؟ قال: يكرهونها.
قال أحمد: صدق، لأنّه لا يقرّ على دين. قال إسحاق: كما قلت أوّلاً». مسائل أحمد وإسحاق (8/4030).
وفي مسائل أبي داود لأحمد بن حنبل: «المرتد يذبح؟ قال: لا يأكل. قيل: الزنديق يذبح؟ قال: لا تؤكل ذبيحته» مسائل أبي داود (1629).
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل (290هـ) عن أبيه أنه قال: «لا بأس بأكل ذبيحة المرتد، إذا كان ارتداده إلى يهودية أو نصرانية ولم يكن إلى مجوسية». انظر: اجتماع الجيوش (ص320).
هذه روايات ثلاث عن الإمام أحمد:
1- الكراهة، وهو قول سفيان الثوري.
2- التحريم، وهو قول الجمهور.
3- الإباحة المقيّدة، وهو قول الأوزاعي وابن راهويه.
ولعل الإباحة المقيّدة هو الأخير عن الإمام أحمد؛ لأنّ الكراهة لا تنافي الجواز، والإباحة المقيّدة أخصّ من المنع المطلق لكن المشهور في المذهب الحنبلي رواية التحريم.
وأما الإمام إسحاق بن راهويه فقد ثبت على الجواز إن ارتدّ إلى النصرانية واليهودية وحكاه عن الإمام الأوزاعي وأنّه خالف المانعين عن ذبيحة المرتد.
وممن حكى اختلاف العلماء في ذبيحة المرتد:
- الإمام ابن المنذر (318 هـ) قال: «واختلفوا في ذبيحة المرتد. فقالت طائفة: لا تؤكل ذبيحته. كذلك قال مالك والشافعي والنعمان ويعقوب وابن الحسن وأبو ثور. وقال سفيان الثوري: يكرهونها.
وسئل الأوزاعي عن ذبيحة المرتد فقال: مضى فقهاء الإسلام أنه من تولّى قوما فهو منهم، تؤكل ذبيحته، فإن النصراني أولى به، وعليها قيل، وقد كان المسلمون إذا دخلوا أرض الروم أكلوا ما وجدوا في بيوتهم من لحمانهم في قدورهم طبيخا، وهم أهل حرب ودماؤهم حلال.
وقال إسحاق: ذبيحة المرتد إذا ذهب إلى النصرانية جائزة، وحكاه عن الأوزاعي، واحتج بقول علي: من تولى قوما فهو منهم».
انظر: الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف (13/ 517)، مسائل أحمد وإسحاق رواية الكوسج (3001)، (3048).
- ومنهم الإمام أبو جعفر الطحاوي (321هـ): «قال أصحابنا ومالك والليث والشافعي والثوري رضي الله عنهم لا تؤكل ذبيحة المرتد وإن تهوّد أو تنصّر.
وقال الأوزاعي: تؤكل ذبيحته إذا تنصّر أو تهوّد لقول الله تعالى:﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾».
ثم ناقش الطحاوي استدلال الأوزاعي بالآية بقوله: «المراد: من تولاهم من مشركي العرب فصار إلى دينهم، فأما من كان مسلما فلا؛ لأنه لا يقرّ عليه».
مختصر اختلاف العلماء (3/ 211) مسألة (1312).
- ومنهم أبو محمد ابن حزم الظاهري (456هـ): «فإن ادّعوا أنّ المرتدّ لا تقبل منه جزية، ولا تؤكل ذبيحته، ولا يسترق إجماعا: دلّ ذلك على جهل من ادعى ذلك أو كذبه، فقد صح عن بعض السلف: أخذ الجزية منهم، وعن بعض الفقهاء: أكل ذبيحته إن ارتد إلى دين صابئ.
وأبو حنيفة وأصحابه يقولون: إن المرتدة إذا لحقت بأرض الحرب سبيت واسترقت ولم تقتل، ولو أنها هاشمية أو عبشمية».
ثمّ أسند من طريق عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل: أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل أسلم ثم ارتد؟
فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: أن اسأله عن شرائع الإسلام، فإن كان قد عرفها فاعرض عليه الإسلام، فإن أبى فاضرب عنقه، وإن كان لم يعرفها فغلّظ عليه الجزية ودعه.

