تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 32

الموضوع: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)
    خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    # إذا كنت تشكو من خفّةِ ضبطِ وإتقانِ ما تتعلّمه رغم طول الدّرس ودوام المراجعة
    # إذا كنت تترقّى في سلّم العلم، ولكنّك لا تفتأ تسأل نفسك : هل من طريقة أنجعَ وأسرعَ في ارتقائه، ولعلّك لا زلت تجرّب أسلوبا بعد أسلوب ومنهاجا إثر منهاج
    # إذا كانت التواريخ سرعان ما تختلط عليك، بعدما ظننتَ كلَّ الظنّ، أنّك جاوزت بها قنطرة النسيان
    # إذا كنت تقرأ الحديث النبويّ فيحزنك أنّك تعجز عن تعيين من أخرجه، فكلّ أسماء المحدّثين من المغرب إلى خرسان تتراقص في ذهنك، مع أنّك كنت بالأمس القريب لا تُتعتع فيه


    -> إذا كنت أحد هؤلاء فأرجو أن يكون في هذه السلسلة ما يشفي صدرك ويجلو همّك.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    بسم الله وبه نستعين

    توطأة

    إلى عشّاق العلم والمعرفة، الذين لا يزيدهم ورودُ ينابيع العلم ومناهل المعرفة إلاّ ظمأ، ولا تزدادُ حرارة النهم الملتهب في صدورهم، مع كل كتاب وباب وفصل، إلاّ اتقادا، من يرون أنّ التّعلّم منهاج حياة، فهُمْ مع الكتاب حتى يواريهم التراب. أولئك القوم كمسافر ضارب في الأرض، شُقَّته بعيدة، بل لا مستقرّ لها، تتعاوره الفيافي الموحشة والوِهاد العوالي والنِّجاد الغوامض والحدائق الغنّاء والرّياض المُؤنسة. يطوي المراحل ويقطع الفلوات بين شدّ وخبب ودبيب، تتهاداه أراضٍ، منها المنبسطةُ الليّنةُ السهلةُ المسير، ومنها الصلبةُ الوعْرةُ التّي تُجهد السالك فيها، ومنها ذات منارات وأعلام تهدي السالكين، ومنها يهماءُ لا عَلَمَ ولا منارة فيها يُهتدى بها. وبدون أهبة وزاد ومعرفةٍ بالأرض يوشك أن ينقطع الطريق بالمسافر أو يضلَّ الجادّة، والموفّق من هداه الله وأعانه.
    سأسعى من خلال هذا العمل، أن أنعت لكم سبيلا هداني الله إليها، تختصر عليكم المفاوز وتهوّن عليكم مشقّة السير، تجزعُ بكم التنائف وترقى الجبال وتقطع الأودية وتخوض البحار، في رحلة التعلّم الطويلة، وأدلَّكم على زاد تحملونه معكم، هو أخفّ وزنا وأطيب مذاقا وأحسن غذاءا -إن شاء الله-.
    ليست هذه السلسلة نقلا لتجربتي الذاتيّة في ميدان التعلّم فلست من فرسانه ولم أطاعن فيه ما طاعن غيري من أهل العلم والفضل، ولكنّي ناقل لما أدّى إليه النّظر والتفكّر في آية من آيات الله، ألا وهي الإنسان، كما قال الحقّ -تبارك وتعالى- (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). ومع أنّ في تراثنا، معشر المسلمين، في هذا الباب ما تقرّ به الأعين، فلا زال بين أيدينا الكثير من الخفايا والأسرار المتعلّقة بالعقل وعمله وقدراته في مجال التعلّم في انتظار أن تُكتشف. وقد سَبَقَنا بنو الأصفر في هذا الميدان -كغيره من الميادين- بتطبيق المنهج التجريبيّ واستخلصوا نتائج قيّمة وحكما نافعة. غير أنّ الآخذ منّا بتلك النتائج والحكم قليلٌ، لذلك أسعى هنا أن أدني لكم ثمارها حتى يتسنى لكم قطافها والتلذّذ بها. وسأكشف لكم زيف بعض المسلّمات الرائجة في ميدان التعلّم وألفتُ انتباهكم إلى مكامن الخطأ والقصور في كثير من طرائقه ووسائله.
    سأتحرى تبسيطَ مواضيعِ غرضِنا ومسائلِه، وصياغتها بعبارةٍ سهلةٍ مبسّطةٍ، متنكِّبا ذكر التفاصيل العلميّة والبحثيّة والفنيّة، إلاّ ما يخدم غرضنا ولا يحيد بنا عن المقصود. ولكن لا يسعني إلاّ أن أرفُد كلامي بالإحالة على أصوله التي أُخذ منها، وإلاّ ما الذي يجعلك تطمئن لقولي وتركن لنصحي وتعطيه قدرا من اهتمامك ووقتك الثمين؟! ثمّ سأحرص على أن أشفع الشقَّ النظري بشقّ عمليّ عظيم الفائدة والنّفع، فلا بدّ من حشد القوّات والمعدّات اللازمة لوضع الخطّة حيّز التنفيذ، وإلاّ بقيت حبرا على ورق.
    ربمّا غلب في حديثي الكلامُ عن العلوم الشرعيّة وضربُ المثال بها، فيظنَّ الظانُّ أنّ السلسة تخصّ طلبة العلوم الشرعيّة دون غيرهم، فينسلّ أهل العلوم الماديّة والطبيعيّة، وتلاميذ المدارس والمعاهد وطلاّب الجامعات عبر أزرار الانتقال والروابط إلى شاشات أخرى. فليلتمسوا ليَ العذر فالرجل ابن بيئته، فإذا كنتُ من تلك الزاوية أنظر، فالمشهد أكبر من ذلك. سيجدُ عشّاق العلوم والمعارف على تنوّعها، في هذه السلسلة، ما يفرحهم ويثلج صدورهم -بإذن الله تعالى-.
    هذا، وما كان من حقّ في ما قلت وسأقول فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ أو زلل فمن نفسي ومن الشيطان، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.




    كتبه أبو حامد القطّان
    في ذي القعدة من سنة 1441 للهجرة

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ


  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    ملاحظة هامّة : الرجاء من المتابعين الامتناع عن المشاركة والتعليق حتّى اكتمال السلسلة، ليسهل الاستفادة منها.
    يمكنكم متابعة السلسلة على منصة تلغرام عبر المعرِّف التالي :

    Asmaae_Kollaha

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    الباب الأوّل : دعامتا العلم والمعرفة


