الحمد لله الذي يسَّـر لعباده أبواب الخيرات، وأنعم عليهم بالكثير من العطايا والهبات، ووفق المباركين منهم لاستثمارها والإكثار فيها من الطاعات والأعمال الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد، وعلى آله وصحبه أولي الفضائل والمكرمات.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وخافوه لعلكم ترحمون، وأكثِروا من ذكر آلاء الله لعلكم تفلحون، واشكروه سبحانه على كريم عطائه وتتابُعِ فضله لعلكم تفوزون بجناته ورضوانه، واعلموا بارك الله فيكم أنكم تعيشون في أيام مباركة لها شأن عظيم، وفضل عميم، وهي الأيام الأولى من شهر ذي الحجة ولياليها المباركة؛ التـي قال الله تعالى في شأنها: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1، 2]، وقد أقسم الله جل جلاله بها كما هو مشهور عند أهل العلم؛ لشـرفها وفضلها الذي انفردت به عن غيرها من بقية أيام العام؛ وصحَّ في بيان فضل هذه الأيام ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيامٍ أعظم عند الله سبحانه، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشـر، فأكثِروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد))؛ [رواه الطبراني في المعجم الكبير]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام - يعني: أيام العشـر - قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء))؛ [رواه أبو داود، وصححه الألباني].
عباد الله، إن هذه الأيام الفضليات أيامٌ قليلٌ عددها، عظيم شأنها، سـريع انقضاؤها، وهـي مناسبة سنوية عظيمة لا تتكرر في العام إلا مرة واحدة؛ ولذلك فإن من الواجب على كل مسلم أن يستقبلها بالبِشْرِ والفرح والسـرور، وأن يحرص على استثمارها بكل ما يستطيع فيما شـرع الله سبحانه لعباده من العبادات والطاعات، والقربات القولية والفعلية؛ كصوم التطوع، وصلاة النافلة، والصدقة، والانشغال بالذكر، والتلاوة، وأداء العمرة، والسعـي في قضاء الحوائج، وإصلاح ذات البَيْنِ، والأمر بالمعروف، والنهـي عن المنكر، وزيارة المرضـى، وصلة الرحم، والاجتهاد في نفع وخدمة الآخرين، إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة بأي صورة مشـروعة ممكنة.
ولنتذكَّر ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من عمل أزكـى عند الله عز وجل، ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشـر الأضحـى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشـيء))؛ [رواه الدارمـي، وإسناده حسن].
والمقصود - بارك الله فيكم - أن من هديِ النبوة المبارك أن يحرصَ المسلم في هذا الموسم العظيم للطاعات والقربات على الاستكثار من صور العمل الصالح الذي شـرعه الله تعالى في هذه الأيام؛ حتى يكون ذلك كسبًا ورصيدًا مدخرًا له عند الله سبحانه وتعالى في يوم لا ينفع فيه إلا العمل الصالح المقبول، وفقنا الله وإياكم لذلك.
إخـوة الإيمان، ليكن لنا في هذه الأيام حظٌّ من الصيام؛ فهو من أفضل القربات، ومما اختصه الله لنفسه بين سائر الأعمال؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلــم: ((من صام يومًا في سبيل الله – أي: مبتغيًا بذلك وجه الله - باعــد الله وجهه عن النــار سبعين خريفًا))؛ [رواه البخاري].
وليكن لنا نصيب وافر من قيام الليل وتلاوة القرآن الكريم؛ فإن الحسنة بعشـر أمثالها، ولنحرص على التصدق ولو بالقليل في سبيل الله تعالى، وليكن لنا نصيب من الذكر المشـروع والمستحب في هذه الأيام؛ عملًا بقوله تبــــارك وتعالى: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج: 28]، التي يقصد بها أيام العشـر؛ كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ولا يخفى علينا جميعًا أن من العمل الصالح أن يضحـِّيَ المسلم خلال أيام عيد الأضحى إذا كان موسـرًا، ولا يشق عليه توفير ثمن الأضحية؛ لأنها أحب إلى الله سبحانه وأعظم للأجر، ولا ينبغي للمسلم أن يحرم نفسه أجر وثواب هذه الشعيرة التي لا تؤدَّى إلا مرة واحدة في العام.
ويأتي من صور العمل الصالح الإكثارُ من الدعاء للنفس وللوالدين، والأهل والذرية، والإخوان والأقارب، ولولاة الأمر وللعلماء، ولعموم المسلمين في كل مكان بصلاح الأحوال، وحفظ الأمن، ونصـرة الدين في كل مكان؛ فإن الدعاء عبادة عظيمة يُستجلَب به الخير ويُستدفَع به البلاء.