قال معمر: وأخبرني قوم من أهل الجزيرة: أنّ قوما أسلموا ثم لم يمكثوا إلا قليلا حتى ارتدوا؟ فكتب فيهم ميمون بن مهران إلى عمر بن عبد العزيز فكتب عمر بن عبد العزيز: أن ردّ عليهم الجزية ودعهم. وقد روي نحو هذا عن عمر بن الخطاب». المحلى لابن حزم (12/ 33).
والمقصود من نقل أبي محمد نقضه لدعوى الإجماع في عدم الاسترقاق وتحريم الذبيحة وعدم قبول الجزية عن بعض المرتدين، وإنّ الخلاف صحّ عن بعض السلف وبعض الفقهاء.
على أن الشافعية ومنهم الحافظ ابن حجر قد نازعوا في صحة الإجماع في تحريم ذبائح المجوس لأن لهم شبهة كتاب.
- ومنهم أبو بكر الجصاص (350هـ) قال في معاملة الخوارج وعدم قتالهم ما لم يخرجوا: «وذلك أصل في سائر المتأوّلين من أهل المذاهب الفاسدة أنهم ما لم يخرجوا داعين إلى مذاهبهم لم يقاتلوا وأقروا على ما هم عليه ما لم يكن ذلك المذهب كفرا فإنه غير جائز إقرار أحد من الكفار على كفره إلا بجزية، وليس يجوز إقرار من كفر بالتأويل على الجزية؛ لأنه بمنزلة المرتد لإعطائه بُديّا جملة التوحيد والإيمان بالرسول فمتى نقض ذلك بالتفصيل صار مرتدا.
ومن الناس من يجعلهم بمنزلة أهل الكتاب كذلك كان يقول أبو الحسن فتجوز عنده مناكحتهم، ولا يجوز للمسلمين أن يزوجوهم، وتؤكل ذبائحهم؛ لأنهم منتحلون بحكم القرآن وإن لم يكونوا مستمسكين به، كما أن من انتحل النصرانية أو اليهودية فحكمه حكمهم وإن لم يكن مستمسكا بسائر شرائعهم وقال تعالى: ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾.
وقال محمد في الزيادات: لو أن رجلا دخل في بعض الأهواء التي يكفر أهلها كان في وصاياه بمنزلة المسلمين؛ يجوز منها ما يجوز من وصايا المسلمين، ويبطل منها ما يبطل من وصاياهم.
وهذا يدل على موافقة المذهب الذي يذهب إليه أبو الحسن في بعض الوجوه.
ومن الناس من يجعلهم بمنزلة المنافقين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأقروا على نفاقهم مع علم الله تعالى بكفرهم ونفاقهم.
ومن الناس من يجعلهم كأهل الذمة.
ومن أبى ذلك ففرّق بينهما بأن المنافقين لو وقفنا على نفاقهم لم نقرّهم عليه ولم نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأهل الذمة إنما أقروا بالجزية، وغير جائز أخذ الجزية من الكفار المتأولين المنتحلين للإسلام، ولا يجوز أن يقروا بغير جزية؛ فحكمهم في ذلك متى وقفنا على مذهب واحد منهم اعتقاد الكفر لم يجز إقراره عليه وأجري عليه أحكام المرتدين.
ولا يقتصر في إجرائه حكم الكفار على إطلاق لفظ عسى أن يكون غلطه فيه دون الاعتقاد دون أن يبين عن ضميره فيعرب لنا عن اعتقاده بما يوجب تكفيره فحينئذ يجوز عليه أحكام المرتدين من الاستتابة فإن تاب وإلا قتل والله أعلم» أحكام القرآن (2/53- 54).

البحث الثاني: تحرير محل النزاع.

بعد ثبوت الخلاف في ذبيحة المرتد فلنحرر محل النزاع بإيجاز:
الكافر (المنتسب وغيره) إذا ذبح ما أحلّ الله من الحيوانات باسم الله عز وجلّ، ولم يذبح لغير الله، وأنهر الدم، وفرى الأوداج فما حكم ذبيحته؟

ومدار الجواب على أركان ثلاثة:

الأول: في الذبيحة نفسها، إذ شرط الذبيحة أن تكون مما أحلّها الله إجماعا أو اختلافا.