    كلّ العلوم والمعارف ترتكز على أساس من الحفظ والفهم، غير أنّ بعضَها يعتمد على الحفظ أكثرَ من الفهم (كالطب والتاريخ)، وبعضَها يعتمد على الفهم أكثرَ من الحفظ (كالرياضيات والبرمجة)، وبين أقصى الطرفين درجاتٌ متفاوتة جدا. يكمن أحد أبرز التحدّيات في العملية التعليميّة في تحقيق التوازن الصحيح بين الفهم والحفظ. وككلّ أمر يكتنفه طرفان، يفترق النّاس فيه ثلاث طوائف : أهل إفراط وأهل تفريط وأهل قصد.
    فيجنحُ أهل التفريط إلى الاعتماد على الحفظِ كوسيلة أساسيّة لضبط العلوم وإتقانِها، حتّى لو كان ذلك العلم يعتمد بقوّة على الفهم والتحليل والاستنباط. ويُعزى ذلك إلى أسباب أهمّها :
    - الإحساس القويّ بالضبط والإتقان الذي يمدّه الحفظ لصاحبه.
    خشية المُتعلّم من الارتكاز على فهمه بعيدا عن الألفاظ والمصطلحات والتعريفات الخاصة بالعلوم، خاصة في بدايات الطلب.
    صعوبة فهم بعض المسائل والفروع يدفع المتعلّم إلى تعطيل ملكة الفهم عنده والاتكال على ملكة الحفظ، طلبا لما تهواه النفس من الدَّعَة والرّاحة.
    - نمط شخصيّة المتعلّم.
    - التقليد المحض ومجاراة الأقران.
    أمّا أهل الإفراط فلا يرفعون بالحفظ رأسا، ويتكلون على الفهم وحده، وحجتهم أنّ الحفظ ليس إلاّ وسيلة للفهم، فإذا تحققت الغاية بأي وسيلة كانت، فلا ضير. وإنّما أُتي هؤلاء من ضعف إدراكهم للعلاقة بين الفهم والحفظ، فإنّ كلاّ منهما يمدّ قرينه ويحوطه. فلا غنى لطلاّب العلوم والمعارف عن حفظ يستمدون وينفقون منه في كلّ حين، وما أجمل أن يكون الطالب والعالم ضابطا مُستوثِقا غير مُجمجمٍ ولا مُرتعش، وما أقبح أنّ تكون سائر بضاعته : لعلّ وربما و"أو كما قال" و"إن لم تخنّي الذاكرة".
    أمّا أهل القصد فهم الذين هُدوا إلى حلّ المعادلة الصعبة، فخلطوا بين الفهم والحفظ دون إسراف ولا تقتير. ومن أعظم مقاصد هذه السلسلة أن "نعيّر" ميزان المتعلّم حتّى يسلم من الميل والطغيان.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)


    إذا كان التوازن بين الحفظ والفهم هو مفتاح المعادلة الصعبة، فكيف نظفر عمليا بذلك التوازن؟
    أولا ينبغي أن نقرّر قاعدة جليلة هي :الفهم مقدّم على الحفظ منزلةً ووقتًا، هذا أصل جامع ينبغي أن لا نحيد عنه. إنمّا الحفظ خادم للفهم، ووراء الفهمِ غايات شتى، ولا ينبغي أن نحفظَ لمجرّد الحفظ. حتّى في القرآن المتعبَّدِ بتلاوته، أعظمُ المقاصد من تلاوته وسماعه، تدبّرُه والعملُ به، والحفظُ وسيلة لذلك. اسمع إلى ما يقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- : "لقد عِشنا بُرْهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلَّم حلالَها وحرامَها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فيَنْثُره نثْرَ الدَّقَل”.
    وممن ذكر هذه القاعدة برهان الإسلام الزرنوجي -رحمه الله- في كتابه القيّم "تعليمُ المتعلِّم طريقَ التعلُّمِ" فقال : "ولا يكتب المتعلّمُ شيئاً لا يفهمه، فإنه يورث كلالةَ الطّبع ويُذهبُ الفطنة ويضيّع أوقاته … قيل: حفظ حرفيْن، خير من سماع وقرين، وفهم حرفين خير من حفظ سطرين.”اهـ. وعليه فالتسلسل المنطقيّ هو أن تبدأ بفهم مادّة العلم، ثمّ تلجأ إلى الحفظ لصيانة ما فهمته من غائلة النسيان. ولهذه القاعدة شواذ وشوارد، ربمّا نأتي عليها أو على بعضها في المقام اللائق بها.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    غير أنّ المعمول به عند كثير من المعلّمين والمتعلّمين هي إحدى خطّتين : الخطّة المعكوسة، أو خطّة التوازي. فالخطّة المعكوسة هي تقديم الحفظ على الفهم، كمن يحفظ المتن قبل أن يقرأ أو يسمع شرحه. وخطّة التوازي هي الفهم والحفظ في آن واحد، ومِثَالُه أن تجعل المتن أجزاءا، فتقرأَ أو تسمعَ شرحَ جزء ثمّ تحفظَه، ثمّ تنتقلَ إلى الجزء الذي يليه، وهكذا دواليك.
    ومع أنّ خطّة التوازي أحسن وأنجع من الخطّة المعكوسة، ولكنْ كلاهما قد يفضي إلى إسراف في الحفظ أو ما أسمّيه #الحفظ_الجائر. وحتّى لا أثقل عليكم بالكلام النظريّ المجرد فلأضرب لكم مثالا من علم النحو، ففي باب الإعراب من نظم العمريطي -رحمه الله- على المقدمّة الآجرُّومِيَّة، يسبك النّاظم علم هذا الباب في 5 شذرات فيقول :
    إِعْرَابُهُمْ تَغْييرُ آخِرِ الْكَلِمْ...........تَقْدِيراً أو لَفْظاً لِعَامِلٍ عُلِمْ
    أَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ فَلْتُعْتَبَرْ...............رَفْعٌ وَنَصْبٌ وَكَذَا جَزْمٌ وَجرْ
    وَالكُلُّ غَيْر الجَزمِ فِي الأَسمَا يَقَعْ.....وَكُلُّهَا فِي الْفِعْلِ وَالْخَفْضُ امْتَنَعْ
    وَسَائِرُ الأَسْمَاءِ حَيْثُ لاَ شَبَهْ........قَرَّبَهَا مِنَ الحُرُوْفِ مُعْرَبَهْ
    وَغَيْرُ ذِي الأَسْمَاء مَبْنِيُّ خَلاَ.........مُضَارِعٍ مِنْ كُلِّ نُونٍ قَدْ خَلاَ
    لا شكّ أنّها أبيات رائقة لناظم بارع -رحمه الله وغفر له-. لكن من تعلّم النحو، ومارسه ولو شيئا يسيرا، تراه ضابطا أشدّ الضبط للعلم المبثوث في هذا الباب، دون الحاجة إلا استدعاء الأبيات، بل لا يكاد محتوى هذا الباب يحتاج إلى تفكير (قد يستثنى من هذا حدّ الإعراب في البيت الأوّل) . فلو سألت المبتدئ في علم النحو :
    - ما أنواع الإعراب؟ لأجابك دون تلعثم : رفع وجرّ ونصب وجزم
    - ما أنواع الإعراب التي تعتري الاسم؟ لأجاب قبل أن تُتِمَّ السؤال : كلّها إلا الجزم
    - ما أنواع الإعراب التي تعتري الفعل؟ كلّها إلاّ الخفض
    - ما الأصل في الأسماء من حيث الإعراب والبناء؟ الإعراب إلاّ ما أشبه منها الحرف
    - ما الأصل في الأفعال من حيث الإعراب والبناء؟ البناء إلاّ ما أشبه منها الاسم
    إذا كان هذا المستوى من الضبط في حقّ المبتدئ من طلبة النحو، فهل تتصوّرون أنّ الطالب المتقدّم أو العالم سيحتاج إلى استدعاء محفوظه في هذا الباب من العلم سواء كان من نظم العمريطي أو الألفيّة أو غيرها؟! عمليّا لن يحتاج الطالب في مسيرته العلميّة إلى استدعاء شيء من هذا الباب، إلاّ البيت الأوّل ربما، وقس عليها أمثالها في كل علم وفي كل باب، فيهدر الطالب من وقته الكثير في ما لا طائل تحته.لا يمكن تفادي هذا #الحفظ_الجائر إلاّ بتطبيق قاعدة : الفهم مقدّم على الحفظ منزلةً ووقتًا.
    فكلا الخطتين : المعكوسة وخطّة التوازي، وهما الأكثر شيوعا بين طلبة العلم الشرعي خصوصا، لا تراعى فيهما هذه القاعدة حقّ المراعاة. قد لا تدركون حجم الخسائر إلاّ إذا تكلمنا بلغة الأرقام، لأنّي أعرف أنّ كثيرين لن يقتنعوا حتّى تلجمهم حجج لا قبل لهم بدفعها، لأن الإلف والعادة تحجب عنهم الصورة الحقيقيّة.
    سأتناول هذا الموضوع بتفصيل أكثر في الفصول القادمة -إن شاء الله-، خاصّة تلك التي تتحدّث عن الحافظ الشنقيطيّ الخارق.

