رحلــة الحــج.. العودة للدين الصحيح


محمد علي الخلاقي



من النعم العظيمة أن الله -تعالى- أتمَّ لنا الدين، وبيَّن لنا طريق العبادة، ووضَّح لنا كيفية أدائها دون زيادة أو نقصان، ومن العبادات الجليلة في الإسلام الحج، وهو ركن الإسلام الخامس، ومقصد أفئدة المحبين لله -سبحانه وتعالى-، وهو الركن الوحيد الذي يكون فيه مفارقة الأوطان، والبعد عن الخِلان، وتحمُّل المشاق، وقطع الفيافي والقفار، ومكابدة الأسفار، لا لشيء وإنما تلبية لنداء الله عندما دعاهم على لسان نبيه إبراهيم -عليه السلام-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (الحج: 27، 28)

إن رحلة الحج من أعظم رحلات تغيير النفس، وتجديد الأفكار من ذهب إليها عاد شخصًا آخر غير الذي ذهب، وتعلم فيها الكثير من الدروس، واكتسب منها المزيد من العبر، وجنى فيها الكثير من الفوائد الدنيوية والأخروية التي تزيد الإيمان، وتهذب السلوك، وتعيد المسلم إلى إعادة التفكر في الحياة، والتأمل في الحياة الآخرة والبعث، وفيها بيان روعة المساواة بين المسلمين، وهذه ثمرات عظيمة لو رجع الحاج بواحدة فقط لتحقَّق له من النفع الشيء الكبير، فكيف لو حرص عليها كلها؟! بلا شك أنه سيلحظ ذلك التغيير في حياته، ويغير ذلك الحج رؤيته للحياة وطريقة تعامله مع مَن حوله. وللحج آثار كثيرة لمن قصده بقلب مُخبت ونية صالحة، فالحج يتجلى فيه:

المساواة فلا تمايز ولا طبقية

المساواة فلا تمايز ولا طبقية، الناس أمام الله في الحج سواسية: غنيهم وفقيرهم، صغيرهم وكبيرهم، رئيسهم ومرؤوسهم، وفي الحج تذوب كل الفروقات، وتزول كل الأنساب، ويتحقق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى» رواه أحمد وغيره. فهم يؤدون أعمالا واحدة، ويقفون في أماكن واحدة، ويتحركون في أوقات واحدة، الأبيض والأحمر والأسود جَنبًا إلى جنب، كلهم يرددون نداءً واحدًا، ويَنشدون ربًّا واحدًا، ويرجعون هدفًا واحدًا أن يغفر الله لهم خطاياهم، ويُذهب عنهم سيئاتهم.

تعظيم لله -سبحانه وتعالى

في الحج تعظيم لله -سبحانه وتعالى- غاية التعظيم، وتظهر فيه أسمى صور المحبة لله -تعالى-؛ فقد ترك الحجاج أوطانهم، وأعمالهم وأموالهم، ولبوا نداء الله طمعًا في رضاه وابتغاء ما عنده، وتحملوا الأهوال وسهروا الليالي في السفر، وهم يشعرون بلذة التعب؛ لأنه يوصلهم إلى من يحبون، ويُبلغهم ما يأملون، فهم زوَّار الله ووفده الذين اختارهم ليكونوا في جواره.

التضحية من أجل رضا الله -تعالى

في الحج تظهر التضحية من أجل رضا الله -تعالى-، والاستجابة لندائه؛ فهذا الحاج قد ترك متاع الدنيا وزينتها من مال وأهل وأوطان، وودَّع الراحة وخرج قاطعًا المسافات في رحلة قد لا يعود منها، فمن أراد الراحة ترك الراحة في الدنيا، والحج لا بد له من مشقة، وعلى قدرها يكون الثواب، ويتميز المحب من المدعي الكاذب.

تذكير بيوم القيامة

في الحج تذكير بيوم القيامة؛ فهو صورة مصغَّرة للموت، والحشر يوم القيامة، ففيه تشابه كبير، يذكر الله الناس بألا يغفلوا عن ذلك اليوم الذي سيسافرون فيه سفرًا لا رجوع فيه، وسيفارقون الديار والأهل، والأوطان كما فعلوا في رحلتهم للحج، ويوضعون في حفرة صغيره لا يحملون إليها إلا لباسًا أبيضَ قد غطى أجسادهم كما هو في لباس الحج، فهو رحلة دنيوية أخروية.

تذكير بأهمية الاجتماع

في الحج يذكرنا ربُّنا -سبحانه وتعالى- بأهمية الاجتماع، وعدم التفرق: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) فها هم أولاء الحجيج جاؤوا من كل مكان إلى بقعه واحدة يجتمعون فيها جميعًا، ويتناقشون في أمور حياتهم، ويتعلمون شؤون دينهم، فأمة ربها واحد ونبيها واحد، وقرآنها واحد، ينبغي لها ألا تفترق، أو تفصل بينها حدود وهمية؛ لكي تظل أمة الإسلام متفرقة مشتتة، فالحج يعلمنا خلاف ذلك تمامًا.

تجديد لتعاليم الإسلام

في الحج تجديد لتعاليم الإسلام، وتذكير بأهمية اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فما عرفنا الحج إلا بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم-، والاقتداء به في كل فعل من أفعاله، أو حركة من حركاته، ويتذكر المسلم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خُذوا عني مناسككم»؛ فالاقتداء به لا يكون إلا بمعرفة سنته واتباع هديه؛ فهو الطريق الوحيد لتطبيق كتاب الله -تعالى- في حياتنا.

بيان منزلة السنة

في الحج بيان منزلة السنة النبوية، وأنها والقرآن من مصدر واحد، لا يمكن أن يُفهم القرآن بعيدًا عنها، فالحج ورد في القرآن مجملًا، ثم جاءت السنة النبوية مفصِّلة له، مبينة لأحكامه، وفيه رد على منكري السنة المستهزئين بها؛ إذ لولا التفاصيل التي وردت في السنة عن الحج، لَما عرف الناس كيفية الحج والعمرة.

أخلاق الإسلام الفاضلة

الحج ركن يتعلم منه المسلم أخلاق الإسلام الفاضلة، وتعاليمه الواضحة، وتظهر فيه المحبة والتراحم، والصبر بين المسلمين والإيثار فيما بينهم، وفيه يتعلم قوة التحمل والبعد عن الترف الذي جر على المسلمين الويلات إلا مَن رحم الله منهم، وفيه التوقير للكبير والاحترام للصغير، ويحمل لهم رسالة غاية في الأهمية، وهي أن التعايش لا يكون إلا على طاعة الله ومحبته، وأن الذنوب هي سبب للتفرق وطريق للشقاق والضياع.

تكريم المرأة

في الحج يظهر تكريم المرأة، وتقديرها والعناية بها، وأنها شقيقة الرجل، وان المرأة قوام حياتها وسعادتها في دنياها وآخرتها يكون بحشمتها، وتستُّرها ولباسها الذي لا يصف ولا يشف ولا يفتن، فتتعلم الستر في الحج؛ فعن عائشة قالت: «كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ»، فتحرص على لباسها؛ بحيث لا تظهر الزينة ولا تلبس ما يغضب الله، فتعود المرأة المسلمة وقد فهمت هذا الفهم، وانقدح في ذهنها هذا المعنى، فإن كانت مقصرة تداركت، وإن كانت كما أمر الله دعت غيرها، وعلَّمت مَن حولها