الثاني: هل كون الذابح مسلما أو كتابيا شرط، أو الديانة (الفرقانية والتوراتية) مظنة الذِبحة الشرعية بدليل أنّ المسلم والكتابي إذا خالفا الذِّبحة، فالذبيحة ميتة محرّمة مع وجود الديانة، ولو كان المدار على الديانة لكان كلّ ما ذبحه مسلم أو كتابي حلالا، وافق الذبحة الإسلامية أم لم يوافق؟

الثالث: اشتراط التسمية في الذبح والصيد؛ لقوله تعالى: ﴿فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين * وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصّل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿فكلوا مما أمسكن واذكروا اسم الله عليه﴾، وقوله: ﴿فاذكروا اسم الله عليها صواف﴾ وقوله تعالى: ﴿إلا ما ذكّيتم﴾، والتذكية اسم شرعي، ولا تكون إلا بالتسمية لظاهر الكتاب والسنة الصريحة في ذلك كحديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه: «إذا أرسلت كلبك، وقد ذكرت اسم الله عليه فكل»، وحديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه: «إذا أرسلت كلبك المعلّم، وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك»، وحديث رافع بن خديج رضي الله عنه: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله تعالى عليه فكل».

وإذا ذبح الكافر حيوانا مأكول اللحم باسم الله، ولم يذبحه لغير الله، وأهرق الدم، وفرى الأوداج لم يبق إلا اشتراط الديانة وهو كون الذابح مسلما أو كتابيا، ولم يذكر أهل العلم في هذا الشرط إلا مفهوم قوله تعالى: ﴿وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم﴾ وهو معارض بمنطوق ومفهوم من كتاب الله كما سيأتي.

البحث الثالث: سبب الخلاف وتحرير المآخذ .
الجمهور على تحريم ذبيحة المرتدّ مطلقا، وخالفهم من سبق ذكرهم.
وسبت الاختلاف هل المرتدّ المنتسب إلى الإسلام وأهل الكتاب يتناوله اسم أهل الكتاب أو لا، وهل يقال للمسلمين أنهم أهل كتاب؟
وهذا مأخذ الخلاف في ذبائح بني تغلب، هل وصف أهل الكتاب يتناول المتنصّر والمتهوّد من العرب، أو لا يتناول؟
جاء في حديث الحارث بن يزيد الحضرمي عن ثابت بن الحارث الأنصاري، عن بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أبي سفيان ليخرج إليه يوم أحد، فانطلق إلى اليهود الذين كانوا في النضير، فوجد منهم نفرا عند منزلهم، فرحبوا، فقال: «إنّا جئناكم لخير، إنّا أهل الكتاب وأنتم أهل الكتاب، وإنّ لأهل الكتاب على أهل الكتاب النصر، وإنّه بلغنا أن أبا سفيان قد أقبل إلينا بجمع من الناس، فإما قاتلتم معنا، أو أعرتمونا سلاحا».
أخرجه الطحاوي في شرح المشكل (2579) بإسناد صحيح إلى ثابت بن الحارث الأنصاري، وجمهور أهل الحديث على أنه صحابي.
روى عنه الحارث بن يزيد الحضرمي (تابعي ثقة) وبكر بن سوادة (تابعي ثقة)، ورجّح بعضهم أنه تابعي مصري.

وإن قيل بانتفاء الصحبة فلا يضرّ، لأن الراجح أنه ثقة، وجهالة «بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» لا تضرّ عند أهل الحديث، وفي الحديث: «إنا أهل الكتاب وأنتم أهل الكتاب».

* دلائل الجمهور في تحريم ذبيحة المرتدّ.