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    هَذًّا كهذّ الشَّعْر ونثْرا كنثْر الدَّقَل


    لعلّ الطريقة الأكثر شيوعا لفهم وضبط ما نتعلّم من الكتب أو المعلّمين والشيوخ هو : التّكرار. ولست أعني هنا التكرار من أجل الاستظهار، وهو الذي نسمّيه "حفظا"، ولكن أعني التكرار من أجل الفهم والضبط. ينبئنا حدسُنا وذوقُنا أنه كلما كرّرنا الدرس أكثر أضحينا أضبط وأوعى لمسائله، وربما تلقّينا نصائح متواترة من جهات موثوقة عندنا باعتماد هذا الأسلوب. وهكذا ننفق الساعات الطوال في القراءة مرارا وتكرارا حتى يراودنا شعور بالرضا عن فهمنا وإتقاننا لطائفة العلم المعنيّة. غير أنّ هذا الشعورَ غالبا، شعورٌ زائف مُضلِّل لا يعكس الحقيقة. تثبت الأبحاث والتجارب أنّ هذا النوع من القراءة، ويسمّى القراءة السلبيّة، لا يبني الحفظ المتين طويل الأجل، ويعطي شعورا زائفا بالفهم والإتقان، بل لا تعدو فائدته "إرهاقَ العينين وعظامِ الرقبة”(1). وأنا أسمّيها قراءة الهذّ، لأنّها أقرب ما تكون لقراءة الرجل الذي قال له عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- "هذّا كهذّ الشعر"، حين أخبره أنّه يقرأ المفصّل في ركعة.
    قدرتك على الإتيان بألفاظ الكتاب أو الشيخ لا يعني أنّك فهمت فحوى الكلام وضبطت معناه. ولكن عادة ما تخدعنا عقولنا، أو نخدعها، فنمرّ على المسألة التي قرأناها مرارا -والتي لا نفهمها في الواقع-، ونشعر أنّه لا حاجة للوقوف عندها لأنّه لا حاجة أن نتعلّم ما لا نعلم!!! ثمّ إذا سُئلنا عن تلك المسألة أو اختُبرنا فيها ظهرَ عجزُنا وافتُضح جهلنا ورُحنا نجمجم ونتلعثم، كأنّ ما ظنّناه مقيّدا بزمام وثيق قد فكّ قيده وغاب في الأفق البعيد وحالت بيننا وبينه طبقة كثيفة من ضباب الجهل.
    في تجربة أجراها علماء جامعة واشنطن، قرأ مجموعة من الطلاّب مادة دراسية وأعادوا قراءتها على الفور، بينما قرأت مجموعة ثانية من الطلاب المادّة مرة واحدة فقط. اختُبرت المجموعتان اختبارًا فوريًا بعد القراءة، وكان أداء المجموعة التي قرأت مرتين أفضل قليلاً من المجموعة التي قرأت مرة واحدة. لكن في اختبار متأخر، تلاشت فائدة القراءة الفورية، وكان أداء المجموعة الأولى على نفس مستوى المجموعة الثانية التي قرأت المادة مرّة واحدة. (2)
    من عيوب قراءة الهذّ "تسطيح" المادّة العلميّة، أي جعل الدرس كلّه في مستوى واحد عند الطالب من ناحية الفهم والضبط، وهو ما يخالف الواقع في أغلب الأحيان. فإنّك ربما قرأت الدّرس فضبطتَ بعض مسائله من القراءة الأولى، وبقي بعضها عصيّا على الفهم حتى بعد القراءة العاشرة، وبين هذا وذاك درجات ودركات. وهكذا يغدو الدرس الواحد كأرض فيها وهاد ونجاد وأودية وجبال وقفار ورياض. فإذا راجعت الدرس جملة واحدة بطريقة القراءة السلبيّة، أنزلت شعبه المختلفة -من جهة الفهم- منزلة واحدة، ولا يمكن تفادي ذلك إلاّ بتجزئة الدّرس إلى أصغر وحدة ممكنة، وهو ما سنبيّن كيفَه في الجانب العمليّ من السلسلة.
    فالكيّس من أنزل كل مسألة من العلم منزلتها، وخصّها بمعاملة تليق بها، فإنّه يوفّر بذلك على نفسه وقتا وجهدا ثمينَين. والأمر ذاته يصدُقُ على الحفظ وسنعرض لذلك في موضعه بإذن الله.
    ومن الاستراتيجيّات التعليمّية الشائعة : التسطير والتظليل (وضع سطر تحت الكلمات المفاتيح والعبارات الجامعة أو تظليلها بلون مغاير)، وهذه الاستراتيجيات لا تفوق التكرار كفاءة، ولا تُخرجُ مستعمِلها عن المنهج السلبيّ في التعلّم.
    هل يعني ذلك أنّ التكرار استراتيجية تعليميّة فاشلة مطلقا؟ الجواب : حتما لا، فحديثنا منصبّ على التكرار السلبيّ، وستفهم الفرق بينه وبين التكرار الإيجابيّ، الضروريّ للضبط والإتقان، قريبا إن شاء الله.

