قال ابن القيم رحمه الله :
ومعلوم أن الرب علم أن عباده يقع منهم الكفر والظلم والفسوق، وكان قادراً أن لا يوجدهم أو أن يوجدهم كلهم أمة واحدة على ما يحب ويرضى، وأن يحول بينهم وبين بغي بعضهم،
ولكن حكمته البالغة أبت ذلك واقتضت إيجادهم على الوجه الذي هم عليه، وهو سبحانه وتعالى خلق النفوس أصنافاً، فصنف مريد للخير وحده وهي نفوس الملائكة، وصنف مريد للشر وحده وهي نفوس الشياطين، وصنف فيه إرادة النوعين وهي النفوس البشرية، والرب تبارك وتعالى اقتضت قدرته وعزته وحكمته إيجاد المتقابلات في الذوات والصفات والأفعال، وقد نوع خلقه تنويعاً دالاً على كمال قدرته وربوبيته، فمن أعظم الجهل والضلال أن يقول القائل: هلا كان خلقه كلهم نوعاً واحداً فيكون العالم علواً كله أو نوراً كله، أو الحيوان ملكاً له، وقد يقع في الأوهام الفاسدة أن هذا كان أولى وأكمل ويعرض الوهم الفاسد ما ليس ممكناً كمالاً.... فلو كان الخلق كلهم مطيعين عابدين حامدين لتعطل أثر كثير من الصفات العلى والأسماء الحسنى، وكيف كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها وتضعها مواضعها، فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه، وفات كمال الملك والتصرف، كما أن من عبوديته العتق والصدقة والإيثار والعفو والصبر واحتمال المكاره ونحو ذلك مما لا يتم إلا بوجود متعلقه وأسبابه، فلولا (الكفر) لم تحصل عبودية العتق، فالرق من أثر الكفر، ولولا الظلم والإساءة لم تحصل عبودية الصبر والمغفرة، ولولا الفقر والحاجة لم تحصل عبودية الصدقة والإيثار، فلو سوَّى بين خلقه جميعهم لتعطلت هذه العبوديات التي هي أحب شيء إليه، ولأجلها خلق الجن والإنس. اهـ[ شفاء العليل]