احتجّ الجمهور في تحريم ذبيحة المرتد بقوله تعالى: ﴿وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حل لهم﴾ قالوا: المرتد ليس مسلما ولا من أهل الكتاب فحرمت ذبيحته.
وحكى بعضهم إجماعا في أنّ المرتدّ لا يقرّ بجزية، وجعلوا عدم إقراره بالجزية فرقا مؤثّرا بين المرتدّ وبين الكتابي الذي تؤكل ذبيحته، لأن الكتابي يقرّ بالجزية، والمرتد لا يقرّ بالجزية فلا تؤكل ذبيحته.

وردّ بأنّ المرتدّ إذا ارتدّ إلى اليهودية والنصرانية فهو منهم، وحكمه حينئذ يكون منصوصا وهو فرد منهم قال تعالى: ﴿ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم﴾ مع قوله: ﴿وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم﴾ فذبيحة المرتد عن الإسلام إلي اليهودية والنصرانية جائزة كما جازت ذبيحة اليهودي والنصراني بجامع أن كلا منهما مرتد عن الإسلام دين الرسل مع الانتساب إلى التوراة والإنجيل، ولا فارق بين المرتد عن المحمدية وبين المرتد عن الموسوية مع الانتساب إلى كتابيهما (الفرقان والتوراة)؛ فاتّضح أن الاعتبار الأكبر لطريقة الذبح لا الديانة بدليل أن اليهودي والنصراني والمسلم إذا خالفوا الطريقة صارت ذبيحتهم ميتة.

أما عدم إقرار جنس المرتدين بالجزية فلا يصحّ فيه إجماع لأنّ إقرار بعض المرتدين بالجزية ثابت عن عمر بن عبد العزيز، ومن معه من المسلمين، وجعل الشيء وصفا يناط به الأحكام شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، وجعل عدم الإقرار بالجزية علّة المنع من الذبيحة مصادرة على المطلوب إذ فيه جعل الدعوى دليلا على نفسها.

وأيضا: المرتدّ المنتسب إلى الإسلام أولى بحلّ الذبيحة من الكتابي في جميع الوجوه، وأولى بالحكم المنصوص ﴿وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم﴾ من اليهودي والنصراني من وجهين:

الأوّل: أنا أهل كتاب كما في حديث ثابت بن الحارث، واليهود والنصارى أهل كتاب فإن أثّر انتسابهم إلى كتابهم في حلّ الذبيحة مع كفرهم وارتدادهم عن التوحيد فلئن يؤثّر انتساب المرتد إلى القرآن في حلّ الذبيحة أولى وأظهر.

الثاني: أن كفر المرتد المنتسب أخفّ غالبا من كفر اليهودي والنصراني فإذا حلّت ذبيحة الأغلظ كفرا فلئن تحلّ ذبيحة الأخف كفراً أظهر وأقوى.
قال العلامة القرافي في بحث القبول وعدم القبول لرواية كافر التأويل والفرق بينه وبين كافر التصريح:
«الكافر بالبدعة معظّم للشريعة المحمدية، والقرآن الكريم، مؤمن بموسى وعيسى، وجميع الرسل، وهو من أشدّ الناس تعظيمًا لمحمد بن عبد الله-عليه السلام- وهذه مزايا توجب القرق والاختلاف في الأحكام.
ألا ترى أن أهل الكتاب لما خالفوا الوثنيين في تعظيم الكتاب والرسل، خالف الله-تعالى- بينهم وبين الوثنيين والمجوس في ذبائحهم، ونكاح نسائهم، فجعل نساء الوثنيين كالبهائم لا تنكح، وجعل ذبائحهم كالميتة، وهذا شاهد قوي بالاعتبار على الفرق».

ومن دلائل الجمهور: قياس المرتد على الوثني في تحريم ذبيحته بجامع الكفر وعدم الكتابية.

وأجيب بأن قياس المرتد المنتسب على الوثني المشرك في تحريم الذبيحة والنكاح منه مثل قياس بعض الشيعة الكتابي على الوثني في حرمة الذبيحة والزيجة!
وهو قياس مع الفارق لأن المرتد المنتسب معظّم لجميع الكتب السماوية في الأغلب ولجميع الأنبياء والرسل، ومتولّ لأهل الإسلام في الجملة، وإلى قبلتنا يصلّي في الأغلب، وإلى كتابنا ينتسب ويحتكم إليه في بعض الأحيان، وانتصار أهل الإسلام له انتصار، وهزيمتهم له هزيمة غالبا ... وإذا كان الأمر كذلك فإلحاقه في المناكح والذبائح بأهل الكتاب أولى من إلحاقه بمن لا كتاب له من الوثنيين.