    (1) العبارة من السفر النافع الماتع "المرقاة" للشيخ سليمان العبودي -حفظه الله ونفع به-.
    (2) مترجم من كتاب “Make it stick” من تأليف ثلاثة باحثين غربيين، وهو أحد أهمّ المراجع التي استفدت منها في إعداد هذه السلسلة، غير أنّه لم يترجم إلى العربيّة بعدُ.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    على الطرف الآخر من الطّيف


    توجد طائفة أخرى تكنّ بغضا للحفظ والتكرار سواءا كان سلبياّ أم إيجابيّا، وتراه مضيعة للوقت والجهد. ويعتقد هؤلاء أنّ ما ينبغي أن يشغلنا هو الإبداع وتوليد الأفكار الجديدة وتثوير المعرفة لاستنباط الجديد واستخراج المخبوء. أليس من هذا النبع النضّاخ تفجّرت الأفكار الثوريّة التي غيّرت وجه العالم في : الطبّ والفيزياء وعلم الفلك وحتىّ في العلوم الشرعيّة و"ما وراء الطبيعيات" كما يسمّونها؟! ومع تهافت هذا الطرح فلا ينبغي أن يمرّ علينا أو نمرّ عليه مرّ الكرام.
    اعلم أنّ بلوغ هذا المرتقى العالي (الإبداع أو التجديد) لا يكون إلاّ على أساس قويّ من الإتقان والضبط وهو ما يبنيه الفهم والحفظ. "فالإتقان في أيّ مجال، من الطبخ إلى جراحة الدماغ مرورا بالشطرنج، هو تراكم تدريجي للمعرفة والإدراك المفاهيمي والحُكْم والمهارة”(1) . فالإبداع يقع على نهاية الطريق التي تتخللها محطات عديدة، بل لا ينفكّ الفحول المبدعون عن الاستزادة من العلم، لا يغرّهم طول الطريق الذي قطعوه ولا القمم التي اعتلوها، وهم أعلم من غيرهم أنّ ما بقي من الطريق أطول، وأنّ فوق كل قمّةٍ قمّةً أعلى منها.

    (1) العبارة من كتاب "Make it Stick”

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    الباب الثاني
    أركان التعلّم الإيجابيّ
    (سَمَتْ)

    أوضحنا في ما مضى أنّ القراءة السلبيّة الخالية من التفكّر أو قليلة الحظّ منه، لا تبني الحفظ المتين طويل الأجل، وتعطي شعورا زائفا بالفهم والإتقان. والبديل الناجع لهذا الأسلوب في الفهم والمراجعة، هو نظام تعلّم إيحابيّ مبنيّ على ثلاثة أركان هي :
    1- استخراج العلم

    2- المباعدة بين أوقات المراجعة
    3- التداخل في مسائل العلم
    ويمكن اختصارها في كلمة (سَمَتْ : [س] استخراج [م] مباعدة [ت] تداخل)


    السلك الناظم لهذه الأركان هو : الصعوبة والمشقّة. فكلمّا بذل العقل مجهودا أكبر في التعلّم واكتساب مهارة ما، كلّما صار أحفظ وأضبط لذاك العلم أو تلك المهارة. ومن زعم أنّه كلما كانت العملية التعليميّة أسهل وأيسر كانت أنجع، فقد أساء النصيحة وأضرّ بمن نصحه.

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    كيف نمارس استخراج العلم؟




    الاستخراج هو عملية استدعاء علم ما أو مهارة ما من مستودعها في الذاكرة، وله صور شتى منها المذاكرة والتّعليم والخضوع للاختبار والمناظرة. وهو نشاط مُجهدٌ عقليّا، إذا ما قورن بالقراءة السلبيّة.
    في تجربة أجراها مجموعة من العلماء في مدرسة متوسطة في ولاية إلينوي الأمريكية، وامتدت لثلاث ثنائيات (سنة ونصف)، قام الباحثون بتصميم سلسلة من الاختبارات القصيرة لتلقى على طلاب الصفّ السادس، تغطّي ثلث المواد التي يعطيها المعلم تقريبًا. تمّ إجراء اختبار واحد في بداية الدّرس، يغطي واجب القراءة الذي لم تتم مناقشته بعدُ. وتمّ إجراء اختبار ثانٍ في نهاية الدرس بعد أن قام المعلّم بتغطية المواد الخاصّة بدرس اليوم. وتمّ إجراء اختبار مراجعة قبل أربع وعشرين ساعة من كل امتحان. لكن واجهت الباحثين مشكلة تتمثّل في أنّه لو تحسّن أداء التلاميذ الذين تمّ اختبارهم مقارنة بالذين لم يتمّ اختبارهم، فقد يعزى ذلك إلى مجرّد تعرضهم للمعلومات أكثر أثناء الاختبار، وليس للمارستهم للاستخراج. لمواجهة هذا الاحتمال، تخلّلَ الاختباراتِ عرضُ معلومات لا تتطلب إجابات من التلاميذ، والتي تمّ تقديمها في شكل جملة تقريريّة، مثل "يمدّ نهر النيل رافدان رئيسيّان: النيل الأبيض والنيل الأزرق"، دون الحاجة إلى استخراجها. تمّ عمل اختبارات حول الدروس لبعض الفصول، ولكن أعيدت مراجعتها فقط لفصول أخرى. استغرقت الاختبارات بضع دقائق فقط من وقت الفصل الدراسي. عرض أحد العلماء سلسلة من الشرائح على اللوحة في واجهة الغرفة وقرأها على التلاميذ. تحوي كل شريحة إمّا سؤالا ذا اختيارات متعدّدة وإمّا جملة تقريريّة. كانت النتائج مذهلة: سجل التلاميذ درجة كاملة أعلى (أي حوالي 10%) في المواد التي تمّ اختبارهم فيها مقارنة بالمواد التي لم يتمّ اختبارهم فيها. علاوة على ذلك ، لم تكن نتائج اختبار المواد التي تمت مراجعتها كجمل تقريرية (كمثال نهر النيل السابق) أفضل من نتائج المواد غير المراجعة، ما يؤكّد أنّ مجرّد إعادة القراءة لا يساعد في الحفظ والضبط. (1)
    يستحبّ أن لا يتم الاستخراج الأوّل بعد قراءة أو سماع المادّة العلميّة مباشرة، لكن بعد برهة من الزمن يصير بعدها أمر التذكّر شاقّا (بعد ساعات مثلا أو يوم). يمكن أن تختبر نفسك بنفسك بإلقاء ما تذكره غيبا، أو بطريقة سؤال-جواب، وأحسن من ذلك مذاكرة الزملاء والأقران، وأحسن منها المناظرة(2)، ثم لتعرض جوابك على الأصل حتى تعرف نسبة الصواب والخطأ في جوابك، وتصحّح ما يحتاج تصحيحا، وتتأمل في ما يحتاج تأملا. ستجد أنّك لا تذكر كثيرا ممّا سمعته أو قرأته أو لا تفهمه، لا تُصب بالإحباط، فهذا خلقُ الله، وفيه حكم وآيات عظيمة لمن تأمّلها. من التفسيرات لهذه الظاهرة أنّ عقولنا تَفرِز المعلومات، فما لا نتكلّف تذكّره (كالأحداث اليوميّة وتفاصيلها الكثيرة في حياتنا) يُطرح من الذاكرة قصيرة المدى سريعا ليفسح المجال لغيره من المعلومات التي نحتاج أن نتعامل معها بشكل فوريّ، لذلك لعلّك لا تذكر ما كان عشاؤك بالأمس. أمّا ما نُكثر استذكاره ومعالجته ونبدي اهتماما بالغا به من العلم والمعرفة، فإنّ العقل يدرك أنّه ممّا ينبغي نقله إلى الذاكرة طويلة المدى للحاجة إليه. فسبحان من خلق فسوّى وقدّر فهدى.
    سيتوجّب عليك سدّ الثغرات وملأ الفراغات شيئا فشيئا عن طريق الرجوع إلى الأصل ومعاودة عمليّة الاستخراج. ستلاحظ كيف أنّ بعض المسائل والمفاهيم ليست مضبوطة عندك على النحو الذي تظنّه، مهما بدت لك سهلة وبدهيّة. سنعرِضُ في الشقّ العمليّ لأداة عظيمة النفع في ممارسة الاستخراج -إن شاء الله تعالى-.