يسَّـر الله لنا ولكم كل قول صالح، وكل عمل نافع، وألهمنا جميعًا استمرار ذكره، والإكثار من شكره، والتوفيق لحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام، والصلاة والسلام التامان الأكملان على من بعثه الله تعالى بشيرًا ونذيرًا، وسـراجًا منيرًا للناس كافةً، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابع التابعين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيتكرر بين طلبة العلم سؤالٌ يقول: أيهما أفضل: أيام عشـر ذي الحجة، أم العشـر الأواخر من شهر رمضان المبارك؟
وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن أيهما أفضل، فأجاب: "أيام عشـر ذي الحجة أفضل من أيام العشـر من رمضان، والليالـي العشـر الأواخر من رمضان أفضل من ليالـي عشـر ذي الحجة".
ووافق هذا القول جمع من المحققين من أهل العلم الذين قالوا بأن أيام عشـر ذي الحجة أفضل الأيام؛ لاشتمالها على يومين عظيمين هما: اليوم التاسع وهو يوم عرفة، واليوم العاشـر وهو يوم النحر الذي يُعدُّ أفضل أيام السنة على الإطلاق؛ لِما ورد عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر))؛ [رواه أبو داود، وصححه الألباني].
أما ليالي العشـر الأواخر من شهر رمضان فهي أفضل الليالـي؛ لاشتمالها على ليلة القدر، وهـي خير من ألف شهر.
فبادر أخـي المسلم إلى اغتنام الساعات، والمحافظة على الأوقات، واجتهد قدر المستطاع في عمل الخيرات فيما تبقـى من هذه الأيام المباركات، واعلم أن من توفيق الله تعالى للإنسان أن يسارع إلى الخير؛ لِما في ذلك من التقوى وتعظيم شعائر الله سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
عباد الله، كم هو مؤسف ومؤلم وموجع أن كثيرًا من الناس تمر بهم مثل هذه المناسبات وهم عنها غافلون أو متغافلون! فقد تمر عليهم مناسبة هذه الأيام المباركة دون أن يستفيدوا منها، ودون أن يكون لهم فيها استثمار مبارك مع الله تعالى، فيكونون بذلك من المفرطـــين، ولعل مما يزيد من الحسـرة والندامة أنهم قد يصـرفونها فيما لا يرضـي الرب سبحانه من الأقوال والأعمال، والاهتمامات الدنيوية الزائفة التي تحول بينهم وبين عظيم الأجر وكبير الثواب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلـي العظيم، وبخاصة مع ما نعيشه ونراه من كثرة صوارف الحياة وشواغلها وملهياتها؛ التي قال الله في شأنها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9].
فنسأل الله جلَّت قدرته أن يتوب علينا، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والنية، وأن يوفقنا جميعًا لحسن استثمار هذه الأيام، وما تبقى منها في العمل الصالح الذي يقربنا من الله تعالى، وأن يجعلنا ممن قال فيهم: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
ثم اعلموا - بارك الله فيكم - أن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأن خير الهديِ هديُ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن شـر الأمور محدثاتـها، وأن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
واعلموا أن الله سبحانه قد أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّـى فيه بملائكته، وثلَّث بكم أيها المؤمنون من جِنِّهِ وإنسه؛ فقال جلَّ من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، فاللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الطاهرين، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، وتابع التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، من الحاسدين والماكرين والحاقدين، واكفنا شـر فساد المفسدين، وظلم الظالمين، واعتداء المعتدين.
اللهم وفقنا إلى اغتنام الأوقات بعمل الطاعات، والإكثار من القربات، وتقبل منا يا عظيم الأرض والسماوات، وحقق لنا مضاعفة الحسنات، ورفعة الدرجات، والفوز بالجنات.
اللهم ارحم العباد والبلاد، وأغثنا بغيث الإيمان في قلوبنا، وغيث الأمطار في بلادنا وبلاد المسلمين، واغفر لنا واعفُ عنا وعن آبائنا وأمهاتنا، وأمواتنا وأموات المسلمين، من عرفنا منهم ومن لم نعرف من عبادك الصالحين.
اللهم اجمع كلمتنا على الحق، وأصلح ذاتَ بيننا، ووفق اللهم الراعـي والرعية، وارزقنا جميعًا صلاح القول والعمل والنية، وأرِنا اللهم الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، والباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وخذ بنواصينا لما فيه خيري الدنيا والآخرة، وصلاح البلاد والعباد.
عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولَذِكْرُ الله أكبرُ، والله يعلم ما تصنعون، وأقم الصلاة.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/141230/#ixzz6THufq5WM