وأيضا عدم إثبات أحكام أهل الكتاب للمرتدّ إليهم مخالف لظاهر قوله تعالى: ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾، وفيه مصادرة على المطلوب وجعل الدعوى دليلا على نفسها أو بعض مقدمات الدليل.

قال الجمهور أيضا: المرتد لا يسترقّ فلا تحلّ ذبيحته.

وأجيب: جعل عدم الاسترقاق علة لتحريم الذبيحة لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع بل سيرة أبي بكر الصديق في المرتدين تشهد للاسترقاق.

قالوا أيضا: قوله تعالى: ﴿وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم﴾ يدل بمفهوم المخالفة على تحريم ذبيحة غير الكتابي، والأصل في اللحوم والأبضاع الحرمة.

وردّ هذا الاستدلال بوجوه:

الأول: لا نسلّم أنّ المرتد المنتسب إلى الفرقانية والتوراتية ليس من الذين أوتوا الكتاب.

الثاني: أن هذا المفهوم معارض بمنطوق قوله: ﴿فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين﴾، ومفهوم قوله: ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق﴾ الآية.

الثالث: أنّ النزاع في علة الحكم وسبب تخصيص أهل الكتاب بالذكر مع كفرهم وشركهم؛ لأنه إذا عرفت العلة بنص أو باستنباط جاز القياس على المخصوص كما يقاس على المستثنى من النص العام بجامع العلم بالوصف.
ألم يكفر اليهود والنصارى بدينهم وكتابهم تحريفا وتبديلا وتكذيبا للأنبياء والرسل وقتلا وافتراء على الله واحتكاما إلى الطاغوت وعداوة لمحمد عليه السلام وكتابه وأتباعه...؟
فإن كان المؤثر في حلّ الذبيحة: موافقة الذِبحة الإسلامية فتحلّ ذبيحة كل كافر مارس الذبحة الشرعية فعلا وقصدا.

وإن كان المؤثّر الانتساب إلى كتاب سماوي فكذلك المرتد المنتسب بل هو أولى بالحكم من اليهود والنصارى نظرا إلى العلة التي ذكرها الفقهاء.

والمقصود: أن مدار المسألة تحقيقا على توسيع مفهوم ﴿الذين أوتوا الكتاب﴾، و على عموم معنوي وهو القياس على النص في أهل الكتاب الذين أبيحت ذبائحهم وزيجاتهم بجامع أنّ كلا منهما كافر في حكم الشرع منتسب إلى كتاب سماوي ودين نبي مرسل، و على طريقة الذبح في الديانة الحقّة يذبحان.

فإن قيل: المرتد المنتسب ليس من أهل الكتاب، وهذا الفارق يمنع من إلحاق المنتسب بالكتابي في حلّ الذبيحة والزيجة.

أجبت بأنّ المغايرة الإسمية بين المرتد والكتابي شرط في الإلحاق لكن البحث في الحقائق الشرعية لا في الفوارق اللفظية.
وإذا نظرنا إلى المعاني الشرعية فالمرتد المنتسب إلى ديننا وكتابنا أولى بالحلّ من الكتابي المكذّب لعيسى ومحمد وكتابهما عليهما السلام.

فإن قيل: المرتد لا يقرّ على الجزية فلا تباح ذبيحته وزيجته.

أجيب بوجهين:

أحدهما: أنّها علّة منتقضة بالمجوس وبالكفار غير العرب لأنهم يقرّون بالجزية ولا تباح ذبائحهم وزيجاتهم فعلم أن الإقرار بالجزية ليس علة الإباحة، والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثِّر عُلِم أنها باطلة كما بُحث في الأصول.

الثاني: أنّ عدم إقرار المرتد بالجزية ليس بمجمع عليه لأنّ بعض السلف يرى إقرار بعض المرتدين بالجزية كعمر بن عبد العزيز، وذكر ابن حزم أن من ادعى الإجماع في هذا فهو إما كاذب أو جاهل.

فإن قيل: علة المنع وجود الشرك والكفر في المرتد المنتسب.

أجيب بأن مشترك الإلزام لا يلزم، إذ الأصل (الكتابي) مشرك وكافر أيضا بل من أكفر الخلائق إلا أن الشرك لا يصلح أن يكون فارقا بين الأصل وبين الفرع بل هو وصف جامع مشترك بينهما!
أليس الكتابي بعد النسخ والتبديل مشركا؟
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «إن الله حرّم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئا أكبر من أن تقول المرأة: ربّها عيسى، وهو عبد من عباد الله» وفي رواية: «ولا أعرف شيئا أعظم من أن تقول المرأة ...». أخرجه البخاري وغيره.
وقال أبو جعفر النحاس ردّا على من حُكِي عنه نفي الشرك عن أهل الكتاب: «وهذا قول خارج عن قول الجماعة من أهل العلم واللغة، وأكثر من هذا أن في كتاب الله عزّ وجل نصّا تسمية اليهود والنصارى بالمشركين قال الله عز وجل: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون﴾ فهذا نصّ القرآن...» . الناسخ والمنسوخ في كتاب الله واختلاف العلماء في ذلك (2/12).

فإن قيل: المرتد إذا دخل اليهودية والنصرانية فلا يقر على ذلك؛ والمرتد المنتسب كافر مشرك لا يثبت له وصف الإسلام ولا الكتابية وإن دخل في دين الكتابيين.

أجيب بأن هذا ضعيف لأنه لا دليل قطعي على عدم الإقرار بالجزية بل ظاهر الكتاب يدلّ على الإقرار بالجزية: ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾.
وأيضا ليس البحث في إسلام المنتسب ولا في كونه من أهل الكتاب وإنّما في إلحاقه بهم في حكم خاصّ (حلّ الذبيحة) بوصف جامع بينهما، سواء أقرّ بالجزية أم لا؛ لأنه لا تلازم بين الحكمين فهناك من يقرّ بالجزية ولا تباح ذبائحه وهم المجوس...
وفي أثر عمر بن عبد العزيز إثبات الخلاف في إقرار المرتد بالجزية؛ لأن المحصّلة إقرار المرتد غير المنتسب بالجزية عند عمر ومن معه من المسلمين.
وهذا أشدّ من محلّ النزاع.

لا يقال: المرتد يجب قتله فكيف تباح ذبيحته؛ لأنّه لا تلازم بين وجوب القتل وبين حلّ الذبائح والمناكح.

ألا ترى أنه يجب قتل الكتابي الحربي مع حلّ ذبيحته، وأنه ما زال المرتدون في الأمّة يأكلون ويشربون ويمرحون لقرون من غير قتل ولا قتال وهو لم يزل إلى الآن، إما لعجزٍ عن تنفيذ أحكام الله فيهم، أو لتقصير منا.

خلاصة الجواب:
الحكم بالكفر على شخص أو طائفة لا يستلزم حرمة ذبائحه لأن قضية الذبائح من مسائل الأحكام التي قد تختلف فيها الأنظار للاختلاف في فهم الدلائل لا من مسائل الولاء والبراء؛ ولهذا اختلفوا في ذبائح المجوس ونكاح نسائهم، كما اختلفوا في ذبيحة المرتد إلى اليهودية والنصرانية.

والمرتد المنتسب إلى الإسلام يجب قتله عند القدرة بالنص والإجماع والاعتبار.

وإذا ذبح على الطريقة الإسلامية فلا مانع من أكل ذبيحته كاليهودي والنصراني المنتسب إلى التوراة والإنجيل مع كفره وإشراكه.
وهذا يكفي في بيان مأخذ الشوكاني وغيره من العلماء، وبيان أثر الديانة في حلّ الذبائح ومرتبتها.
والله الموفق.
كتبه فضيلة الشيخ حسان بن حسين بن آدم.
أبي سلمان الصومالي-أيده الله-