    (1) من كتاب "Make it Stick”
    (2) قال برهان الإسلام الزرنوجي -رحمه الله- في كتابه القيّم "تعليمُ المتعلِّم طريقَ التعلُّمِ" : وفائدة المطارحة والمناظرة أقوى من فائدة مجرد التكرار لأن فيه تكراراً وزيادة. وقيل: مطارحة ساعة، خيرٌ من تكرار شهر.

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    لا مشاحّة في الاصطلاح

    حين تستخرج مسائل العلم احرص على صياغتها بألفاظك التي تؤدّي ما فهمته. لا يكنْ أكبرُ همّك الإتيانَ بألفاظ الشيخ أو الكتاب، فإنّه لا مشاحة في الاصطلاح -كما يقال-. صياغتك للمسألة دليلُ فهمك، وعجزك عن ذلك دليل عدم فهمك، مهما أوهمتك نفسك أنّك تفهمها. قد يؤدّيها غيرك بألفاظها لا تتلّع، غير أنّه إذا كان لا يفهمها فسرعان ما ستتفلت منه أو يتفلت بعضها، بل ربما لو نسي كلمة واحدة لأفسدت تسلسل الحفظ لديه فانقطع. فمَثَلُه كمثل من بنى بيتا كلّ لبنة فيها تعتمد على ما حولها، ورغم علوّه وبهاء منظره فيكفي أن تسلّ منه لبنة واحدة ليخرّ إلى أساساته. أمّا صاحب الفهم فقد لا يكون بيته في جمال بيت الأول ولكنّه كطود راسخ فما أصعب أن يسقط منه ركن فضلا على أن يخرّ جميعا.

    مع ذلك يبقى الجمع بين الحفظ والفهم هو الكمال في كل علم وفنّ، فضبط الألفاظ والمصطلحات في كلّ فنّ من الفنون له فوائد جمّة، منها على سبيل المثال لا الحصر : الدقّة والاستيعاب وسهولة التخاطب بها مع أرباب كلّ فنّ.

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    راجعْ غبّا تزددْ فهما : ممارسة المباعدة في التعلّم



    قد عرفتَ أن المراجعة لا ينبغي أن تكون قراءة سلبيّة مفتقرة إلى التعقّل والتفكّر، فما أقلّ نفعها. إنّ المراجعة الفعّالة تعتمد على الاستخراج الذي تكلّ منه العقول وتتعب، غير أنّ عاقبة هذا الكلال والتعب حدّة في الحفظ وجودة في الفهم. كذلك تزداد فعاليّة المراجعة إذا وقعت على فترات متباعدة، فبدل أن تراجع الدرس ثلاث مرار في جلسة واحدة، فأجدى أن تراجعه اليوم مرّة، ثم تراجعه ثانية بعد 3 أيام ثم تراجعه ثالثة بعد أسبوع. المباعدة بين أوقات المراجعة تعزّز الذاكرة طويلة المدى، وتجعلنا أضبط للعلم وأقدر على استخراجه وقت الحاجة.
    في دراسة أجريت على ثمانية وثلاثين من الجراحيين المقيمين، أخذوا جميعا سلسلة من أربعة دروس قصيرة في الجراحة المجهرية: كيفية إعادة ربط الأوعية الصغيرة. تضمّن كلّ درس بعض التعليمات متبوعةً ببعض الممارسة. أكمل نصف الأطبّاء جميع الدروس الأربعة في يوم واحد، وهو النسق العادي أثناء الدراسة. أكمل الآخرون نفس الدروس الأربعة ولكن بفاصل أسبوع بينها. في اختبار تم إجراؤه بعد شهر من جلستهم الأخيرة، تفوق أولئك الذين تم الفصل بين دروسهم أسبوعًا، على زملائهم في جميع المجالات : الوقت المنقضي لإكمال الجراحة وعدد حركات اليد والنجاح في إعادة ربط الأبهر المقطوع للفئران الحيّة. كان فرق الأداء بين المجموعتين مثيرًا للدهشة. الأطباء الذين أخذوا جميع الجلسات الأربع في يوم واحد لم يسجّلوا درجات أقل في جميع الإجراءات فحسب، ولكن 16% منهم أتلفوا أباهر الفئران بشكل لا يمكن إصلاحه ولم يتمكنوا من إكمال عملياتهم الجراحية.(1)
    من المهّم التنبيه على أنّ الفهم والمراجعة ليستا عمليتين منفصلتين يمكن رسم حدود واضحة ببينهما، بل الوصف الأنسب هو أنّ المراجعة امتداد للفهم. قد خبرتَ -بلا ريب- ذلك الشعور المبهج أثناء مراجعتك لبعض ما تعلّمتَ، كأنّ الغيمَ انقشع، فأنارت لك أشعّةُ الشمس الساطعة تلك المسألةَ، حتّى كأنّك تقرأها لأوّل مرّة، وحينها قلت في نفسك متعجبا : كيف لم أفهمها قبل اليوم؟! ربما ازددتَ علما، فهبَّت ريحه الطيّبة على ذلك الغيم فأزاحته، أو أنّ عقلك في تلك اللحظة كان يعلو موجة مواتية، أتاحت لك النّظر من زاوية لم تنظر منها من قبل.
    من الناحية العمليّة تتأثّر وتيرة المراجعة بمدى فهمك وضبطك. مثلا بعد 3 أيام من عمليّة الاستخراج الأولى، تعاود الكرّة، وتقيّم مدى حفظك وضبطك. فإذا كانت إجابتك صائبة وتامّة يمكن أن تجدول مراجعة ثالثة بعد أسبوع مثلا. أمّا إذا كانت الإجابة خاطئة أو منقوصة، فستقلص المدّة إلى يومين أو ثلاثة مثلا. لعّلكم تقولون : أكثرت علينا من "مثلا" في هذا الفصل، ونحن بحاجة إلى خطّة عمليّة للمراجعة ذات المواعيد المتباعدة! فأقول : أبشروا، فعندما ننتقل إلى الشقّ العمليّ سأصف لكم أداة رائعة تفي بالغرض -إن شاء الله-.


    (1) من كتاب "Make it Stick”

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    اخلط الأوراق : إستراتيجية التداخل في تعلّم العلم




    يعتقد أكثرنا أنّ الاكتفاء بممارسة باب واحد من أبواب العلم، أو مهارة واحدة من فنّ ما أفضل من الإكثار من المسائل والمهارات والخلط بينها في وقت واحد، حيث يتيح لنا ذلك تكرير مسائل الفنّ أو المهارة أكثرَ، ويجمع العقل والفكر عليها دون مزاحمة قد تقلّل من قدرتنا على الاستيعاب. ما أجمل هذه الحجة، ولكنّها كسابقاتها خادعة مضلِّلة.
    في تجربة تمّ تعليم مجموعتين من الطلاّب كيفية حساب أحجام أربعة مواد هندسية صلبة (إسفين ، كروي، مخروط، نصف مخروط). ثم عملت مجموعة من الطلاب على حلّ تمارين تم فرزها حسب نوع المادة الصلبة (أربعة مشاكل لحساب حجم الإسفين، ثم أربع مشاكل للكروي ، وهكذا). عملت المجموعة الأخرى على حلّ نفس التمارين، لكنّ التسلسلَ كان مختلطًا بدلاً من فرزه حسب نوع المادّة الصلبة. أثناء حلّ التمارين، بلغ متوسط نسبة الطلاب الذين حلّوا التمارين المفروزة 89٪، مقارنة بـ 60٪ فقط لأولئك الذين حلّوا التمارين المختلطة. ولكن في الاختبار النهائي بعد ذلك بأسبوع، بلغ متوسط تقييم الطلاب الذين مارسوا حلّ التمارين المفروزة 20٪ فقط، في حين بلغ متوسط تقييم الطلاب الذين تمّ خلط ممارستهم 63%. عزّز خلط أنواع التمارين أداء الطلاّب بنسبة رائعة، بلغت 215 بالمائة خلال الاختبار النهائيّ.(1)
    يُعتقد أنّ المجهود العقليّ المضاعف الناجم عن التعامل مع مواضيع مختلفة في آن واحد، يعزّز الروابط بين المسائل المختلفة وقدرة المتعلّم على استنباط العلاقات المتشابكة من خلال النظر إلى
    "الصورة الكبيرة”. فأنت لا تعزّز حفظك وضبطك طويل المدى فقط، بل تقوّي قدرتك على الاستنباط والتّحليل والتّثوير.
    الممارسةالمركّزة (بالتركيز على باب واحد في وقت واحد) يعطي نتائج أضعف على المدى الطويل، لكن الغريبُ أنّ الذين خضعوا للتجارب اعتقدوا جميعُهم -تقريبا- أنّ الممارسة المركّزة أنجع من الممارسة المتداخلة، حتى بعد ظهور نتائج الاختبارات التي تُكذّب ذلك!!! يسمّي العلماء الأداء العالي الذي نكتسبه من التكرار السلبيّ والممارسة المركّزة "القوّة اللحظية"، ويميّزونها عن "قوة العادات الأساسية" التي تحتاج إلى اعتماد تقنيات مثل الاستخراج والمباعدة والتداخل.

    (1) من كتاب "Make it Stick”

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    تكتيكات ممارسة التداخل في التعلّم


    وضع استراتيجية التداخل في التعلّم حيّز التنفيذ يرجع إلى كل علم وفنّ بحسبه. في مجال العلوم الشرعيّة، فمن أحسن طرائق ممارسة التداخل، التمرّن على تطبيق ما تعلمناه في شتى الفنون على النصوص الشرعيّة والأدبيّة، دون الالتزام بفنّ بعينه أو مسألة بعينها. فتقرأ الآية من القرآن ثمّ تذكر ما يحضُرُك فيها من لغة ونحو وصرف وبلاغة وأحكام وعقائد، ونظائر الآية في اللفظ والمعنى، وهكذا الشأن في الحديث النبويّ والأشعار. وكانت هذه طريقة بعض أهل العلم في تعليم طلاّبه، كما ذكر الحافظ ابن حجر عن الشيخ إبراهيم بن عبد الرحمن بن جماعة، قال : “ وكانت طريقته أنه يلقي الآية أو المسألة؛ فيتجاذب الطلبة القول في ذلك والبحث، وهو مُصغ إليهم. إلى أن يتناهى ما عندهم، فيبدأ فيقرر ما ذكروه، ثمّ يستدرك ما لم يتعرضوا له، فيفيد غرائب وفوائد"(1)

    (1) نقلا من كتاب "المرقاة" للشيخ سليمان العبودي -حفظه الله ومتع به-

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    أسلحة أخرى في ترسانة المتعلّم


    هناك أساليب أخرى، تعزّز ضبطنا وإتقاننا للعلوم، بل تفتح لنا بابا إلى تثوير العلم والاستنباط والإبداع. من هذه الأساليب :
    1- المسح والتساؤل:المسح عمليّة سابقة للقراءة. لِمَسْح كتاب ما اقرأ المقدّمة وجدول المحتويات (الفهرس)وملخّصات الفصول إن وُجدت. ولِتَمْسح بابا أو فصلا انظر في مخطّطه واقرأ العناوين وتأمّل في الصور وجداول البيانات والرسوم البيانية. يمكّنُك المسح من تشكيل فكرة عامّة عن موضوع الكتاب أو الفصل ومقاصده. لا ينبغي أن تستغرق عمليّة المسح أكثر من بضعة دقائق. يصنعالمسح المبدئيّ إطارًا جامعا تنتظم فيه مسائل العلم أثناء قرائتها، ما يسهّل عليك تذكّرها، ويمكّنك أيضًا من اختصار وقت القراءةللفهم الزائد الذّي يمدّك به المسح الأوّليّ. بعد المسح عليك أن تطرح أسئلة حول التصوّر الذي شكلته عندك عملية المسح. يعزّز طرح الأسئلة تيقّظ الطالب وتحفّزه وانخراطه في القراءة الإيجابيةبإعطاء هدف للقراءة.(1)
    2- الإثراء :كأن تسأل : ما الرابط بين ما تعلّمته للتوّ وما كنت أعلمه سابقا؟ هل يمكن أن يخدم ما تعلمته جوانب أخرى لا ترتبط ببابه عادة؟
    3- التفكّر: وهو خليط من الاستخراج والإثراء، مدفوع بأسئلة مثل : ما الذي تمّ بطريقة مرضيّة؟ ما الذي لم يسر على ما يرام؟ ما الذي يمكن أن نحسّنه؟ قال برهان الإسلام الزرنوجي -رحمه الله- في كتابه "تعليمُ المتعلِّم طريقَ التعلُّمِ" : "وينبغي لطالب العلم أن يكونَ متأملاً في جميع الأوقات في دقائق العلوم ويعتاد ذلك فإنما يُدرِكُ الدقائق بالتأمل، فلهذا قيل: «تأمل تُدرِك ».”
    هذه بعض الوسائل والأساليب وليس قصدنا في هذه السلسلة الاستقصاء، ولكننا اقتصرنا على ما رأيناه أنفع، ولعلّنا نوسع دائرة البحث مستقبلا لتشمل بعض هذه الوسائل بمزيد من التفصيل.

    (1) من كتاب "Your Memory : How it Works and How to Improve it” لكينيث ل.هيجبي باختصار وتصرف

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    تلذّذْ مراراةَ التعلّم : لا سبيل إلى ضبط العلم وإتقانه إلاّ بمكابدة المشاقّ والصّعاب


    نظريا ليس لسَعة الذاكرةِ طويلةِ المدى حدّ، بل كلما ازددت علما كلما أمكنك صنع روابطَ جديدة في الذاكرة لتقييد العلم الجديد. قال الزهري : "إنّ الرجل ليطلب وقلبه شعب من الشعاب ثم لا يلبث أن يصير واديا ولا يوضع فيه شيء إلا التهمه". وقال غيره : "ما رأيت شيئا إلا وقليله أخف من كثيره إلا العلم فإنه كلما ثقل خف حمله". في المقابل، قدرتنا على استدعاء طائفة من العلم وقت الحاجة، من المخزون الضّخم طويلِ المدى، محدودةٌ نسبيا. فحفظ العلم أمر، واستدعاؤه وقت الحاجة أمر آخر. فلعلّك تستظهر القرآن كلّه أو ما شاء الله لك أن تستظهر منه، ولكن لو سئلت أن تستدعي كلّ آية تحفظها في "نعيم الجنة" مثلا أو "صفة المنافقين"، ربما لم يحضرك من ذلك إلا الشيء اليسير.يمكن أن نسمّي هذه الظاهرة تأسيا بالشيخ سليمان عبودي"المعرفة الكامنة"(1). شدُّ وَثاق الشارد من المعرفة يُحكمهأمران :
    - كثرة استدعاء المعرفة
    -وكميّة ونوعيّة الإشارات والإلماعات التي تربطها بشبكة المعرفة السابقة عندنا. فالعقل يستعصي عليه العلم السابح في الفضاء، فلا تكاد تطاله يدّ الاستحضار. لكن كلّما كثرت علائق المعرفة بمعارف أخرى وتشعبت، كلّما تقاربت وسهل استدعاؤها عند الحاجة.من مارس العلم لا بدّ خَبِر، بقدر قلَّ أو كثرَ، أثر الربط على رسوخ العلم والمعرفة. فحين ترتبط المسألة النحوية عندك بآية أو حديث ستكون أرسخ منها لو كانت مجردة عن ذلك. وإذا ارتبط الحكم على الراوي بخبر أو مجموعة أخبار يرويها فرسوخ الحكم أرجى منه لو كنت تعرف الحكم مجردا، وقس على ذلك.
    استخراج العلم والمباعدة والتداخلأعمال شاقّة عقليا ونفسيا. هذه المشقّة هي التي تعزّز رسوخ المعرفةعلى المدى الطويل، وتقوّي ملكة استدعائها وقت الحاجة.من النتائج البحثيّة التي تثبت هذه القاعدة ما يلي :
    - وجدوا أنه متى تمّ حذف حروف من الكلمات في النص، ما يتطلب من القارئ تكميلها، تحسّن مستوى حفظ القارئ لها.
    - عندما يعرض الأستاذ المحاضر المادة بترتيب مختلف عن ترتيب الكتاب المدرسيّ، فإن الجهد المبذول لتمييز الأفكار الرئيسية والتوفيق بين المادة المبعثرة ينتج عنه ضبط أفضل للمحتوى.
    - عندما يكون النص في الصفحة أقلّ وضوحا أو مكتوبا بخطّتصعب قراءته، يتذكر القارئ المحتوى بشكل أفضل.
    ومن أمرّ ما يتجرّعه المتعلّم في وصال العلم : الخطأ. تثبت نتائج الأبحاث أن صعوبة المادّة تخلق مشاعر انعدام الكفاءة، التّي تولّد بدورها القلق، والذي يعطّل بدوره التعلّم.في أثناء العمليّة التعليميّة لا مناص من الخطأ، بل الخطأ أحيانا يكون أنفع من الصواب. لكنّ أكثرنا يحاول جاهدا أن يجتنب الخطأ بسبب أثره النفسيّ المحبط، ومن مظاهر ذلك أنّك تجتنب مذاكرة العلوم الأصعب عندك ما استطعت، وربما أجلّتها حتى يضيق الوقت عنها. لا تدع هذا الشعور يغلب عليك ويقطع عليك طريق التعلّم.تقبّلِ الخطأبل تلذّذهُ، إذ هو سبيلك إلى الضبط والإتقان.
    ومَنْ لَمْ يَذْقْ مُرّ الَتَعلُّمِ سَاعَةً .:. تَجَرّعَ ذُلّ الجَهْلِ طُولَ حَياتِهِ

    (1) راجع فصل "المعرفة الكامنة" من كتاب المرقاة للشيخ سليمان العبودي فقد أبدع فيه، وكثير مما ذكره في هذا الفصل هو مقتضى ما توصلت إليه التجارب والأبحاث العلميّة.

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    الباب الثاني

    احفظ فكل حافظ إمام



    قد ذكرنا أنّ الحفظ أحد دعامتي العلم، وبتقويتها يغدو صرح العلم في نفس المتعلّم راسخا مَنيفا. والحفظ والفهم يُمدّ كلٌ منهما الآخر ويحوطه. فأوّلُ ما يُسهّل عليك حفظَ العلم فهمُه، لذلك يُنصح المشتغل بحفظ القرآن أن يقرأ تفسير ميسرا لما يريد حفظه ليسهُل عليه، وهكذا الأمر في كلّ فنّ وعلم. لكن ليس الشأن أن تحفظَ وكم تحفظُ، ولكنِ الشأن أن تعرف ماذا تحفظ ومتى تحفظه، حتّى لا تضيّعَ من نعمة الوقت ما لا سبيل إلى استرداده ولا تتخمَ ذاكرتك بما أنت في غنى عنه. تعالَوْا أضرب لكم مثالا لميزان مائل طاغٍ، فما أحسن الأمثال في التّعليم والبيان.

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    #الحفظ_الجائر : الحافظ الشنقيطيّ الخارق


    قبل أن أحبّر هذه الشاشة بأفكاري المستفزّة، فإنّي أُشهدكم على حبّي لعلماء شنقيط وطلاّب محاظرها، وفخري أن يكون في أمّتي أمثالهم من مصابيح العلم ونجوم الهدى. فلعلّ أحدهم يمرّ من هنا فيجد عليّ في نفسه، ويقول من أنت حتى تتكلّم في أسيادك. فله أقول : يا سيدي ألا تقرأ سورة النمل؟!
    لو نظرنا في طرائق تعليم العلم الشرعيّ قديما وحديثا، لوجدنا أنّ من أكثرها شيوعا وقَبولا طريقة (متن-شرح)، أي حفظ المتن ودراسة شرحه. قد نجد تفاوتا بين بلد وآخر، أو منطقة وأخرى، أو شيخ وآخر، أو زمن وآخر في درجة الاعتماد على هذا الأسلوب، ولكنّه يبقى من أوسع طرائق التعليم انتشارا بين طلبة العلم الشريف. وقد حاز الشناقطة قصَب السبق في هذا المضمار، لا يكاد ينافسهم فيه منافس. طالب المحظرة الشنقيطي ربما يكرّر البيت ألف مرّة ليحفظه. لو فرضنا أنّ البيت يأخذ منه 3 ثوان ليقرأه (بلغة الطلاسم التي يتقنها الحفّاظ)، يعني هذا أنّه يحتاج 3000 ثانية ليحفظ بيتا واحدا، وهو ما يعادل 50 دقيقة للبيت الواحد. وعليه فحفظ ألفية من ألفيّات العلوم ستستهلك من وقته 50 ألف دقيقة، ما يعادل 833 ساعة!!! لا يتناطح عنزان أنّ هذا الطالب سيكون ضابطا للألفية كضبطه لاسمه -تقريبا-، ولكن في مسيرته العلميّة كمْ هي الأبيات، من جملة هذا المحفوظ، التي سيحتاجها الطالب ليستشهدَ بها أو يستذكرَ ما نسيه أو يرجعَ إليها أثناء التفكّر والتأمّل والبحث؟ الإجابة تحتاج إحصاءا علميا رصينا، يُستفتى فيه حفّاظ المتون، لنستخرج نسبا واقعيّة (ها قد ألقيت بها بين أظهركم)، ولكن لن أكون مبالغا إذا قلت أنّ النسبة لن تتجاوز 50%، بل ربما تنزل إلى 20% أو 10% في بعض العلوم. لنبني على فرضيّة 50%، هذا يعني أنّ 415 ساعة من وقت حبيبنا الحافظ الشنقيطي الخارق راحت هدرا، وهذا في ألفيّة واحدة، فكيف إذا كان يحفظ 10 ألفيات، هذا يعني 4150 ساعة، فإذا كان هذا الطالب يدرس بمعدل 10 ساعات يوميا، فيكون أهدر من عمره سنة وشهرين تقريبا!!! أما إذا نزلنا بالنّسبة إلى 20% فيكون أهدر 666 ساعة في الألفية الواحدة، أي سنة و10 أشهر من سنوات الطلب العزيزة في 10 ألفيّات!!!
    الآن ينبغي أن تلحّ عليك أسئلة مزعجة : ولكن أين تذهب هذه الأوقات؟! أترمي إلى أن الحافظ الشنقيطي لم يستفد من بقيّةِ الأبيات؟! فلماذا حفظها في المقام الأول؟!
    لو كانت خطّة الحافظِ الشنقيطيِّ، ومثلُه الكثيرُ من طلبة العلوم والمعارف، منطقيّةً ما كان لما أكتبه أيّ داعٍ! أنا أريد أن ألفت انتباهك إلى المتناقضات وأحرضكَ على مُسائلةِ المسلّمات.
    أمّا الجواب عن سؤال "فلماذا حفظها إذا؟!” فهو ما ذكرتُ في فصل "دعامتا العلم والمعرفة" من الأسباب التي تجعلنا نجنح إلى الحفظ المجرّد، ولعلّ السبب الأخير منها، وهو التقليد والمجاراة، هو الأقوى في حالة الحافظ الشنقيطي.
    أمّا سؤال "أترمي إلى أنّ الحافظ الشنقيطي لم يستفد من بقية الأبيات؟!” فجوابه : أنّ الحافظ الشنقيطي ربما استفاد بها في مرحلة الدّرس، حين كان يعرض على الشيخ محفوظه ليَشرحَه له، أو يقرأُ الشرح من كتاب، ثمّ إنّه بعد زمن من المراجعة والمذاكرة والمناظرة قيَّد أوابدَ ما تعلّمه من تلك الأبيات، فما عاد يحتاج أن يسترجع الأبيات إذا عَرَضَتْ له مسألة منها. فلو سألته عن أنواع المياه، أو أحكام "كان" وأخواتها، أو أنواع العلّة المؤثرة في الحديث، لأجابك دون تلعثم ودون الحاجة إلى استدعاء محفوظه. لماذا؟ ببساطة لأنّه وعاها وضبطها. قد يعترض معترض بأنّه لم يكن ليعيها لولا حفظه للأبيات المتعلّقة بها؟ فأقول : قد يكون حفظه عاملا مساعدا ولكن في الغالب ليس هو العاملَ الأهمّ، وكان في مقدوره أن يظفر بنفس الدّرجة من الضّبط دون أن يحفظ الأبيات.
    أغلب المتعلّمين الذين يميلون إلى الحفظ، يمارسون #الحفظ_الجائر بدرجات متفاوتة، ويُغبَنُون في أوقاتهم أيّما غُبْن. ولعلّ من يقرأ هذه السّطور من حفّاظ المتون يستفتي نفسه، ليعرف نسبة الاحتياطي الفاعل من محفوظه وما تمّ تسريحه من الخدمة قبل سنّ التقاعد، بعد أن كلّف تأهيله ثمنا باهضا.
    الحفظ عمل مُجهد ومستنزف للوقت، فلا ينبغي أن يلجأ إليه إلاّ عند الحاجة وينبغي أن تقدّر الحاجة بقدرها.

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jul 2020
    المشاركات
    54

    افتراضي رد: سلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) : خطّة طالب العلوم والمعارف للضبط والإتقان والحفظ

    حفظ المحفوظ : الحافظ الشنقيطيّ الخارق 2


    هل تتوقعون أنّ هناك في المسيرة العلميّة للحافظ الشنقيطيّ الخارق بعد هذا القدر من إهدار السلعة التي لا تُستردُّ، شيئا آخرَ؟! الجواب، للأسف، بلى. ذلك أنّ الحافظ الشنقيطيّ يحفظ أحيانا في العلم الواحد ثلاثة متون : مبتدئ، ومتوسط، ومنتهي. وغالبا يحفظ متنين اثنين. لا يخفى عليكم أنّ كلّ واحد من هذه المتون يتضمّن الذي قبله بالمطابقة، أو على الأقل جلَّه. مثلا : يحفظ الطالب نظم عبيد ربّه الشنقيطي على الآجرومية (150 بيتا) أو نظم العمريطي على الآجروميّة (250 بيتا)، ثم يحفظ الألفيّة وفيها ما في النّظمين وزيادة. حسابيا المحفوظ الجديد للطالب = النظم الجديد – النظم القديم. كأنّ الطالب حفظ النّظم الأوّل مرّتين. فإذا كان الحافظ الشنقيطي الخارق حافظا لنظم عبيد ربه يكون أهدر 125 ساعة في حفظ المحفوظ، إلاّ أن يهديه الله إلى اقتطاع المكرّر من الألفيّة.
    لمعترض أن يقول : هذا ما يستلزمه التدرجّ في سلّم العلم، ومن رام العلم جملة ذهب عنه جملة. فأجيبه : ما أحسن ما تقول، ولكن ليس هذا الهدْرُ قدَرا لا مفرّ منه، فيمكن أن نتقيه بطرق شتى، منها الطريقة التي أروم بيانها في سلسلتي هذه، ومنها أن يُقتطع للطالب من الألفية ما يناسب المبتدئين (200 بيت مثلا)، وبهذه الطريقة لن يحتاج في المرحلة التالية إلاّ إلى حفظ ما تبقى من الألفيّة (800 بيت). قد لا يكون هذا الأمر ميسورا، ولكنّه قطعا ليس مستحيلا، خاصّة على قوم لا ينقضي عجبك من قدرتهم على تطريز المتون وترقيشها بالاحمرارات والطّرر، فلله درّهم.
    هذه المفارقات تلقي الضوء على مدى تأثير الموروث على اختياراتنا وسلوكنا، وأنّنا أحيانا نسلك سبلا وننتهج مناهجا لا نتحرّى صوابها.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •