تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 15 من 15

الموضوع: :: سلسلة رموز الإصلاح

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي :: سلسلة رموز الإصلاح

    :: سلسلة رموز الإصلاح
    العلاّمة عبد الحميد بن باديس



    أسامه شحادة


    العلاّمة عبد الحميد بن باديس




    تمهيد:

    دور العلامة ابن باديس في استقلال الجزائر عن فرنسا دور مركزي، إذ كان ابن باديس وطِيلة ربع قرن هو رافع لواء الهوية الإسلامية والعربية للجزائر في وجه فرنسا، والمحرض على رفض الذوبان والاندماج في الهوية الفرنسية، حتى كاد أن يعلن الثورة المسلحة عليها لولا أن توفاه الله عز وجل.
    وهذا الدور المركزي لابن باديس لا يتضح إلا إذا فهمنا تاريخ الجزائر مع الاحتلال الفرنسي الذي استمر 130 عاماً، عانت فيه الجزائر وأهلها أشد المعاناة من التشريد والحبس والقتل ومصادرة الأموال والأراضي فضلاً عن محاربة الإسلام والعروبة، وكانت استراتيجية فرنسا ضم الجزائر لها نهائياً وإرسال فرنسيين لها ليكونوا سكاناً للجزائر بدل أهلها، في نموذج سابق على جريمة المستوطنين الإسرائيليين في فلسطين اليوم.
    ولم يقف الجزائريون أمام هذا الوضع مكتوفي الأيدي، بل قاموا بمقاومة فرنسا عسكرياً ومدنياً بحسب ما قدروا عليه، وهو الذي سنفصل فيه قليلاً لنفهم الخلفية التاريخية التي جاء فيها ابن باديس.
    الاحتلال الفرنسي للجزائر:
    بعد قيام الثورة الفرنسية عام 1789م أصيبت فرنسا بانهيار اقتصادي وتعرضت لمجاعة قاسية نتيجة للحصار الاقتصادي والعسكري اللذين فرضتهما الدول الأوربية المعادية للثورة الفرنسية، ولم تجد فرنسا أمامها إلا اللجوء إلى الجزائر لشراء القمح منها، فما كان من والي الجزائر الداي حسين باشا إلا أن وضع تحت تصرفها فائض المحصول من الحبوب وأقرضها ربع مليون فرنك دون فائدة لشراء ما يلزمهم، ومن أجل ذلك أسست الحكومة الفرنسية خطاً ملاحياً خاصاً لنقلها.
    وكانت فرنسا قد اعتمدت شركة يملكها يهوديان وسيطة بينها وبين الجزائر، حيث كانت تشتري من الجزائر بسعر وتبيع لفرنسا بسعر مرتفع بالأجل، مما رتب على فرنسا ديوناً تجارية للجزائر، أخذت تماطل في سدادها.
    وفي عام 1827 حين قدم قناصل الدول الأجنبية لزيارة حاكم الجزائر الداي حسين لتهنئته بعيد الفطر، جرى حوار بينه وبين "دوقال" قنصل فرنسا وطلب منه أن يبلغ حكومته بضرورة الإسراع في تسديد الديون التي عليها للجزائر، فأساء القنصل الفرنسي الرد، فأمره الداي حسين بالخروج من حضرته، لكن "دوقال" لم يستجب للأمر، فقام الباشا بضربه بالمروحة التي كانت في يده، فكتب القنصل إلى بلاده بما حدث، وادّعى أنه ضُرب ثلاث مرات.
    فاتخذت فرنسا من هذه الحادثة ذريعة للتخلص من ديونها للجزائر من جهة واستغلالها لمحاولة احتلال الجزائر والاستيلاء على خزينتها التي تحتوي على 150 مليون فرنك!!
    فأرسلت فرنسا قطعة من أسطولها إلى الجزائر وطلب قائده من الداي حسين الاعتذار للقنصل إلا أنه رفض، فحاصر الفرنسيون الجزائر ثلاث سنوات، تكبدت فيها فرنسا الكثير من النفقات وضربت تجارة فرنسا، دون أن يعتذر الداي لهم.
    وفي عام 1830 قام ملك فرنسا بإعلان الحرب على الجزائر وأعطاها طابعاً دينياً حيث اعتبرها "حملة مسيحية على بلاد البرابرة المسلمين"، وأنها في صالح كل العالم المسيحي.
    ومما ساعد على فرض الحصار والاحتلال في النهاية أن الأسطول الجزائري كان قد تحطم في معركة نافارين في شبه جزيرة المورة باليونان عام 1827.
    جرائم الإحتلال الفرنسي بالجزائر:
    لنأخذ لمحة سريعة عن جرائم فرنسا تجاه الجزائر والجزائريين ونقارن بين أقوال الفرنسيين أنفسهم، ففي حين كان المنشور الذي وزعه الفرنسيون في بداية الاحتلال يقول: " إننا نحن أصدقاءكم الفرنسيين نتوجه الآن نحو مدينة الجزائر، أننا ذاهبون لكي نطرد الأتراك من هناك، إن الأتراك هم أعداؤكم وطغاتكم الذين يتجبرون عليكم ويضطهدونكم والذي يسرقون أملاككم وإنتاج أرضكم، والذين يهددون حياتكم باستمرار، إننا لن نأخذ المدينة منهم لكي نكون سادة عليها. إننا نقسم على ذلك بدمائنا وإذا انضممتم إلينا، وإذا برهنتم على أنكم جديرون بحمايتنا فسيكون الحكم في أيديكم كما كان في السابق، وستكونون سادة مستقلين على وطنكم.
    إن الفرنسيين سيعاملونكم كما عاملوا المصريين، إخوانكم الأعزاء، الذين لم يفتأوا يفكرون فينا ويتأسفون على فراقنا طيلة الثلاثين سنة الماضية، منذ خرجنا من بلادهم، والذين ما يزالون يرسلون أبناءهم إلى فرنسا يتعلموا القراءة والكتابة ولكل فن وحرفة مفيدة، ونحن نعدكم باحترام نقودكم وبضائعكم ودينكم المقدس، لأن ملك فرنسا المعظم حامي وطننا المحبوب، ويحمي كل دين.
    فإذا كنتم لا تثقون في كلمتنا وفي قوة سلاحنا، فابتعدوا عن طريقنا ولا تنضموا إلى الأتراك الذين هم أعداؤنا وأعداؤكم، فابقوا هادئين. إن الفرنسيين ليسوا في حاجة إلى مساعدة لضرب وطرد الأتراك، إن الفرنسيين هم، سيظلون أصدقاءكم المخلصين فتعالوا إلينا وسنكون مسرورين بكم وسيكون ذلك فرصة لكم، وإذا أحضرتم إلينا الأطعمة والأغذية والأبقار والأغنام فنسدفع ثمن ذلك بسعر السوق، وإذا كنتم خائفين من سلاحنا فأشيروا علينا بالمكان الذي يقابلكم فيه جنودنا المخلصون دون سلاح مزودين بالنقود في مقابل التمويل الذي تأتون به".
    قارن هذا بما جاء في تقرير اللجنة الإفريقية عام 1833 إلى الحكومة الفرنسية التي كانت كلفتها بالتحقيق في الجرائم كما يلي:
    "لقد حطمنا ممتلكات المؤسسات الدينية وجردنا السكان الذين وعدناهم بالاحترام.. وأخذنا الممتلكات الخاصة بدون تعويض.. وذبحنا أناسا كانوا يحملون عهد الأمان.. وحاكمنا رجالا يتمتعون بسمعة القديسين في بلادهم.. لأنهم كانوا شجعانا..".
    أما الضابط الفرنسي مونتايناك فيقول: "هذه هي طريقتنا في الحرب ضد العرب.. قتل الرجال وأخذ النساء والأطفال ووضعهم في بواخر ونفيهم إلى جزر الماركيز البولينيزية باختصار: القضاء على كل من يرفض الركوع تحت أقدامنا كالكلاب، لقد أحصينا القتلى من النساء والأطفال فوجدناهم ألفين وثلاثمائة، أما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر لسبب بسيط هو أننا لم نكن نترك جرحاهم على قيد الحياة".
    أما سيمون دو بوفوار فكتبت تقول: "مند عام 1954 ونحن جميع الفرنسيين شركاء في جريمة قتل جماعي، أتت تارة باسم القمع وطورا باسم إشاعة السلام على أكثر من مليون ضحية رجالا ونساءً وشيوخا وأطفالا حصدوا بالرشاشات خلال عمليات المداهمة والتفتيش، أو حرقوا أحيانا من قراهم أو ذبحوا أو بقرت بطونهم، أو عذبوا حتى الموت. قبائل برمتها أسلمت للجوع والبرد، للضرب للوباء في مراكز التجميع التي ما هي في الواقع إلا معسكرات استئصال ومواخير عند الاقتضاء للنخبة من فرق الجيش، حيث يحتضر أكثر من 500,000 جزائري وجزائرية".
    ويمكن تعداد صنوف الإجرام الفرنسي تجاه الجزائر بالتالي:
    1- توطين الفرنسيين والأوروبيين في أملاك الجزائريين بعد طردهم منها أو قتلهم، وقد وصل عدد المستوطنين إلى مليون مستوطن.
    2- إرهاق الجزائريين بالضرائب، رغم فقرهم، ومصادرة أموالهم والتساهل مع المستوطنين.
    3- إصدار قانون الأهالي (الأنديجينا)، وهو قانون ظالم يكبّل حياة الجزائريين.
    4- مصادرة الأوقاف، ومحاصرة القضاء الشرعي.
    5- منع استخدام اللغة العربية أو تدريسها حتى في البيوت.
    6- تمكين اليهود من الاستيطان في الجزائر ومنحهم الجنسية الفرنسية، حتى وصل عددهم إلى 30 ألف يهودي.
    الاحتلال الفرنسي يحارب التعليم ويدعم الطرق الصوفية:
    عمل الاحتلال الفرنسي على ضرب التعليم في الجزائر، لأن الشعب المتعلم سيكون شوكة في حلق المستعمر والمحتل، ورغم أن الجزائريين كانوا يتفوقون على الفرنسيين بنسبة التعليم قبل الاحتلال الفرنسي لبلادهم، يقول الجنرال فالز في سنة 1834م بأن كل العرب (الجزائريين) تقريبًا يعرفون القراءة والكتابة، حيث إن هناك مدرستين في كل قرية... وكتب الرحالة الألماني (فيلهلم شيمبرا) حين زار الجزائر في شهر كانون الأول عام 1831م، يقول: (لقد بحثتُ قصدًا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب)..
    وقد أحصيت أكثر من 2000 مدرسة في الجزائر سنة 1830م، ما بين ابتدائية وثانوية وعالية.
    لكن الاحتلال الفرنسي عمل بكل قوة على محاربة العلم والمعرفة في الجزائر، فالفرنسيون عندما دخلوا مدينة قسنطينة في شمالي أفريقيا، أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي وقعت في أيديهم، في سلوك همجي بربري.
    وحاربوا المدارس والتعليم، حتى أنه بعد أقل من قرن على (الاستعمار) أصبح أطفال الشعب الجزائري أميين لا يعرف القراءة والكتابة منهم إلا 5 % سنة 1914، وذلك بفضل سياسات فرنسا وتعاون الطرقيين معها أحباب الجهل والخرافة!!
    كان الفرنسيون يعرفون أن أصحاب الطرق من مشايخ الصوفية في الجزائر سيكونون خير سند لهم، لأنه يبحثون عن مصالحهم المادية وهو ما يمكن لفرنسا أن تمنحهم إياه في مقابل تسكين الشعب الجزائري وقبوله للاحتلال الفرنسي.
    ولذلك زادت عدد الطرق وأتباعها بشكل مخيف في الجزائر في عهد الاحتلال، حتى أصبح في العاصمة لوحدها 23 طريقة صوفية، لها 349 زاوية، فيها 57 ألف شيخ و6 ألاف مقدم، ويتبعها 295 ألف مريد، وحصيلة تبرعاتهم 7 ملايين!!
    يقول مالك بن نبي في مذكراته "مذكرات شاهد القرن" ص 181: "هكذا كان الناس يشهدون كل عام موكب (القادرية) المهيب يأتي إلى (أفلو). راية ترفرف، وعلى رأسها ابن شيخ الطريقة (المقدّم) يلبس الثياب الخضراء من رأسه إلى قدميه، إنها ثياب أهل الجنة، وهو ذو ذكاء شيطاني يعرف كيف يبتزّ من السذاجة العامة للناس كل ما يريد.
    لقد كان يملك في تلك الفترة في (وادي سوف) بستاناً للنخيل، مؤلفاً من حوالي ألف نخلة، وهو من هبات أولئك الذين يريدون أن يدخلوا الجنة في موكبه".
    أما علاقتهم بفرنسا فيلخصها شيخ الطريقة التيجانية محمد الكبير في حديثه للكولونيل يسكوني: "إن من الواجب علينا إعانة حبيبة قلوبنا فرنسا ماديا وأدبيا وسياسيا، إن أجدادي قد أحسنوا صنعا في انضمامهم إلى فرنسا قبل أن تصل إلى بلادنا، ففي عام 1838 م كان أحد أجدادي قد أظهر شجاعة - نادرة في مقاومة أكبر عدو لفرنسا (عبد القادر الجزائري) وفي عام 1870 حمل سيدي أحمد تشكرات الجزائريين وبرهن على ارتباطه بفرنسا قلبيا، فتزوج من (أوريلي بيكار) وهو أول مسلم جزائري تزوج بأجنبية على يد الكردينال (لا فيجري) على حسب الطقوس المسيحية"، ولا نحتاج لتعليق على هذه الشهادة الصريحة في العمالة والخيانة.
    ولذلك كانت معركة ابن باديس مع هؤلاء الطرقيين في البداية، ليطهّر الصف الجزائري قبل أن يصطدم بالفرنسيين.
    حركات المقاومة الجزائرية ضد فرنسا
    لم يقف الجزائريون مكتوفي الأيدي أمام الاحتلال الفرنسي بل قاوموه وتصدوا له في عدة محاولات كان أبرزها مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري والتي استمرت 15 عاما (1832 – 1847)، ورافقها وتبعها عدد من المحاولات الجهادية لكنها لم تنجح في دحر الفرنسيين وإنما إيقاع خسائر جسيمة بها.
    كما كانت هناك عدة محاولات سياسية لمقاومة فرنسا عقب الحرب العالمية الأولى مثل حركة الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر، والتي عرفت باسم "وحدة نواب المسلمين" سنة 1919، وحركة "نجم شمال إفريقيا" التي أسسها عدد من العمال المغاربة المهاجرين في فرنسا سنة 1926، وحركة "اتحاد المنتخبين المسلمين الجزائريين" سنة 1927.
    الإصلاح السلفي في الجزائر قبل ابن باديس:
    لقد دخلت الجزائر في الإسلام على يد التابعين تحت قيادة أبي المهاجر دينار، ولذلك شهدت الجزائر ظهور العديد من الشخصيات السلفية في تاريخها مثل الفقيه أبي الفضل النحوي من علماء القرن الخامس الهجري، وأبي الحسن علي بن الحق الزويلي (ت 719هـ)، وتلميذه الحافظ ابن مرزوق الحفيد، وأحمد زروق في القرن العاشر الهجري وتلميذه ابن علي الخروبي، مثلما ظهر عبد الرحمن الأخضري (ت 953هـ)، وجاء بعده في القرن الحادي عشر الشيخ عبد الكريم بن الفكون (ت 1073هـ)، والشيخ محمد بن عبدالله الجلالي معاصر أحمد التيجاني الصوفي.
    ولذلك فالسلفية ليست طارئة على الجزائر بل إن المذهب المالكي الذي يتبعه غالبية الجزائريين هو عين السلفية، ولذلك حين ظهرت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية رأينا بعض الحجاج الجزائريين والمغاربة يؤيدها مثل ملك المغرب المولى سليمان، والسيد محمد السنوسي مؤسس الحركة السنوسية، والمؤرخ الجزائري أبو رواس الناصري الذي كان أول من عرّف الجزائريين بدعوة محمد بن عبد الوهاب.
    وكان للطلبة الذين درسوا في جامع الزيتونة أو القرويين أو بتأثير الحركة السنوسية دور في حمل الدعوة السلفية والدعوة الإصلاحية، مثل الشيخ ابن الموهوب والشيخ صالح بن مهنا، والشيخ عبد القادر الجاوي (ت 1913) والذي من طلابه الشيخ حمدان الونيسي شيخ ابن باديس، والشيخ مصطفى بن الخوجة (ت 1915) وعمر بن قدور (ت 1915)، وممن ظهر في هذه المرحلة من المصلحين السلفيين الأستاذ محمد بن أبي شنب (ت 1929) والشيخ عبد الحليم بن سماية (ت 1933).
    ولا ننسي هنا أن مجلة المنار التي يصدرها العلامة رشيد رضا كانت تصل للجزائر وأن محمد عبده زار الجزائر سنة 1903، وقد كان الجزائريون متعلقين بمجلة المنار بصورة كبيرة، لدرجة أنهم طالبوا رشيد رضا بألاّ يتعرض لفرنسا حتى لا تنقطع عنهم المنار!!
    مولد ونشأة ابن باديس:
    ولد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن المكي ابن باديس سنة (1308هـ/ 1889م) في مدينة قسنطينة لأسرة عريقة بالعلماء والأمراء والسلاطين. ومن أشهر رجالات هذه الأسرة المعز لدين الله بن باديس مؤسس الدولة الصنهاجية (حكم: 406-454هـ/1016-1062م) الذي قاوم البدعة ونصر السنة وأعلن مذهب أهل السنة والجماعة مذهبًا للدولة.
    ومن أجداده العلماء الشيخ المفتي بركات بن باديس دفين مسجد سيدي قمّوش بقسنطينة، والشيخ أحمد بن باديس الذي كان إماما بقسنطينة أيام الشيخ عبد الكريم الفكون في القرن الحادي عشر الهجري.
    وبقيت أسرته من الأسر التي تشارك في الحكم، فجدّه لأبيه: الشيخ المكي بن باديس كان قاضيا مشهورا بمدينة قسنطينة وعضوا في المجلس العام وفي المجلس البلدي، وعمه أحميدة بن باديس كان نائباً عن مدينة قسنطينة أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ورفع عريضة مع ثلاثة من النواب عام 1891م بأنواع المظالم والاضطهادات التي أصبح يعانيها الشعب الجزائري على يد الإدارة الاستعمارية الفرنسية ومن المستوطنين المهاجرين.
    كما أن من عائلة ابن باديس من كانوا قادة كباراً في ثورة الأمير عبد القادر الجزائري وتم أسرهم وسجنهم في باريس، وأفرج عنهم مع الأمير عبد القادر الجزائري في عام 1852م وتم نفيهم إلى الشام.
    لقي ابن باديس كل عناية ورعاية من والده الذي توسم فيه النباهة، حتى قال له: "يا عبد الحميد، أنا أكفيك أمر الدنيا، أنفق عليك وأقوم بكل أمورك، ما طلبت شيئا إلا لبيت طلبك كلمح البصر، فأكفني أمر الآخرة، كن الولد الصالح الذي ألقى به وجه الله".
    وهو ما بقي يعترف به عبد الحميد، فقد قال في حفل ختم تفسير القرآن سنة 1938، وأمام حشد كبير من المدعوين ثم نشره في مجلته الشهاب: "إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي ربّاني تربية صالحة ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها ومشرباً أرده، وبراني كالسهم وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً، وكفاني كلف الحياة... فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني الشكر".
    أتم عبد الحميد بن باديس حفظ القرآن في سن الثالثة عشرة، ثم تتلمذ على الشيخ حمدان الونيسي، والذي نصحه بنصيحة سار عليها ابن باديس طيلة عمره، حين قال له: "اقرأ العلم للعلم لا للوظيفة"، بل أخذ عليه عهداً ألا يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا.
    ثم تاقت نفسه للاستزادة من العلم فسافر لتونس في سنة (1327هـ - 1908م) والتحق بجامع الزيتونة وبقي هناك أربع سنوات، فدرس على العلماء وخاصة العلاّمة «محمّد النخلي القيرواني» والشيخ العلامة محمّد الطاهر بن عاشور، واستفاد من الشيخ الخضر حسين والمؤرخ البشير صفر والمصلح المجدد سعد الفياض، وقد كان جاداً في التحصيل حتى أنه اختصر دراسة الزيتونة من سبع سنوات إلى ثلاث سنوات فقط، ومكث بعدها سنة يدرس تطوعا على عادة جامع الزيتونة، وبذلك حصل على شهادة التطويع.
    ولم يكتف بدروس الزيتونة بل ذهب للجمعية الخلدونية التي كانت تدرس العلوم العصرية مثل الحساب والمساحة والجغرافيا والكيمياء والطبيعيات، فتعلم العلم الشرعي وأصبح على دراية بما يحيط بالأمة من أحوال وتحديات.
    ثم في عام 1913 عاد لدياره ولم يتجاوز عمره 23 سنة، ليباشر التدريس بالجامع الكبير، بسبب نفوذ والده وعلاقاته بالإدارة الفرنسية، لكن المغرضين من أصحاب الأهواء سرعان ما عارضوه وناصبوه العداء، حتى أنهم أطفأوا النور عليه وهو يدرس بالمسجد، فقرر السفر لبيت الله الحرام في نفس العام.
    اللقاء بالبشير الإبراهيمي بالمدينة المنورة:
    في المدينة لقي ابن باديس الكثير من العلماء المجاورين فيها أو الزائرين لها مثله، ومن أبرز من قابل فيها شيخه القديم حمدان الونيسي الذي طلب منه الإقامة عنده في المدينة، وهو الأمر الذي عارضه الشيخ حسين الهندي الذي أشار عليه بالعودة للوطن وخدمة الإسلام فيه والعربية، وهي النصيحة التي نفذها ابن باديس على أحسن وجه، وبقيت استراتيجيته حيث قال عن نفسه: "فنحن لا نهاجر، نحن حراس الإسلام والعربية والقومية، بجميع مدعماتها، في هذا الوطن".
    أبرز ما حدث مع ابن باديس في المدينة تعرفه على رفيق دربه ونضاله فيما بعد الشيخ البشير الإبراهيمي، والذي سبق ابن باديس في سكن المدينة والاستقرار فيها مع والده قبل أكثر من سنة على لقائهما، وبقي هناك حتى 1920، حيث جاء للجزائر ليكمل مع ابن باديس طريق الدعوة التي بدأها.
    فقد مكث ابن باديس والإبراهيمي ثلاثة أشهر يلتقيان يوميا بعد العشاء وحتى الفجر يتدارسان أحوال الجزائر وكيفية إصلاحه وبث النهضة الدينية والعلمية والسياسية فيه. وقد بين لنا البشير الإبراهيمي محتوى هذه اللقاءات حين قال: "وأشهدُ الله على أن تلك الليالي من عام 1913 هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعيّة العلماء المسلمين والتي لم تبرز للوجود إلا عام 1931».
    العودة للجزائر:
    في عودته للجزائر زار ابن باديس بلاد الشام ومصر حيث اجتمع برجال العلم والأدب وأعلام الدعوة السلفية، وزار الأزهر واتصل بالشيخ بخيت المطيعي حاملاً له رسالة من الشيخ الونيسي، فرحب به وأجازه ومنحه العالمية الأزهرية، وقد منحته هذه الرحلة معرفة واقع البلاد الإسلامية مما وسع مداركه وأكسبه خبرة غنية بتجارب سابقة، كما مكنته من التعرف بقادة الإصلاح فيها، ولذلك سنجد فيما بعد أن ابن باديس له صلات بكثير من رجالات الإصلاح في العالم العربي، وأن كثيراً من رجالات الإصلاح يتابع أخبار ومجلات ابن باديس.
    حين وصل ابن باديس للجزائر، قام بعدة جولات بالقطار لأرجاء الجزائر ليتعرف عليها ويتعمق في فهم مشكلاتها.
    بداية الدعوة والجهادي الفردي:
    منذ عودة ابن باديس نهاية عام 1913 وحتى تأسيس جمعية العلماء المسلمين سنة 1930، سيكون ابن باديس شعلة من النشاط والحركة في سبيل نهضة الجزائر وتحررها، من خلال إنشاء جيل جزائري جديد يقوم بهذه المهمة.
    فمنذ عودته بدأ بإلقاء الدروس في المسجد الكبير ثم تحول للمسجد الأخضر وهو المركز الرئيس لنشاطه ومساجد سيدي قموش وسيدي عبد المؤمن وسيدي بومعزة وسيدي فتح الله، حيث استحصل له أبوه على تصريح بذلك، ولم تقتصر دروسه على الكبار، بل خصص دروساً للصغار أيضاً بعد خروجهم من درس الكتاتيب القرآنية، وهذا أمر لم يكن معهوداً قبله.
    وكانت دروسه تقام طوال النهار والليل، حيث كان يدرس عشرة دروس في اليوم، يتنقل فيها بين المساجد والنوادي، فانهال عليه الطلاب من كل مكان، حتى أصبح عنده أكثر من ألف طالب، وكان يستعين بأهل الخير على إيوائهم وإطعامهم.
    وهذا تطلب منه التفكير في إنشاء مدرسة ابتدائية قرب مسجد بو معزة، ثم تنتقل إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست في عام 1917، ثم في سنة 1930 عرفت باسم مدرسة التربية والتعليم، تضمن قانون الجمعية: أنها تسعى "لنشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف العربية والفرنسية، والصنائع اليدوية، بين أبناء وبنات المسلمين"، وذلك من خلال تأسيس مدرسة للتعليم، وملجأ للايتام، وناد للمحاضرات، ومعمل للصنائع، وإرسال بعثات طلابية للدراسة في الكليات والتدرب في المعامل الكبيرة على نفقة الجمعية.
    ومن سعة أفق ابن باديس أن جعل تعليم الفتيات مجانياً بخلاف الطلاب الذين يدفع المقتدر منهم رسوماً رمزية، وذلك لتشجيع التعليم بين الفتيات.
    وفي هذا يظهر سبق ابن باديس لإنشاء المدارس والجمعيات وتعليم الفتيات خصوصاً، على كثير من الدعوات والتجمعات العلمانية، ولكن للأسف أن هذا الميراث من السبق الحضاري يتنكر له كثير من محبي ابن باديس اليوم بلسان الحال إن لم يجمعوا لسان المقال أيضاً.
    ومن هذه المدرسة نشأ جيل كامل في الجزائر متشبع بقيم الإسلام ولغته وآدابه، ويستطيع الخطابة ونظم الشعر وإلقاء المحاضرات، وقد أرسل بعض هؤلاء الطلبة للتوسع في العلم بجامع الزيتونة، وبعض آخر للتدرب في المعامل الكبري، وقد اعتمد ابن باديس على هذا الجيل في إنشاء جمعية العلماء المسلمين والقيام بمشروعه الإسلامي الكبير بمقاومة الاحتلال الفرنسي، بعد أن عمل بهدوء ودون ضجة لسنوات عديدة. ومع تدريسه للطلاب إلا أنه أيضاً كان يخصص يوماً لتعليم العمال ويوماً لتعليم النساء.
    وبعد أن انتشرت الدروس في المساجد وأنشأ المدرسة، فكر ابن باديس بالتوسع في نشر فكره ومشروعه فدخل عالم الصحافة، ففي البداية تعاون مع جريدة النجاح (تأسست 1919) في الكتابة والتحرير، حيث كان يكتب بأسماء مستعارة هي القسنطيني والعبسي والصنهاجي، ثم وجد أنها لا تلبي طموحه فقام بتأسيس صحيفة "المنتقد" الأسبوعية في عام 1925 والتي شنت حملة قوية على العقائد الفاسدة والخرافات الشائعة، واستمرت "المنتقد" 18 عدداً ثم أوقفت بقرار تعسفي من الإدارة المحتلة.
    وصحيفة المنتقد جاءت كمرحلة جديدة في دعوة ابن باديس وجهاده، إذ رأى ابن باديس أنه بعد 10 سنوات من التعليم، حان الوقت لمهاجمة الطرقية وخرافاتها بقوة، ولذلك جاء هذا الاسم "المنتقد" والذي يهاجم بشكل مباشر وفي الصميم المبدأ الصوفي الطرقي الضال "لا تعترض فتنطرد"، والذي يراد به إلغاء العقول والتفكير والاكتفاء بدور التبعية والتقليد للشيخ مهما كان موقفه خطأ أو ضلالاً.
    ولكن قناة ابن باديس لم تهن أو تلين فبعد شهر يصدر جريدة "الشهاب" الأسبوعية تحت شعار "تستطيع الظروف أن تخيفنا، ولا تستطيع بإذن الله إتلافنا"، وفي عام 1929 تحولت إلى مجلة شهرية بسبب المضايقات من قبل الإدارة الفرنسية، وكان شعارها: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"..
    ومن أجل ضمان استمرار صدور المجلتين أنشأ ابن باديس المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة سنة 1925، ليتجنب عوائق صدورهما إذا كانتا تطبعان في مطبعة مستأجرة!!
    وفي هذه المرحلة يعود زميله الشيخ البشير الإبراهيمي سنة 1920 ليتعاونا في الإصلاح، ويكون لهما لقاء كل أسبوعين أو شهر على الأكثر، لأن البشير الإبراهيمي جعل مركز نشاطه في مدينة سطيف، وفيما بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين سيتقاسم أقطاب الحركة الإصلاحية المسئولية العلمية في المقاطعات الجزائرية الثلاث، حيث سيبقى ابن باديس مشرفاً على مقاطعة قسنطينة بما تضم من القرى والمدن، فيما يتولى الإبراهيمي مسئولية مدينة تلمسان العاصمة العلمية في الغرب الجزائري، أما الشيخ الطيب العقبي فسيكون مشرفاً على مقاطعة الجزائر.
    ومن الواضح في مسيرة ابن باديس أنه يحاول أن يتجاوز أخطاء وعثرات تجارب المصلحين الجزائريين السابقين، فهو يتجنب أن تكون دعوته ضيقة النطاق سواء على صعيد الجغرافيا أو الشريحة المستفيدة، كما أنه يتجنب أن تكون دعوته فردية مرتبطة بشخصه ولذلك ينشئ مؤسسات: مدرسة/ مجلة/ مطبعة...، ويسعى للتكامل مع زملائه وعدم حصر الدعوة في مكان محدد فيتوزعون على المناطق ويلتقون دورياً، ويحاول أن يتطور مع الأحداث والمستجدات فلا يبقى بنفس الأسلوب مع تطور دعوته وقوته ولذلك نجده يتنقل من المسجد لفتح جمعية، ثم مدرسة، ثم يرسل بعثات للخارج، جريدة ومجلة، ثم مطبعة.
    يتبع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح


    :: سلسلة رموز الإصلاح
    العلاّمة عبد الحميد بن باديس



    أسامه شحادة


    إرهاصات تأسيس جمعية العلماء المسلمين:

    هناك الكثير من المقدمات التي سبقت ظهور جمعية العلماء المسلمين في سنة 1931، فبعد مسيرة ابن باديس الطويلة في الجهاد الفردي بالتعليم والدعوة والإعلام تكوّن في الجزائر تيار من العلماء الإصلاحيين وطلبتهم بقيادة ابن باديس، وكانت لهم لقاءات دورية لتدارس أحوال الجزائر وكيفية النهوض به، للوصول للغاية النهائية وهي الاستقلال عن فرنسا وإعادة الجزائر دولة مسلمة قوية ومتقدمة، ولقد صرح ابن باديس لمن استفسروا منه عن موقفه من المطالبة باستقلال الجزائر قائلاً: "وهل يمكن من شرع في تشييد منزل أن يتركه من دون سقف؟ وما غايتنا من عملنا إلا تحقيق الاستقلال"، وذلك في سنة 1933.
    ومن هذه الإرهاصات محاولة ابن باديس التي لم تنجح سنة 1924 لإنشاء جمعية (الإخاء العلمي) يكون مركزها العام بمدينة قسنطينة العاصمة وتجمع شمل العلماء والطلبة وتوحد جهودهم، وتقرب بين آرائهم في التعليم والتفكير، وتوثق الأواصر بينهم.
    وقد طلب ابن باديس من الشيخ البشير الإبراهيمي كتابة قانونها الأساسي، لكن لم يكتب لهذه المحاولة النجاح، وكانت الخلاصة التي خرج بها ابن باديس والإبراهيمي أن استعدادنا لمثل هذه الأعمال لم ينضج بعد، ولكن التجربة لم تذهب بلا فائدة.
    فعاود ابن باديس التركيز على النشاط في الصحافة والمجلات لتكوين رأي عام وداعم لهذه المحاولات في المرات القادمة، حيث دعا ابن باديس في مقالاته إلى اتحاد العلماء وتجمعهم, والاتفاق على خطة عمل لإصلاح الأوضاع الدينية والتعليمية والاجتماعية والسياسية, في تمهيد لفكرة جمعية العلماء، فكتب في مجلته الشهاب: "أيها السادة العلماء المصلحون المنتشرون بالقطر الجزائري إن التعارف أساس التآلف والاتحاد شرط النجاح فهلموا إلى التعارف والاتحاد بتأسيس حزب ديني محض"، (الشهاب، عدد 3، 26/11/1925).
    وقام بعض أصدقاء ابن باديس في العاصمة سنة 1927 بإنشاء «نادي الترقي» بهدف "مساعدة الأعمال التمدينية التي تقوم بها فرنسا وذلك بالسعي في تثقيف مسلمي الجزائر عملياً، واقتصادياً، واجتماعياً"، وقد حاضر ابن باديس في حفل تأسيسه، ومن ثم طلب أعضاء النادي من الشيخ الطيب العقبي رفيق ابن باديس أن يكون محاضراً في النادي لسكنه في العاصمة. وسيكون النادى فيما بعد مقر الاجتماع لتأسيس جمعية العلماء.
    وفي خطوة تالية سنة 1927 دعا ابن باديس الطلاب العائدين من جامع الزيتونة والمشرق العربي لندوة في مكتبه يدرسون فيها أوضاع الجزائر، وما يمكن عمله، فلبى الدعوة البشير الإبراهيمي، ومبارك الميلي، والعربي بن بلقاسم التبسي، ومحمد السعيد الواهري، ومحمد خير الدين، وكانت نتيجة هذا الاجتماع الاتفاق على خطة عمل لنشر الدعوة الإصلاحية واستخدام الصحافة والنوادي وإنشاء فرق الكشافة الإسلامية، واتفقوا على تحديد محاور الفكر الإصلاحي الذي يجب أن يكون في الجزائر، وهو مما يعتبر خطوة تمهيدية لجمعية العلماء مستقبلاً، وفعلا كانت تلك هي محاور البرنامج الذي اتبعته الجمعية بعد ميلادها.
    شرارة التأسيس:
    في سنة 1930 قررت فرنسا إقامة احتفالات ضخمة بمناسبة مرور 100 عام على احتلالها للجزائر، وكان مقررا لها أن تستمر مدة 6 شهور، وانفقوا فيها 130 مليون فرنك فرنسي، وقد وضح أحد قادتهم القصد من هذه الاحتفالات بقوله: "إن احتفالنا اليوم ليس احتفالاً بمرور مائة سنة على احتلالنا الجزائر، ولكنه احتفال بتشييع جنازة الإسلام"!!
    لكن ابن باديس ورفاقه تصدوا لهذه الاحتفالات، يقول البشير الإبراهيمي: "استطعنا بدعايتنا السرية، أن نفسد عليها كثيراً من برامجها، فلم تدم هذه الاحتفالات إلا شهرين، واستطعنا بدعايتنا العلنية أن نجمع الشعب الجزائري حولنا، ونلفت أنظاره إلينا".
    وكان الرد العملي على هذه الاحتفالات دعوة مجلة الشهاب (عدد 2/1931) لتأسيس جمعية العلماء، وفعلا تم تأسيس جمعية العلماء المسلمين في 5/5/1931.
    قصة ميلاد الجمعية:
    تأسست جمعية العلماء المسلمين في اجتماع عقد في نادي الترقي بالعاصمة الجزائرية، حضره 70 عالماً من مختلف مناطق الجزائر، ومن شتى الاتجاهات الدينية والمذهبية: مالكيين وإباضيين، مصلحين وطرقيين، موظفين حكوميين وغير موظفين، وكان رئيس الاجتماع الشيخ أبو يعلى الزواوي.
    ويحكى الشيخ خير الدين أحد المؤسسين الذين حضروا الجلسات العامة والخاصة لتأسيس الجمعية قصتها فيقول: "كنت أنا والشيخ مبارك الميلي في مكتب ابن باديس بقسنطينة يوم دعا الشيخ أحد المصلحين (محمد عبابسة الأخضري) وطلب إليه أن يقوم بالدعوة إلى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في العاصمة وكلفه أن يختار ثلة من جماعة نادي الترقي الذين لا يثير ذكر أسمائهم شكوك الحكومة, أو مخاوف أصحاب الزوايا, وتتولى هذه الجماعة توجيه الدعوة إلى العلماء لتأسيس الجمعية في نادي الترقي بالعاصمة حتى يتم الاجتماع في هدوء وسلام, وتتحقق الغاية المرجوة من نجاح التأسيس".
    وقد تخلف ابن باديس عن الحضور في أول يومين للاجتماع حتى لا يستثير وجوده العلماء الرسميين أو الطرقيين، وفضل أن يستدعى في اليوم التالي على أن يكون داعياً للاجتماع، وفي هذا بعد نظر منه.
    وكان هناك مسودة لقانون الجمعية عرض في الاجتماع وتم إقراره، ومن ثم تم اختيار أعضاء مجلس الإدارة، حيث وقع الاختيار على ابن باديس ليرأسها رغم عدم حضوره.
    وهكذا ظهرت جمعية العلماء بحنكة ابن باديس وذكائه، حين تجنب الاصطدام بإدارة الاحتلال وبالعلماء الموالين لها وبأصحاب الزوايا، وأيضاً نص قانونها على تجنب العمل السياسي، حتى يطمئن السلطات الفرنسية أكثر، لكن الحقيقة كانت كما جاء في تقرير المتصرف الفرنسي لمدينة مزاله: "وعلى الرغم من أنها (الجمعية) تدعي أنها لا سياسية فإنها نواة للأحزاب الوطنية وقاعدة ينمو فوقها الشعور الوطني".
    ومنهج ابن باديس هذا لم يكن عن خوف أو جبن عن خوض العمل السياسي، بل هو منهج ارتضاه عن دراسة وتأمل، يقول ابن باديس: "فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة، وتمسكاً بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا، من النصح والإرشاد، وبث الخير والثبات على وجه واحد، والسير في خط مستقيم".
    وفي نهاية سنتها الأولى حاول العلماء الموالون لفرنسا وأرباب الطرق والزوايا الاستيلاء على الجمعية وحرفها عن مسارها، لكنهم فشلوا في ذلك فانشقوا عن الجمعية وأسسوا (جمعية علماء السنة) برئاسة الشيخ مولود الحافظي الذي كان من المؤسسين لجمعية العلماء، لكن هذه الجمعية سرعان ما فشلت واندثرت.
    ثم في سنة 1936 تجددت صلة بعض زعمائها بزعيم كتلة نواب قسنطينة د.ابن جلول، فأصبح لهم مؤسستان في الجزائر العاصمة وفي قسنطينة، وأنشأوا نادى الصفا الذي غير اسمه إلى نادى الرشاد، وأصبح مقرا لحبك المكائد لجمعية العلماء.
    ولذلك يعتبر العام الثاني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين هو ميلادها الحقيقي، حيث أصبحت الجمعية مقتصرة فقط على التيار الإصلاحي.
    وتم تقسيم الإشراف على متابعة نشاطات الجمعية بين الشيخ الطيب العقبي الذي تولى الإشراف على نشاط الجمعية في العاصمة وما جاورها, والشيخ البشير الإبراهيمي الذي تولى الإشراف على نشاطات الجهة الغربية من البلاد, انطلاقا من تلمسان, وبقيت قسنطينة وما جاورها تحت إشراف ابن باديس.
    الجمعية وإنشاء المدارس والتعليم:
    وعندما استقرت أمور الجمعية وانطلقت في نشاطاتها تكاثرت فروعها حتى بلغت بعد 5 سنوات 33 شعبة وذلك في سنة 1936، وفي سنة 1938 زاد العدد إلى 58 شعبة، فقد أقبل الشعب الجزائري على التعلم وحضور الندوات والمحاضرات في شعب الجمعية وذلك برغم الاضطهادات والعراقيل التي كانت توضع في طريقها.
    وقد عدد البشير الإبراهيمي أهمّ أنشطة الجمعية وأعمالها في ثماني نقاط هي:
    1- تنظيم حملة جارفة على البدع والخرافات والضلال في الدين، بواسطة الخطب والمحاضرات، ودروس الوعظ والإرشاد، في المساجد، والأندية، والأماكن العامة والخاصة، حتى في الأسواق، والمقالات في جرائدنا الخاصة التي أنشأناها لخدمة الفكرة الإصلاحية.
    2- الشروع العاجل في التعليم العربي للصغار، فيما تصل إليه أيدينا من الأماكن، وفي بيوت الآباء، ربحًا للوقت قبل بناء المدارس.
    3- تجنيد المئات من تلامذتنا المتخرجين، ودعوة الشبان المتخرجين من جامع الزيتونة للعمل في تعليم أبناء الشعب.
    4- العمل على تعميم التعليم العربي للشبان، على النمط الذي بدأ به ابن باديس.
    5- مطالبة الحكومة برفع يدها عن مساجدنا ومعاهدنا التي استولت عليها، لنستخدمها في تعليم الأمة دينها، وتعليم أبنائها لغتهم.
    6- مطالبة الحكومة بتسليم أوقاف الإسلام التي احتجزتها ووزعتها، لتصرف في مصارفها التي وُقِفَت عليها. (وكانت من الكثرة بحيث تساوي ميزانية دولة متوسطة).
    7- مطالبة الحكومة باستقلال القضاء الإسلامي، في الأحوال الشخصية مبدئيًا.
    8- مطالبة الحكومة بعدم تدخلها في تعيين الموظفين الدينيين.
    ومن أجل ذلك قامت الجمعية بإنشاء المدارس التابعة لها فبعد ثلاث سنوات، كان يتبع الجمعية 150 مدرسة، يتعلم فيها تقريباً 50 ألف طالب.
    وكان ابن باديس ينتقد طريقة التعليم السائدة في عصره، والتي ترتكز على بعض المواد الشرعية فقط، والتي تدرس بطريقة كئيبة لا تخرج سوى طلبة كالببغاوات يرددون ما حفظوا دون فهم أو قدرة على الاجتهاد، يقول ابن باديس عن الغاية من تدريسه القرآن للطلاب: "وأن يكوّن القرآن منهم رجالاً كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تُعلق هذه الأمة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودهم".
    فأدخل تعليم المواد العصرية إلى دروسه ودروس مدارسه، فمن المواد التي أصبحت تدرس: الحساب والجغرافيا والتاريخ والمنطق واللغة الفرنسية، ومن الكتب التي يطالعها الطلبة: مقدمة ابن خلدون، وطوّر ابن باديس طريقة التعليم بحيث تنمي ملكات الطلبة وتؤهلهم للفهم والاجتهاد، ولذلك ظهر في طلابه الأدباء والشعراء والفقهاء والمصلحون، ويقول الشّيخ الإبراهيمي: "كانت الطريقة التي اتفقنا عليها سنة 1913 في تربية النشء هي ألا نتوسع له في العلم وإنما نربيه على فكرة صحيحة".
    وكان ابن باديس يهتم بتغيير عقلية التخلف عند الناس، ففي رثائه لصاحب المنار رشيد رضا كتب يقول: "إذا كان التفكير لازماً للإنسان في جميع شؤونه، وكل ما يتصل به إدراكه، فهو لطالب العلم ألزم من كل إنسان..." وأيضاً: " فالتفكير التفكير يا طلبة العلم، فإن القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم، وإنما تربط صاحبها في صخرة الجمود والتقليد وخير منها الجاهل البسيط".
    وكان يرسل المتفوقين للدراسة في جامع الزيتونة بتونس، ويجعل عليهم مشرفين وعرفاء. وبقيت عناية الجمعية بالتعليم تتزايد حتى عقدت سنة 1937 مؤتمراً لمعلمي التعليم العربي، لدراسة واقعه ومشكلاته والنهوض به، وأصدرت أبحاثه في كتاب خاص.
    واعتنت الجمعية بتعليم الفتيات بل أعفتهن جميعاً من الرسوم بخلاف الأولاد الذين أعفت الفقراء منهم فقط، كما أن ابن باديس سعى في أن يبعث بعض الفتيات لمواصلة التعليم في دمشق لدى جمعية دوحة الآداب بمرافقة مشرفة، إلا أن ظروف الحرب العالمية حالت دون ذلك.
    الجمعية وإنشاء الصحف:
    تعاونت الجمعية في البداية مع عدد من الصحف الإصلاحية في بث دعوتها، كمجلة الشهاب التي يرأسها ابن باديس وصحف أخرى كالمرصاد والجحيم والليالي والدفاع الفرنسية.
    لكن الجمعية أصدرت سنة 1933 أول صحفها وهي صحيفة السنة النبوية لتصدر أسبوعياً، برئاسة ابن باديس، لتكون الناطقة بلسانها وتخوض الصراع مع الطرقية وجمعيتها علماء السنة، لكن سرعان ما أوقفتها السلطات الفرنسية بعد عدة أشهر فقط.
    وبعد أسبوع فقط من إيقاف السنة النبوية، أصدرت الجمعية صحيفة الشريعة المحمدية، بنفس الإدارة التي تولت السنة النبوية، وأيضاً تم إيقافها بعد شهر ونصف.
    وعلى إثرها أصدرت الجمعية جريدة الصراط السوي لكنها عطلت بعدة عدة أشهر مرة أخرى مطلع سنة 1934.
    وبعد سنتين لم تلِن فيها إرادة الجمعية صدرت مجلة البصائر الأسبوعية لتكون لسان الجمعية والتي استمرت لغاية سنة 1939 حيث قررت الجمعية إيقافها لأن "التعطيل خير من نشر الأباطيل" كما قال البشير الإبراهيمي، حيث رفضت الجمعية تأييد فرنسا في الحرب.
    وكانت صحف الجمعية كصحف ابن باديس تعالج مختلف القضايا الدينية والسياسية الجزائرية والإسلامية، وتهتم بنشر العقيدة السليمة ومحاربة البدعة والخرافة، وإصلاح التعليم في الجزائر وتونس وكل مكان، كما كان لقضية فلسطين حضور بارز على صفحاتها.
    الجمعية ومقاومة الطرقية والصوفية المنحرفة:
    كان ابن باديس يدرك أن الجزائر تواجه استعماراً مادياً فرنسياً، واستعماراً معنوياً طرقياً صوفياً، وأنهما متحالفان معاً ضد الشعب الجزائري.
    ورأى ابن باديس أن البدء بمحاربة الطرقية والصوفية المنحرفة هو المدخل السليم لمحاربة الاستعمار الفرنسي.
    وهذا المنهج من ابن باديس سابق على إنشاء الجمعية لكنه مع إنشاء الجمعية أصبح منهجاً جماعياً تقوم به جمعية تضم عدداً من العلماء ومئات المدرسين من خلال مدارس الجمعية، ولم يعد أمراً فردياً يقوم به ابن باديس.
    وبسبب تصدي ابن باديس للطرقية وخاصة الطريقة العليوية التي جمعت بين الانحراف الديني والولاء للفرنسيين، ففي سنة 1920 نشر الشيخ أحمد بن عليوة رئيس زاوية مستغانم ديوانه الشعري، والذي فيه توعد وتهديد للنبي صلى الله عليه وسلم إن هلك ابن عليوة بسبب شوقه للنبي!! قال ابن عليوة:
    إنْ مُتّ بالشَّوْق منكد من هو بالملك موحّد
    إن تبق في هجري زائد عبس بالقول تساعد
    ما عذر ينجيك للمولى ندعيك ينظر في أمريك ما نرجوه فيك !!
    وضمنه عقيدة وحدة الوجود والحلول، كقوله:
    فتشت عليك يا الله لقيت روحي أنا الله (والعياذ بالله)
    كما أن الطريقة العليوية بسبب هذا الانحراف والولاء للمحتل الفرنسي كانت تفتح له الأبواب وتمهد لهم السبل، في الوقت الذي كان الشرفاء من الصوفية يعانون الأذي من الفرنسيين ومثلهم العلماء المصلحون.
    وحين سئل ابن باديس في سنة 1922 عن ديوان ابن عليوة أجاب برسالة سميت "جواب سؤال على سوء مقال" رد فيها عليه لسوء أدبه مع النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بعض شطحاته الحلولية المنافية للعقيدة الإسلامية، ولأهمية هذه الرسالة قرضها عدد من كبار علماء المغرب وتونس والجزائر، مثل الطاهر بن عاشور والخضر حسين ومحمد النيفر وأشادت بها مجلة الفتح لمحب الدين الخطيب.
    وحقد ابن عليوة وأتباعه على ابن باديس وأرسلوا له من يقتله في عام 1926، وفعلا تربص به القاتل في مساء 9 جمادى الآخرة 1341هـ الموافق ليوم 14/12/ 1926 م وضربه بهراوة على رأسه وصدعه، فشج رأسه وأدماه، لكن ابن باديس أمسك به وصرخ طلباً للمساعدة، ونجى من القتل، ثم عفا عن القاتل لأنه مستأجر.
    واستمر ابن باديس في حربه للطرقية والصوفية المنحرفة، فلما تأسست الجمعية نصت في منهجها على محاربة الطرقية، فجاء في الأصل السادس عشر "الأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السلف، ومبناها كلها على الغلو في الشيخ ...".
    وقد اتبع ابن باديس مع الطرقية أسلوب المهادنة والتعاون في بداية تأسيس الجمعية، وذلك لقطع الطريق على الاستعمار الفرنسي من استغلال صراع الإصلاحيين مع الطرقيين، ولكن بشرط أن لا يكونوا عوناً للمستعمر.
    ولكنهم حين أخلوا بالشرط وتعاونوا مع الفرنسيين أظهر العلماء للشعب الحقيقة وأن شيوخ الطرق تبع للفرنسيين وباحثون عن مصالحهم الشخصية من المال والمناصب، فنبذهم الشعب الجزائري، وتقلص نفوذ الطرقية في الجزائر، ولم يعد لها تأثير على الشارع الجزائري.
    وهو الأمر الذي ساهم في تحرير الجزائر، حين اعترف أحد قادتهم سنة 1955 أنهم لم يجدوا شيوخ طرق وصوفية يوقفون ثورة الجزائر ضد فرنسا بسبب أعمال جمعية العلماء، في حين وجد الاستعمار الفرنسي شيوخا صوفيين في المغرب ليتمكن من إيقاف الثورة ضد فرنسا!!
    لكن اليوم تعود الصوفية للشارع الجزائري بقوة وبدعم من النظام وذلك لإضعاف التيار الإسلامي في الجزائر، فبدلا من علاج التطرف بالعلم يتم اللجوء للخرافة من قبل أنظمة علمانية واشتراكية!!
    الجمعية تفتح فرعا لها في فرنسا:
    حين زار وفد المؤتمر الإسلامي الجزائري فرنسا سنة 1936 وكان فيه ابن باديس والإبراهيمي والعقبي، طلب المهاجرون الجزائريون من ابن باديس ورفاقه أن يهتموا بهم ويرسلوا لهم من طلابهم، من يعلمهم ويرشدهم.
    وقد أسس الورتلاني جمعية نادي التهذيب في باريس، التي كانت تعد بمثابة فرع لجمعية العلماء بالجزائر، لأن التوجيه والمناهج والقائمين على النادي كله من جمعية العلماء بالجزائر، وسرعان ما أصبح لها ستة فروع في ضواحى باريس، وثم أصبحت 11 فرعاً حين أغلقت بسبب احتلال الألمان لفرنسا سنة 1940.
    وقد تطلبت هذ الفروع مجيء عدد آخر من طلاب جمعية العلماء بالجزائر، والذين أشرفوا على نشر التعليم والدعوة بين جموع المهاجرين الجزائريين وغيرهم، وكانت هذه التجربة من أوائل المؤسسات الدعوية الإسلامية في أوروبا إن لم تكن الأولى.
    الجمعية وفرنسا:
    حرص ابن باديس على تأجيل اصطدامه بفرنسا حتى يتمكن من بناء قاعدة صلبة يستطيع الاعتماد عليها، ولذلك تنوعت سياسته مع فرنسا بحسب ظروف كل مرحلة.
    ففي البداية كان يطالب فرنسا بأن تعدل مع الجزائريين بناء على شعاراتها وقيمها التي تنادي بها، ومع تأكيده على أن العلاقة بينهما هي علاقة بين أمتين وليست بين أمة واحدة، وكان ينادي بالمساواة في الحقوق السياسية لا القومية مع الفرنسيين.
    وهو يحاول بهذه الطريقة أن يصل لحقِّ الشعب الجزائري بالتعليم والمشاركة السياسية والتنعم بخيرات بلاده، واستمرت هذه السياسة لبعد قيام الجمعية بعدة سنوات.
    ورغم ذلك لم تكن فرنسا راضية عن نشاطات ابن باديس وحاولت أن تصرفه عن مشروعه عبر الإغراء ببعض المناصب مثل منصب المفتي أو تسميته بشيخ الإسلام، ولما لم يستجب لذلك قامت بالتضييق على عائلته في أعمالها وتجارتها، فلم يرضخ أيضاً.
    وقد حرص ابن باديس على أن يميز بين نشاطه الخاص ضد فرنسا وبين نشاط الجمعية، فكان يخوض بعض الصدامات مع فرنسا باسمه الشخصي من خلال مجلته الخاصة الشهاب، في الوقت الذي لا تتدخل الجمعية ومجلاتها في تلك الصدامات، وذلك للحفاظ على الجمعية وعدم تعريضها للخطر وهذا من حنكته ودهائه.
    ومع ذلك شهدت الجمعية الكثير من مظاهر التضييق على عملها كإيقاف ترخيص المدارس، ومراقبة ومتابعة أعضائها، والتعطيل المتكرر لمجلاتها، ومنع علمائها من دخول مناطق جزائرية، خاصة الصحراء، وقبول فرنسا توصية جمعية علماء السنة الطرقية بمنع غير الموظفين الرسميين من التدريس في المساجد، ولكن هذا فتح باب إنشاء المساجد الحرة غير التابعة للسلطات وكان فيها خير عظيم.
    كما صدر قرار باعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر سنة 1933 ما عرض أنشطة وعلماء الجمعية لمتاعب كبيرة جدا من قبل السلطات الفرنسية.
    ومنذ سنة 1936 تغيرت سياسة ابن باديس وذلك عقب محاولة فرنسا إلغاء الهوية الجزائرية تماماً وإلحاقها بفرنسا بالكلية واعتبار الجزائر مقاطعة من فرنسا، فأعلن ابن باديس رفضه لهذا المسعى وأنه يرفض التجنس بالجنسية الفرنسية وأنه يتبرأ من بعض قادة الجزائر الذين قبلوا ذلك.
    ودعا ابن باديس إلى عقد مؤتمر عام لدراسة الأوضاع، فعقد في 7/7/1936 المؤتمر الإسلامي الجزائري الأول في نادي الترقي، وكان هذا المؤتمر نقطة تحول في تاريخ الجزائر، وتقرر إرسال وفد جزائري إلى فرنسا لشرح وجهة النظر الجزائرية، وكان في الوفد ابن باديس والإبراهيمي بشكل شخصي، واستطاع الوفد بثقل العلماء الحاضرين أن يجبروا النواب الجزائريين على الالتزام بمقررات المؤتمر التي تحافظ على هوية الجزائر الإسلامية ولغتها العربية.
    وأصبح نشاط العلماء ضد سياسة الفرنسة ظاهرا ومكشوفا، وأنهم لن يتنازلوا عن حقوقهم في المواطنة والديمقراطية التي تدعيها فرنسا، وهو تحول مهم في سياسة ابن باديس تجاه فرنسا، وما كان يمكن القيام به لولا تلك الجهود الطويلة والتي أفرزت قوة على الأرض لا يستهان بها.
    ولذلك لجأت الإدارة الفرنسية لضرب جهود ابن باديس والجمعية بعد عودتهم من فرنسا، باتهامهم بقتل مفتي العاصمة ابن مكحول واعتقال الشيخ الطيب العقبي باعتباره المتهم بذلك، ولم تحاكم الرجل أو تقبض عليه، وتركت الاتهام معلقًا، وذلك حتى تُشَوِّهَ سمعة الرجل وجمعيته، وهو ما دفع به إلى الاستقالة عام 1938، وتم إغلاق نادى الترقي لمنع تجمع المصلحين فيه، وحرضت الطرق الصوفية على مهاجمة ابن باديس، حتى إنها أطلقت عليه لقب "ابن إبليس"!
    ولذلك توجه ابن باديس والجمعية لمقاطعة السلطات الفرنسية والمجالس التابعة لها، والاتصال بالحركات الوطنية الإسلامية في تونس والمغرب.
    ومن ثم صدر أمر بمنع تقديم المشروبات في النوادي مجاناً أو بالبيع إلا بإذن خاص من الوالي الفرنسي، بهدف القضاء على تجمعات الإصلاحيين من خلال إفلاس النوادي والمقاهي التي تجمعهم، وتبعه قرار منع فتح المدارس والتضييق على القائم منها وإغلاقه.
    ثم جاءت سنة 1938 ونذر الحرب العالمية الثانية وأرادت فرنسا أن تكسب ولاء الجزائريين لها تمهيدًا لإشراكهم في صفوف القتال الفرنسية، فتوجهت للشيخ العقبي والذي يحاكم بتهمة قتل المفتي وطلبت منه أن تعلن الجمعية تأييدها لفرنسا، وأن براءته رهن بذلك.
    وقصدت فرنسا تحقيق عدة غايات من ذلك، إذا صدر التأييد فهذا مكسب كبير لها، وإذا رفض فإن خلافا قد يقع بين العقبي والجمعية أو بين بعض أفرادها أو سيختلف قادة الجمعية بين مؤيد ومعارض، وكل ذلك مفيد لفرنسا!!
    وقد كانت محاكمة العقبي قضية هامة ومفصلية لكونها محاكمة للجمعية في شخص العقبي، لما له من مكانة حتى أن ابن باديس الذي لم يقطع درسه حين توفي ولده الوحيد وعمره 17 سنة، قطع درسه لحضور محاكمة العقبي.
    فرفض ابن باديس والجمعية ذلك – وهو ما أزعج العقبي الذي تلاعبت به فرنسا عبر بعض المغرضين، ولم تنتبه الجمعية لضرورة مساندته في ذلك، فاستقال من الجمعية – وحتى لا تضطر الجمعية لإعلان موقف لا تريده قررت إيقاف صحفها، وكذلك فعل ابن باديس.
    وبدأ ابن باديس يفكر بالثورة على فرنسا إذا أعلنت إيطاليا الحرب عليها، وذلك بدلا من قبول بعض الجزائريين الانخراط في الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية.
    وفي خضم هذا الصراع المتصاعد مع فرنسا والذي أصبح صريحاً ومكشوفاً، لم يتوقف ابن باديس عن التفكير في المستقبل وما بعد الاستعمار الفرنسي، فقدم ابن باديس رؤيته لأسس الدستور المرتقب للجزائر المستقلة بعنوان "أصول الولاية في الإسلام" في مجلته (الشهاب) عدد 1/1938، وجعلها 13 اصلاً، منها:
    الأصل الأول: لا حق لأحد في ولاية أمر من أمور الأمة إلا بتولية الأمة، فالأمة هي صاحبة الحق والسلطة في الولاية والعزل...
    الأصل الثاني: الذي يتولى أمرا من أمور الأمة هو أكفؤها فيه، لا خيرها في سلوكه، فإذا كان شخصان اشتركا في الخيرية والكفاءة وكان أحدهما أرجح في الخيرية، والآخر أرجح في الكفاءة لذلك الأمر قدم الأرجح في الكفاءة على الأرجح في الخيرية...
    الأصل الرابع: حق الأمة في مراقبة أولي الأمر، لأنها مصدر سلطتهم وصاحبة النظر في ولايتهم وعزلهم.
    الأصل السابع: حق الأمة في مناقشة أولي الأمر، ومحاسبتهم في أعمالهم وحملهم على ما تراه هي، لا ما يرونه هم، فالكلمة الأخيرة لها لا لهم، وهذا كله من مقتضى تسديدهم وتقويمهم عندما تقتنع بأنهم على باطل ...
    الأصل التاسع: لا تحكم الأمة إلا بالقانون الذي رضيته لنفسها وعرفت فيه فائدتها، وما الولاة إلا منفذون لإرادتها، فهي تطيع القانون لأنه قانونها، لا لأن سلطة أخرى لفرد أو لجماعة فرضته عليها كائنا من كان ذلك الفرد، وكائنة من كانت تلك الجماعة ...
    الأصل الثاني عشر: حفظ التوازن بين طبقات الأمة، فيؤخذ الحق من القوي دون أن يقسو عليه لقوته فيتعدى عليه حتى يضعف وينكسر، ويعطى الضعيف حقه، دون أن يذل لضعفه، فيطغى عليه، وينقلب معتديا على غيره ...
    ومع تعاظم دور الجمعية في الجزائر، ورفض الجمعية وابن باديس الانصياع لرغبات فرنسا في ابتلاع الجزائر، وعدم استسلام ابن باديس والجمعية لليأس والقنوط، أصدرت السلطات الفرنسية قرارا بحل الجمعية في سنة 1940، وفرض الإقامة الجبرية على ابن باديس ونفي البشير الإبراهيمي إلى جنوب الجزائر.
    أثر ابن باديس على الجزائر
    آثار ابن باديس على الجزائر ضخمة جداً، ولعل أبرزها أنه تمكن – بعون الله عز وجل – من تربية جيل جزائري كامل وتكوين أمة تدرك شخصيتها الإسلامية والعربية، وذلك بعد أن حارب الطرقية والخرافة والجهل، وفضح وكشف ألاعيب المحتلين الفرنسيين وأذنابهم.
    كما أنه أرسى في الجزائر العمل الدعوي المؤسسي ودعم الإعلام الهادف وسخّره لمصلحة الجزائر.
    وفاته رحمه الله تعالى
    وفي مساء يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول سنة 1359هـ، الموافق 16 أبريل 1940م، وبعد أشهر معدودة من حلّ الجمعية توفي ابن باديس وهو تحت الإقامة الجبرية، وكان قد بلغ الخمسين من عمره، وكان يعاني رحمه الله من عدة أمراض مستعصية مما جعل هناك ظنونا بأنه لم يمت ميتة طبيعية، وقد شيع جنازته خمسون ألفا من الجزائريين، أو يزيد، جاؤوا من كافة مناطق الجزائر، وقد دفن - رحمه الله- في مقبرة آل باديس بمدينة قسنطينة.


    مراجع للتوسع:
    * جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر (1913-1940)، عبد الرشيد زروقة، دار الشهاب، بيروت، ط 1، 1999.
    * جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية، مازن مطبقاني، دار القلم، دمشق، ط 1، 1988.
    * ابن باديس فارس الإصلاح والتنوير، د.محمد بهي الدين سالم، دار الشروق، القاهرة، ط 1، 1999.
    * عبد الحميد بن باديس وآراؤه الفلسفية بين النظرية والتطبيق (1889-1940)، د.عبد الحميد النساج، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط 1، 2010.
    * نشاط جمعية العلماء الجزائريين في فرنسا (1936-1956)، سعيد بورنان، دار هومه، الجزائر، 2011.
    * مقدمة مجلة الشهاب، عبدالرحمن شيبان، دار الغرب الإسلامي، بيروت ط 1، 2000.
    * آثار ابن باديس، عمار الطالبي، دار ومكتبة الشركة الجزائرية، الجزائر، ط 1، 1968.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح


    الشيخ أبو شعيب الدكالي المغربي



    أسامه شحادة


    الشيخ أبو شعيب الدكالي المغربي





    في هذه المرحلة التي تشهد تقدم العمل الإسلامي على الصعيد الدعوي والاجتماعي والسياسي نجد أنه من المفيد لتقويم وتسديد مسيرة العمل الإسلامي التعريف ببعض رواد الإصلاح ورموزه؛ لوصل الحاضر بالماضي والاستفادة من الدروس والتجارب السابقة والبناء عليها؛ حتى لا تضيع تلك الجهود المباركة ولكي نختصر كثيراً من الزمن والجهد.
    تعريف بشخصيته:
    الشيخ أبو شعيب بن عبد الرحمن الدكالي الصديقي، (1295 هـ - 1356 هـ / 1878م – 1937م)، يعدُّ آخر حُفاظ المغرب ومحدثيه، ورائد الدعوة السلفية في مطلع هذا القرن بالمغرب حتى لُقب بشيخ الإسلام، تولى الإمامة والخطابة والإفتاء على المذاهب الأربعة في الحرم المكي، وقدم بعض الدروس بالأزهر في مصر وفي جامع الزيتونة بتونس. وبعد عودته للمغرب وصلت له رئاسة الدروس السلطانية بالقصر الملكي على عهد السلطان مولاي عبد الحفيظ، والسلطان المولى يوسف، والعاهل محمد الخامس، وتولى وزارة العدل والمعارف لعدة سنوات، وكان يلقبه بعض طلابه بـ (محمد عبده المغرب) لدوره الإصلاحي العلمي والوطني والذي أنتج عدداً من قادة المغرب العلميين والسياسيين.
    نشأته:
    ولد الشيخ أبو شعيب الدكالي بدار الفقيه بن الصديقي بدكالة في 25 ذي القعدة عام 1296هـ، وهو من قبيلة أولاد عمرو، إحدى قبائل دكالة العربية، وهي قبيلة معروفة الأصل في المغرب منذ عهد المرابطين، وهم من رسخ الفكر السني في المغرب العربي منذ ذلك العهد، نشأ يتيما تحت كفالة عمه العلامة سيدي محمد بن عبدالعزيز الصديقي، وتلقى تعليمه الأولي بمسقط رأسه قرية الصديقات بنواحي منطقة الغربية إحدى بوادي جهة دكالة، على يد شيوخ وعلماء القبيلة من أمثال العلامة ابن عزّوز، والعلامة محمد الصديقي، ومحمد الطاهر الصديقي وغيرهم، ثم انتقل إلى الريف حيث أتم حفظ القرآن بالقراءات والمتون الشائعة في زمنه.
    فعندما كان عمره ثلاثة عشر عاما استحضر السلطان مولاي الحسن الأول حفاظ مختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي لأجل الاختبار، وكان ذلك سنة 1308هـ فحضر أبو شعيب إلى مراكش مع من استقدم إليها من الحفاظ، وكان المشرف على الامتحان الفقيه علي بن حمو المسفيوي وزير العدل فأعجب بأبي شعيب الدكالي لصغر سنه وتقدمه على من عداه حفظا وفهما، فسأله الوزير عن القرآن: عن حفظه، فأجاب على الفور أنه يحفظه وبالقراءات السبع، فأحضر من يعرفها ليمتحنه فيها، وشاع خبر هذا الطفل العجيب في القصر حتى بلغ إلى علم السلطان، فأمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال له السلطان: اعرب "الرمان حلو حامض"، فأعرب المثل، وكان قصد السلطان أن يطرح معه قضية معروفة في النحو تتعلق بالخبر حين يتعدد بالنسبة لمبتدأ واحد، ثم إن السلطان الحسن الأول أراد أن يمازحه ويثيره فقال له: "أنت فقيه ولست بنحوي" فأجابه: "أنا أعلم بالنحو مني بالفقه، ولكني أنشــد لمولانا قول الشاعر:
    يداك يد للورى خيرها وأخرى لأعدائها غائرة
    هنا تدخل بعض من كان حاضرا في المجلس وقال له أفصح؟ ماذا تريد أن تقول لمولانا؟ فأجاب: "يكفني أن أتلو قول الله تعالى: "والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات"، فأعجب به السلطان أيما إعجاب، وضحك كثيرا، وأمر له بصلتين وكسوتين، ووقع على بطاقة التنفيذ بما نصه: "يضاعف لأبي شعيب لصغر سنه وكبر فنه".
    رحلته لمصر:
    في سنة 1314 هـ، 1896م رحل إلى مصر فمكث بها ست سنوات وأخذ فيها العلم عن علماء الأزهر مثل: شيخ الإسلام سليم البشري، والعلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ محمد محمود الشنقيطي اللغوي الشهير، والشيخ أحمد الرفاعي وغيرهم كثير.
    وقد كان الشيخ محمد عبده يرأس لجنة الامتحان التي تقدم إليها الشيخ شعيب لدخول الأزهر، وقد كان يرفض دخوله بسبب عجز اللجنة عن قراءة خطه المغربي، لولا تدخل الشيخ محمد عبده وطلب إجراء الاختبار له شفوياً.
    وقد كان لإقامته في مصر المنفتحة على أوربا والحضارة الغربية، والتي تحمل مجلاتها وجرائدها وكتبها أبحاثاً ودراسات ومقالات تعبر عما تمر به مصر من نهضة فكرية وإصلاحية أثره الكبير في نفس الطالب الشاب أبي شعيب الدكالي وتكوينه العلمي وتوجيهه الفكري[1].
    رحلته لمكة المكرمة:
    طلب والي مكة الشريف عون الرفيق من الأزهر إماماً ومفتياً وخطيباً للحرم المكي يكون عالماً مطلعاً على الكتاب والسنة وذلك بسبب قوة ظهور الدعوة السلفية في نجد مما أثر على وضع الحجاز، فرشح شيخُ الأزهر الشيخ سليم البشري أبا شعيب لهذه المهمة، فأصبح إماماً وخطيباً ومفتياً ومدرساً للمسلمين في أرض الحرمين الشريفين، وقد حظي أبو شعيب عند أمير مكة بالحظوة الحسنة فأكرمه وبالغ في احترامه وتعظيمه، وقدمه في مجالس العلماء، وخطب له ابنة أحد وزرائه لتكون زوجة له.
    وانتهز أبو شعيب الفرصة بمجاورة وقدوم عدد كبير من علماء المسلمين لمكة فأخذ العلم عنهم وهم من بلاد شتى، منهم: شيخ الحنابلة بالحجاز والشام الشيخ عبدالله صوفان القدومي النابلسي، والشيخ العلامة عبدالرزاق البيطار، والشيخ محمد بدر الدين الدمشقي، والشيخ أحمد بن عيسى النجدي.
    وكانت له دروس متعددة بالحرمين الشريفين منها: التفسير وشرح الكتب الستة وشرح بعض كتب السيرة ككتاب الشفا للقاضي عياض، والشمائل للترمذي، ودرس اللغة والأدب، ودروس في الفقه وأصوله والقراءات والمصطلح.
    كما أجاز أبو شعيب عدداً كبيراً من طلبة العلم من مختلف بلاد العالم مثل: الحاج مسعود الوفقاوي من علماء سوس والشيخ محمد العربي الناصري عالم المغرب والشيخ يوسف القناعي من الكويت والشيخ محمد الشنقيطي من علماء موريتانيا والذي بعثه أبو شعيب من منطقة الإحساء لمنطقة الزبير بالعراق للدعوة والتدريس، والشيخ عبدالله بن حميد مفتي الحنابلة بمكة المكرمة، والشيخ محمد سلطان المعصومي من علماء ما وراء النهر صاحب كتاب "هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين"، وغيرهم كثير.
    وبسبب جهوده المباركة ودروسه العلمية وطلابه النجباء وتأثيره في الحجاج والمعتمرين ذاع ذكره في العالم، وفي ما يلي نموذج من خطبه في الحرم المكي: "اعملوا لدنياكم اعملوا لآخرتكم اعملوا لدنياكم ما يرقي بلدكم اعملوا لدنياكم ما يرقي أولادكم اعملوا لدنياكم ما يجعل يدكم عليا.
    فقد قال عليه الصلاة والسلام: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، فالمحترف أمير والسائل ذليل.
    اعملوا لدنياكم ما يقلل البطالة في البلد التي كان يتردد فيها جبريل بالوحي والتنزيل. اعملوا لدنياكم أحباب الديان، فأنتم تعلمون أن أسباب المعايشة أربعة: إمارة وتجارة وزراعة وصناعة.
    فأما الإمارة فلا يتعيش بها إلا الأنفار المحدودون دون الغير الكثير.
    وأما الزراعة فأنتم بِواد غير ذي زرع كما حكى الحكيم الخبير.
    فما بقي إلا الصناعة والتجارة، وهذه البلاد الطاهرة خالية من الصناعة، وتجارتها ضعيفة مزجاة البضاعة، فهلمّوا إلى ما ينفعكم وسلوا من واليكم الجديد المظفر المعان أن يساعدكم على إنشاء مكتب صناعي، فهذا الجلد المباع في بلدكم بالقرش والقرشين، ويصنع ويرد إليكم فتشترونه بالمائة والمائتين، فكأنكم لم تقرؤوا قول الله جل جلاله وعلا: }ومِن جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم{..." ، ويتضح من هذه الخطبة طبيعة الخطاب الإصلاحي الذي كان يبثه أبو شعيب في المسلمين من ضرورة عمارة الدنيا والأخذ بأسباب القوة والتقدم والرقي على هدي الوحي المبارك في القرآن والسنة، وقد حمل طلابه هذه المفاهيم معهم إلى بلدانهم، فها هو تلميذه الشيخ الشنقيطي يفتح المدارس والمعاهد في العراق والإحساء؛ وينشر الدعوة السلفية هناك، وأما تلميذه الشيخ القناعي والذي يعد مصلح الكويت الكبير الذي أسس بعد عودته للكويت المدارس القرآنية والعلمية والمكتبات العامة وكان من المؤسسين لمجلس الشورى بالكويت سنة 1921م ومن مؤسسي المجلس البلدي فيها.
    وبسبب هذا السمعة الحسنة للشيخ أبي شعيب والتي بلغت المغرب كله من خلال طلابه والحجاج طلب منه المولى عبد الحفيظ حين تولى ملك المغرب[2] - وهو الملك العالم الفاضل - أن يعود للمغرب حتى يكون معينا له في إصلاحها.
    عودته لوطنه:
    وفي سنة 1328 هـ ـ 1910 م عاد أبو شعيب إلى بلده واستقر في مدينة فاس، وقربه السلطان مولاي عبد الحفيظ، وتهافت عليه علماء فاس وطلبتها وأعيانها، وقد كان لأبي شعيب زيارات متعددة سابقة لبلده أبقته على صلة بالمغرب قيادةً وشعباً وإدراك لهموم المغرب وتحدياته تحت الحماية – الاستعمار - الفرنسي.
    نشاطه الرسمي في الدولة:
    وفور عودته ولاه السلطان قضاء مراكش، فاشتهر بالنزاهة والعدل. وفي سنة (1330 هـ / 1912م) تم تعيينه وزيرا للعدل والمعارف، فعمل على إصلاح القضاء حين تولى وزارة العدل من خلال تجربته في القضاء، حيث راجع شروط تولية القضاء باشتراط الكفاءة الشرعية مع النزاهة في المرشحين للقضاء، واستحدث لجاناً للامتحان والترقي والتأديب للعاملين في القضاء، كما حصر الفتوى بالعلماء الثقات المشهورين.
    كما وضع أسسا للتقاضي حِفظاً للحقوق وتعجيلاً بالانجاز حتى لا تطول مدة المحاكمات بلا داعٍ.
    وفي سنة 1332هـ أصدر السلطان أمراً بتأسيس مجلس الاستيناف الأعلى الشرعي وأسند رئاسته لأبي شعيب مع بقائه وزيراً للعدل، لمراجعة ما يصدر من القضاة من أحكام.
    وفي نفس السنة أضيف لمهامه الإشراف على إدارة المعارف والشؤون الدينية، فعمل على زيادة مكافآت العلماء والموظفين الدينيين، والبدء بإصلاح التعليم الديني والذي بدأ فيه في جامع القرويين والذي يعد أقدم جامعة في العالم، وقد استعان بعدد من طلابه في إدارة القضاء والمعارف منهم الشيخ محمد بن العربي العلوي، وكان يصطدم مع الفرنسيين كثيراً بسبب رفضه مسايرتهم في التحرر من الشريعة الإسلامية قضاءً وتعليماً.
    وقد كان أبو شعيب ينوب أحياناً عن الصدر الأعظم – ما يعادل منصب رئيس الوزراء اليوم- فيوقع المراسيم نيابة عنه.
    وبقي يتولى وزارة العدل حتى سنة 1342 هـ ـ 1923 م حيث طلب إعفاءه لأسباب صحية فمنح إذ ذاك اعترافا له بالجهود التي بذلها في مهامه؛ لقب "وزير شرفي"، وقيل أن سبب طلبه الإعفاء رفضه التوقيع على قرار بإنشاء دار للبغاء بدعم من الفرنسيين.
    دوره العلمي والدعوي:
    ورغم انخراط أبي شعيب في مناصب رسمية كثيرة إلا أنه لم ينقطع عن التدريس والخطابة والوعظ والدعوة ونشر العلم، سواء في الدروس الحسينية أو في زياراته لمدن المغرب أو خارجها.
    فقد كان يدرس ثلاثة دروس في اليوم: بعد الفجر وبين الظهرين وبين العشاءين، هذا بالإضافة لعمله الرسمي.
    ومن أهم جهوده في نشر العلم في المغرب إحياؤه تدريس تفسير القرآن الكريم الذي كان ممنوعا بسبب خرافة سيطرت على بعض الجهلاء من العلماء والحكام بدعوى: أنه إذا فسر القرآن، مات السلطان، إذ حدث في عهد السلطان سليمان أن دخل إلى بعض المساجد في فاس الشيخ أحمد التيجاني - وكان السلطان يعظمه - فوجد الشيخ الطيب بن كيران يدرس التفسير فقال للسلطان مستغربا ومستنكرا: "مثل هذا العالم يدرس التفسير؟ سيكون ذلك وَبالا وخرابا على الأمة والسلطان"، فتوقفت دراسة التفسير في المغرب منذ ذلك الوقت، وأصبح يُقرأ تلاوة وسردا، وليس دراسة علمية، حتى جاء أبو شعيب فأحيا دراسته، وقال: بسم الله نفسر القرآن ولا يموت السلطان" ففسر القرآن وعاش السلطان. وكان يدرسه بتفسير النسفي، واستطاع أن يبعث وعيا فكريا جديدا في المغرب، باعتبار الوحي القرآني أول مصدر في مسيرة التصحيح والتقويم، للعودة بالأمة إلى الطريق السليم، بعيدا عن الخرافات ومظاهر الشعوذة التي كانت شائعة يومئذ.
    ثم قام أبو شعيب بتدريس السنة النبوية وعلومها وشرح كتب الحديث، بعد أن كانت تقرأ متون الأحاديث فقط على سبيل التبرك دون التمعن في معانيها أو الاستفادة من مراميها، فحصلت نهضة علمية سلفية كبيرة في المغرب.
    وفي الفقه درّس أبو شعيب الفقه بالدليل، فقد شرح مختصر خليل وهو المعتمد عند المالكية في المغرب بإرجاع كل مسألة إلى دليلها، كما درّس أبو شعيب الدكالي علوما كثيرة كالنحو والأدب، والقراءات.
    دوره الإصلاحي:
    قام أبو شعيب بالإصلاح من خلال مؤسسات الدولة ومن خلال نشاطه العلمي العام، فقد كان سبباً في إصلاح كثير من الأنظمة والمؤسسات في قطاعي القضاء والتعليم.
    كما أن جهوده في نشر العلم والتعليم كان لها أكبر الأثر في ظهور القيادات الوطنية المخلصة والتي كافحت الاستعمار لتحررها من ربقة الطرقية التي تحالفت مع الاستعمار من خلال طلبته الذين درسوا عليه مختلف العلوم سواء في مكة المكرمة أو في المغرب بعد عودته.
    وبسبب تقلده منصب وزير العدل، والمغرب تحت الاستعمار الفرنسي، رماه بعض المتسرعين بالعمالة للفرنسيين، وهو حكم عجول وله مخرج شرعي وعقلي؛ فإنه ليس من الحكمة أن يترك هذا المنصب للفرنسيين أو أتباعهم لأنه كان يحكم بين المسلمين المغاربة، ومن خلال شغله لهذا المنصب حمى كثيرا من المصالح الشرعية والوطنية للمغاربة، فقد كانت كثير من أقضيته هي السبب – بعد الله عز وجل – في تثبيت الكثير من الأراضي المغربية كي لا يستولي عليها الفرنسيون بحجج شتى.
    ومن دوره الإصلاحى رفضه لبعض التصرفات التي يقوم بها بعض المتحمسين للجهاد ضد فرنسا، فتكون النتيجة الربح لفرنسا، وذلك في قصته المشهورة مع الشيخ أحمد الهيبة حين قال له: "إن قوما يزعمون أنني أحارب المجاهدين وهذا كذب لأنني أحارب بعض الثوار الذين يكونون سببا في تسليم البلد والتعاون مع العدو كبوحمارة[3] وبوعمامة". ومصدر هذه الطعونات هو بعض المتصوفة الذين كانوا يعادونه بسبب منهجه السلفي.
    كما كان مدافعاً عن وحدة الدولة أمام الاستعمار الفرنسي ولذلك كان أول من عارض الظهير البربري – الظهير هو المرسوم – والذي هدف لتقسيم المغرب على أساس عرقي بجعل إدارة مناطق البربر للاستعمار الفرنسي والذي سيعمل على إلغاء اللغة العربية والمحاكم الشرعية وتبديلها بمحاكم ترجع للعادات البربرية حتى لو تصادمت مع الإسلام، والاحتكام لقانون العقوبات الفرنسية!!
    كما كان عضوا في جمعية "أحباس الحرمين الشريفين" والتى كانت جمعية تونسية مغربية جزائرية، كما أنه كان متصديا لمحاولات المستشرقين لضرب اللغة العربية حيث جعل هذا موضوع كلمته بمؤتمر اللغة والآداب بتونس سنة 1931م.
    منهجه:
    * قام منهج أبي شعيب على محاربة الشرك والخرافة والبدعة، قال علال الفاسي في رثاء شيخه أبي شعيب:" كان الفقيد في الرعيل الأول من أشياخنا الذين نعوا على التقليد وحاربوا الجمود ودعوا إلى التحرر من قيود العصور الأخيرة المنحطة والسمو بالفكر إلى مستوى السلفية الأولى التي تعبد الله خالصا له الدين توحى بالعقل في الفهم والتفهيم، وترجع إلى القرآن والسنة في البرهنة والتدليل".
    * كان يؤثر اللين والتلطف في عرض منهجه ومناقشة خصومه، يقول الأستاذ أبو بكر القادري: "الشيخ شعيب الدكالي كان يلمح ويعرض دون أن يصرح والفقيه ابن العربي كان يهاجم ويخاصم ويشتد دون تحفظ. وهذا ما جعل الكثيرين من الفقهاء المتزمتين يناصبون ابن العربي العداء، ولا يتعرضون للشيخ شعيب الدكالي بمقالة سوء".
    * التركيز على التعليم المباشر وعدم الانشغال بتأليف الكتب، ويقول في هذا الصدد تلميذه الكبير الشيخ عبدالله كنون: "نحن – يقصد طلاب أبي شعيب- ألسنا كلنا كتبا وآثارا لفقيدنا العظيم".
    * الوضوح والتبسيط منهج أبي شعيب في التدريس، إذ قد عاهد أمام الملتزم بالحرم المكي شيخه الشيخ محمد بدر الدين الدمشقي أن يُفهم الناس الدين "وألا تعمّي في ألفاظك حتى يفهم عنك الخاص والعام" بناءً على طلب الشيخ.
    * ضرورة الانشغال بواجب الوقت خاصة من العلماء والدعاة، فحين انشغل بعض العلماء الكبار بالبحث عن النملة التي كلمت سليمان عليه السلام هل التاء فيها للوحدة أو التأنيث؟ قال لهم أبو شعيب: "لقد فرغ العلماء من البحث في هذا الموضوع منذ قرون عديدة، وكان ينبغي لنا نحن أن نبحث عن الطرق التي تمكننا من طرد الجيش الفرنسي الذي بدأ يحتل بلادنا منذ سنوات..".
    * التواصل مع علماء عصره للعمل على نهضتها، فقد كانت له صلات بالشيخ عبدالحميد بن باديس رئيس جمعية علماء المسلمين بالجزائر، وعلماء تونس.
    * لقد كان من منهج أبي شعيب التصدي للولاية العامة ولو تحت حكم الاستعمار الفرنسي للقيام بمصالح الإسلام والمسلمين، لأنه إن لم يقم بها اختار الفرنسيون من يكون لعبة بأيديهم في ذلك بما يلحق الضرر بالإسلام والمسلمين، وهي رؤية مبكرة ومتقدمة على كثير من مفكري الحركات الإسلامية التي توصلوا لها مؤخراً!!
    قالوا في أبي شعيب:
    - المؤرخ عبد السلام بن سوده: كل ما وُصف به فالرجل فوق ذلك.
    - وقال أيضاً: الشيخ الإمام علم الأعلام، المحدّث المفسّر الرّاوية على طريق أيمة الاجتهاد، آخر الحفاظ بالديار المغربية ومحدثها ومفسرها من غير منازع ولا معارض.
    - عبدالحفيظ الفاسي: إمام في علوم الحديث والسنة… متظاهر بالعمل بالحديث والتمذهب به قولاً وعملاً داعية إليه ناصر له.
    - عبدالله الجراري: كان ينادي بردّ الناس إلى الكتاب والسنة، ويحضّهم على اتباع مذهب السلف الصالح ونبذ ما يؤدّي إلى الخلاف وما ينشأ عنه من الحيرة والدوران في منعرجات الطرق؛ لأن الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمتاً؛ هو طريق السنة والكتاب.
    - عبدالله كنون: قام الشيخ أبو شعيب الدكالي بدعوته التي كان لها غايتان شريفتان: الأولى: إحياء علم الحديث ونشره على نطاق واسع.. والثانية: - وهي بيت القصيد- الأخذ بالسنة والعلم بها في العقائد والعبادات؛ فقد جهر في ذلك بدعوة الحق، ودل على النهج القويم، والصراط المستقيم.
    - محمد السائح: وقد اتصل صدى حركة الإصلاح التي كان يقوم بها الشيخ بالقصر؛ فصدرت بها ظهائر شريفة تؤيد تلك الحركة، منها ظهير في منع ما يقوم به بعض أرباب الزوايا مما يعد قذى في عين الدين وبهقا في غرة محاسنه.
    - الرحالي الفاروقي: فقد كان هذا الشيخ رحمه الله علماً من أعلام المغرب الشاهقة، وفذاً من الأفذاذ الذين يفتخر بهم في ميادين المعرفة والإصلاح، وفي خدمة الكتاب والسنة ورفع رايتهما ونشر معانيهما وإقامة أحكامهما؛ بل كان يعتبر من الرعيل الأول في المغرب الذين أخذوا على أنفسهم إحياء العقيدة السلفية وبعث الروح الإسلامية الصحيحة في النفوس باعتماد وحي الكتاب العزيز ووحي السنة الذي لا ينطق عن الهوى، ونبذ ما سوى ذلك من الأقوال الموهومة والعقائد المشبوهة والخرافات المدسوسة التي أخرت سير المسلمين وشوهت سمعة الإسلام.
    - عبدالكبير الزمراني: ولن ننسى قضية (لاَلَّة خضراء) وهي صخرة ذات شكل هندسيّ افتَتـن به النساء بمراكش، وكنّ يقربن لها القرابين، ويقدمن لها النذور ويقمن لها موسماً سنوياً إلى أن سمع بخبرها الشيخ رحمه الله فلم يتردد في تغيير هذه البدعة، والقيام بنفسه على إزالتها، ومن الغريب أنه كلما دعا عاملاً لكسرها امتنع من ذلك لِما علق بذهنه من الأوهام حولها؛ إذ ذاك رأى نفسه مضطرا لكسرها بيده، وفعلاً أخذ الفأس وكسرها، ثم وزّع أشلاءها خارج البلد.
    - د.محمد رياض: إن بعض الناس حين يذكرون السلفية والإصلاح يقدمون وينوهون بالدرجة الأولى بالشيخ سيدي محمد بن العربي العلوي بدل ذكر شيخه وأستاذه شيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي في المقام الأول وهو في المقام الثاني. ذلك أن الشيخ سيدي محمد بن العربي العلوي تلميذ أبي شعيب الدكالي.
    مصادر للتوسع:
    * شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي الصديقي، د. محمد رياض، ط2، 2009.
    * الحركة السلفية في المغرب العربي، مجموعة مؤلفين، دار الأمان بالرباط، ط2، 2010.
    * من أعلام المغرب العربي في القرن الرابع عشر، عبدالرحمن بن محمد الباقر الكتاني، دار البيارق، ط1، 2001.




    [1] - أعلام المغرب العربي، عبدالوهاب بن منصور، ج2 ص 198 المطبعة الملكية بالرباط.
    [2] - كان هناك عدد من سلاطين المغرب من أهل العلم والفضل، وعلى معتقد السلف الصالح منهم السلطان عبد الحفيظ.
    [3] - أبو حمارة كان صنيع الاستعمار، قام بثورة وقد كلف خزينة الدولة الكثير وأزهقت كثير من الأرواح للقضاء عليه وانتهت فتنته في عهد السلطان عبد الحفيظ.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح

    شيخ الإسلام محمد العربي العلوي


    أسامه شحادة


    شيخ الإسلام محمد العربي العلوي




    يزخر المغرب عبر تاريخه بعدد كبير من العلماء الأجلاء الذين ساهموا في بناء الدولة المغربية، بما يقدمونه من إسهامات علمية، ونضالات ومواقف بطولية، واجتهادات فقهية، خاصة وأن الملوك المغاربة كانوا يقربونهم دائما إليهم، ويستشيرونهم في الأمور الهامة المتعلقة بالدولة باعتبارهم أهل الحل والعقد.
    ويعتبر "الشيخ محمد بن العربي العلوي" واحدا من الوجوه العلمية الكبيرة، التي أفرزتها ظروف مغرب القرن العشرين، الذي تزايدت فيه الأطماع الاستعمارية بشكل خطير، والتي أفضت في النهاية إلى احتلال البلاد، كنتيجة حتمية للضغوط العسكرية والسياسية، والمالية، والفكرية، والتجارية التي مورست على النخبة الحاكمة في المغرب، من قِبل الدول الأوربية الطامعة فيه.
    ومما زاد الأمر تعقيدا أن أوضاع المجتمع المغربي الداخلية في هذه الفترة، كانت متردية نتيجة الجمود الفكري، وانتشار الخرافات والشعوذة، بسبب كثرة الطرق والزوايا، التي ابتعدت بشكل كبير عن روح الكتاب والسنة، مما أدى إلى تشويه الفهم الصحيح للإسلام.
    حالة المغرب هذه التي تدعو إلى الشفقة والحسرة، اجتماعيا وفكريا، بسبب طغيان الجهل، وسياسيا واقتصاديا، من جراء الاحتلال الأجنبي، هي التي ستجعل شيخنا يعمل بكل ما أوتي من قوة، ضمن الحركة الوطنية، على شن حرب لا هوادة فيها ضد الجهل والطرقية، وضد المستعمر الغاشم للبلاد، مستعملا في ذلك فكره السلفي، وحسه الوطني.
    ميلاده، نشأته، ودراسته:
    هو الشريف المصلح شيخ الاسلام أبو مصطفى محمد ابن العربي، ويمتد نسبه رحمه الله إلى محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية (أخو إدريس الداخل للمغرب، وجد الأدارسة).
    ولد محمد بن العربي العلوي يوم 7 من ذي الحجة عام 1301 أو 1302 هـ / 1884م، بالقصر الجديد بمدغرة، إحدى واحات "تافيلالت".
    لعبت أسرته دورا كبيرا في تكوين شخصيته وتوجيهه التوجيه العلي القويم، حيث كانت والدته تعينه على حفظ القرآن الكريم، وتحثه على التحلي بالفضائل والأخلاق الإسلامية. ولم يكن دور والده سيدي العربي بأقل من دور والدته في الحرص على تربيته وتوجيهه التوجيه العلمي الصحيح، لأنه كان الأستاذ والمرجع الذي يستعين به الابن على فهم الدروس واستيعابها، وذلك بطرح بعض الأسئلة عليه، وتتبع عمله، ومراقبته عن قرب لاختبار مدى تقدمه في كل ما يدرسه.
    وبعد أن أدرك الأب أن ابنه قد حفظ القرآن، وبدأ يشق طريقه في الاتجاه العلمي الصحيح، وإرضاءً لطموحات ولده وإرواءً لعطشه العلمي والفكري والسياسي، اصطحبه إلى فاس، العاصمة العلمية والسياسية في بداية القرن العشرين، ليكون قريبا من أهل العلم ومصادر القرارات حول ما يجري في المغرب من أحداث وتطورات، بعد أن ترك زوجته وأولاده بمدغرة.
    وبفاس استطاع الشيخ العربي أن يجد لابنه مسكنا في "مدرسة الصفارين"، وبقي مع ولده بفاس بضع سنوات، يخفف من ألم غربته، ويشد أزره، ويذلل معه كل الصعوبات التي تعترض دراسته التي كان يتابعها "بالمدرسة المصباحية"، المركز الرئيسي آنذاك للدراسات العلمية والأدبية والتاريخية والمنطقية والفلكية، بالإضافة إلى التفسير والحديث وغيرها من العلوم. أما أساتذته "بجامعة القرويين" فنذكر منهم:
    - الفقيه عبد السلام بناني، قرأ عليه "المختصر الخليلي" للخرشي والدردير وجل "صحيح البخاري" وشرح "الألفية" للمكودي، وغير ذلك من المؤلفات.
    - الفقيه محمد بناني، قرأ عليه "منظومة الخزرجية في العروض" بشرح الزموري.
    - التهامي جنون، قرأ عليه بعض دروس من "المختصر" للخرشي و"صحيح" الإمام البخاري، وغير هؤلاء العلماء الذين درس عليهم وهم كثير.
    ويروى أن والده العربي، دخل ذات يوم عليه فوجده منكبا على المطالعة والتحصيل، فقال له: "الآن أودعك لأنك تذوقتها"، يقصد الدراسة، فما مرت بضع سنوات حتى أصبح محمد بن العربي لامعا يشهد له بذلك شيوخه، وفي مقدمتهم شيخ الجماعة آنذاك أحمد بن الخياط.
    اتجاهه الديني:
    كان محمد بن العربي العلوي في بدايته صوفيا في "الطريقة التجانية"، التي عرفت انتشارا كبيرا في "تافيلالت" كباقي الطرق الأخرى مثل "الدرقاوية" و"العيساوية" وغيرهما، وكان يدافع عن الطرق وأهلها، إلا أنه بعد عدة عقود من الزمن، سوف يصبح إضافة إلى أستاذه أبي شعيب الدكالي من الذين يضرب بهم المثل في السلفية بالمغرب، وكان السبب المباشر لهذه الهداية، كتابا قدمه له إدريس برادة الكتبي آنذاك بالسبيطريين "بفاس"، وعنوان هذا الكتاب هو "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لابن تيمية، وبعد أن قرأ هذا الكتاب، وأمعن النظر فيه، رأى "الإسلام النظيف الذي يحكم العقل والمنطق والعلم، الإسلام الذي يحرر الإنسانية من العبودية والاستغلال والظلم، ثم اكتشف "المنار" و"الشهاب" و"العروة الوثقى" لجمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وبذلك تفتحت بصيرته على كنز لم يحلم به".
    ومن الأسباب التي يجب الإشارة إليها في هذا التحول، شخصية شيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي الذي عاد من المشرق حاملا لواء السلفية الداعية للرجوع إلى الإسلام كما كان في منبعه الأول، فقد اتصل به ابن العربي العلوي وأخذ عنه صحيح الامام البخاري للقسطلاني والموطأ وجامع الترمذي ومقامات الحريري والنخبة في الاصطلاح لابن حجر وتفسير النسفي، فأنار فكره، وقوّى عزيمته، وأخرجه من ربقة التقليد الأعمى، وبذلك انقلب من فقيه عادي إلى مفكر إسلامي، يفضح المشعوذين ويجادلهم بالحجة الدينية والعقلية، وانطلق كالنور يضيء عقول الشباب، وينقيها من الاعتقادات الفاسدة.
    ومن بعد كان الشيخ العلوي سبباً في خروج الشيخ تقي الدين الهلالي من التيجانية أيضاً بعد أن تناظرا في صحة دعوى التيجاني أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وعجز الهلالي عن دفع طعون العلوي بكذب هذه الدعوى، فتبين للهلالي ضلال التيجانية، وتحول لمنهج السلف وتتلمذ على الشيخ العلوي حتي أصبح علماً من أعلام الدعوة السلفية.
    يقول د. "محمد عابد الجابري" أن أصداء السلفية النهضوية في المشرق لم تتطور في المغرب إلى سلفية جديدة فعلا، إلا عبر الشيخ أبي شعيب الدكالي "1878م - 1937م"، ومع السلفي المناضل محمد بن العربي العلوي (1884م - 1964م)، وتلاميذه…"، ويقول "…بالفعل، كان الشيخ محمد بن العربي العلوي نموذجا للعالم السلفي المناضل الشعبي في المغرب، سواء أثناء عقد الحماية أو خلال عهد الاستقلال…" .
    ولإبراز أهمية هذا الشيخ ودوره في خدمة بلده، أورد الباحث محمد الوديع الآسفي في كتابه "السلفي المناضل محمد بن العربي العلوي" شهادات لشخصيات وزعامات وطنية أخرى، تشيد بالشيخ ابن العربي، وتجمع كلها على إخلاص الرجل وحبه لوطنه، وتسخير علمه لمحاربة الخونة والمشعوذين، ورد كيد المستعمر الغاشم.
    ومن بين هذه الشخصيات:
    - الأستاذ علال الفاسي.
    - الأستاذ محمد المختار السوسي.
    - المقاوم الدكتور عبد اللطيف بن جلون.
    - الدكتور محمد زنيبر.
    - الأديب المقاوم محمد زياد.
    - الأستاذ أحمد زيادي.
    - الأستاذ علي يعتة.
    - المقاوم حسن العرائشي.
    - شارل أندري جوليان.

    الوظائف التي تولاها الشيخ:
    تخرج محمد بن العربي العلوي من "جامعة القرويين" متوجا بأعلى شهادة تمنحها الجامعة آنذاك، بعدما أنهى دراسته بها سنة 1912، فكانت أول وظيفة أسندت إليه، هي تعيينه "عدلا بأحباس فاس الجديد" في آخر نفس السنة، ثم رئيسا للاستئناف الشرعي الأعلى بالرباط عام 1928، ووزيراً للعدل ابتداء من سنة 1938.
    كما أن الشيخ محمد بن العربي العلوي اختير "أستاذا ومربيا لأبناء الأسرة الملكية منذ العهد الحفيظي"، بل يرجح محمد الوديع الآسفي أن يكون تواجد هذا الشاب الوطني الغيور قرب مولاي عبد الحفيظ عقب التوقيع على معاهدة الحماية في تلك المرحلة الصعبة، كان من جملة الأسباب التي دفعت بالملك المحاصَر إلى التنازل عن العرش، بعدما استشار، واطلع، وشاهد غضب الجماهير في كل أنحاء البلاد.
    وكان الفقيه ابن العربي يُضرب به المثل في النزاهة والعدل في القضاء في فترات كان الارتشاء والمحسوبية أمرا عاديا، بل أصبح يضرب المثل بنزاهته بين قضاة قبائل الأمازيغ في أحواز فاس فكان يقال: «هذا ما توصّلت إليه من حكم وليس في استطاعتي مع الأسف أن أُحضر القاضي ابن العربي للحكم في قضيتك».
    كما أسندت إليه أيضاً وظيفة أستاذ بثانوية مولاي إدريس بفاس، حيث وجد هناك شبابا متفتحا حبب إليه دراسة الثقافة العربية، وخلال هذه المدة كان يتطوع لإلقاء دروس بالقرويين، فاجتمعت حوله ثلة من شباب الثانوية الإدريسية، وأخرى من شباب القرويين، في طليعتهم علال الفاسي، ومحمد بن الحسن الوزاني، وغيرهم كثير، من الذين أصبحوا قادة المغرب فيما بعد وساروا على دربه.
    ومن الوظائف التي تقلدها في عهد الاستقلال، منصب "وزير مستشار بمجلس التاج"، الذي ظل يشغله حتى سنة 1960".
    أعماله الفكرية:
    لقد كان التدريس عند الشيخ محمد بن العربي العلوي جهادا ووسيلة للتربية الخلقية والسياسية، لذلك عندما نقرأ سيرة حياته نجده متمسكا به إلى حد كبير في جميع أطوار حياته، سواء عندما كان طالبا أو أستاذا أو قاضيا أو وزيرا، أو رئيسا لمجلس الاستئناف الشرعي.
    ففي أي مكان حل به كان التدريس هو شغله الشاغل: فقد كان يدرس في مسجد القرويين بفاس قبل تخرجه وبعده، ودرس في مساجد الرباط وسلا والدار البيضاء، وحتى أثناء عمله قاضيا كانت له ثلاثة دروس أسبوعيا في مادة الأدب مع توجيهات وإرشادات وذلك بالمدرسة الثانوية الإدريسية بفاس، وكان يدرس حتى في منفاه كما حدث له عندما أبعد إلى إيموزار، وقرية القصابي ومدغرة، حيث كان يقوم بجمع الناس حوله والتحدث إليهم، بل كان يخرج في سبيل ذلك إلى الأسواق لتوعية الناس بأعداد كبيرة .
    وقد تميزت دروسه دائما بطابعها السلفي، في تجاوز كتب الفروع إلى الأصول في كل ما يتصل بالدين والفقه، فأحيى بذلك دروس التفسير التي كانت مهجورة، لِما شاع بين الفقهاء من أن تدريسها يعجل بموت السلطان.
    وقد تميز محمد بن العربي العلوي بالتجاوب مع أذهان الطلبة والمتتبعين، ومن السير بهم إلى الأمام في التحصيل والمعرفة؛ من خلال حسن العبارة وانتخاب أساليبها، مما يسهل على الطلبة الانتفاع بها، والاستفادة منها لغة وإنشاء، وبيانا، وحسن إلقاء.
    وكانت له عناية واهتمام بالتوسع في الدراسات اللغوية والأدبية، وهي دراسة لم تكن سوقها رائجة بالبلاد، وبذلك تجاوز بطلبته كتب عصر الانحطاط والركاكة، إلى كتب تعتبر أصولا للغة والآداب العربيين، كـ: "الكامل" للمبرد، و"الأمالي" لأبي علي القالي، "العقد الفريد" لابن عبد ربه، و"البيان والتبيين" للجاحظ، وهي كتب تزخر بالنماذج الأدبية الرائعة.
    كما كان من المشاركين الدائمين في مجالس الوعظ والإرشاد ودروس الحديث التي كانت تنظم بالقصر الملكي بالرباط، خصوصا في شهر رمضان، ناهيك عن دروس التوعية ضد الجهل وكيد الاستعمار، التي كان يعطيها بحماس وكثافة واستمرارية وفعالية كما سنفصل ذلك لاحقا.
    ولم تقتصر جهوده على طلبة العلم بل كان يحرص على هداية الجميع ولذلك كانت له علاقة طيبة ببعض الشباب الذين انضموا تحت لواء بعض الأحزاب السياسية، فحرصاً منه على هدايتهم كان يزورهم في مقرهم ليحاضر فيهم فخطب في مركز الاتحاد الاشتراكي وكانت النتيجة ما ذكره المهدي بن بركة حين قال: "لولا محمد بن العربي العلوي لأصبح جل سياسيي الاتحاد الاشتراكي ملاحدة".
    غير أن ما يثير الانتباه، في شخصية محمد بن العربي العلوي هو قلة آثاره المكتوبة، باستثناء بعض الأشعار المنسوبة له، والتي أوردها محمد بن الفاطمي بن الحاج السلمي، وبعض أحكامه الشرعية لما كان رئيسا للاستئناف الشرعي بالرباط.
    فهل كان شيخنا هذا زاهدا في الإنتاج الفكري فعلا، معتبرا أن الأجيال التي يكونها ويخرجها هي أحسن كتبه وأفيدها؟ أم أن انشغالاته الكثيرة حالت دون اهتمامه بالتأليف؟ أم أن الظروف لم تسمح بعد للباحثين لاكتشاف ما قد يكون خلفه هذا العالم من تآليف؟
    بعض جوانب نضاله ضد الجهل والاستعمار:
    نقسم مضمون هذا المحور إلى قسمين، نخصص الأول منهما لنضال هذا الشيخ ضد الجهل والشعوذة، وخرافات الطرقية الخارجة عن تعاليم الكتاب والسنة، ونتطرق في الثاني لتصديه للإدارة الاستعمارية وسياستها في المغرب، ومن دار في فلكها من المداهنين لفرنسا والمتزلفين لها.
    1- نضاله ضد الجهل:
    فتح محمد بن العربي العلوي عينيه وترعرع وشبّ في مغرب يئن تحت وطأة التكالب الاستعماري، ولم يكد يبلغ الثلاثين من عمره حتى خضعت البلاد للحماية الفرنسية، وانبطحت بذلك تحت ضربات العدو، من دون أن يجد أية حيلة تمكنه من تجنيبه هذا المصير المشؤوم.
    ولما كان محمد بن العربي العلوي شاهدا على كل التطورات التي أفضت إلى سقوط المغرب، ومتتبعا لكل المراحل الصعبة التي مر بها حتى توقيع عهد الحماية، فإنه تألم وحز في نفسه أن يرى بلاد البطولات والأمجاد، وحامية الأمة العربية الإسلامية في جناحها الغربي ضد التوسع الاستعماري والمسيحية تسقط في براثن الاستعمار؛ ومما زاده وعيا بهذا الوضع المغربي الرديء حكومة ومجتمعا واقتصادا، متابعته لدراسته بجامعة القرويين بفاس العاصمة السياسية والعلمية للبلاد، وتعرفه بنفس الجامعة على الطالب "محمد بن عبد الكريم الخطابي"، "بطل حرب الريف" لاحقا، حيث دارت بين الشابين الغيورين على بلدهما محادثات وحوارات، تركزت كلها حول المصائب التي ألمّت بالبلاد، وما يجب القيام به مستقبلا من أجل إنقاذها من السقوط في الهاوية، دون أن ننسى أن شيخنا كان معلما لأبناء الأسرة المالكة في عهد مولاي عبد الحفيظ كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
    وإذا أضفنا إلى كل هذا، تشبع ابن العربي بالفكر السلفي، إما أخذا عن شيخه الكبير أبي شعيب الدكالي مباشرة، أو عن طريق قراءة كتابات ابن تيمية، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا، والأمير شكيب أرسلان الذي زار المغرب، وغيرهم، فإن شيخنا سوف يبذل كل ما في وسعه لتسخير هذه المعرفة وذلك الوعي من أجل يقظة الأمة المغربية.

    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح

    شيخ الإسلام محمد العربي العلوي


    أسامه شحادة


    شيخ الإسلام محمد العربي العلوي




    ما هي مظاهر ذلك؟
    نعتمد في الجواب على هذا السؤال العريض على كتابات قليلة، وفي مقدمتها الكتاب القيم الذي ألفه محمد الوديع الآسفي حول هذه الشخصية الفذة، وهو الكتاب الذي ضمنه شهادات عدد غير قليل من المفكرين والزعماء الوطنيين، تجمع كلها على عظمة هذا الشيخ وتضحياته الكبيرة، وفكره النير، وعمله الدؤوب من أجل الإسهام في تحرير البلاد والعباد، كما أن مؤلفين غيورين آخرين قدموا إسهامات لا يستهان بها في الموضوع، مثل عبد القادر الصحراوي، وعبد السلام بن عبد القادر بن سودة، وعبد الله الجراري، ومحمد بن هاشم العلوي، وأحمد بناني، وعلال الفاسي، وعبد الكريم غلاب، وعبد الهادي التازي، وغيرهم.
    ولولا تفضل هذه الثلة من العلماء بإسهاماتهم هذه، لما عرفنا شيئا عن هذه القامة الوطنية الشامخة، خصوصا وأن ابن العربي لم يكتب شيئا عن نفسه.
    • الشهادات الواردة التي أثبتها محمد الوديع الآسفي كثيرة، نكتفي منها بـ:
    * شهادة الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد: أن الشيخ ابن العربي كان يقول ويدعو ويبشر، فأصبح علما من أعلام الوطنية المغربية، بإبراز الهوية الإسلامية عن طريق نشر اللغة العربية، والتشبث بالتعاليم النبوية الصحيحة.
    * شهادة الدكتور المقاوم عبد اللطيف بن جلون: الشيخ ابن العربي، كرس حياته ووقته وفكره وجهاده في سبيل إصلاح هذه الأمة وتقويم اعوجاجها، وإيقاظها من رقادها، كما حاول ذلك قبله جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، فأصبحت دروسه بمثابة ثورة فكرية ضد الجمود والخرافات والأوهام، قبل الاستقلال وبعده.
    * شهادة الأستاذ محمد زنيبر: إن تعيين الشيخ ابن العربي العلوي وزيرا للعدل، لم يثنه عن الاشتغال بالتدريس وإفادة الغير، ولعله كان يشعر بأن لديه رسالة نحو مواطنيه لا بد من تأديتها، وصار يلقي دروسا مشبعة بروح سلفية وثيقة، مما جعل الجمهور يقبل عليه ويلتف حول حلقته في المساجد.
    * شهادة الأستاذ المقاوم محمد العلوي الزرهوني: كانت لهجة الشيخ قوية مقرونة بالتحدي، يتصدى للرجعيين من علماء الدين، فيقارع الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، كان ينبه جمهور المواطنين بأن هذه الجماعة ترمي من وراء ذلك إلى تجميد العقول، وبث التواكل والخمول، ودفع الناس إلى الرضوخ والاستسلام، فيتقاعس الناس عن النضال والكفاح، بدعوى أن الله قد قضى ما قضى، وقدر ما قدر، فكان رحمه الله ينعتهم بالجبناء، ويحمل على أهل الزوايا والطوائف الضالة؛ لكل ذلك، كانت رحاب المسجد تغص بالمواطنين الذين كانوا يأتون من سائر الأحياء لسماع درره الغالية.
    * أحمد زادي: ابن العربي العلوي كان له أثر عميق في تأصيل الوطنية المغربية وتسليحها بالمنهج السلفي المتحرر من رق الأضاليل والخرافات والأوهام.
    * محمد الحمداوي: كان حربا على الخرافة المحترفة للاكتساب والتضليل، في المسجد والبيت والمنتزه.
    ومن الذين درسوا على الشيخ محمد بن العربي العلوي، وغرفوا من معينه فاعترفوا له بفضله، وما أسداه من أياد بيضاء لهم، ولأقرانهم من الطلبة والمهنيين، في ثنايا الكتب التي ألفوها، نذكر على سبيل المثال: علال الفاسي في "الحركات الاستقلالية" ومحمد المختار السوسي في "الإلغيات".
    فالأول يذكر شيخه بإجلال، ويرى فيه الداعي الأساسي لحركة السلفية والمخرج لرجالها لما كان له من الجرأة والإقدام والثبات في مواجهة المستعمر، ورجال الطرق الصوفية المتحالفين معه، وكانت تجتمع بفاس ثلة من الشباب حوله، يضيف نفس المصدر.
    ونفس الشيء يؤكد عليه صاحب "الإلغيات"، الذي يعترف بفضل شيخه ابن العربي عليه.
    أما الأستاذ "عبد الكريم غلاب"، فنقرأ في كتابه ما يفيد أن الحركة السلفية والإصلاحية عامة، انطلقت إلى المغرب عن طريق رائدين عظيمين هما: أبو شعيب الدكالي وابن العربي العلوي، وبخصوص هذا الأخير يرى فيه الداعية الأول للسلفية بالمغرب، مما عرضه لاضطهاد السلطات الاستعمارية عدة مرات لتضامنه مع الحركة الوطنية على الخصوص.
    إن الكل يجمع على الدور الكبير الذي لعبه هذا الشيخ، في الرفع من المستوى الفكري لأبناء بلاده، لإخراجهم من غياهب الجهل أولا، ولتوعيتهم بضرورة طرد المستعمر.
    وما كان له أن ينجح في مهمته هذه، لو لم يتصف بالصراحة والجرأة الضروريتين، وهو يعلن حربا لا هوادة فيها ضد الفكر الغيبي التواكلي، مما أدى به بعض الأحيان إلى منع وإيقاف عوائد الطرقيين الشنيعة، أثناء زيارتهم إحدى الأضرحة، كما فعل مع "الفرقة العيساوية" بفاس، في خروجها إلى مكناس في شهر ربيع النبوي، لزيارة ضريح شيخهم سيدي بن عيسى، وعندما قصد سدرة عظيمة كانت قبالة ضريح سيدي علي بوغالب بفاس، كان يؤمها الناس من أجل الزيارة والتبرك فحطمها بنفسه، وذلك اقتداء بشيخه أبي شعيب الدكالي الذي عمد إلى قطع شجرة كانت توجد بجوار "ضريح سيدي المنكود" المجاور للسور الأندلسي، بسبب ما يعلق عليها من تمائم وحروز وخرق، وغيرها للتبرك بها.
    ومن ذلك أيضاً أنه أفشل محاولات بعض الحاقدين الذين سعوا لتأليب الملك على الأستاذ علال الفاسي بسبب دروسه التي كان يقدمها في القرويين والتي هاجم فيها الخرافات وأصحابها من الأولياء المزيفين، فتدخل الشيخ العلوي بصفته عضواً بالمجلس الأعلى لجامعة القرويين ودافع عنه ووضح الأمر للملك.
    وفي إطار اهتمام شيخنا بمواطنيه رجالا ونساء، ورغم شدته في المحافظة على تعاليم الإسلام، فإنه عمل من أجل إخراج المرأة من غياهب الجهل التي كانت تعيش فيها، ولهذه الغاية ألقي مجموعة من المحاضرات في ضرورة تعليم الفتاة المربية.
    2- نضاله ضد الاستعمار:
    أشير في البداية إلى أنه لا يمكن الفصل بين نضاله ضد الجهل والخرافة، ومواقفه المعادية للاستعمار، لارتباط القضيتين ارتباطا وثيقا.
    ورغم ذلك، سوف أعمل على رصد بعض هذه المواقف فقط، خصوصا تلك التي اتسمت بالجرأة والشجاعة والإقدام ضد الاستعمار الفرنسي بالمغرب، وجرّت عليه الكثير من المحن والاضطهادات.
    كانت "جامعة القرويين" هي مدرسة محمد بن العربي العلوي الأولى، التي ولّدت فيه الروح الثورية، وهو ما يزال طالبا بها، للوقوف في وجه المستعمر، الذي جر على البلاد كل أصناف الذل والمهانة، وقد زاد هذا الشعور الثوري تأججا لديه، بعد التقائه بمحمد بن عبد الكريم الخطابي الذي كان يتابع دراسته بنفس الجامعة، إذ وجد فيه نفس الروح، ونفس الميولات والتطلعات التي يراها لإنقاذ البلاد من التدهور، فكانا يتبادلان فيما بينهما الأفكار الإسلامية المستقلة والآراء المتحررة من ربقة الجهل والخرافة والتقليد، والتي تدعو إلى الجهاد من أجل حرية الإنسان وكرامته، وعملا معا على نشر أفكارهما بين الفئات الشعبية، وفي مقدمتها الطلبة، بحيث لم يمض غير قليل من الوقت حتى أصبح عدد هام من طلاب العلم وغيرهم من الحرفيين والعمال والفلاحين، يجتمعون لدراسة الأحداث الوطنية والدولية المستجدة.
    هذا الشعور الجياش نحو وطنه، ورغبته الجامحة في ضرب المستعمر وهزمه أين ما كان هي التي جعلته يبيع كل ما يملك من الكتب النفيسة حتى يستطيع شراء ما يحتاج إليه المقاتل المتطوع؛ ولذلك حاول أن يلتحق بجبهة القتال في حرب الريف، وفي الأطلس، غير أن ظروف الحصار المضروب على البلاد من قبل العدو، حالت دون ذلك، كما أن القائد موحا وحمو الزيان أقدم على تغيير خطته القتالية، بعد أن اكتفى بأبناء المنطقة الثائرة، لمعرفتهم الدقيقة بمسالكها الوعرة.
    من جهة أخرى، عمد ابن العربي العلوي إلى مراسلة الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني، ليسمح له بالالتحاق بأرض فلسطين، بغية الجهاد مساهمة منه في تحريرها، لكن لم يصل له أي جواب.
    يقول علال الفاسي: "… وما بدأ الجهاد في المغرب ضد الفرنسيين حتى اشترى بندقية، وتوجه مع المجاهدين لمقاومة المهاجمين، ملهبا حماس الجند، ضاربا المثل بشجاعته وصبره".
    ومن أبرز المحطات النضالية التي سجلها له التاريخ ضد المستعمر موقفه الشجاع سنة 1944، سواء أمام السلطان محمد الخامس، أو أمام المقيم العام الفرنسي، عندما وضعت "عريضة الاستقلال" التي قدمها حزب الاستقلال – الذي أسسه تلميذه علال الفاسي- على طاولة المناقشة، كان ابن العربي العلوي الوحيد من أعضاء الحكومة الذي آمن بالفكرة دون تردد، وأيد "حزب الاستقلال" بآرائه الصارمة في الموضوع، بخلاف بقية أعضاء الحكومة الذي تراجعوا أمام رفض المقيم العام للعريضة، وتهديده لكل من يساند مطالب هذه العريضة، باستثناء ابن العربي العلوي الذي تحدى تهديد المقيم العام، وقدم استقالته من حكومة الصدر الأعظم احتجاجا على هذا الموقف، الذي اتخذته فرنسا من هذا المطلب الوطني، واحتجاجا على تخاذل الهيئة الوزارية وتراجعها، أما رد السلطات الاستعمارية على هذا الموقف، فكان نفي ابن العربي إلى قرية "القصابي" ثم إلى "ميسور"، وبعد ذلك إلى "مدغرة" مسقط رأسه.
    ومن مواقفه الجريئة الأخرى، وما أكثرها، افتاؤه بوجوب قتل محمد بن عرفة الذي حاولت فرنسا فرضه سلطاناً على المغرب بعد نفيها لملك البلاد محمد الخامس سنة 1953 تطبيقاً للحديث الشريف :"إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما"، ورفض التوقيع على بيعة محمد بن عرفة سلطانا على المغرب، ومن مظاهر وفائه وحبه وإخلاصه لمحمد الخامس، معارضته لتأسيس "مجلس المحافظة على العرش" بعد انسحاب بن عرفة.
    كشف المؤرخ عبد الكريم الفيلالي في كتابه" التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير" أن هذه المؤامرة ضد السلطان كانت من تدبير التهامي الكلاوي الذي أصدر بيانا وقع عليه 270 من الباشاوات والقواد فيه:" إننا معشر القواد في مختلف الجهات المغربية ومن في دائرتهم من المغاربة رجال حركة المعارضة والإصلاح الممضين أسفله تحت رئاسة سعادة الباشا الهمام السيد الحاج التهامي المزواري الكلاوي، نتقدم بكل شرف إلى سعادة المقيم العام للدولة الفرنسية الفخيمة بما يأتي: بما أن السلطان سيدي محمد بن يوسف خرج عن جميع رجال المغرب العاملين، واتبع طريقا مخالفا للقواعد الدينية بانتمائه للأحزاب المتطرفة غير المعترف بها وتطبيق مبادئها في البلاد، الشيء الذي جعله يسير بالمغرب في طريق الهاوية، فإننا بصفتنا كبراء المغرب وأصحاب الحل والعقد، ومن ذوي الغيرة على الدين الإسلامي نقدم لسعادة المقيم العام وللدولة الفرنسية طلب عزل السلطان عن الحكم وتنحيته عن العرش وإسناد هذا الأمر إلى من يستحقه".
    بعد انكشاف مؤامرة الكلاوي ضد السلطان الشرعي، خرجت فتوى شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي بكفر الكلاوي ومن معه وإباحة دمائهم، وهي الفتوى التي تبناها 300 عالم من كل أنحاء المغرب، وعززتها فتوى علماء الأزهر" بكفر الكلاوي ومروقه".
    وبسبب هذا الموقف والفتاوى نفاه الفرنسيون إلى القصابي قرب ميدلت، ثم نقلوه الى قصر السوق نحو عامين، ثم نفوه مرة ثانية من فاس فاختار الإقامة بمصطاف إيموزار وذلك لأنه كان يقوم بدروس بجامع القرويين فتضايقت منها السلطات الاستعمارية، فطلبت منه الانقطاع عن تلك الدروس فأبى الخنوع لإرادتها فقررت نفيه ونفذته في 18 رمضان 1371هـ، ثم رجع الى فاس في آخر رمضان وأقام بمنزله بدرب الورد بالمدينة الجديدة لكنه بقي ممنوعا من دخول المدينة العتيقة لأنها اعتبرت أن منزله خارج المدينة، وعند محاولة فرنسا إبعاد الملك محمد الخامس عن عرشه جعلت الحراسة على باب منزله ومنعته من الخروج منه ومنع جميع الناس من الاتصال به، وبقي الأمر كذلك الى أن نفي مرة ثالثة في 11 ربيع الثاني 1373هـ، وكان المنفى بمدينة تزنيت، ثم رجع إلى منزله بفاس بعد أن قضى عاما كاملا.
    وبعد عودة محمد الخامس من منفاه عام 1376هـ، وحصول المغرب على استقلاله كان ابن العربي في طليعة المستقبلين للملك المحبوب الذي استقبله بالأحضان، وأسند له بعد ذلك "وزارة التاج" ليصبح مستشارا خاصا به، وعينه قاضياً شرعياً بالقصر الملكي وعضوا في لجنة مدونة الفقه الإسلامي بيد أنه حضر في الاجتماع مرة واحدة ولم يوقع على القرارات لاصطدام بعض فصولها مع أفكاره، ولما عرض مشروع الدستور الذي نص على أن الحاكم يجوز له التشريع أفتى أن الحاكم هو الشريعة الإسلامية، فتعرض بسبب هذه الفتوى لجملة من المحن وحاربه الوزير رضا أكديرة العلماني ونعته بالضلال، فقدم استقالته من مجلس التاج في 1379هـ/ 1959م، وأعفي من منصب القضاء وأبى أن يتسلم راتبه بعد استقالته. ورجع إلى منزله بفاس وصار يقوم بدروس بين الآونة والأخرى بمسجد السنة بالمدينة الجديدة.
    والشيخ العلوي كان محل إجماع وقبول من سياسيي المغرب الوطنيين لسابق جهاده ومواقفه المشرفة ولأنه لم ينحز إلى فريق عندما انقسمت الحركة الوطنية إلى حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال، بعد رجوع الزعيمين الوطنيين (علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني) من منفاهما وقد غابا فيه تسع سنوات (1937-1946م)، ولذلك قبل الطرفان به رئيساً للجنة الوساطة بينهما، والتي للأسف لم تنجح.
    منهجه:
    * التركيز على نشر العلم من خلال التدريس، مع تبسيط العلم وعدم التعقيد في الشرح.
    * الاهتمام بالشباب لأنهم عماد المستقبل ولم تتمكن خرافات الطرقية من عقولهم.
    * كانت لديه شدة على المخالفين خاصة أصحاب البدع، وكان يعتقد أن اللين لا يجدي معهم.
    * المشاركة السياسية ولو تحت قهر الاستعمار، والإصلاح من الداخل.
    * التمسك بالثوابت الوطنية ضد المستعمر ومحاربة الخونة.
    * العمل الفردي، والذي تسبب فيما بعد بتغلب التيار الموالي للمستعمر على المغرب، وإقصائه رحمه الله.
    وفاته رحمه الله:
    بقي الشيخ ملازما منزله يعيش حياة الكفاف بعد أن رفض راتب التقاعد واعتاش من كد يده حيث كان عنده حلب أربع بقرات وعدد من الدجاج فيتعيش ببيع الحليب والبيض، إلى أن أجاب داعي ربه إثر مرض قصير وذلك عشية يوم الخميس 22 محرم الحرام 1384هـ/ 4 يونيو - حزيران 1964م بمدينة فاس، وفي صباح الجمعة شيعت جنازته من منزله بفاس إلى مرقده الأخير حيث جعل في طائرة خاصة أقلته إلى قصر السوق ثم حمل إلى مدغرة ودفن هناك بجانب والده تنفيذا لوصيته.

    مصادر للتوسع:
    * السلفي المناضل الشيخ محمد بن العربي العلوي، د.محمد الوديع الآسفي.
    * السلفية والإصلاح، د.عبدالجليل بادو.
    * الحركة السلفية في المغرب، عدة مؤلفين.




    [1] - أصل مادة هذا المقال من مقال بعنوان (الشيخ محمد بن العربي العلوي العالم العامل والسلفي المناضل ضد الجهل والاستعمار) لأحمد الأزمي، ونشر في مجلة دعوة الحق المغربية، وقد عدلت عليه وأضفت إليه من مقالات أخرى في الإنترنت وبعض المراجع. أسامة شحادة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح

    العلاّمة محمد البشير الإبراهيمي

    . أسامه شحادة


    تمهيد:


    العلامة محمد البشير الإبراهيمي هو الرجل الثاني في تاريخ الدعوة الإسلامية المعاصرة في الجزائر وجمعية العلماء المسلمين فيها، بعد العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس.

    وقد مرت حياة البشير بعدة محطات، هي: النشأة والهجرة لخارج الجزائر، العودة للجزائر والتعاون مع العلامة ابن باديس، تولي رئاسة جمعية العلماء المسلمين بعد وفاة ابن باديس، مغادرة الجزائر ودعم الثورة الجزائرية، العودة للجزائر بعد الاستقلال.

    وللأسف فإن الكتابات المعمقة عن دوره في الثورة الجزائرية ورفضه لانحراف جبهة التحرير عن المبادئ الكبرى وهي الإسلام والعدل والحرية، لم تتوفر بين يديّ، فجاء الكلام فيها مجملا غير مفصل على أهميته وضرورته في هذه المرحلة من حياة أمتنا والتي تشهد ثورات سلمية على الطغيان والاستبداد الذي تولاه أُناس من جلدتنا عقب زوال الاستعمار.

    المحطة الأولى: ولد محمد البشير الإبراهيمي سنة (1306هـ /1889م) بمواطن قبيلة «أولاد إبراهيم» غرب مدينة قسنطينة بالجزائر، في بيت علم ودين، ويرجع نسبه إلى إدريس بن عبدالله مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى.

    حفظ القرآن الكريم ودرس علوم العربية وحفظ الكثير من الشعر على يد عمه الشيخ "محمد المكي الإبراهيمي" الذي كان من أبرز علماء الجزائر في زمانه، ومن هنا جاء نبوغ الإبراهيمي في الأدب واللغة، بعد وفاة عمه خلفه في التدريس الإبراهيمي وكان بالكاد يبلغ الرابعة عشرة من عمره حتى جاوز عمره عشرين سنة في 1912.

    وكان والده قد غادر الجزائر سنة 1908 إلى المدينة المنورة هربا من ظلم الفرنسيين له، فلحقه محمد البشير سنة 1911، وفي طريقه للالتحاق بوالده أقام بالقاهرة ثلاثة أشهر والتقى العلماء فيها وزعماء النهضة الفكرية والأدبية، ومن هؤلاء مشايخ الأزهر: سليم البشري ومحمد بخيت، وحضر عدة دروس في مدرسة الدعوة والإرشاد التي أسسها العلامة محمد رشيد رضا صاحب المنار، والشاعران شوقي وحافظ، ومن ثم واصل سفره عن طريق البحر إلى حيفا، ومنها بالقطار للمدينة المنورة.

    في المدينة المنورة لازم الشيخ عبد العزيز الوزير التونسي والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، وكان يقضي جل وقته في إلقاء الدروس والمطالعة في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت وأمثالها.

    وهناك في المدينة سنة 1913 التقى الإبراهيمي بالشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ الطيب العقبي وكان قد سبقهما في الهجرة إلى المدينة، فكانوا يلتقون للبحث في شؤون الجزائر وسبل النهوض بها ومن هذه اللقاءات تأسست جمعية العلماء المسلمين بعد سبعة عشر عاماً كما مر معنا في ترجمة ابن باديس.

    بعد قيام الثورة العربية بقيادة الشريف حسين في سنة 1917 قامت السلطات العثمانية بترحيل سكان المدينة المنورة إلى دمشق، لعجزها عن توفير الطعام للجيش والسكان، فرحلت أسرة الإبراهيمي فيمن رُحل.

    في دمشق تعرف البشير الإبراهيمي على عدد وافر من العلماء على رأسهم علامة الشام الشيخ بهجة البيطار، وهناك باشر الإبراهيمي بالوعظ والإرشاد في الجامع الأموي، والتدريس بالمدرسة السلطانية (مكتب عنبر)، فتخرج على يديه عدد من فطاحل الشام وقادته مثل د.جميل صليبا، ود. عدنان الأتاسي.

    وقد شارك الإبراهيمي في جهود الإصلاح والنهضة من خلال مشاركته في الندوات والمجالس والنوادى التي كانت تسعى إلى توحيد العرب والمسلمين.

    ولما دخل الأمير فيصل دمشق طلب من البشير الإبراهيمي أن يعود للمدينة وأن يتولى إدارة المعلاف بها، لكنه فضل العودة إلى وطنه الجزائر.

    المحطة الثانية: عاد الإبراهيمي إلى الجزائر في مستهل سنة 1920، وكانت لا تزال تحت الاحتلال الفرنسي الظالم، والذي قام البشير دائما بالكتابة عن شروره وأخطاره وعدوانه على الجزائريين، ومما قال فيه: "جاء الاستعمار الفرنسي إلى هذا الوطن كما تجيء الأمراض الوافدة، تحمل الموت وأسباب الموت،... والاستعمار سلّ يحارب أسباب المناعة في الجسم الصحيح وهو في هذا الوطن قد أدار قوانينه على نسخ الأحكام الإسلامية، وعبث بحرمة المعابد، وحارب الإيمان بالإلحاد، والفضائل بحماية الرذائل، والتعليم بإفشاء الأمية، والبيان العربي بهذه البلبلة التي لا يستقيم معها تعبير ولا تفكير".

    وقال أيضا: "جاء الاستعمار الدنس الجزائر يحمل السيف والصليب، ذاك للتمكن وهذا للتمكين"، وقد قام بـ الاحتلال "استقدام عدد كبير من الرهبان والمعلمين والأطباء، فالراهب ينشر النصرانية ويشكك المسلمين في عقيدتهم، والمعلم يفسد العقول ويبعد الأمة عن لغتها ويشوه التاريخ ويزهد في الدين، والطبيب يداوي علة بعلل، ويقتل جرثومة بجراثيم"، أما فظائع الاحتلال الفرنسي فقد سبق الحديث عنها في ترجمة ابن باديس.

    وعقب عودته للجزائر تعاون الإبراهيمي مع ابن باديس في استكمال المشروع الذي بدأه لنشر العلم الديني واللغة العربية بحسب جلساتهما في المدينة المنورة، فبدأ الإبراهيمي بالتعليم في مدينة «سطيف»، وكانت له لقاءات دورية مع ابن باديس لمتابعة أخبار النشاط الإصلاحي وتأثيره على الشعب، يقول الإبراهيمي: "فنزن أعمالنا بالقسط، ونزن آثارها في الشعب بالعدل، ونبني على ذلك أمرنا، ونضع على الورق برامجنا للمستقبل بميزان لا يختل أبداً، وكنا نقرأ للحوادث، والمفاجآت حسابها، فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين"، يقول الإبراهيمي: "كان من نتائج الدراسات المتكررة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس منذ اجتماعنا بالمدينة المنورة (1331هـ - 1913م) أن البلاء المنصب على هذا الشعب المسكين آت من جهتين متعاونتين عليه، وبعبارة أوضح من استعمارين مشتركين يمتصان دمه ويتعرقان لحمه ويفسدان عليه دينه ودنياه:

    1- استعمار مادي هو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار.

    2- واستعمار روحاني يمثله مشائخ الطرق المؤثرون في الشعب، المتجرون بالدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضىً وطواعية... فكان من سداد الرأي وإحكام التدبير بيني وبين ابن باديس أن تبدأ الجمعية بمحاربة هذا الاستعمار الثاني".

    وهذا كله يدل على أن ابن باديس والإبراهيمي كانا يتصفان بأعلى مهارات التخطيط الاستراتيجي، وكانا يضعان الخطة والخطة البديلة، ولم يكن عملهما ردة فعل، بل فعلا محسوبا ومقدرا، ولذلك يقول: "كانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهين بأعمال العالم المسلم، وتعتقد أننا لا نضطلع بالأعمال العظيمة، فخيبنا ظنها والحمد لله"، وهذه المنهجية الاستراتيجية المستقبلية ستتضح أكثر بعد رئاسته للجمعية وتوسع نشاطها.

    وفي سنة 1924 حثه ابن باديس على تأسيس جمعية «الإخاء العلمي» ورغم أنها كانت محاولة غير ناجحة، لكنها أكسبت الإبراهيمي خبرة وضع قانون جمعية العلماء المسلمين بعد عدة سنوات، والتي تأسست في سنة 1931 كردة فعل على الاحتفال المئوي لاحتلال فرنسا للجزائر، واختير الإبراهيمي نائبا لرئيسها ابن باديس، وأنيطت به مهمة الإشراف على نشاط الجمعية في الغرب الجزائري، فرحل إلى تلمسان العاصمة العلمية القديمة وسكن فيها.

    ولذلك تعد هذه المرحلة (1931-1940) من عمر جمعية العلماء الجزائريين مرحلة تأسيس للثورة الجزائرية ضد فرنسا، فرغم أن الجمعية كانت تعلن عدم الاشتغال بالسياسة، إلا أن مطالب وأهداف الجمعية على الحقيقة "هي نصف الاستقلال" بتعبير الإبراهيمي.

    في تلمسان سرعان ما نجح الإبراهيمي في إنشاء دار الحديث والتي ضمت مسجداً وقاعة للمحاضرات وأقساماً لطلبة العلم، والتي كانت أول مدرسة للجمعية تبنى بالكامل وليست مبنى مستأجراً أو قائماً، وقد شيدت على الطريقة الأندلسية، وحضر حفل افتتاحها 3000 شخص منهم 700 من الضيوف على تلمسان في مقدمتهم ابن باديس.

    وكان الإبراهيمي يلقي فيها عشرة دروس في اليوم، وبعد العشاء يقدم محاضرة في أحد النوادي عن التاريخ الإسلامي، هكذا كان الإبراهيمي يفهم منهج التربية والتعليم!!

    ذلك كله والإبراهيمي عرضة لكثير من المضايقات من الفرنسيين، ولذلك كان يتظاهر بالعمل بالتجارة حتى يبعد أنظار الاحتلال عن دروسه وطلابه.

    فلما جاءت نذر الحرب العالمية الثانية يقول الإبراهيمي: "اجتمعت بالشيخ ابن باديس في داري بتلمسان، فقررنا ماذا نصنع إذا قامت الحرب، وقررنا من يخلفنا إذا قبض علينا، وقلبنا وجوه الرأي في الاحتمالات كلها، وقدرنا لكل حالة حكمها، وكتبنا بكل ما اتفقنا عليه نسختين".

    وفعلاً فما نشبت الحرب سنة 1940 إلا وصدر القرار بالإقامة الجبرية على ابن باديس ونفي الإبراهيمي إلى الصحراء الجنوبية بقرية آفلو، لأنه رفض أن يلقي أحاديث في الإذاعة لتأييد فرنسا في الحرب، وكان ابن باديس والإبراهيمي قد استبقا الأحداث بتعطيل جرائد الجمعية وجريدة الشهاب الخاصة بابن باديس حتى لا يتعرضا للضغط بتأييد فرنسا، فكان القرار "لتعطيل خير من نشر الأباطيل" في سنة 1939.

    وقد كتب ابن باديس للإبراهيمي حين علم بنفيه رسالة قال فيها:

    "الأخ الكريم الأستاذ البشير الإبراهيمي - سلمه الله -

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد

    فقد بلغني موقفكم الشريف الجليل العادل فأقول لكم: (الآن يا عمر)[1].

    فقد صنت العلم والدين، صانك الله وحفظك، وتَرِكَتـَك، وعظَّمتها عظَّم الله قدرك في الدنيا والآخرة، وأعززتهما أعزك الله أمام التاريخ الصادق، وبيضت محُيَـَّاهما بيض الله محياك يوم لقائه، وثبتك على الصراط المستقيم، وجب أن تطالعني برغباتك، والله المستعان.

    والسلام من أخيك عبد الحميد بن باديس".

    وبعد أسبوع من نفيه توفي ابن باديس، فانتخبه إخوانه في الجمعية رئيساً للجمعية في غيبته، لكن لأنهم يعلمون مكانته ومنزلته، كما سبق أن انتخبوا ابن باديس رئيساً للجمعية عند تأسيسها في غيبته ودون علمه، فتولى إدارة الجمعية بالمراسلة من منفاه لثلاث سنوات حتى أفرج عنه سنة 1943.

    وقد كتب الشيخ العربي التبسي باسم إدارة الجمعية برقية تعزية للإبراهيمي بابن باديس وتنصيبه رئيسا للجمعية قال فيها: "... وإن إخوانك أعضاء الإدارة المجتمعين هنا بقسنطينة، قد أسندوا إليكم رئاسة الجمعية، كما أحلوك محل أخيك الراحل في إدارة الجمعية بقسنطينة، وبتولي الإشراف على ما هو للجمعية، وما أمكنها أن تتوصل إليه، على معنى أنك تحل محله في كل الأعمال العلمية والإدارية التي كان هو متوليها.."، وهذا يدل على مقدار مكانته عند أعضاء الجمعية، ومقدار إخلاص وتفاني بقية الأعضاء واحترامهم لرموزهم وقادتهم.

    وفي ذلك المنفى لم ينقطع عن العلم والتعليم بقدر ما سمح له من لقاءات ومراسلات، وقد أنتج فيها بعض الأعمال العلمية والتي لم تنشر مثل: رواية الثلاثة وهي مسرحية شعرية في 881 بيتاً، وملحمة شعرية على وزن الرجز في 36 ألف بيت، ورسالة الضب.

    المحطة الثالثة: بعد إطلاق سراحه في أوائل سنة 1943، وضع تحت المراقبة الإدارية حتى انتهت الحرب العالمية الثانية، فانتقل الإبراهيمي إلى العاصمة الجزائر ليتولى إدارة الجمعية مباشرة، ورعاية مدارسها الحرة، ومساجدها الحرة التي لا تتبع للاحتلال، والنوادي والصحف.

    فعمل على تنشيط إنشاء مدارس للجمعية جديدة، فأنشأ بدعم من الشعب في سنة واحدة 73 مدرسة بتصميم موحد، في رسالة "للأجيال أنها نتاج فكرة واحدة"، وتواصلت المسيرة حتى بلغ عدد المدارس التابعة للجمعية 400 مدرسة فيها مئات الآلاف من الطلبة بنين وبنات، ويعلّم فيها أكثر من ألف ومئتي معلم، حتى بلغت ميزانية مدارس الجمعية لوحدها في سنة 1952 مئة مليون فرنك فرنسي.

    ولم يمض على رجوعه من المنفي بضعة سنوات حتى سيق الإبراهيمي للسجن مرة أخرى ضمن 70 ألف جزائري أغلبهم من أتباع الجمعية فضلاً عن 60 ألف قتيل جزائري، قتلتهم فرنسا في ثورة مدبرة لعقاب الشعب الجزائري سنة 1945م، وبقي في السجن قرابة السنة، لقي فيها أهوالاً ومتاعب شديدة، ونقل للمستشفى عدة مرات خلالها.

    وخرج من السجن بعزيمة قوية، فأعاد المدارس والاجتماعات والمجلات التابعة للجمعية، وفرعها في باريس، فتولى إدارة مجلة البصائر مع إدارته للجمعية، وكان على طريقة رشيد رضا في مجلة المنار فيقوم بكل أعمال المجلة من كتابة ومراجعة، رغم سفراته المتعددة في داخل الجزائر لمتابعة فروع الجمعية ومدارسها، حتى كان يمر عليه عدة ليال لا ينام فيها!!

    وقام بتأسيس (لجنة التعليم العليا) لوضع برنامج التعليم ومتابعة تطبيقه في مدارس الجمعية، فكان نتاج هذه الجهود العظيمة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين أن أصبح هناك عشرات الآلاف من الطلبة الذين أنهوا المرحلة الابتدائية ويطلبون الزيادة في العلم، ولذلك خطت جمعية العلماء في سنة 1948م خطوة رائدة في مجال التربية والتعليم بافتتاح «معهد عبد الحميد بن باديس» للتعليم الثانوي في قسنطينة وذلك اعترافاً بفضل ابن باديس، وكان الطلاب قبل ذلك يوفدون إلى «الزيتونة» بتونس و«القرويين» بفاس، وكانت أولى البعثات العلمية الجزائرية إلى الجامعات في المشرق العربي من خريجي معهد ابن باديس.

    وبلغ عدد طلاب المعهد في السنة الأولى أكثر من ألف طالب من مختلف مناطق الجزائر، وكان يتبع المعهد سكن يستوعب 700 طالب، وهو مجهز بالكامل من أسرة ودواليب ومطابخ ومرافق صحية.

    وقد تنبه الإبراهيمي لضرورة حماية هذا المعهد من عدوان الاحتلال الفرنسي، فطلب من شيخ جامع الزيتونة الطاهر بن عاشور أن يكون معهد ابن باديس تابعا لجامع الزيتونة، فوافق وكتب لهم خطاباً رسميا بذلك.

    والذي تولى التنسيق مع شيخ الزيتونة هي جمعية الطلبة الجزائريين بالزيتونة، والذين هم مبتعثون من جمعية العلماء الجزائريين، وهذا جانب آخر من نشاطات الجمعية واهتمامات الإبراهيمي، والذي كان يرسل الطلبة لإكمال دراستهم ويتابعهم ويحثهم على تكوين هيئات ومؤسسات لهم تحفظهم وتقويهم.

    وأيضاً تابع الإبراهيمي مراكز الجمعية وفروعها بفرنسا والتي كانت أول مراكز إسلامية في أوروبا، والتي تعطلت بسبب الحرب العالمية، فأوفدت الجمعية سنة 1947 مراقبها العام الشيخ سعيد صالحي إلى فرنسا "ليدرس الأحوال ويمهد الأمور"، وسرعان ما عاد النشاط وتوسع ولم يقتصر على العمال الجزائريين بل شمل حتى طلبة الكليات بفرنسا من أبناء الجزائر.

    واهتمام الإبراهيمي بالجزائر لم يصرفه عن متابعة قضايا المسلمين، ولذلك نجده في سنة 1948م عضواً في جمعية إعانة فلسطين مع قادة الجزائر، فجمعت التبرعات وأوفدت حوالي 100 مجاهد إلى فلسطين، والعديد من البرقيات لنصرة فلسطين للجهات الدولية والعربية، وقام الإبراهيمي بكتابة الكثير من المقالات في القضية الفلسطينية.

    ولم تتوقف مكائد الإدارة الفرنسية ضد الجمعية، مما استدعى سفر الإبراهيمي لفرنسا سنة 1950 لبحث قضيتين، قضية رفع يد الحكومة الفرنسية عن القضايا الدينية الإسلامية وحرية التعليم العربي للجزائريين، لأن فرنسا ترفع راية العلمانية، ومع ذلك فالصلاة والحج والإفتاء والوقف كله يخضع لفرنسا!!

    ولبحث قضية حق الجزائريين في فرنسا بتعلم دينهم ولغتهم في فروع الجمعية بفرنسا، والتي سبق أن تأسست في عهد ابن باديس سنة 1936 حين زار فرنسا بصحبة الإبراهيمي، وكانت له لقاءات بالجالية الجزائرية ومحاضرات.

    وقد زار الإبراهيمي فرنسا مرة ثانية سنة 1952 لحضور اجتماع الدورة السادسة للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، واللقاء بالوفود المشاركة، ولذلك استضاف الوفود العربية وشرح لهم مأساة الجزائر على مأدبة عشاء في فرع الجمعية بباريس.

    ومن عناية الإبراهيمي بفرع الجمعية بباريس أنه رشح الشيخ الربيع بوشامة للسفر لباريس وتولي العمل هناك قبل سفره للمشرق، لأن الربيع سبق له العمل في فرع باريس من قبل ولأهمية دور مكتب باريس.

    ولأن الإبراهيمي رجل استراتيجي من الطراز الرفيع فقد تنبه لضرورة البحث عن مستقبل جهود جمعية العلماء الجزائريين، كي يحافظ على مئات المدارس الموجودة والتي تضم آلاف الطلبة والذين يحتاجون إلى نفقات كبيرة لا يمكن للجزائريين وحدهم توفيرها، كما أن الطلبة الذين لم تشملهم مدارس الجميعة هم أضعاف مضاعفة، وكان الإبراهيمي يعرف أن الاحتلال ينتظر اللحظة التي تصل فيها الجمعية لمرحلة العجز المالي فيتوقف عملها دون تدخل منه، وبذلك ينهار المشروع الإصلاحي كاملا وتعود الجزائر لمرحلة الضياع.

    وقد قدر الإبراهيمي ورفاقه حاجة الجزائر في السنوات الخمس القادمة إلى 150 مدرسة ابتدائية على الأقل في كل سنة ليصل المجموع إلى ألف مدرسة، وثلاثة معاهد ثانوية للذكور ومعهدين، ومعهدين كبيرين للمعلمين ومعهد للمعلمات، أما رجال التعليم العالي فهذه تتكفل بها البعثات.

    وتدارس الإبراهيمي ورفاقه في الجمعية وتوصلوا لضرورة طلب العون من الحكومات العربية بالدعم المالي وتقديم المنح للطلبة في بلدانهم، فتقرر سفر الإبراهيمي للمشرق العربي للتعريف بالجزائر ومشكلتها والبحث عن يد العون، فغادر سنة 1952، ومكث ثلاث سنوات في هذا المسعي زار فيها مصر والسعودية والكويت والعراق والأردن وكانت سمعة الرجل قد سبقته، فكان، حيثما حلّ، مثار الإعجاب والاعتزاز ومحل الترحيب والإكرام.

    وكانت الحصيلة بضعة عشر ألف جنيه مصري لا تبني مدرسة واحدة، ومائة منحة للطلبة الجزائريين لا تكفيهم منحهم مصاريف الحياة فينفق عليهم الإبراهيمي آلاف الجنيهات كل سنة!!

    وخلال سفرته هذه قامت الثورة الجزائرية ولم يستطع الإبراهيمي العودة للجزائر، فاستقر بالقاهرة مشرفاً على مكتب «جمعية العلماء» ساهراً على البعثات العلمية الجزائرية إلى عواصم العالم العربي، وكان منزله بمصر الجديدة ملتقى العلماء والأدباء وقبلة طلبة العلم وأبناء الثورة الجزائرية وقادتها.


    المحطة الرابعة: مع قيام الثورة ضد فرنسا بالجزائر في 1/11/1954، أصبحت مهمة الإبراهيمي الكبرى دعم الثورة والتحريض على نصرتها، فكان أول قائد جزائري يحتضن الثورة ويؤيدها، مما كان بمثابة الفتوى الشرعية بالنفير العام والجهاد بالمال والنفس والولد، وكان في طليعة من وقع على ميثاق جبهة تحرير الجزائر، لأن الإبراهيمي كان يعتقد أن الثورة هي النتيجة الطبيعية لجهود جمعية العلماء طيلة ثلاثين سنة بتعليم الشباب وبث المعرفة بينهم، إن مكانة الإبراهيمي في الثورة الجزائرية لا يمكن وصفها إلا بأنه «روح الثورة».

    ولقد شهد رئيس الوفد العراقي في لأمم المتحدة د. فاضل الجمالي أن الإبراهيمي قال في كلمة له بمناسبة استقلال ليبيا في عام 1951: «إنّ الجزائر ستقوم قريبا بما يدهشكم من تضحيات وبطولات في سبيل نيل استقلالها، وإبراز شخصيتها العربية الإسلامية»، وذلك أنه كان يتلمس الانفجار الشعبي في أية لحظة.

    وشارك الإبراهيمي في تأسيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة والذي يضم تونس والمغرب والجزائر للتحرر من قبضة فرنسا، وافتتاح إذاعة صوت الجزائر من الإذاعة المصرية، وقد كان أول صوت يصدر من هذه الإذاعة هو صوت البشير الإبراهيمي مناديًا الثوار: "لا نسمع عنكم أنكم تراجعتم، أو تخاذلتم"، وأصبح الإبراهيمي لسان الثورة في المقابلات الصحفية والإذاعة المصرية والمنتديات والدول التي زارها داعيا لدعم الثورة، فالتقى بالملوك والرؤساء العرب والشعوب والعلماء والمفكرين، وحين زار باكستان لهذا الغرض أصيب بحادث سيارة وكسر عموده الفقري وألزمه الفراش شهوراً، فطلب أن لا ينشر خبر إصابته فتشمت فرنسا بالثورة الجزائرية.

    ولدور الجمعية المحوري والهام في الثورة الجزائرية فقد كان أفراد الجمعية هم نواة جيش التحرير الجزائري، وقد أعلنت الجمعية بيانا رسمياً عن دعمها للثورة في مجلتها (البصائر) في عدد 7/1/1956، فقام الاحتلال الفرنسي بحل الجمعية وسحب ترخيصها سنة 1956م.

    وقد شارك فرع فرنسا بدعم الثورة من خلال تنظيم الجالية المتواجدة في فرنسا وتأطيرها لصالح الثورة.

    وبقي الإبراهيمي في مصر حتى تحقق الاستقلال وعاد للجزائر سنة 1962، وطيلة تلك الفترة بقي الإبراهيمي شعلة حماس للإسلام والعروبة والجزائر، وشارك مع عدد من العلماء والمفكرين بعقد ندوة أسبوعية فكرية وثقافية بعنوان ندوة الأصفياء، وتم تكريمه بمنحه عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1961م، بعد أن كان عضوا مراسلا منذ سنة 1954، وسبق ذلك أن كان عضوا مراسلا لمجمع اللغة العربية بدمشق منذ سنة 1945.

    أما العناوين الكبرى التي عمل الإبراهيمي للدفاع عنها فهي: الدين، اللغة، الوطن. واصطدم من أجل ذلك بالاحتلال والطرق الصوفية المتعاونة معه، والمنبهرين بالغرب من المتفرنسين وغيرهم.

    المحطة الخامسة: عاد الإبراهيمي إلى بلده الجزائر بعد انتصار الثورة الجزائرية وإعلان الاستقلال، وألقى خطبة أول جمعة تقام في جامع «كتشاوة» في العاصمة وهو المسجد الذي حوله الاحتلال الفرنسي إلى كاتدرائية ضمن سياسته بحرب الإسلام وتنصير الجزائر، حيث داهمت الجيوش الفرنسية الجامع يوم جمعة وهو غاص بالمصلين، فاحتلته وحوّلته إلى كاتدرائية، فكانت خطبته بمثابة إنهاء للمشروع الفرنسي بتنصير الجزائر، ولكن بقي الصراع على هوية الجزائر ومكان الإسلام فيها بين الجمعية وقادة جبهة التحرير، وللأسف فإن المعلومات عن الخلاف بين الإبراهيمي والجمعية من جهة، وقادة جبهة التحرير من جهة أخرى ليست متوفرة وواضحة.

    فعقب انتصار الثورة الجزائرية وقعت في صفوفها خلافات واسعة، لم يحسمها إلا انحياز هواري بومدين رئيس قيادة الأركان لأحمد بن بلة وتنصيبه رئيساً للجزائر، ومن هنا حصلت القطيعة بين الإبراهيمي والجمعية بسبب هوس بن بلة بالفكر الاشتراكي اليساري، فحصلت القطيعة عندما اتهم الابراهيمي أحمد بن بلّة بتغييب الإسلام عن معادلات القرار الجزائري وذكّر بن بلة بدور الإسلام في تحرير الجزائر والجزائريين من ربقة الاستعمار الفرنسي, وبسبب هذا التصادم وضع الإبراهيمي تحت الإقامة الجبرية وقطع عنه الراتب الشهري وبقي كذلك بدون راتب وتحت الإقامة الجبرية إلى وفاته.

    فلازم الإبراهيمي بيته، لكن الوفود لم تنقطع عن زيارته، ومع ذلك فقد كتب الإبراهيمي رسالة لقادة الجزائر في سنة 1964 بسبب تفاقم الخلافات فيما بينهم وبسبب الانحراف عن منهج الإسلام الذي عمل في سبيله طيلة عمره، فكتب إليهم يقول:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    كتب الله لي أن أعيش حتى استقلال الجزائر ويومئذ كنت أستطيع أن أواجه المنيّة مرتاح الضمير, إذ تراءى لي أني سلمت مشعل الجهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام الحق والنهوض باللغة- ذلك الجهاد الذي كنت أعيش من أجله – إلى الذين أخذوا زمام الحكم في الوطن ولذلك قررت أن ألتزم الصمت.

    غير أني أشعر أمام خطورة الساعة وفي هذا اليوم الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – أنّه يجب عليّ أن أقطع الصمت, إن وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل, ولكنّ المسؤولين فيما يبدو لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيئ إلى الوحدة والسلام والرفاهية وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تبعث من صميم جذورنا العربية والإسلامية لا من مذاهب أجنبيّة.

    لقد آن للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألاّ يقيموا وزنا إلاّ للتضحية والكفاءة وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الاعتبار عندهم, وقد آن أن يرجع إلى كلمة الأخوة التي أبتذلت –معناها الحق – وأن نعود إلى الشورى التي حرص عليها النبيّ صلىّ الله عليه وسلم, وقد آن أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيّدوا جميعا مدينة تسودها العدالة والحرية, مدينة تقوم على تقوى من الله ورضوان .. إ.هـ

    وفاته: وفي يوم الجمعة من 20 محرّم سنة 1385 هجرية الموافق لـ 21 مايو – أيّار سنة 1965 توفي الإبراهيمي عن ستة وسبعين سنة في الجزائر ودفن في مقبرة «سيدي أمحمد» في جنازة مشهودة.

    آثاره: للإبراهيمي خمسة عشر مؤلفاً في اللغة والأدب والدين ذكرها في ترجمته لنفسه، وفي حفل عضويته بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ولكن أكثرها فُقد.

    وقد جمع هو وبعض أحبابه تراثه في أربعة مجلدات، منها كتاب «عيون البصائر» وهو ما جمعه الإبراهيمي من مقالاته الافتتاحية بجريدة «البصائر».

    بعض من كلماته:

    * كيف يشقى المسلمون وعندهم القرآن الذي أسعد سلفهم؟ أم كيف يتفرقون ويضلون وعندهم الكتاب الذي جمع أولهم على التقوى؟ فلو أنهم اتبعوا القرآن وأقاموا القرآن لما سخر منهم الزمان وأنزلهم منزلة الضعة والهوان. ولكن الأولين آمنوا فأمنوا واتبعوا فارتفعوا، ونحن فقد آمنا إيماناً معلولاً، واتبعنا اتباعاً مدخولاً، وكل يجني عواقب ما زرع.

    * تدبر القرآن واتباعه هما فرق ما بين أول الأمة وآخرها وإنه لفرق هائل، فعدم التدبر أفقدنا العلم، وعدم الاتباع أفقدنا العمل. وإننا لاننتعش من هذه الكبوة إلا بالرجوع إلى فهم القرآن واتباعه. ولا نفلح حتى نؤمن ونعمل الصالحات. }فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون{.

    * أسوأ ما وقع فيه دعاة الثقافة الغربية من عيوب هو الجهل المطبق بحقائق الإسلام، وأن أسوأ ما وقع فيه أنصار الثقافة الإسلامية هو الجهل المطبق بمشاكل العصر ومستلزماته.

    * إن الأوطان تجمع الأبدان، وإن اللغات تجمع الألسنة، وإنما الذي يجمع الأرواح ويؤلفها ويصل بين نكرات القلوب فيعرّفها هو الدين، فلا تلتمسوا الوحدة في الآفاق الضيقة ولكن التمسوها في الدين والتمسوها من القرآن تجدوا الأفق أوسع.

    * إذا كان الإسلام دينا وسياسة، فجمعية العلماء دينية وسياسية، قضية مقنعة لا تحتاج لسؤال وجواب، وجمعية العلماء ترى أن العالِم الديني إذا لم يكن عالما بالسياسة ولا عاملا بها، فليس بعالم، وإذا تخلى العالم الديني عن السياسة فمن يصرفها و يديرها.

    * وإنك لتسمع بعض الألسنة التي تترجم عن قلوب جاهلة أو مريضة تردد هذا السؤال: ما معنى مشاركة العلماء في مؤتمر سياسي؟ كأنهم يريدون تخويفنا بهذا الغول الموهوم "غول السياسة" وتفويت الفرصة علينا بمثل هذه الترهات، وكم أضاعت هذه الترهات على الغافلين من فرص؟

    * إنَّنا نجتمع مع الوهابيين في الطريق الجامعة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونُنكر عليهم غلوَّهم في الحقِّ، كما أنكرنا عليكم غلوَّكم في الباطل، فقعوا أو طيروا، فما ذلك بضائرنا، وما هو بنافعكم.






    مراجع للتوسع:

    1- في قلب المعركة، محمد البشير الإبراهيمي، شركة دار الأمة، الجزائر، ط1، 2007.

    2- الإبراهيمي ونضال الكلمة، د. محمد زرمان، دار الأعلام، الأردن، ط 1، 2010.

    3- الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بأقلام معاصريه، شركة دار الأمة، الجزائر، ط2، 2007.

    4- البشير الإبراهيمي نضاله وأدبه، محمد مهداوي، دار الفكر، سورية، ط1، 1988.

    5- من سير الخالدين بأقلامهم، حسن سويدان، دار القادري، سورية، ط1، 1998.




    [1]- يقصد قول عمر الذي رواه المصنف في "الأيمان والنذور" أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر".



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح

    العلاّمة المجاهد علال الفاسي



    أسامه شحادة



    العلاّمة المجاهد علال الفاسي




    تمهيد:
    العلامة علال الفاسي هو علال بن عبد الواحد بن عبد السلام بن علال، الفاسي الفهري، ينتمى لأسرة عربية عريقة، استقرت ببلاد الأندلس، ثم فرّت منها إلى المغرب بسبب محاكم التفتيش الإسبانية، ومن هذه الأسرة السيدة فاطمة بنت محمد الفهري التي بنت بمالها جامع القرويين الشهير، عام 245 هجرية.
    ولد علال سنة 1328هـ / 1910م لأحد كبار علماء المغرب في مدينة فاس، الذي كان مدرساً بالقرويين وقاضياً، كما كان أجدادُه من قبله، والفترة التي ولد فيها علال كانت فترة تاريخية صعبة، حيث كانت البلاد الإسلامية تحت حكم الاحتلال الصليبي، وهذه البيئة الصعبة والعائلة العريقة والإرادة الربانية من قبل هي التي جعلت من علال أحد رموز الإصلاح في الأمة.
    شخصية علال الفاسي تعاني من تعامل مجزوء معها، فالدور السياسي الكبير لعلال الفاسي في استقلال المغرب طغى على دوره الإسلامي الإصلاحي، وغابت صورة علال السلفي العالِم المجدد عن أذهان الكثيرين من السياسيين بل حتى عند الإسلاميين.
    وغابت صورة علال السياسي، مؤسس الأحزاب، ومسعّر حرب الاستقلال، ورئيس لجنة كتابة الدستور، والوزير والمعارض عن أذهان كثير من طلبة العلم المعجبين بعلال!!
    إن علال يمتلك عدة شخصيات ضخمة فهو يمتلك شخصية العالم المجدد، وشخصية المفكر الناقد المبدع، وشخصية المجاهد والمقاوم البطل، وشخصية السياسي الذكي.
    رحلته العلمية:
    درس علال بداية في الكُتَّاب، حيث تلقى مبادئ الكتابة والقراءة، فحفظ القرآن الكريم مبكراً، ثمّ نقله والده للمدرسة العربية الحرة بفاس القديمة، ثم في عام (1338هـ) التحق بجامع القرويِّين، فالتقى بالعلامة السلفي محمد بن العربي العلوي والذي درس عليه المختصر بشرح الدردير، والتحفة بشرح الشيخ التاودي بن سودة، وجمع الجوامع بشرح المحلي، والكامل في الأدب للمبرد، ومقامات الحريري، وعيون الأخبار لابن قتيبة. ودرس على عدد من العلماء الأكابر في جامع القرويين علوماً متعددة كان منهم شيخ العربي العلوي، الشيخ العلامة المحدث أبو شعيب الدكالي الذي قرأ عليه صحيح البخاري؛ وقد حصل على الشهادة العالمية عام 1932، ولم يتجاوز عمره الثانية والعشرين.
    موجز مسيرته العملية العلمية:
    * عمل مدرساً بالمدرسة الناصرية، وذلك أثناء دراسته بالقرويين.
    * بعد تخرجه وحصوله على إجازة من والده، ومن عمه الفقيه عبد الله الفاسي، ومن شيخيه العلامتين أبي شعيب الدكالي ومحمد بن جعفر الكتاني، وصار يدرّس بجامع القرويين حول التاريخ الإسلامي.
    * عمل أستاذاً محاضراً بكلية الشريعة التابعة لجامعة القرويين بفاس، كما عمل محاضراً بكليتي الحقوق والآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط، ومحاضراً بدار الحديث الحسنية بالرباط.
    * هو صاحب فكرة إنشاء وزارة للشؤون الإسلامية بالمغرب.
    * كان له فضل حث الملك الحسن الثانى سنة 1964م على إنشاء دار الحديث الحسنية.
    * كان له دور بارز في تطوير جامعة القرويين واستحداث كلية الشريعة وكلية أصول الدين وكلية اللغة العربية.
    * كان عضواً ومقرراً عاماً في لجنة مدونة الفقه الإسلامي التي شُكلت في فجر الاستقلال المغربي. كما أن له باعاً طويلاً وقدماً راسخة في الفقه الإسلامي وخاصة الفقه المالكي والفقه المقارن، وله اجتهادات فقهية يحتج بها علماء المغرب والجزائر وتونس.
    * انتخب عضوا مراسلا في مجمع اللغة العربية بدمشق، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة.
    * له عدد من المؤلفات منها: عقيدة وجهاد، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، دفاع عن الشريعة، محاضرتان عن مهمة علماء الإسلام، الإسلام وتحديات العصر، دفاعاً عن الأصالة، شرح مدونة الأحوال الشخصية، تاريخ التشريع الإسلامي، المدخل للفقه الإسلامي، المدخل لعلوم القرآن والتفسير، بديل البديل، نضالية الإمام مالك، النقد الذاتي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، وغيرها؛ وله كتب باللغة الفرنسية.
    كما أصدر مجلة "البينة"، وجريدة "صحراء المغرب"، و"الحسنى".
    مسيرته السياسية:
    مر معنا أن المغرب والعالم الإسلامي كان تحت الاحتلال، وأن علال درس على العلامتين أبي شعيب الدوكالي ومحمد العربي العلوي اللذين كانا قادة العمل الوطني في المغرب، ولذلك سرعان ما انخرط علال الفاسي في العمل الوطني المغربي ومقاومة المحتل الفرنسي، وبدأت مسيرته المباركة في هذا الجهاد الطويل، والباحثون في سيرته الوطنية يذكرون أنها مرت بعدة مراحل هي:
    1- تأليف جمعية من زملائه الطلبة في القرويين أطلق عليها "جمعية القرويين لمقاومة المحتلين" لدعم المجاهد المغربيّ الكبير، الملقّب ببطل الصحراء، عبد الكريم الخطّابي، في جهاده ضد الاحتلال الفرنسي.
    2- أيد موقف شيوخه الدكالي والعلوي بمعارضة الظهير البربري، فألقى عدة خطب في التحذير منه، وبسبب فصاحته وخطابته المؤثرة كانت تستجيب له الجماهير فتخرج المظاهرات الحاشدة تندد بهذه السياسة الخبيثة، ولذلك اعتقلته السلطات الفرنسية وهو طالبٌ بالعالمية، ونفته إلى بلدة (تازة)، ثم عاد بعد الإفراج عنه إلى فاس سنة (1931م) فمنعته من التدريس، فانصرف إلى جامع القرويين يلقي الدروس العلمية الليلية عن تاريخ الإسلام، وعن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، مقارنا بين حالة المسلمين الأوائل وواقع إخوانهم المعاصر، وقد جذبت هذه الدروس اهتمام المغاربة من الرجال والنساء، ولم يكتف بهذا، فاختار نخبة من زملائه وأوفدهم إلى شتى القرى لنشر الوعي والأفكار الصحيحة وتأجيج الشعور الوطني.
    3- في عام 1933م حاولت الإدارة الفرنسية اعتقاله مجدداً فسافر إلى إسبانيا وسويسرا، واتصل بالأمير شكيب أرسلان وإخوانه المناضلين العرب والمسلمين.
    4- عاد إلى المغرب عام (1934م)، وأسس أول نقابة للعمال سنة 1936م.
    5- أنشأ كتلة العمل الوطني سنة (1937م) فأبعدته السلطات إلى (الغابون) منفياً إلى سنة (1941م)، ثم إلى (الكونغو) حتى سنة (1946م)، حبيساً في زنزانةٍ مظلمةٍ، ولم يسمحوا له بمصحفٍ إلا بعد عامٍ ونصف.
    6- بعد إطلاق سراحه، أنشأ مع رفاقه حزب الاستقلال ثم سافر متنقلاً بين البلاد العربية والأوروبية يدعو لاستقلال المغرب عن فرنسا، وقد استطاع في هذه الجولات أن يتصل بكثيرين من القادة والزعماء والمجاهدين في العالم الإسلامي.
    عاد إلى المغرب سنة (1949م) فمنعه الفرنسيون من الدخول، فأقام بمدينة (طنجة)، وكانت يومئذ منطقة دولية.
    7- في سنة (1953م) قام الاستعمار الفرنسي، بنفي الملك المغربي محمد الخامس خارج البلاد، فدعا علال الفاسي الشعب المغربي للثورة ضد فرنسا، وكان قائد الثورة حتى عودة الملك، واستقرار أمر البلاد.
    8- بعد نيل المغرب استقلاله سنة (1375هـ/1955م) ورجوع الملك محمد الخامس إلى عرشه عاد علال الفاسي إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات قضاها في القاهرة، وعاود نشاطه القديم فتولى رئاسة حزب الاستقلال الذي أنشئ من قبل، واختير عضوا رئيسيا في مجلس الدستور لوضع دستور البلاد، ثم انتخب رئيسا له بسبب مركزية دوره وجهاده لفرنسا، وقدم مشروع القانون الأساسي، وشارك في وضع الأسس الأولى لدستور سنة 1962م، ودخل الانتخابات التي أجريت سنة (1383هـ/ 1963م) ودخل الوزارة، وإليه يرجع الفضل في إنشاء مشروع وزارة للدولة مكلفة بالشئون الإسلامية.
    9- بعد وفاة الملك محمد الخامس، تولى وزارة الدولة للشؤون الإسلامية عام 1961م، ثم استقال عام 1963م، وانضمّ بحزبه حزب الاستقلال إلى صفوف المعارضة السّلميّة الناصحة[1].
    10- له مشاركات مهمة في كثير من قضايا الأمة الإسلامية وخاصة فلسطين.
    سلفية علال الفاسي:
    ظهرت سلفيته في دروسه التي بدأ يلقيها في القرويين منذ كان طالباً سنة 1933م، وبسبب ذلك قام بعض الحاقدين بشكايته للملك بدعوى أنه ينال من الصالحين والأولياء، لكن دفاع شيخه محمد العربي العلوي عنه أحبط مساعيهم، وفي المستقبل سيصطدم علال ببعض مشايخ الطرقية الذين استعملهم الاستعمار الفرنسي لإضفاء الشرعية على إزاحة الملك محمد الخامس عن عرشه سنة 1953م.
    وأيضاً حين هاجم الطرقيين زميله في الدراسة العلامة محمد المكي الناصري بسبب كتابه "إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة" قام علال بكتابة مقال بعنوان "الطرق والإسلام" نشر في مجلة "إظهار الحق" بتاريخ 19/3/1926م.
    ومنذ تلك المرحلة وعلال ورفقاؤه في حرب مع الخرافة والطرقية حلفاء المستعمر الفرنسي، وهذه السلفية هي التي صاغت الحركة الوطنية المغربية عامة، يقول علال في كتابه "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي": «لئن كانت السلفية في باعثها الحنبلي ترمي لتطهير الدين من الخرافات التي ألصقت به والعودة إلى روح السنة المطهرة؛ فإنها لا تقصد من وراء ذلك إلا تربية الشخصية الإسلامية على المبادئ التي جاء بها الإسلام، بصفته المتكفل بصلاح الأمة في دينها ودنياها، وإعدادها لتكون لها الخلافة في هذه الأرض التي حكم الله ألا يرثها من عباده إلا الصالحون، وبذلك فهي حركة تتناول نواحي المجهود الفردي لصلاح المجتمع، وتتطلب فتح الذهن البشري لقبول ما يلقى إليه من جديد، وقياسه بمقياس المصلحة العامة لإرجاع المجد العظيم الذي كان للسلف الصالح في حظيرة الإيمان وحظيرة العمل".
    ويصرح علال بأن "الحركة السلفية التي علمت بدء نهضتنا أول تمهيد لهذا الكفاح العقلي والاجتماعي، ولكنها ستظل من غير فائدة إذا لم تتوج بحركة إصلاح شاملة، ومن درجة أقوى وأشد عتوا. لقد عَلمت السلفية الشعب أن يستمع لنقد كثير مما كان يحرم على نفسه أن ينظر فيه أو يستمع لاستنكاره، وهي لم تقم إلا بواجب يفرضه الإسلام نفسه، إذ هو حركة مستمرة وتقدم دائب".
    وانطلاقاً من سلفيته خاض معركة الـ "دفاع عن الشريعة" حين جاء وقت كتابة الدستور المغربي بعد الاستقلال ومحاولة التيار الشيوعي في المغرب إلغاء هوية المغرب الإسلامية في الدستور، وكذلك ألف كتابيه "تاريخ التشريع الإسلامي" و"المدخل للفقه الإسلامي" ليثبت للمخالفين سبق الإسلام للغرب في جانب القانون والدستور من خلال بيان اقتباس الغرب لكثير من فقه الإسلام في قوانينهم.
    وبقيت السلفية منهج علال حتى وفاته، ففي محاضرته عن الأصالة سنة 1973 أي قبل وفاته بشهور يقول: "وأول ما يجب أن نعتز به من تراثنا هو ديننا الحنيف، فيجب أن نحافظ على التمسك به، واليقين في أفضلية مبادئه، ولكن يجب أن نفرق بين دين الكتاب والسنة، الإسلام الصافي الذي جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأعطانا صورته في شخصه، وسار على غِراره الصحابة الكرام والتابعين ومن تبعهم بإحسان وكل المصلحين.. ولكن هذا الدين وهؤلاء المسلمين خُلق من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.. فمنهم المبتدع في العقيدة، ومنهم المنحرف في الشريعة، ومنهم المكثرون من الخرافات..".
    لقد كانت سلفية علال تمزج بين تحرير الفرد من عوائق الشعوذة والخرافة الصوفية، وتحريره من عوائق التخلف والجهل، وتحريره من عوائق الاستعمار والاحتلال الأجنبي.
    موسوعية علال الفاسي وعبقريته:
    لقد تميز علال بموسوعية مدهشة وعبقرية فذّة، وساعده على ذلك ذكاؤه الفطري ومطالعاته الواسعة وتنقله بين البلاد بسبب النفي أو الهروب أو السفر، وقد ظهر ذلك في كتبه المتنوعة ولكن كتابه "النقد الذاتي" يعد أكبر دليل على موسوعية علال وعبقريته، فهو قد ناقش في هذا الكتاب النظريات المعروفة في عصره سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتربوياً ونقدها وقدم البديل عنها للمجتمع المغربي، وذلك لتكون النظرية التي يسير عليها المغرب بعد استقلاله، وهذا يدل على عبقريته وتخطيطه المبكر لحاجة المغرب للنهوض والتقدم.
    فعلال بعد أن درس حركات التحرر والاستقلال في المغرب العربي في كتابه "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" وجد أن من واجبه "تكوين النظرية ووضع البرنامج المفصل الذي يسهل علينا تحقيق الإصلاحات العميقة التي تنشدها أمتنا.."، وهذا الكتاب لا غنى لكل دارس للفكر الإسلامي والإصلاحي من دراسته والعناية به.
    يقول العلامة عبدالله كنون عن هذا الكتاب: "هو أكثر من كتاب سياسي، إنه والحق يُقال منهاج للحكم والإصلاح الاجتماعي".
    وفي هذا الكتاب وغيره من كتابات علال الكثير من التأصيل للاجتهاد السياسي الإسلامي الذي سبق فيه كثيراً من المعاصرين، ولكن للأسف لم ينل حظه من العناية.
    حزب الاستقلال:
    لقد نشأ حزب الاستقلال لغرض مقاومة الاحتلال الفرنسي، ولذلك لم يكن له غرض ديني أو هوية أيديولوجية، وكان فيه توجهات سياسية وفلسفية شديدة الاختلاف كان همها الوحيد التحرير من الاستعمار، الشيء الذي وحد بينها في نطاق حزب وطني كبير يخفي وراءه تناقضات داخلية كبيرة ولذلك بعد الاستقلال حدثت عدة انشقاقات عن الحزب، وخرجت منه التيارات اليسارية، وفقد بعد ذلك علال السيطرة عليه، وهذا ما جعل علال في آخر عمره يصرح بندمه على عدم تأسيسه لحركة إسلامية.
    بداية حزب الإستقلال كانت من خلال كتلة العمل الوطني، التي تكونت بعد صدور الظهير البربري في سنة 1930م، وفي مطلع سنة 1937م شكلت اللجنة التنفيذية للكتلة وكان علال الفاسي رئيسا لها وضمت شخصيات متعددة التوجهات، وبعد شهرين قام الاحتلال الفرنسي بحل الكتلة وإقفال مكاتبها بالقوة.
    ولما لم يمكن إعادة الكتلة للوجود تم تأسيس الحزب الوطني بعد شهر من حل الكتلة، وكان علال من قادته ولذلك تم نفيه لخارج المغرب في نفس السنة.
    وفي 11/1/1944 أُعلن عن ولادة حزب الاستقلال حيث تم تقديم ما عرف في تاريخ المغرب بـ "وثيقة المطالبة بالاستقلال" من قبل أنصار ورفقاء علال الذي لا يزال في المنفى.
    وحين عاد علال للمغرب سنة 1946م قاد الحزب حتى وفاته عام 1974م.
    في 1959م غداة الاستقلال شهد الحزب انشقاقا انبثق عنه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية اليساري، الذي ستنشق عنه بدوره فيما بعد أحزاب يسارية أخرى.
    وذلك بسبب الخلاف بين التيار "التقليدي المحافظ" والتيار "التقدمي اليساري" في حزب الاستقلال على توجهات ودستور المغرب المستقل.
    ولذلك لم ينجح علال في ترؤس لجنة وضع الدستور بسبب معارضة الحزب الشيوعي وحزب الاتحاد المنشق عن الاستقلال، لرفضهم الرؤية الإسلامية للدستور التي يتبناها علال الفاسي، ونتج عن ذلك انفراد القصر الملكي بوضع الدستور لصالح الملك في عدد من القضايا الخلافية كاختصاصات الملك الواسعة، وطبيعة النظام السياسي، ودور البرلمان، ودور الأحزاب، وكيفية تشكيل الحكومة وصلاحياتها، ويكاد هذا الوضع يتكرر الآن بعد 50 سنة في مصر في الصراع على اللجنة التأسيسية للدستور المصري!!
    بعد ذلك دخل الحزب في صراعات سياسية حوّلته من مؤيد للقصر إلى معارض، ولم يعد علال الفاسي يسيطر على الحزب ولم يعد الحزب يمثل توجهات علال بسبب عدم وجود انتماء حقيقي لفكر علال بالحزب.
    ولذلك أعلن مؤخراً في سنة 2012م عن تأسيس حركة تصحيحية أطلق عليها «حركة 11 يناير للفكر العلالي والقيم التعادلية لحزب الاستقلال»، تروم التشبث بالقيم الحقيقية لحزب الاستقلال، كما رسخها الزعيم علال الفاسي ورفاق دربه من القادة التاريخيين الموسومين بنظافة الذمة ونزاهة الفكر.
    وفاته
    لقد أكرمه الله أن وافته منيته يوم الاثنين 20 من ربيع الآخر 1394هـ - 13 من مايو 1974م، وهو يجاهد لقضايا وطنه وأمته، حيث توفي في بوخارست عاصمة رومانيا، في زيارة لشرح وبيان قضية المغرب والصحراء المغربية، وقضية الشعب الفلسطيني في مواجهة الصهيونية دفاعاً عن دينه وأرضه، رحم الله العلامة المجاهد علال الفاسي رحمة واسعة.

    مراجع للاستزادة:
    1- علال الفاسي استراتيجية مقاومة الاستعمار، أسيم القرقري. دار أفريقيا العربية، الدار البيضاء، 2010.
    2- علال الفاسي رائد التنوير الفكري في المغرب، المفكر السلفي المجدد والزعيم السياسي، أحمد بابانا العلوي، دار أبي قراقر، الرباط، 2010.
    3- أسرار وحقائق عن علال الفاسي، محمد السلوي أبوعزام، دار الرشاد الحديثة، 1981.
    4- علال الفاسي: ينبوع فكري متجدد، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط: 2001.




    [1] - انظر مقال "من فقهاء العصر محمد علال الفاسي" لصلاح عباس فقير، بشبكة الإنترنت.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح

    العلاّمة الطيب العقبي


    أسامه شحادة


    العلاّمة الطيب العقبي




    تمهيد:
    الشيخ الطيب العقبي من أركان الإصلاح في الجزائر، ومن أعمدة جمعية العلماء المسلمين فيها، كان صاحب مواقف قوية ضد الشرك والبدع والخرافات، حتى كان الطرقيون والمبتدعة يطلقون على دعاة التوحيد لقب "عقبي" !!
    مولد العقبي ونشأته

    هو الطيب بن محمد بن إبراهيم، ولد في شهر شوال سنة 1307هـ الموافق لـ 1890م في الجزائر بضواحي بلدة «سيدي عقبة» التي ينسب إليها.
    هاجرت أسرته إلى الحجاز للحج سنة 1313هـ وكان صغيراً، ثم في السنة التالية سكنت عائلته المدينة النبوية في أول سنة 1314هـ /1895م، هرباً من حملات الفرنسيين بتجنيد الجزائريين في صفوف الجيش الفرنسي، ولايزال بعض أقاربه في السعودية لليوم ويحملون جنسيتها.
    وفي المدينة المنور قبر أبويه وعمه وعم والده وأخته، وجلّ من هاجر من أفراد عائلته، كلهم دفنوا هناك ببقيع الغرقد رحمة الله عليهم، وقد توفي والده والعقبي في سن الثالثة عشر، وبعد وفاة والده أصبح يتيماً فتربى في حجر أمه، وقد سخر الله له شقيقه الأصغر حيث كان هو من يقوم بقضاء ما يلزم من الضروريات المنزلية فتفرغ للعلم.
    فقرأ القرآن على أساتذة مصريين برواية (حفص) ثم شرع بحضور دروس بعض العلماء بالحرم النبوي، مثل الشيخ محمد بن عبد الله زيدان الشنقيطي الذي أخذ عنه الأدب والسيرة، والشيخ حمدان الونيسي والذي كان من أبرز العلماء السلفيين في الجزائر وكان مربي ابن باديس، ثم هاجر للمدينة المنورة، وقد قابله ابن باديس في المدينة حين قدم للحج، وفي المدينة المنورة كان أول لقاء للعقبي مع ابن باديس والبشير الإبراهيمي، وكان لتأثرهم بالشيخ حمدان الونيسي أن اجتمعت أفكارهم ونشاطهم السلفي على الإصلاح.
    وقد نبغ العقبي في العلم برغم عدم انتظام دراسته في معاهد علمية وتميز في نظم الشعر والأدب، ثم عمل العقبي بالتدريس، وبدأ مسيرته الإصلاحية بالكتابة في الصحف الحجازية داعياً للإصلاح والعمل فلقيت مقالاته قبولاً عند المسلمين وفتحت له صداقة ومراسلة مع بعض المصلحين المعروفين كشكيب أرسلان ومحبّ الدين الخطيب، وأصبح من أنصار ودعاة فكرة الجامعة الإسلامية ضد أنصار الاستعمار والقوميات الضيقة كحزب الاتحاد والترقي، وبذلك ترسخ منهجه السلفي الإصلاحي وانتشر صيته ودوره بين المصلحين والنهضويين.
    ولهذا قام ساسة ورجال حزب تركيا الفتاة بنفيه إلى شبه الجزيرة التركية أكثر من سنتين، عقب ثورة الشريف حسين بسبب مقالاته في الصحف ولعدم تعاونه معهم، وقد لحقت به عائلته بعد خراب المدينة، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عاد إلى مكة المكرمة، فأكرمه الشريف حسين وتولى رئاسة تحرير جريدة «القبلة» وإدارة «المطبعة الأميرية» في مكة خلفا للعلامة محب الدين الخطيب.
    وفي مكة زاد اطلاعه على الدعوة السلفية في نجد (دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب)، حتى لقب في الجزائر بالوهابي، بسبب نشاطه الكبير في الدعوة للعقيدة السلفية ونبذ الشرك، ومن الطريف أن العقبي يشابه الإمام ابن عبد الوهاب من حيث أنه حين عاد لبلده عاد سلفيا يحمل الدعوة للتوحيد ونبذ الشرك فعاداه قومه، وانظر للعقبي يلخص دعوته ومنهجه في أبيات شعرية فيقول:
    ماتت السنة في هذي البلاد قبر العلم وساد الجهل ساد
    أيهـا الـسائـل عـن مـعـتـقــدي يـبـتـغي مـنـي مــا يحوي الفؤاد
    إنــني لــست بــبدعــي ولا خــارجــي دأبــه طــول العــناد
    منهجي شرع النبي المصطفى واعتقادي سلفي ذو سداد
    لم أطُف قط بقبر لا ولا أرتجي ما كان من نوع الجماد
    لا أنادي صاحب القبر أغث أنت قطب أنت غوث وسناد
    لا أسوق الهدي قربانا له زردة يدعونها أهل البلاد
    ويقول:
    مذهبــي شــرع النبي المصطفى واعتقادي سلفـي ذو سـدادْ
    خطتـي علـمٌ وفكــرٌ ونظـرْ في شؤون الكون بحثٌ واجتهادْ
    وطريـق الحــق عنـدي واحـدٌ مشربي مشربُ قـربٍ لا ابتعادْ

    رجوعه إلى الجزائر
    رجع الشيخ العقبي إلى الجزائر في 3/1920م بهدف حماية أملاك العائلة من اعتداء البعض عليها، وبسبب اضطراب الأوضاع في الحجاز بين الشريف حسين والملك عبد العزيز بن سعود، فعاد للجزائر بنية حماية أملاكهم المعتدى عليها، ثم الرجوع إلى الحجاز.
    لكن لم يكتب له العودة للحجاز وبقي في الجزائر، وقد جوبه العقبي بمعاملة فظة من الاستعمار الفرنسي إذ عاملوه معاملة مهينة واستقبلوه باعتقال لنحو شهرين واستجواب وتفتيش ووضع تحت المراقبة!
    ثم اصطدام بالجهلة والمزيفين من أهل العلم فأثرت على نفسيته فانزوى وانقطع عن العلم والكتابة في الصحف، وحين كتب بعد عدة سنوات بعض الآراء والأفكار في مسائل تخص العلم والدين ثارت ثائرة الجامدين ضده.
    وقد عاد العقبي للجزائر بشخصية حجازية في ملبسه ومنطقه وفكره، وبقي يحنّ للحجاز والعودة إليهم، وقد وصف الشيخ ابن باديس حنين العقبي للحجاز أثناء سفرهم إلى باريس ضمن وفد المؤتمر الإسلامي، في سنة 1936م وهم على متن السفينة التي تقلّهم قائلا: "فلما ترنحت السفينة على الأمواج وهبّ النسيم العليل هب العقبي الشاعر من رقدته وأخذ يشنف أسماعنا بأشعاره ويطربنا بنغمته الحجازية مرة والنجدية أخرى ويرتجل البيتين والثلاثة، وهاج بالرجل الشوق إلى الحجاز فلو ملك قيادة الباخرة لما سار بها إلا إلى جدة، وإن رجلا يحمل ذلك الشوق كله للحجاز ثم يكبته ويصبر على بلاء الجزائر وويلاتها ومظالمها لرجل ضحّى في سبيل الجزائر أي تضحية"، ومن شعر العقبي في الحجاز قوله:
    سلام على أرض الحجاز سلام ولست على حبي الحجاز أُلام
    سلام على آل وصحب عهدتهم وإن بعـدت منهم عليك خيام

    بداية نشاطه الدعوي
    أقام بمنطقة بسكرة حين رجع إلى الجزائر، وكانت دروسه العلمية والوعظية لطلبة العلم والعامة في مسجد «بكار» والذي لم يكن يخضع للطريقة التيجانية، فكان يدرّس كتاب الجوهر المكنون وكتاب القطر في النحو، ودرس في التفسير للعامة من تفسير المنار، وكان يعقد مجالس أدبية يحضرها أدباء ومثقفون أمثال الأمين العمودي ومحمد العيد آل خليفة.
    وبسبب هذا النشاط سرعان ما قامت السلطة الفرنسية باعتقاله قرابة شهر ثم أفرج عنه، فعاد أقوى مما كان في الدعوة للتوحيد والأخلاق الفاضلة وحرب الطرقية والخرافات، في المساجد والصحف التي يشرف عليها العلامة ابن باديس (المنتقد والشهاب) وكانت مقالاته من المقالات الهامة فيهما، فتجمع حوله مجموعة من الأدباء والمصلحين، وتحالف ضده الطرقيون الخرافيون والجامدون.
    وقد سعى الطرقيون إلى الطلب من والد ابن باديس أن يوقف هذه المقالات، فاستجاب ابن باديس لهم ونشر بياناً بعنوان «في سبيل الوفاق» يطلب من العقبي وبقية كتاب المنتقد والشهاب الكتابة في مواضيع أخرى، جاء فيه: «بما أنّ هذا الموضوع قد أخذ حظّه من البحث والنّقاش فإنّ الجريدة تعتذر لقرّائها عن اضطرارها لإغلاق هذا الباب،... وعلى كتّابها الأكارم أن يواصلوا مراسلاتهم في غير هذا الموضوع، فالمواضيع واسعة وخدمة المجتمع فيها أجدى وأنفع...» فرفض العقبي ذلك واعتبر الطلب مهادنة للطرقيين وتوقف عن الكتابة، فما كان من ابن باديس إلا أن ذهب إليه في بسكرة وقابله للعودة للكتابة، فكانت النتيجة أن تراجع ابن باديس عن توقيف المقالات ومعاودة الكتابة ضد مفاسد ودجل الطرقيين.
    يرى بعض الباحثين أن اختلاف البيئة التي نشأ فيها كل من العقبي وابن باديس هو سبب تنوع طرائقهم في الدعوة والإصلاح، فالعقبي نشأ في بيئة حجازية لم تكن بمستوى مظاهر الكهنوتية الشركية التي ابتدعتها الطرق الصوفية في الجزائر تضلل الناس بها وتبتز أموالهم، وتسوقهم سوق الأنعام في صور مجموعات بشرية ساذجة، والأكثر من ذلك أنها تجعلهم يستطيبون العيش تحت حذاء الأجنبي الكافر، بينما كان ابن باديس، ابن مدينة قسنطينة، أكثر اطلاعاً ومعرفة بعقلية الجزائريين، ولذلك كان العقبي يتخذ طابع الصراحة التامة وترك المجاملة مع المعارضين خصوصا في الأمور الدينية، في حين كان ابن باديس يتبع اللين والمرحلية مع المعارضين، وقد جعل أولويته نشر التعليم والتربية للناشئة وتهيئتها لخوض غمار المستقبل، بينما كان همّ العقبي نشر الإصلاح وتعميقه وتعميمه على الجميع، فكان السلاح الأول خفيا بطيء التأثير، وكان السلاح الثاني ظاهرا سريع التأثير.
    وبسبب هذه الحادثة سعى العقبي لتأسيس مجلة له ولإخوانه في بسكرة فظهرت جريدة «صدى الصحراء» في ديسمبر 1925م، ثم انفرد بتأسيس جريدة «الإصلاح» وذلك في 8 سبتمبر 1927م، وقد صدر من هذه الأخيرة 14 عددا ثم أوقفتها السلطة الفرنسية وذلك في سنة 1928م.
    وحين أسس "الإصلاح" اعتذرت المطبعة الإسلامية بقسنطينة عن طباعتها فطبعها في تونس، ولذلك عزم على تأسيس مطبعة، وفعلاً تم تأسيس «المطبعة العلميّة» مع مجموعة من زملائه، ولكن هذا استغرق منهم ثلاث سنوات، ولذلك صدر العدد الثاني في السنة الثالثة من عمر المجلة، وهذا يدلنا على الإرادة والإصرار اللذين كان يتحلى بهما العقبي، ومنهجه القائم على البحث عن الحلول وعدم البقاء في مربع المشاكل والعوائق.
    وهذا الاهتمام من العقبي بالصحف كان بسبب رؤية عميقة لدور الإعلام في نهضة الأمة، يقول العقبي في جريدة المنتقد (العدد الخامس): « إن الجرائد في الأعصر الأخيرة هي مبدأ نهضة الشعوب، والعامل القوي في رقيّها، والحبل المتين في اتصال أفرادها، والسبب الأول في تقدمها، والصحافة هي المدرسة السيارة والواعظ البليغ، وهي الخطيب المصقع والنذير العريان لذوي الكسل والبطالة، وهي سلاح الضعيف ضد القوي، ونصرة من لا ناصر له، وهي تأخذ الحق وتعطيه، وترمي الغرض فلا تخطيه وهي المحامي القدير عن كل قضية حق وعدل».

    مشاركته في تأسيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر
    لقد كان العقبي بما له من دور بارز وهام في حمل راية الإصلاح والدعوة والتوحيد في الجزائر من المؤسسين البارزين لجمعية العلماء، ولذلك انتخب ضمن مجلس الإدارة.
    وعين نائب الكاتب العام وممثلها في عمالة الجزائر، وتولى رئاسة تحرير صحف الجمعية (السنة والشريعة والصراط)، ثم جريدة (البصائر) من أول عدد لها صدر في 27 سبتمبر/ أيلول 1935م إلى العدد 83 الصادر في 30 سبتمبر 1937م حيث انتقلت إدارتها إلى قسنطينة، وكان العقبي في مقارعة شجاعة مع مختلف صحف الطرقيين (الإخلاص، المعيار، البلاغ الجزائري) التي حظيت بدعم سلطة الاحتلال بعكس صحافة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
    ومن نشاطاته في جمعية العلماء: إشرافه على مدرسة الشبيبة الإسلامية ودعا إلى إنشاء منظمة شباب الموحدين..
    وكانت له أنشطة أخرى خارج نطاق جمعية العلماء، فقد كان رئيسا للجمعية الخيرية الإسلامية، ومحاضرا دائماً في نادي الترقي منذ مجيئه للعاصمة سنة 1931م، بعد تأسيس جمعية العلماء وحتى أقعده المرض سنة 1958.
    أما سبب كونه خطيب ومحاضر النادي فهو
    أن أهل النادي كانوا يبحثون عن عالم يتولى مهمة المحاضرة والتدريس فيه، فلما حضر العقبي اجتماع جمعية العلماء المسلمين الأول وألقى محاضرة خلبت الألباب وأثرت في النفوس، رأى فيه أهل النادي الأهلية لأداء تلك المهام فاتفقوا معه على أن ينتقل إلى العاصمة.
    وكانت له دروس في مساجد العاصمة كالمسجد الجديد والمسجد الكبير في التفسير والعقيدة والفقه، والتي لمس سكان العاصمة تأثيرها بينهم.

    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح

    العلاّمة الطيب العقبي


    أسامه شحادة


    العلاّمة الطيب العقبي




    عداء الفرنسيين له
    كان للشيخ نشاط كبير ودائم وتأثير بالغ في سكان العاصمة خشي منه الفرنسيون على سلطانهم، بحيث يحرض العقبي الجزائريين على الثورة، ومن آثار تأثير العقبي في حياة الجزائريين هجر الناس لشرب الخمر والميسر ومواطنها، ورجع أكثرهم إلى بيوت الله بعد أن خلت منهم، وقد كان الفرنسيون هم من يسهل وجود الخمر بين الجزائريين، كحال المستعمر في كل مكان وعلى غرار إغراق الصين بالأفيون من قبل البريطانيين.
    يقول الشيخ أحمد حماني: «فأقبل الناس عليه وأثّر في الوسط تأثيرا كبيرا، وقل الفساد والسكر والاعتداء، وكان مستشريا بالعاصمة، وانخفضت نسبة الجرائم، وتفتحت العقول والأذهان، وزالت منها كثير من الخرافات والبدع والأوهام، وصار للحركة جمهور غفير، خصوصا من العمال والشباب الذي سماه الشيخ العقبي (الجيش الأزرق) لما كان يمتاز به العمال من لباس البذل الزرقاء».
    وبسبب تحالف الطرقيين والسلطات الفرنسية ضده، (وقد حاولوا استمالته فعرضوا عليه منصب الإفتاء فرفض)، أصدار الوالي «ميشال» قراراً بمنع الشيخ من التدريس سنة 1933م وجعل السبب أن العقبي ينشر المذهب الوهابي! في دلالة واضحة على تحالف الطرقية الصوفية مع المحتل الفرنسي ضد دعوة العقبي، لكن احتجاجات سكان العاصمة ونوابهم أجبرت السلطات على إلغاء القرار.
    ولمّا لم تنجح هذه المحاولات دُبرت مؤامرة لاتهام العقبي بقتل المفتي محمود بن دالي (كحول) والذي كان مخالفاً للجمعية ومحسوباً على الطرقية، وذلك بهدف تعطيل نتائج المؤتمر الإسلامي االذي شارك فيه العقبي مع ابن باديس والإبراهيمي في فرنسا ولعب فيه دورا بارزا للتصدي للاحتلال الفرنسي للجزائر، وفعلا فقد نجحت فرنسا في زعزعة المؤتمر الإسلامي وبث الفرقة بين العلماء والساسة وكبار المتبرعين للمؤتمر، وهو الأمر المهم لاحقاً لإقصاء الجمعية عن قيادة الجزائر بعد حرب التحرير وصعود التيار العلماني.
    وكحُّول المفتي كان عميلاً رخيصا لفرنسا، ولأنه كان معارضاً للمؤتمر الإسلامي رأت فرنسا أن توعز لأحد مجرميها ويدعى (عكاشة) بقتله لتستفيد من موته أكثر من حياته ومن ثم تتهم العقبي بقتله، وادعى عكاشة أنه تسلم من العقبي خنجرا ومبلغ 30000 فرنكا، فاعتقل العقبي وزميل له، وتعمد الفرنسيون إهانته عند اعتقاله من نادى الترقي، اذ أخرجته حاسر الرأس وهذه كبيرة من الكبائر عند الجزائريين، وأخرجته مكبل اليدين مع شتمه على يد شرطة سنغالية كانت فرنسا تستعملهم دوما في المهمات القذرة.
    يقول ابنه: «إن الشرطة الفرنسية داست بأقدامها برنوس الشيخ أثناء خروجه من النَّادي، كما خاطبته بأسلوب جاف وشتمته أمام الملأ، وقد حزن الشيخ حزنا عميقا لذلك»، وأغلق نادي الترقي، وضيق على أعضاء الجمعية في العاصمة.
    وقد ثارت الجماهير احتجاجا على اعتقال الشيخ العقبي وصاحبه فكادت تحدث فتنة عمياء لولا أن توجه إليهم ابن باديس والإبراهيمي بأن يقابلوا الصدمة بالصبر والتزام الهدوء والسكينة، مما أفشل على السلطات إغلاق الجمعية بحجة الشغب والفوضى.
    وقضى العقبي في سجن بربروس ستة أيام، قبل أن يتراجع عكاشة عن اتهامه للشيخ وصاحبه، فأفرج عنهما بصفة مؤقتة، بتعهد عدم مغادرة العاصمة ووُضِعا تحت المراقبة، ولكن السلطات أخذت تماطل في إنهاء القضية سنة ونصف حتى صدر حكم بالبراءة للعقبي، لكن فرنسا سرعان ما اعترضت على الحكم واتهمته مرة أخرى لتستمر المعاناة ثلاث سنوات حتى صدر حكم ببراءة العقبي وصاحبه وحكم بالسجن المؤبد على شخصين، وبعشرين سنة على شخص ثالث.
    وفي هذه السنوات الثلاث (1936 – 1939) استمر العقبي يحاضر ويدرّس في نادى الترقي برغم ما يعانيه من قلق الحكم عليه ظلماً بالإعدام أو السجن المؤبد، لكن العقبي كان يعلم أنها سنة الله عز وجل، فهو القائل: «قد ابتلانا اللهُ تعالى بهذا ليمتحنَ إيماننَا وصدقنَا، وهذه سُنّةُ اللهِ فيمن سبقنا من الأنبياءِ والعظماء"!!
    كتب البشير الإبراهيمي حول النتائج الإيجابية لهذه المؤامرة على الشيخ العقبي فقال [الآثار (1/279)] :« ومن آثار هذه الحادثة على الأستاذ العقبي أنها طارت باسمه كل مطار ووسعت له دائرة الشهرة حتى فيما وراء البحار، وكان يوم اعتقاله يوما اجتمعت فيه القلوب على الألم والامتعاض، وكان يوم خروجه يوما اجتمعت فيه النفوس على الابتهاج والسرور».
    ومما يؤكد كلام الإبراهيمي عن دور العقبي في الجزائر ووقوف الجزائريين والعلماء معه، أن ابن باديس الذي لم يوقف دروسه طيلة عمره حتى عندما توفي بكره الوحيد وعمره 17 سنة، أوقف دروسه في قسنطينة لحضور محاكمة العقبي في العاصمة.
    خلاف العقبي مع إخوانه في جمعية العلماء حول دعم فرنسا بالحرب العالمية الثانية
    أثناء محاكمة العقبي ظهرت نذر الحرب العالمية الثانية، فاستدعت السلطات الفرنسية العقبي وطلبت منه التوقيع على برقية تأييد لفرنسا ودعمها فوافق، ولكن السلطات طلبت أيضاً توقيع رئيس الجمعية ابن باديس، لكن ابن باديس رفض ذلك، ومع إصرار العقبي طرح ابن باديس الموضوع على إدارة الجمعية.
    وتم إجراء تصويت حول إرسال برقية تأييد من الجمعية لفرنسا فكانت النتيجة: 12 صوتاً معارضاً لذلك ومع رأي ابن باديس، و4 أصوات موافقة لرأي العقبي، فلم تُرسل البرقية، وكان منطلق الشيخ العقبي أن الشعب الجزائري ليس مستعداً بعد لمقاومة الاحتلال وأن الجمعية لا ينبغي لها أن تخوض الآن في العمل السياسي وأنه ليس من مصلحة الجمعية استعداء فرنسا في هذا الظرف.
    ويقال إن الشيخ العقبي قال لابن باديس: أنت ليس لك أبناء، أما أنا فإني مسؤول عن ثمانية أولاد! فرد الإمام ابن باديس قائلا: أنا عندي 8 ملايين ابن (يقصد كل أفراد الشعب الجزائري آنذاك)!
    ويقال إن فرنسا طلبت من العقبي أن يرسل برقية باسمه بعد استقالته من إدارة جمعية العلماء، لكنه رفض، في دلالة على أنه كان مخلصاً في رأيه لمصلحة الجمعية، وليس لمصلحته الخاصة.
    ويروي الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء الحالي قصة واقعية لحقيقة موقف العقبي من تأييد فرنسا في الحرب العالمية، فيقول: "في بداية الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م) كنتُ مجندا في إحدى الثكنات العسكرية بالبليدة، فساروا بنا إلى حضور مهرجان إعلامي دعائي أقيم في قاعة سينمائية كبيرة، للتنويه بمحاربة الحلفاء للدولة الألمانية الباغية، وما هي إلا لحظات حتى رأيتُ مندهشا فيمن يرى المصلح الكبير الشيخ الطيب العقبي يصعد إلى المنصة ليطلب إلى الجزائريين الحاضرين من المدنيين والعسكريين تأييدا كاملا مطلقا لفرنسا وحلفائها، في حربها الدفاعية من أجل الحرية والعدل والديمقراطية في العالم.
    فإذا بالعالم المصلح الشيخ الطيب العقبي يفتتح خطبته بلمحة تاريخية للعالم العربي والإسلامي مع السياسة الاستعمارية الغاشمة التي درجت عليها فرنسا وبريطانيا في المشرق والمغرب، منددا بخيانة الحلفاء لوعودهم لمن ضحوا بدمائهم من الشعوب المستعمرة في سبيل انتصارهم سنة 1918م.
    فكانت مقدمة خطاب الشيخ العقبي خيبة مريرة للسلطة المدنية والعسكرية التي نظمت المهرجان الإعلامي والدعائي مما جعل منظمي المهرجان يقطعون التيار الكهربائي فانطفأت الأضواء وانقطع صوت الشيخ الجليل وتفرق الجمع، بابتهاج الجزائريين وحسرة من الاستعماريين مدنيين وعسكريين".
    ولكن في تلك الظروف والملابسات ظن بعض الناس أن موقف العقبي بتأييد فرنسا في حربها ضد ألمانيا هو بسبب محاكمته، وأن فرنسا استمالته بأن يقف هذا الموقف لتخفف عنه العقوبة، ويبدو أن بعضهم تورط في الطعن بالشيخ العقبي، مما سبب له جرحاً وولّد في قلبه مرارة عبّر عنها بقصيدة قال فيها:
    أسفى على الآداب والأخلاق أسفي على الذوق السليم الراقي
    أسفي على بعض الرفاق فإنهم فقدوا سجية كاملي الأذواق
    عهدي بهم والرفق من أخلاقهم فإذا بهم خَلْق بدون خَلاق
    لا يؤثرون رفيقهم ولو اقتضى حال الرفاق الرفد بالإرفاق
    فتراهم يستأثرون وإن عدوا نهج الهدى ومكارم الأخلاق
    حسبوا الزعامة في الظهور وما دروا أن الظهور وسيلة الإخفاق
    ما ساد من لم يحتفظ لرفيقه بحقوقه وبعهد ود باق
    كلا ولا نال الزعامة غير من ضحى بصالح نفسه لرفاق

    وبسبب ذلك تخلى العقبي عن إدارةِ جريدة «البصائر» في ديسمبر/ كانون الأول 1937م، ثم استقال من إدارة الجمعية حتى لا يتسبب بخلافات وصراعات داخلية للجمعية، مع بقائه عضوا فيها.
    وفيما يلى وجهة نظره في الخلاف مع إخوانه في الجمعية:
    * « فلم تطاوعني نفسي على تعطيلِ الجريدةِ.. وكافحتُ جهدي حتّى أوصلتُها إلى الاجتماع العامّ، واستعملتُ كلّ الوسائل لتعديلِ ميزانيّتِها فلم أقدر على ذلك، كما أنّني لم أقدر وأنا معَ ما أنا عليهِ من شواغب وشواغل أنْهَكَت قوايَ وأضعفَت جسمي أن أقومَ بعملِ جماعةٍ وحدي...».
    * « قد تأسّست جمعيّةُ العلماء علميّة دينيّة لا غير، ولكنّ أعداءها كثرت أصنافهم وتنوّعت مكائدهم، واتّحدت مقاصدهم للقضاءِ عليها، وأوّلُوا بعض إجراءاتِها بما هي بريئة من مقصدها وبعيدة عن إرادتها، ولقد كنتُ دائمًا معارضًا لها، وفي اعتقادي أنّ البلاءَ انصبَّ على جمعية العلماء من بعض إجراءاتها أوّلها المضادُّون لها بصور غير لائقة، وكم كنتُ أتألّم لمثل هذه الإجراءات، وكم كنتُ أحذِّر وأُنذر لأنّني أعلمُ كثيرًا ممّا لا يعلمُون، ولكنَّها كانت تقعُ رغم أنفي لأنّ الأغلبيَّةَ كانت على خلافِ رأيي...»، يقصد بعض النشاطات السياسية.
    * « أؤكد لكل إخواني إني وقفت هذا الموقف وأنا غير متأثر مطلقًا بأيِ إيعاز من الإيعازات الحكومية ولا قاصد علم الله وهو العليم بما في الضمائر المطلع على ما في الصدور إلى تملق أي ناحية إدارية ولكن شفقتي على البقيّة من ثمرات هذه الأمة وحرصي على المصلحةِ العامَّةِ، مع تقديري للظُّروف والوضعيَّةِ الحاضرةِ، كلّ أولئك حملني على الإصاخةِ لصوتِ ضميري فقط... غيرَ آبهٍ بما قيلَ وبما عسَى أَن يُقَالَ».
    * « وقد آليتُ على نفسي أن لا أعودَ إليها كعضوٍ إداريٍّ ما دمتُ حيًّا، هذا مع إيماني بأنّ مبادئَ هذه الجمعيّة الّتي أسّست للعمل بها والسّير عليها إنّما هي مبادئُ الإسلام الحقَّة... وإنّ أعضاءها هم إخوانٌ لي في الحركة الإصلاحيّة، والمبدأ الحقّ الّذي عاهدنا اللهَ على العملِ به والتّضامنِ فيه حتّى النّفس الأخير من حياتِنا... ولْتَقَرَّ أَعْينُهُمْ ببُعْدِ العُقبيِّ عن إدارةِ هذه الجمعيّةِ الّتي ترَكَها والأستاذُ – رحمه الله- ابن باديس قويٌّ يعمَلُ مُتَوَدِّدًا ومُتقرّبًا إليَّ بكُلِّ ما في وُسعهِ من أسبابِ التّودُّدِ والتّقرّبِ...».
    * « ماتَ ابن باديس ودفن مبكيًّا مأسوفًا عليه؛ فلتمت ولتدفن حفائظ وحزازات وأحقاد كوّنتها أغراض شخصيّة ومقاصد سيّئة لمن يلذّ لهم دائمًا الاصطياد في الماء العكر، وليتّقوا اللهَ في أنفسِهِم وفي إخوانهم المسلمين الّذين هم في هذا الوقت أحوج ما يكونون إلى الاتِّحاد والاتّفاق وجمع الكلمة وليعلمُوا أنّ بلادَنا الفقيرة من الرّجال العاملين كلّما فقد منها رجل من رجالها القليلين تفقد معه ناحية من الكمال لا يقدر غيره على تعويضها؛ وسدّ الفراغ الّذي يترك من وراء فقدها. وبعد هذا كلّه فلينته المرجفون في المدن والقرى عن إرجافهم وباطلهم وليعلموا أنّا وهم ميّتون؛ وإنّا إلى الله جميعًا راجعون!!..»، تعليقاً على عدم حضوره جنازة صديقه ابن باديس.
    * « يَهْرِفُ النَّاسُ ويُثَرْثِرُونَ بِمَا بَيْنِي وبَيْنَ الشّيخِ عبدِ الحميد من خلافٍ وخصامٍ وسوف لا ينتهي كلامُ النّاس ما دامُوا عبيدَ أنفسهم ومختلف أهوائِهِم...».
    * " فاجأتنا أنباء قسنطينة التلفونية والبرقية بوفاة رئيس جمعية العلماء الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد بن باديس، فعزّ علينا نعيه وآلمنا فقده في هذه الظروف التي نحن أحوج ما نكون فيها إلى علم العلماء وإصلاح المصلحين الذين ضحوا بكل مرتخص وغال في سبيل الحركة الإصلاحية .. فمَن للعلماء وجمعيتهم بعد ابن باديس؟ ومَن للجامع الأخضر ودروسه بعد الراحل الكريم والفقيد العظيم الذي ترك فراغا لا يسده سواه، وخلف وحشة على العلماء والمصلحين لا مؤنس لهم من ورائها إلا الله فإنا لله وإنا إليه راجعون..".
    والحقيقة في علاقة العقبي وابن باديس وخلافهما هي ما قاله رفيق العقبي وتلميذه الأول محمد العيد آل خليفة:
    خصمان فيما يفيد الأمة اختصما إياك أن تنقص الخصمين إياك
    كـلاهما في سبيـل الله مجتهـد فلا تـلومن لا هذا و لا ذاك

    وبقيت روح التعاون والمودة موجودة بين العقبي وقادة جمعية العلماء، فقد هنأ الإبراهيمي رئيسُ الجمعية بعد ابن باديس العقبي على صدور جريدة الإصلاح، وكان العقبي والإبراهيمي عضوين في الهيئة العليا لإعانة فلسطين، حيث كان الشيخ الإبراهيمي رئيسها وكان الشيخ العقبي أمين مالها، وقد شهد له الإبراهيمي بأنه الروح المدبرة لتلك الهيئة، كما شارك إخوانه رجال الجمعية في أعمال أخرى منها مواصلة المطالبة بتحرير المساجد وفتحها للعلماء الأحرار.
    العقبي بعد استقالته من إدارة الجمعية
    بعد استقالته من إدارة الجمعية لم يتوقف نشاط العقبي في الدعوة الإسلامية والعمل الإصلاحي، فأعاد إصدار جريدته «الإصلاح» في 28 ديسمبر/ كانون الأول 1939 والتي استمرت إلى العدد 73 الصادر في 3 مارس/ آذار 1948.
    وأسس في نادي الترقي سنة 1947م "لجنة الدفاع عن فلسطين"، والتي تطورت لتصبح "الهيئة العليا لإغاثة فلسطين" كهيئة جزائرية مشتركة بين عدة اتجاهات سنة 1948، والتي تمكنت من جمع ثمانية ملايين فرنك كتبرعات من الشعب الجزائري الذي هبّ لدعم ومساندة فلسطين ماديا ومعنويا رغم ظروفه القاسية، وقد قام العقبي ضمن وفد الهيئة بزيارة الأردن سنة 1950م لإيصال الأموال لمستحقيها، وزيارة اللاجئين الفلسطينيين هناك.
    وكوّن الشيخ الطيب العقبي منظمة "شباب الموحدين" (1950- 1952م) لنشر الدعوة السلفية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصدرت عدة جرائد مثل: الداعي والقبس والمنار واللواء، وكان مديرها ورئيس تحريرها الشيخ أبو بكر الجزائري شفاه الله.
    وبقيت مقالاته تطالب بحرية التعليم العربي ومقاومة فرنسة المجتمع الجزائري.
    ولم يتوقف عن الدعوة إلا بسبب وطأة مرض السكري عليه، والذي أصيب به سنة 1953 والذي أقعده سنة 1958 عن الدعوة وألزمه الفراش في بيته بحي بولوغين.
    تراث الشيخ وتلاميذه:
    ترك الشيخ العقبي آثارا كثيرة مكتوبة لو تتبعت وجمعت لجاءت في مجلدات، لأنها في غالبها مقالات في الصحف والمجلات، ومن أبرز تلاميذه: فرحات بن الدراجي (1909 - 1951)، وعمر بن البسكري (1889 - 1968)، ومحمد العيد آل خليفة (1904 - 1979)، أبو بكر الجزائري، شفاه الله تعالى، المدرس بالمسجد النبوي.
    من أقوال العلماء عنه:
    * قال صديقه ابن باديس: «من ذا الذي لا يتمثل في ذهنه العلم الصَّحيح والعقل الطاهر، والصَّراحة في الحقّ والصَّرامة في الدِّين، والتّحقّق بالسّنّة، والشّدّة على البدعة، والطِّيبة في العِشرة، والصِّدق في الصُّحبة إذا ذُكِرَ الأستاذُ العُقبيُّ».
    * قال الشيخ الإبراهيمي: « هو من أكبر الممثلين لهديها – أي الجمعية – وسيرتها والقائمين بدعوتها، بل هو أبعد رجالها صيتا في عالم الإصلاح الديني وأعلاهم صوتا في الدعوة إليه… وإنما خلق قوّالا للحق أمّارا بالمعروف نهّاء عن المنكر وقافا عند حدود دينه، وإن شدته في الحق لا تعدو بيان الحق وعدم المداراة فيه وعدم المبالاة بمن يقف في سبيله».
    * قال الشيخ المبارك الميلي: « ولكن أتى الوادي فطم على القرى، إذ حمل العدد الثامن في نحره المشرق قصيدة «إلى الدين الخالص» للأخ في الله داعية الإصلاح وخطيب المصلحين الشيخ الطيب العقبي أمد الله في أنفاسه، فكانت تلك القصيدة أول المعول مؤثرة في هيكل المقدسات الطرقية، ولا يعلم مبلغ ما تحمله هذه القصيدة من الجراءة ومبلغ ما حدث عنها من انفعال الطرقية، إلا من عرف العصر الذي نشرت فيه وحالته في الجمود والتقديس لكل خرافة في الوجود».
    * قال أحمد توفيق المدني :«كان خطيبا مصقعا من خطباء الجماهير، عالي الصوت سريع الكلام، حاد العبارة يطلق القول على عواهنه كجواد جامح دون ترتيب أو مقدمة أو تبويب أو خاتمة، وموضوعه المفضل هو الدين الصافي النقي، ومحاربة الطرقية ونسف خرافاتها والدعوة السافرة لمحاربتها ومحْقها».
    * قال الشيخ أبو يعلى الزواوي : «العلامة السلفي الصالح داعية الإصلاح الديني».
    * قال العلامة شكيب أرسلان: «… فالميلي وابن باديس والعقبي والزاهري حملة عرش الأدب الجزائري الأربعة».
    * قال الشيخ محمد تقي الدين الهلالي: « الأستاذ السلفي الداعية النبيل الشيخ الطيب العقبي».
    وفاته
    وقد كان العقبي داعيةً في حياته وموته، فقد أوصى بشدة وإلحاح بأن تكون جنازته على السنة بعيدة عن البدع، فلا يكون فيها ذكر جهري ولا قراءة البردة، ولا حتى قراءة القرآن حال التجهيز أو حين الدفن، وأن لا يؤذن لأي واحد من الحاضرين أن يقوم بتأبينه قبل الدفن أو بعده.
    وقد توفي الشيخ الطيب العقبي رحمه الله تعالى في 21 مايو/ أيار 1961م، ودفن في مقبرة «ميرامار» بالرايس حميدو، لأنها مقبرة شعبية خالية، بتأثير العقبي، من الشركيات والبدع التي يأتيها الجهلة على القبور، وكانت جنازته جنازة مهيبة حضرها قرابة خمسة آلاف شخص.


    مراجع للتوسع:
    * ترجمة ذاتية، كتبها بنفسه ونشرت في الجزء الأول من كتاب "شعراء الجزائر في العصر الحاضر" لمؤلفه الأديب الجزائري الكبير الأستاذ محمد الهادي السنوسي الزاهري.
    * مجموعة مقالات متنوعة عن الشيخ الطيب العقبي في شبكة الإنترنت تجدها في موقع الشيخ الطيب العقبي.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح

    العلاّمة طاهر الجزائري

    . أسامه شحادة

    العلاّمة طاهر الجزائري






    تمهيد:
    يعد الشيخ طاهر الجزائري من الشخصيات المحورية التي صنعت النهضة واليقظة في البلاد العربية في القرن التاسع عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين، وتميز بكونه أستاذاً وموجهاً لعدد كبير من الشخصيات الإصلاحية وبكونه رائداً في إقامة المؤسسات الثقافية والتعليمية حتى تستمر هذه الجهود ولا تتوقف بوفاته، رغم كونه فردا وليس مؤسسة ولا صاحب سلطة.
    وهو يصدر في مشروعه الفكري من الانتماء لهوية الأمة وعقيدتها، والاعتزاز بتراث الأباء والأجداد مع انفتاح على ما عند الآخرين، بخلاف غيره من الذين كانت دعوتهم للنهضة نتاج انبهار بحضارة الغزاة الأوروبيين.
    لكنه لم يشتهر ويعرفه للناس على غرار أقرانه: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما، وقد يكون هذا لعدة أسباب منها كونه كان في الشام بما كانت تعيشه من جهل وظلم، وهم كانوا تحت الأضواء في القاهرة، ومنها كونه سلفي التوجه والمشرب، ومنها قلة انتشار مؤلفاته المطبوعة لليوم وكونه صاحب مشاريع عملية، بالإضافة لطبيعته الانعزالية نوعاً ما.
    ومما ساهم في عدم انتشار صيته خارج دائرة النخب العلمية والثقافية لليوم شحة المعلومات عنه، فالمتوفر عن نشأته وحياته قليل جداً مقارنة بأمثاله من المصلحين.
    ولادته ونسبه:
    الشيخ طاهر هو من أصول جزائرية، فقد رحل والده وأهله من الجزائر هرباً من ظلم وبطش الاستعمار الفرنسي سنة 1263هـ-1846م، في الهجرة الجزائرية الأولى والتي ضمت 500 أسرة، وهذا سبب نسبته للجزائر.
    ولد في دمشق سنة 1268هـ-1852م، وأبوه هو الشيخ صالح بن أحمد بن حسين بن موسى بن أبي القاسم، ويقال أن نسبهم يتصل بالإمام الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
    نشأته العلمية وشيوخه:
    كانت بداية تعلم الشيخ طاهر على أبيه الشيخ صالح، فدرس عليه علوم الشريعة واللغة، وكان والده من علماء الجزائر فهو فقيه اشتهر بعلم الفلك وعلم الميقات وله رسالة في هذا العلم، كما له معرفة وميل إلى علوم الطبيعة والرياضيات، وكان ‏مفتي المالكية في دمشق لأن معظم المهاجرين الجزائريين كانوا على المذهب المالكي، وكان يعيد درس صحيح البخاري للشيخ أحمد مسلم الكزبري في الجامع الأموي، وهذه مكانة علمية رفيعة عند علماء دمشق.
    ثم دخل مدرسة رشدية الابتدائية، وبعدها التحق بالمدرسة الجقمقية الإعدادية، ودرس عند الشيخ عبد الرحمن البوسنوي، والذي كان له أثر بالغ في شخصية طاهر الجزائري، فأخذ عنه العربية، والفارسية، والتركية، وتبحر في العلوم الشرعية.
    ثم درس على الشيخ عبد الغني الغنيمي الميداني حتى توفي رحمه الله سنة 1298هـ/ 1881م، والذي كان يعد عالم عصره فضلاً عن اتصافه بالتقوى والورع، والذي حرره من التعصب المذهبي، ووجهه للتقيد بالدليل الشرعي وفتح عقله للنظر والبحث والاجتهاد.
    وكان والده صوفيا من أتباع الطريقة الخلوتية، لكن وفاة والده سنة 1285هـ/1868م وعمره حوالى 14 سنة، سهل عليه التحرر من التصوف والانتقال للمنهج السلفي على يد شيخه الميداني، والذي كان صوفياً ثم نبذ التصوف نحو منهج الكتاب والسنة.
    وبسبب هذه التربية والمنهجية العلمية أصبح همّ طاهر الجزائري وهو في المرحلة الابتدائية شراء الكتب والمخطوطات ومطالعتها، حتى أصبح لديه مكتبة ضخمة تزخر بنفائس الكتب والمخطوطات، مما ظهر أثره عليه فيما بعد بسعة اطلاعه وتبحره في فنون العلم وسعيه الدؤوب لإنشاء مكتبات عامة تجمع شتات الكتب والمخطوطات وحث الأغنياء والدولة على طبع الكتب وتوزيعها.
    مستواه العلمي:
    لعل وصف المحقق محمد كرد علي والأستاذ محمد سعيد الباني وهما من أبرز تلاميذ طاهر الجزائري يوضح لنا المستوى العلمي الذي وصل إليه الشيخ طاهر، يصف كرد علي شيخه بأنه: "مجموعة نفيسة من العلوم ومكتبة سيّارة ضمت خباياها المفسّر والمحدث والأصولي والفقيه والفيلسوف والأديب واللغوي والكاتب والشاعر والمؤرخ والأثري والطبيعي والرياضي والفلكي والاجتماعي والأخلاقي"، ويقول أيضاً: "كان يتقن علوم العربية، ويحفظ وقائع التاريخ، أتقن علوم الدين والدنيا".
    أما تلميذه الآخر محمد سعيد الباني فيقول عنه: "قلّ من يدانيه من معاصريه بإحاطته وسعة اطلاعه، جمع بين المعقول والمنقول، ومزج القديم بالحديث، أخذ من كل علم لبابه ونبذ لفاظته... فهو دائرة المعارف، ومفتاح العلوم وكشاف مصطلحات الفنون وقاموس الأعلام".
    لقد جمع الشيخ الجزائري جل معارف عصره القديمة والحديثة، فهو مع تبحره في الشريعة الإسلامية واللُّغة العربية كان متقنا لعدد من اللغات كالتركية والفارسية والسريانية، والعبرية، والحبشية، والبربرية – لغة أهله -، والفرنسية مما مكنه من الاطلاع على الثقافات المتعددة القديمة منها والحديثة، وفتحت له هذه المعرفة باللغات والخطوط القديمة كنوز المخطوطات فبز أقرانه وتقدم على نظرائه وأصبح الكثير من العلماء والمستشرقين عالة على رأيه ومعرفته بالمخطوطات.
    وقد كان يدون في كناشات (بطاقات) فوائد ونقول ما طالعه من كتب ومخطوطات خاصة ما لم يتمكن من اقتنائها، فتحصل له منها الشيء الكثير، وقد طبعت مؤخرأ باسم تذكرة طاهر الجزائري في مجلدين كبيرين.
    كما أنه تأثر بوالده الذي كان له اطلاع ودراية بالعلوم الدنيوية ولذلك نال طاهر الجزائري نصيبا وافرا من العلوم في التاريخ والجغرافية والآثار، ودرس في الرياضيات والفيزياء، وكان خبيراً بالسياسة الدولية، وأحوال الشرق والغرب ومطلعا على علل المجتمعات وأمراضها، فحين فرح بعض أصدقائه وتلاميذه بانقلاب الاتحاديين الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد الثاني سنة 1327هـ/ 1909م – رغم أنه كان معارضاً للحكم الحميدي بسبب الوشايات الشائعة- وعادوا لدمشق، فإن الشيخ رفض العودة إلى دمشق وكان يقول لهم إن الحالة ستزداد سوءاً بوصول الاتحاديين إلى الحكم وباستبدادهم به حيث كانوا أشد سوءاً وأعظم خطراً من استبداد الفرد خاصة بما كانوا يحملونه من أفكار عنصرية وقومية طورانية ضيقة ومبادئ لا دينية لا تتفق مع ما كان يؤمن به الشيخ طاهر ويدعو إليه، وقد ثبت بُعد نظره إذ سرعان ما نصبت المشانق لطلابه في دمشق في 6 أيار عام 1916 على يد السفاح جمال باشا والى الاتحاديين.
    وحين تم اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو بالبوسنة سنة 1914م قال لمن حوله: "إن حرباً أوربية طاحنة ستنشب لا محالة"، وفعلاً كانت تلك هي شرارة الحرب العالمية الأولى!!
    صفاته وأخلاقه:
    كان رحمه الله حسن الطلعة، معتدل القامة والجسم، حنطي اللون، واسع الجبهة، أسود الشعر والعينين، ذا لحية كثيفة، عصبي المزاج، سريع الحركة، واسع الخطوة.
    وكان زاهداً ورعاً مبتعداً عن التساهل في أحكام الدين، وكان لا يبالي بالتأنق والتزين في ملبسه ولا يهتم لهذه الشكليات، وبقي عزباً لم يتزوج، وكان يرفض أن يأخذ مساعدة من أحد مهما كان، وعاش سنيناً في مصر من بيع كتبه ومخطوطاته، وكان مع قلة حيلته وفقره يتصدق على الفقراء والمساكين.
    وكان حريصاً على وقته الذي يقضيه في التدريس والتعليم أو طلب العلم بالقراءة والبحث حتى وهو على فراش نومه حيث كان محاطاً بالكتب والأوراق والمحابر والأقلام.
    وفي الأربعين سنة الأخيرة من حياته كان لا ينام إلا بعد الفجر، حيث يسهر مع أصحابه ثم يقرأ ويكتب حتى الفجر في حجرته بمدرسة عبد الله باشا العظم.
    وكان يتميز بأنه غير متقوقع على فئة دون أخرى، بل كانت دائرة معارفه واسعة جداً تضم كافة طبقات وفئات المجتمع، بل وحتى غير المسلمين من الصابئة واليهود والنصارى والمستشرقين، حيث كانت له بهم صلات وطيدة، وكان يسخّرها لخدمة الإسلام بتخفيف غلوائهم وعدائهم للإسلام.
    وكان الشيخ طاهر الجزائري يحب السفر جداً، فزار كثيرا من القرى والمدن السورية مشياً إذ كان يحب المشي، وزار لبنان وفلسطين، ومصر، والحجاز، وتركيا، وفرنسا، وكان يهتم في أسفاره بالبحث عن الكتب والمخطوطات واللقاء بالعلماء والمثقفين.
    منهجه:
    يقوم منهج طاهر الجزائري على نشر العلم والتربية، فيقول: "تعلموا كل ما يتيسر لكم تعلّمه، ولو لغة مالطة، فقد يجيء زمان تحتاجون إليها، وإياكم أن تقولوا: إنها لا تدخل في اختصاصنا، فالعلم كله نافع، والمرء يتعلّم ما حسنت به الحياة".
    ويقول: "الإصلاح على اختلاف أنواعه لا بدّ أن يكون على سبيل التدرج، وفقاً لمقتضى السنن الطبيعية؛ لأن ما يأتي على جناح السرعة لا يلبث أن يرجع من حيث أتى".
    ويبين محمد كرد علي منهج الشيخ طاهر في دعوة الناس بقوله: "وخطته الإخلاص والعمل على النهوض بالأمة عن طريق العلم وبث الملكات الصحيحة في أهل الإسلام، وثورته ثورة فكرية لا مادية، ويقول إن هذه الطريق يطول أمرها، ولكن يؤمن فيها العثار، والسلامة محققة ثابتة، وكان يبذل جهده لتعم دعوته أهل الحضر والبادية، والأغنياء والفقراء".
    وكان الشيخ طاهر الجزائري يفضل تغيير قناعات المخالفين برفق، فقد كان يذكر في مجالسه بعض أفكار شيخ الإسلام ابن تيمية دون أن ينسبها له فيتقبلها المخالف لقوتها وسلامتها، وحين يسأل عن مصدرها كان يوضح له أنها لابن تيمية مما جعل الكثيرين يتقبلون ابن تيمية، وكذلك كان ينسخ بعض رسائل ابن تيمية وابن القيم وأبي شامة المقدسي وأمثالهم ويرسل من يبيعها في السوق بسعر زهيد فانتشرت وانتفع بها الكثيرون.
    نقل كرد علي عن شيخه أنه قال له مراراً: "إذا أردت إدخال الإصلاح إلى بيوت الأعيان، وفيهم الجاه والمال، فاجهد لأن يتعلم ولو فرد واحد من كل أسرة تقلب به كيانها، وكثيراً ما قال: لنخرجن من بيوت الأغنياء أولاداً يحاربونهم بسلاح التربية الصحيحة".
    وهو على فراش الموت نصح عُوّاده بحكمة بليغة فيها خلاصة تجربة وحياة، فقال: "عُدوا رجالكم واغفروا لهم بعض زلاتهم، وعضوا عليهم بالنواجذ، لتستفيد الأمة منهم، ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم".
    دوره الإصلاحي:
    عاش طاهر الجزائري إبان احتلال أوروبا لكثير من بلاد الإسلام بسبب حالة الضعف والهزيمة بسبب شيوع الجهل والخرافة وعجز الدولة العثمانية، ولذلك اجتهد في دراسة حال الأمة وكيفية العمل على إصلاحها، وتوصل إلى أن العلم هو مفتاح النهضة للأمة، العلم الشرعي الصحيح الذي يحيي روح الأمة وقلبها، والعلم الدنيوي السليم الذي يعالج جسدها وأعضاءها.
    ويمكن أن نعدد مظاهر إصلاح طاهر الجزائري العلمي في الجوانب التالية:
    أولاً: في قطاع التعليم
    1– دوره الكبير في إقناع الآباء بأهمية وضرورة تعليم أولادهم في المدارس، مما كان له واسع الأثر على النهضة التعليمية في سورية، وقد لقيت هذه الدعوة معارضة شديدة من بعض الجهلة الذين رأو في نشر العلم ضرراً عليهم حيث كانوا يحتكرون بعض الوظائف التعليمية والشرعية لأنفسهم ولأولادهم!!
    2- توليه مهمة التدريس في المدرسة الظَّاهرية الابتدائية بدمشق سنة 1294هـ-1878م، حيث قام ببثّ أفكاره الإصلاحية بين الطلبة، ورغم مكانته الكبيرة فقد قام بتعليم طلاب الابتدائية لتشجيع المعلمين على ذلك.
    يقول الشيخ علي الطنطاوي: "كان التعليم في دمشق: الكتاتيب للصغار، وحلقات المساجد للكبار، فكان – طاهر الجزائري- من أكبر العاملين على افتتاح المدارس العصرية".
    3- قيامه مع عدد من الفضلاء منهم الشيخ علاء الدِّين عابدين وبهاء بك سكرتير والي دمشق بتأسيس (الجمعية الخيرية الإسلامية)، لتتصدى لنشاط الإرساليات التَّبشيرية الأجنبية والتي كانت تستقطب الطلاب من الأقليات غير المسلمة والمسلمين، فتجعل منهم أبواقا وخدما لأفكارها ومبادئها وتهيؤهم ليكونوا أصحاب المناصب القادمة بسبب تعلمهم، فسعى طاهر الجزائري لتوفير مدارس وطنية تنشر العلم والمعرفة وتحفظ الجيل من الغزو الوافد وتهيئ قيادات وطنية مخلصة متسلحة بالعلم.
    وهذا يدل على وعي الجيل المؤسس للنهضة بأهمية العمل الجماعي وأنه يقوم بما لا يقوم به الفرد مهما كان قوياً.
    وقد تمكنت الجمعية من فتح ثماني مدارس للذكور ومدرستين للإناث بتشجيع ودعم الوالي مدحت باشا – وهو من الولاة المصلحين والذي ترك خلفه ذكراً حسناً بين الناس – وقد كان الشيخ طاهر وزملاؤه يقظين لأهمية تعليم الفتيات لكونهم أمهات الجيل القادم.
    ثم تحولت الجمعية الخيرية عام 1295هـ - 1879م إلى ديوان المعارف (ما يشبه وزارة التعليم اليوم)، وأصبح الشيخ طاهر مفتشاً عاماً على المدارس الابتدائية، مما ساعده على التعرف على أوضاع بلاد الشام كلها، وأتاح له نقل أفكاره وتوجيهاته لغالب المدرسين وإرشاداته لهم بطرق التدريس الصحيحة، ومن هنا يأتي اتساع نطاق تأثير الشيخ طاهر في هذا الجيل.
    4- قيام الشيخ طاهر بتأليف عدد من الكتب كمناهج لصفوف الابتدائية في العلوم الشرعية والرياضية والطبيعية، وذلك بعد أن لمس الحاجة لتطوير المناهج وعدم البقاء في أسر كتب المختصرات القديمة والتى لم تعد صالحة ولا مناسبة للجيل الجديد وللحاجة لإضافة علوم جديدة يتعلمها الناشئة.
    5- ونجح مسعى الشيخ طاهر في إنشاء مطبعة حكومية تقوم بطبع المؤلفات العامة والكتب المدرسية.
    6- استمر الشيخ طاهر في الاهتمام بتعليم الطلاب وتربيتهم، فرغم أنه فصل من وظيفته وهرب من دمشق، إلا أنه كان لا يبخل بتقديم النصيحة الصادقة لترشيد التعليم في دمشق، فلما أصبح تلميذه الأستاذ كرد علي وزيراً للمعارف لم تنقطع الرسائل بينهما والتي كان يطلب فيها كرد علي النصيحة والمشورة من شيخه، ومما نقله كرد علي في كتابه (كنوز الأجداد)، اقتراح الجزائري بتعليم طلبة الابتدائية مبادئ الصناعة، وأنه يمكن تجربة ذلك في مدرسة واحدة بداية، وضرورة الحرص على التربية الخُلقية للطلاب وعدم الاقتصار على التعليم فقط.
    ثانياً: في قطاع المكتبات العامة
    1- بعد أن لاحظ الشيخ طاهر الجزائرى إهمال عدد من المشرفين على دور الكتب الوقفية في المساجد والمدارس من جهة، وزهد كثير من أهل دمشق بكنوز مكتبات المنازل، سعى مع عدد من رفاقه لدى والي دمشق، مدحت باشا، لتكوين مكتبة عامة تجمع الكتب المخطوطة والنادرة في مكان واحد، وفعلا تم في سنة 1296هـ - 1880م تأسيس المكتبة الظاهرية كأول مكتبةٍ عامةٍ في تاريخ دمشق الحديث، وذلك في مقر المدرسة الظاهرية، والتي أصبحت من أهم المكتبات التي تحتوي على المخطوطات العربية والإسلامية، وعين أميناً لها الشيخ أبو الفتح الخطيب من رجالات دمشق وهو والد العلامة محب الدين الخطيب صاحب المكتبة والمطبعة السلفية.
    وقد لقي هذ المسعى معارضة شديدة من المنتفعين بسرقة الكتب من نظار المكاتب وتوعدوه وهددوه بالقتل.
    2- استمر الشيخ طاهر بتزويد المكتبة الظاهرية بما تقع يده عليه من نفائس الكتب والمخطوطات، ويحث الناس على شراء الكتب وإهدائها إلى المكتبة.
    3- لإداركه المبكر لأهمية الضبط الببليوجرافي، سعى في تصنيف وطباعة فهارس للمكتبة الظاهرية، مما شهرها بين العلماء والطلاب والمستشرقين وجعلهم يفدون إليها أو يراسلون الجزائري مراسلات خاصة ليطلبوا منه مخطوطات بعينها، ومنهم المستشرق جولدتسيهر، للاستفادة من ذخائرها.
    4- وحرص الشيخ طاهر على أن تكون هناك مكتبة عامة في كل مدينة، ولذلك كان في جولاته الدعوية لحمص وحماة وطرابلس وغيرها من المدن يحث الناس على تأسيس المكتبات والمدارس.
    وبسبب هذا الحرص تم تعيينه أيضاً مفتشا في سنة 1880م على خزائن الكتب في ولاية سورية ومتصرفية القدس، وفي زيارته للقدس حث الشيخ راغب الخالدي على إنشاء المكتبة الخالدية في القدس، وعاونه في ذلك ووضع لها فهرساً خاصاً.
    5- وأورد كرد علي في كتابه (كنوز الأجداد) رسالة من الشيخ طاهر يقترح فيها عمل مكتبة عامة في الآستانة تجمع فيها الكتب النادرة فقط أو أحد نسخها إذا كانت مكررة من المكتبات العامة في المساجد والمدارس، ويوضع لها سجل يوزع على جميع المكتبات، وبذلك لا تفرغ المساجد والمدارس من الكتب، ولا يتضرر العامة لعدم حاجتهم لهذه الكتب في الغالب، وتحفظ هذه النوادر وتتاح للمهتمين.
    ثالثاً: في قطاع العلماء والشباب الواعد
    من أبرز نتائج جهود الشيخ طاهر الجزائري أنه صنع جيلا من الشباب أصبح فيما بعد من قادة النهضة واليقظة، وكان لهم بالغ الأثر في بلادهم ومجتمعاتهم، مثل: محمد سعيد الباني، ومحمد كرد علي، ومحب الدين الخطيب، مما يدل على نجاح أسلوب الشيخ طاهر، وعلى الأثر الكبير الذي خلفه وراءه في نفوس الشباب.
    فقد كان الشيخ طاهر يقيم اجتماعا أسبوعيا بعد صلاة الجمعة في منزل رفيق العظم، عرفت باسم حلقة طاهر الجزائري يحضرها كبار علماء دمشق مثل: الشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ جمال القاسمي، والشيخ سليم البخاري، والشيخ أبو الخير عابدين، والشيخ عبد القادر بدران، وعدد من الشباب الواعد أمثال: محمد علي مسلم، ورفيق العظم، محمد كرد علي، أحمد النويلاتى، وشكرى العسلي، وسليم الجزائري، وفارس الخوري، ومحب الدين الخطيب، وعبد الحميد الزهراوي، يتدارسون العلم والمعرفة ويبحثون في شؤون الأمة وقضاياها، عرفت باسم حلقة الشيخ طاهر، وبقيت تقام حتى بعد سفر الشيخ إلى مصر.
    ونتج عن هذه الحلقة تواصل العلماء لحلول لبعض القضايا العلمية والمشاكل التي تعترض رفعة البلاد العربية، كما أنها جذرت لدعوة الاجتهاد والبحث والنظر والعودة للكتاب والسنة وحرب الجهل والخرافة والبدع، وكانت تندد بالقمع والاستبداد وسوء الإدارة وتطالب بالحرية والعدل والنظام.
    وكان يستقبل الطلبة بغرفته بمدرسة عبدالله باشا ولا يبخل عليهم بالنصح والتوجيه، وأيضاً لما درس الشيخ طاهر الجزائري في مكتب عنبر والذي يعد أول ثانوية في دمشق، والتي تخرج منها قادة الشام وعلماؤها، كان حريصاً على أن يكسب عقول وقلوب طلابه.
    ومن أمثلة رعاية الشيخ لطلابه موقفه مع محب الدين الخطيب بعد وفاة والده وانقطاعه عن الدراسة في مكتب عنبر، حيث سعى شيخه الجزائري ليخلف محب الدين أباه في دار الكتب الظاهرية، ولأنه صغير سينوب عنه من يقوم بها حتى يبلغ سن الرشد، وفي فترة انتظار بدأ الدراسة للالتحاق مرة ثانية بمكتب عنبر، صار الشيخ طاهر ينتقي لتلميذه محب الدين الخطيب من مخطوطات الظاهرية لشيخ الإسلام ابن تيمية وأضرابه فيكلفه بنسخها، فتوسعت ثقافة محب الدين العلمية، وانتفع بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته السلفيّة، وأشغل وقته وانتفع بأجرة النسخ.
    وأوصاه بالتردد على العلماء: أحمد النويلاتي، وجمال الدين القاسمي، ومحمد علي مسلم، حيث كانت لهم غرف في مدرسة عبد الله باشا العظم حتى يطور من علمه.
    ولذلك كان محب الدين الخطيب يقول عنه: "مِن هذا الشيخ الحكيم عرفت عروبتي وإسلامي".
    أما محمد كرد علي فيقول عن أستاذه الجزائري: "وكان العامل الأكبر في توجيه إرادتي نحو الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، والإقدام على التأليف والنشر، وإشرابي محبة الأجداد والتناغي بآثارهم، والحرص على تراث حضارتهم، أستاذي الأكبر الشيخ طاهر الجزائري، فما زلت ألزمه منذ اتصلت به إلى أن ذهب إلى ربه سنة (1338هجري) حميد الأثر".
    وكان يحث أهل الكفاءة على إنشاء الصحف السياسية والاجتماعية والمجلات العلمية والأدبية، ومطالعة الصحف والمجلات المفيدة.
    ومما نُقل عن الشيخ طاهر في إرشاد المدرسين بكيفية التعامل مع الطلبة قوله: "إن جاءكم من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقولوا له إن هذا مستحيل بل علموه، فلعل اشتغاله هذه الثلاثة الأيام بالنحو، تحببه إليه".
    رابعاً: في قطاع التأليف
    مرّ معنا أن الشيخ طاهر الجزائري ألف الكثير من الكتب المدرسية ليرفع من مستوى العملية التعليمية، ودوره في نشر وبعث تراث شيخ الإسلام في أوساط طلبة العلم.
    وأيضاً كان له دور مهم في إعادة طباعة ونشر بعض الكتب المهمة التي ساهمت بقوة في ترسيخ اللغة العربية والأخلاق وفتح الأذهان للبحث والنظر وترك الجمود والتعصب، وكان ذلك إما بنشره كاملاً أو اختصاره وتهذيبه، مثلاً: نشر كتاب (تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين) للراغب الأصفهاني، وكتاب (الأدب والمروءة) وكتابي (الأدب) الكبير والصغير لابن المقفع، وكتاب (روضة العقلاء).
    واختصر كتاب (أدب الكاتب) لابن قتيبة، وكتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، وكتاب (أمثال الميداني).
    وألف عددا من الكتب لتقريب وتحقيق بعض المسائل والعلوم بعيداً عن الحشو والتكرار مثل كتبه: التّبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان، وتوجيه النَّظر إلى أصول الأثر، الجواهر الكلامية في إيضاح العقيدة الإسلامية، التقريب لأصول التَعريب، وتمهيد العُروض في فنِ العَروض.
    وألف في العلوم الطبيعية كتابه: دائرة في معرفة الأوقات والأيام، وهو في علم الميقات.
    وكان حريصا على حث المسؤولين على طباعة الكتب ونشرها، ومن ذلك أنه عاتب شيخ العروبة أحمد زكي باشا حين تلكأ في طباعة عدد من الكتب النادرة بعد أن تم اعتماد مبلغ عشرة آلاف جنيه لها من قبل وزير المعارف في مصر، لكن بسبب التأخير في الطبع بحجة التحقيق والتدقيق تم إلغاء الاعتماد بعد خروج الوزير من الوزارة، فعاتبه الشيخ طاهر وقال له: "لقد أسأت إلى الامة العربية بإبطائك في إخراج الكتب للناس، وإذا ادعيت أنك تقصد نشرها سالمة مشفوعة باختلاف النسخ والتعاليق، فالتأنق وحده لا له، ويكفى أن ينتفع الناس بالموجود"، وبقي غاضباً منه ولا يكلمه إلا بتكلف!!
    رحيله عن دمشق إلى مصر:
    في عام 1886م أقالت الحكومة العثمانية الشيخ طاهر من وظيفة التفتيش بالمدارس الابتدائية لضيقها من أفكاره الإصلاحية، فلم يفت ذلك في عضده بل زاد نشاطه، فترك التدريس ومن يومها رفض قبول أي وظيفة حكومية، ولكنه بقي يدرس ويقوم بجولاته في مدن سوريا لنشر العلم، حتى قامت السلطات العثمانية بتفتيش بيته – وهو غائب عنه - سنة 1907م بحثاً عن منشورات ضدها، وذلك بسبب وشايات كاذبة عن صلة الشيخ ببعض الجمعيات الساعية لمعارضة السياسية العثمانية والمطالبة باللامركزية العثمانية وأشيع بأن دعوة الشيخ إلى الإصلاحات السياسية والإدارية تتعارض مع الأمن والاستقرار.
    فقرر السفر لمصر، حيث كان يتواجد فيها عدد من أصدقائه وطلابه أمثال محب الدين الخطيب، ومحمد كرد علي، ورفيق العظم، ومحمود الجزائري، وحقي العظم، ورشيد رضا، وغيرهم، وسار على طريقته ومنهجه في نشر العلم والدعوة إليه، وألف في مصر عدة كتب، وكتب عدة مقالات لجريدة (المؤيَّد) وغيرها، وقد رفض في مصر أن يقبل الهبات أو الوظائف على فقره، وكان يعتاش من بيع بعض كتبه ومخطوطاته كما كان يفعل في دمشق بعد إقالته من وظيفته، وساعده في ذلك عدم تزوجه وزهده في متاع الدنيا، ولكنه لم يكن يبيع كتبه إلا لمن يعرف قيمتها من العلماء والباحثين أو لبعض المكتبات العامة، وكان أيضاً يبيعها لهم بثمن زهيد بالنسبة لما يمكن أن يدفعه له المستشرقون وتجار المخطوطات والنوادر، ولكن من إخلاصه للعلم ولأمته كان يضن بهذه الكتب أن تفارق بلاد العروبة والإسلام.
    وسرعان ما عرف فضله ومكانته العلمية أعلام مصر ومثقفوها أمثال: الشيخ علي يوسف، وأحمد زكي باشا، وأحمد تيمور باشا، والشيخ أحمد شاكر محدث الديار المصرية يعد من تلاميذ الشيخ طاهر الجزائري في مصر.
    وفي مصر قابل الأمير عباس الخديوي ولأن طاهر الجزائري رجل مؤسسات فقد اقترح عليه تأسيس مدرسة للغة العربية تكون مقصدا للطلاب من كل جهة، وتأسيس دار للترجمة مع مطبعة تطبع الكتب المترجمة، مما يدل على رجاحة عقل الجزائري الذي سعى لبعث العربية والاستفادة من العلوم المعاصرة في نفس الوقت.
    وكان الخديوى سأله عن ملاحظاته على مصر، فأجابه الجزائري بقوله: "شيئان، أحدهما: عدم إكمال الأعمال، والثاني: احتقار الأشغال الجزئية؛ والأمور الكلية إنما تتم إذا أخذت أولاً من أقرب وجه". وهذا يدل على صحة ما وصف به الجزائري من تفحصه لعلل المجتمعات والدول، ولعل هاتين الملاحظتين لا تزالان سبب ضعف مصر وكثير من البلاد العربية لليوم.
    عودته لدمشق ووفاته:
    حين وصلت أنباء دخول الجيوش العربية بقيادة فيصل بن الحسين لدمشق سنة 1918م وزوال حكم الاتحاديين عنها، قرر الشيخ العودة إلى دمشق مسقط رأسه، لكنه مرض ولم يستطع السفر إلا بعد منتصف عام 1919م.
    واعترافاً بفضله ودوره في النهضة واليقظة عيّنته الحكومة العربية، مديراً عاماً لدار الكتب الظَّاهرية التي أسسها قبل أربعين سنة، كما قرر المجمع العلمي العربي الأول الذي يرأسه تلميذه محمد كرد علي ضم الشيخ إليه عضواً عاملاً.
    لم تطل إقامة الشيخ في دمشق فبعد عام وقليل اشتد المرض عليه، وتوفي يوم الإثنين الرابع عشر من ربيع الآخر سنة 1338هـ- الخامس من كانون الأول عام 1920م. ودفن في سفح جبل قاسيون حسب وصيته. رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.


    مراجـع للتوسع:
    - الشيخ طاهر الجزائري، رائد التَّجديد الدِّيني في بلاد الشَّام في العصر الحديث، حازم زكريا محيي الدِّين،2001م.
    - كنوز الأجداد، محمد كرد علي، أضواء السلف، 2010م.
    - النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، د.محمد رجب بيومي، دار القلم، 1999م.
    - علماء الشام في القرن العشرين، محمد حامد الناصر، دار المعالي، 2003م.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح


    علاّمة الشام جمال الدين القاسمي [1]

    . أسامه شحادة


    تمهيد:

    هو أبو الفرج محمد جمال الدين القاسمي الكيلاني الحسني الدمشقي، وهو من أحفاد الشيخ عبد القادر الجيلاني من سلالة الحسن السبط، كان إمام الشام في عصره، نشأ مقلداً وصوفياً لكنه تحول لمنهج السلف، فأصبح داعياً للعلم والاجتهاد ومحاربة الجهل والتعصب، وقف حياته على العلم والتعليم، وكان هيناً ليناً في دعوته، وبرغم ما ألحقه به أعداؤه من الجهلة والمتعصبة من أذى إلا أنه لم ينشغل بهم.

    كان من رجالات الإصلاح في نهاية عصر الدولة العثمانية وله صلات ومراسلات بعلماء عصره المصلحين في العديد من البلدان، فقد زار لبنان ومصر وفلسطين والأردن والمدينة المنورة، ورغم قصر عمره (49 سنة) ألا أنه ألف ما يزيد عن 100 مؤلف.

    لخص العلامة رشيد رضا منهج القاسمي الإصلاحي في التأليف مقارنة مع شيخه وصديقه العلامة طاهر الجزائري فقال: "والعلامتان الجزائري والقاسمي كانا سببين في سعة الاطلاع وحسن الاختيار، إلا أن الجزائري كان أكثر اطلاعا على الكتب وولوعاً بالاستقصاء والبحث، والقاسمي أشد تحريا للإصلاح، وعناية بما ينفع جماهير الناس"[1].

    وقد ترك القاسمي بعد وفاته عددا من التلاميذ أصبحوا هم علماء الشام، وعددا آخر أصبحوا هم ساسة الشام وقادته.

    ولادته ونشأته العلمية:

    ولد جمال الدين القاسمي في دمشق سنة 1282هـ / 1866م، في بيت علم وتقوى[2]، فقد كان جده عالماً فاضلاً، وكذلك كان أبوه، وهذه ميزة لجمال الدين، فقد درجت العادة في ذلك الزمان أن يتوارث الأبناء وظائف آبائهم الدينية كالإمامة والخطابة والإفتاء والقضاء، فوصل لهذه المناصب الجهلة والحمقى بالوراثة لا بالكفاءة، فانتشر الجهل والتعصب وقلة الدين، حتى كنت لا تجد في مدن وقرى بكاملها من يحسن القراءة والكتابة! بل وصل الحال أن المدارس على ندرتها كانت تدرس اللغة العربية ونحوها بالتركية على شيخ تركي!!

    وقد فاقم من انتشار الجهل تواطؤ أصحاب المناصب الشرعية والسياسية على بقاء الجهل مخيماً حفاظاً على مكاسبهم ونفوذهم، ولذلك كانوا دوماً أعداء لكل مصلح ومحب للعلم.

    درس القاسمي بداية على والده الشيخ محمد سعيد القاسمي، ثم درس في مكتب بالمدرسة الظاهرية، وحضر دروس الشيخ سليم العطار والشيخ بكرى العطار شيخ الشام، والشيخ محمد الخاني الذي علمه أوراد الطريقة النقشبندية والتي تركها لاحقاً.

    كان القاسمي يطالع كثيرا من الصغر ولا ينشغل باللعب مع أقرانه، ولذلك وجد في أوراقه عدة دفاتر فيها ملخصات ومنتخبات من مطالعته في الكتب – طبعاً نقصد المخطوطات – أطلق عليها اسم "سفينة" وعمره 15 سنة!! وقد كان محافظاً على وقته وله همة عالية في القراءة، قال عن نفسه: "وقد اتفق لي بحمده تعالى قراءة صحيح مسلم بتمامه رواية ودراية في أربعين يوماً، وقراءة سنن ابن ماجه كذلك في واحد وعشرين يوماً، وقراءة الموطأ كذلك في تسعة عشر يوماً... فدع عنك الكسل، واحرص على عزيز وقتك بدرس العلم وإحسان العمل".

    وقد حبب للقاسمي القراءة حتى قيل إنه قرأ واقتنى غالب ما طبع في عصره من كتب، وبيته يحتوي على مكتبة أسسها جده الشيخ قاسم ووسعها أبوه ونماها القاسمي بعد وفاة والده حتى تركها وفيها 2000 مجلد، وجعل لها غرفة خاصة وصنع فهرساً بكتبها، وتتميز مكتبة آل القاسمي بتنوعها الواسع وعدم اقتصارها على الكتب الشرعية، وأوقفها على ذريته وطلبة العلم ونشر إعلانا بذلك في الصحف، وهي لليوم مفتوحة للباحثين، فجزى الله أحفاد القاسمي على رعايتهم لوصية ووقف جدهم.

    ولتميزه في طلب العلم وعدم اكتفائه بمكانة أبيه طلب بعض الطلبة منه أن يشرح لهم بعض مقدمات العلوم وعمره 14 سنة، فكان يدرسهم بعد المغرب قبل موعد درس أبيه، الذي كان يواظب على حضوره.


    نشاطه العلمي والدعوي:

    بدأ نشاطه الدعوي وعمره 21 سنة حين طلب بعض الفضلاء من والده سنة 1303هـ أن يرسل جمال الدين ليكون إماماً لهم في مسجدهم في الصلوات الخمس ويقيم الدروس لهم، فأذن له والده فأحيى جمال الدين مسجدهم بإمامة الصلوات وبدروسه في الصباح وبين العشائين.

    ثم أصبح مدرساً في مدرسة عبد الله باشا العظيم والتي كانت إحدى حصون الدعوة إلى الإصلاح في العاصمة الأموية بحسب وصف العلامة محب الدين الخطيب إذ كان من المستفيدين منها، وكان من المدرسين فيها: العلامتان طاهر الجزائري وجمال الدين القاسمي ولكل واحد منهما غرفة يستقبل فيها تلاميذه.

    وبسبب تميزه في التعليم والإصلاح تم اختياره – فيما يبدو - من قبل الوالي ضمن عدد من الفضلاء سنة 1309هـ لإلقاء دروس عامة في شهر رمضان في بعض النواحي من سوريا، فذهب إلى وادي العجم وسجل يوميات تلك الرحلة في كتاب بعنوان "بذل الهمم في موعظة أهل وادي العجم"، وفي السنة التالية اختار أن يذهب إلى قضاء النبك وألف فيها "حُسن السبك في الرحلة إلى قضاء النبك"، وطلب أيضاً في السنة التي تليها فذهب إلى بعلبك، وكرر الذهاب إليها في السنة التي تليها، ثم يبدو أنه طمع في تلك الرحلات بعض الطماعين البطالين الذين لا يهمّهم سوى المكافأة المالية فأبطلت الدولة تلك الرحلات، ويعلق القاسمي على ذلك بقوله: "مع أن بها النفع العام، لمن قام بها حق القيام".

    ويبدو أن هذه الرحلات فتحت عيون القاسمي لأحوال البلد ومقدار الجهل والخرافة والظلم الذي يحيق بالناس.

    وفي سنة 1317هـ توفي والده فحزن عليه كثيراً، وقد قام العلامة عبدالرزاق البيطار والعلامة طاهر الجزائري بزيارة والي الشام برفقة القاسمي لتنصيبه مقام والده في إمامة وخطابة وتدريس مسجد السنانية وهو المسجد الذي كان يؤمه والده وجده من قبله، فتولى الإمامة والتدريس فيه للطلبة والعامة وألف فيه كثيرا من كتبه وأهمها تفسيره (محاسن التأويل) بين عامي 1317-1329هـ.

    تحوله لمنهج السلف وما لقي من مصاعب بسبب ذلك:

    نشأ القاسمي مثل أهل عصره على المذهب الشافعي والعقيدة الأشعرية والطريقة النقشبندية، ولكن لكونه طالب علم ذكيا ومتميزا ولأ والده وجده كانا من العلماء ولكونه كثير المطالعة، فقد سهل عليه أن يكتشف خطأ ما هو عليه وأن الحق هو في اتباع القرآن والسنة ومنهج السلف الصالح، وليس بين أيدينا تصريح له أو لغيره بكيفية أو بتاريخ انتقاله لمنهج السلف على غرار قصة تحول رشيد رضا التي كتبها بنفسه، لكن لدينا بعض الإشارات التي قد تساعد على ذلك.

    وقد يكون السبب في عدم تدوين هذه القصة هو طبيعة البيئة التي عاش في ظلها القاسمي، فهو كان في بيئة مقلقة له أمنياً، فالرسائل والكتب مراقبة، وبيته مهدد في أي لحظة بالتفتيش والبحث عن كتب أو رسائل من دعاة الإصلاح، فمثلاً حين كان يتراسل القاسمي مع بعض أصدقائه ويراد الإشارة إلى محمد كرد علي فإنهم يعبرون عنه بقولهم "صاحب اسم مفعول اقتبس"، نسبة لمجلته المقتبس!!

    فإذا بحثنا عن سبب تحوله لمنهج السلف سنجد أن القاسمي عاصر الشيخ طاهر الجزائري والذي اشتهر ببعث كتب شيخ الإسلام من خلال نسخها وبيعها بأثمان رخيصة في سوق الوراقين، كما نجد أن القاسمي كان يحضر حلقة الشيخ طاهر الكبرى، بل كان زميلاً له في مدرسة عبدالله باشا وله غرفة يلتقي الطلاب فيها سنة 1311هـ تقريباً، ونجد أن طاهر الجزائري هو الذي سعى في تنصيب القاسمي إماما محل أبيه، وسنجد أن القاسمي رافق الشيخ طاهر الجزائري ليل نهار في سنة 1323هـ قبل هجرة الجزائري لمصر، كما أن الجزائري شارك القاسمي في تنقيح بعض مباحث كتابه قواعد التحديث.

    ومن المتفق عليه بين المؤرخين لتلك الفترة أن الشيخ عبد الرزاق البيطار وهو من أجل علماء الشام كان والقاسمي صديقين حميمين برغم أن البيطار أسن من القاسمي بثلاثين سنة!! ومعلوم أن البيطار كان أيضا على خلاف منهج السلف ثم تحول إليه لكنه عرف ذلك متأخراً بخلاف القاسمي، وقد اشتهرت كلمة البيطار للقاسمي بخصوص تحوله لمنهج السلف مبكراً: "يا جمال.. احمد الله على أن انتهيت وأنت في سعة من عمرك، ولحيتك سوداء، فتتمكن من الاستمتاع بعقلك، ويتسع الوقت لنشر فضلك".

    ومعلوم أن البيطار أيضاً كان من رواد حلقة طاهر الجزائري، فالراجح عندى أن لطاهر الجزائري دورا مركزيا في تحول البيطار والقاسمي لمنهج السلف، برغم أن القاسمي هو الذي اختص واشتهر بنشر منهج السلف في الشام بعد عصر ابن تيمية وابن القيم، لأن القاسمي كان رجل عامة والجزائري كان رجل خاصة. ولعل هذا هو السبب الذي جعل القاسمي يقول عن طاهر الجزائري "الشيخ المفيد والمرقي الوحيد"!!

    أما متى كان ذلك؟ فليس هناك تاريخ مؤكد إلا إشارات عامة أيضاً، ففي سنة 1306هـ ختم القاسمي أحد كتبه بقوله: "تم على يد مختصره الفقير محمد جمال الدين أبي الفرج القاسمي الأشعري الدمشقي النقشبندي الخالدي الشافعي"، وهذا يحدد لنا أن نبحث عن تاريخ تحوله بعد هذا التاريخ.

    سنجد أن طاهر الجزائري في سنة 1311هـ تقريباً أمر محب الدين الخطيب وكان عمره 9 سنوات بالتردد على غرفة الأستاذ أحمد النويلاتي وجمال القاسمي بمدرسة عبدالله باشا، ونجد أن القاسمي والبيطار في سنة 1313هـ يتعرضون لمحنة عرفت باسم حادثة المجتهدين، حيث لفق لهم بعض الحاسدين تهمة ادعاء الاجتهاد!! وهي تهمة كانت رائجة في عصر الجمود والتعصب والتخلف، بينما يتهم السلفيون اليوم بالجمود!!

    ونجد أن القاسمي يكتب في رسالة منه للعلامة نعمان الآلوسي سنة 1316هـ فيقول: "فإلى الله المشتكى من جماعة نبذوا الآثار ظهريا، وأضحى مذهب السلف بينهم نسياً منسياً، خلا جماعة من أحبابنا الصادقين، فإنهم في مشربهم السلفي عقد الشام الثمين، وقد نالتنا وإياهم محنة سلفت من نحو ثلاثة أعوام"، ويقصد حادثة المجددين.

    وهذه الرسالة هي رد على الرسالة التي أجاز فيها الآلوسي القاسمي وأوصاه في آخرها بمنهج السلف فقال له: "وأوصي المجاز – القاسمي- باتباع مذهب السلف، فإنه أسلم بل أعلم وأحكم والسلوك في طريقهم الأقوم" وذلك سنة 1315هـ.

    وهذا يدل على أن القاسمي لم يعد سلفياً فحسب بل إن حوله مجموعة سلفية، وأيضاً نجد القاسمي في ترجمته لوالده "بيت القصيد في ترجمة الوالد السعيد" يصرح بأن والده انتهج منهج السلف في آخر حياته، ووالده توفي سنة 1317هـ، وكان والده وأخوه محمد عيد قد انتصروا له حين أوقفه المفتي سنة 1313 من دون بقية زملائه في حادثة المجتهدين، وهذا فيه إشارة لتأييدهم لمذهب جمال خاصة أن والد جمال كان يحضُر هذه المجالس.

    ومن هذا كله يمكن أن نقول إن القاسمي بدأ في التحول للسلفية من سنة 1310 تقريبا أو قبلها بقليل، ولكنه بقي يتطور حتى وصل لمرحلة رضي فيها عن نفسه وهي عام 1320، ولذلك نجده يصرح أنه غير راض عن كل ما كتبه قبل ذلك العام.

    وبعد أن حاولنا تلمس كيفية وتاريخ تحول القاسمي للسلفية، نعرض للمحن التي تعرض لها بسبب ذلك، وقد لخص القاسمي ما تعرض له من اضطهاد في رسالة شخصية لرشيد رضا:

    1- في سنة 1313 اتهم وبعض أصدقائه الذين وصفهم بالسلفيين بالاجتهاد، ولأنه كان أصغرهم سناً فقد أوقف ليلة من دونهم، ويجب أن نلاحظ أن التهمة الأولى للقاسمي ورفاقه وعلى رأسهم الشيخ عبدالرزاق البيطار كانت هي تهمة الاجتهاد ومحاولة قراءة كتب تفسير القرآن والحديث وكتب أصول الفقه، ولم توجه لهم تهمة الوهابية إلا بعد سنوات، كما أنهم في الجلسات التي اتهموا فيها بالاجتهاد كانوا أيضاً يدرسون كتاب "كشف الغمة" للشعراني الصوفي، وهذا يؤكد تطورهم التدريجي للسلفية بترك التعصب والجمود الفقهي بداية.

    2- في سنة 1318 تم إيقاف السيد عبدالحميد الزهراوي مما أثار الخوف في نفوس أصدقائه ومنهم القاسمي، والذي جاءه البوليس ليلاً وطلب منه نسخته من كتاب الزهراوي الذي أوقف بسببه، مما يدل على شدة محاربة الأفكار الإصلاحية في ذلك الوقت.

    3- وفي سنة 1322 زار دمشق قادما من مصر المحامى أحمد الحسيني وكان القاسمي تعرف به في القاهرة قبلها بسنة وأكرم القاسمي ورحب به، فلما جاء الشام ذهب لزيارته قياما بواجبه، فاستدعي من الوالي وحقق معه حول سبب زيارته له، وأمر القاسمي بقطع الصلة به، حيث اتهم بعض الوشاة الحسيني بأنه معادٍ للحكومة ومن دعاة الاجتهاد!

    4- وفي سنة 1324 اتهم الشيخ عبدالرزاق البيطار بأنه وهابي وحقق معه ومع بعض طلابه، مما أثار الخوف والقلق في نفوسهم، واتهم القاسمي معه في ذلك، لكن ما انقذه من التحقيق أنه كان مسافراً مع الشيخ طاهر الجزائري إلى صيدا، وبقي هناك لمدة شهرين قلقا حتى هدأت الأمور وعاد.

    5- وفي رمضان من نفس السنة 1324 أقام عليه الجامدون والمتعصبون والذين يسميهم القاسمي بالحشوية – كان يطلق قديماً على أهل السنة، فأصبح اليوم لقب أعدائهم- بسبب كتاب مجموع الأصول، والذي جمع فيه بعض الرسائل حول الاجتهاد ومن ضمنها رسالة لابن عربي الصوفي، لأن منهج القاسمي صدم هؤلاء المتعصبة الصوفية بكلام رموزهم.

    فكانوا يجتمعون في المسجد الأموي من العصر وحتى آخر الليل يسبون القاسمي ويتوعدونه لولا تدخل بعض الفضلاء، وقد كان القاسمي في تلك الفترة يعيش فترة صعبة قال عنها: " ولكن كيف كان الصحب والآل، في هذه الليالي؟ حدث ولا حرج".

    6- في عام 1326 تم تفتيش منزله ومسجده بحثاً عن كتب ومراسلات ممنوعة، وصادروا ثلاثة أكياس كتب مطبوعة ومخطوطة، بقيت شهرين عندهم، ولما تقرر إرجاعها اعترض بعض الحشوية، فتقرر تحويلها للمحكمة الشرعية لفحصها، فبرأه القاضي، ولكن يقول القاسمي: "فماذا كان حال العائلة والأهل في هذه الأشهر؟".

    7- وفي رمضان من عام 1326 يزور محمد رشيد رضا دمشق ويعقد له درس في المسجد الأموي، فقامت قائمة الحشوية وهيجوا الناس عليه واتهموه بالوهابية، حتى اضطر لمغادرة دمشق، ولزم القاسمي بيته ثلاثة شهور أما البيطار فبقي 130 يوما لم يخرج من بيته، وذلك خوفا من أن يتعرضا لاعتداء من أحد في الشارع.

    وقد نظم الأمير عادل أرسلان شقيق أمير البيان الأمير شكيب أرسلان قصيدة يسخر بها من هؤلاء الحشوية، وتكشف عن عمق الروابط بين المصلحين في ذلك الزمان قال فيها:

    يا أيها الفقهاء أول من درى *** أن البطاطا شرح متن البامية
    إني رأيت الشورباء حزينة *** أضحت على أذيالكم مترامية
    فكلوا المحاشي والمواشي جملة *** تهتز من فوق بقول نامية
    أظننتم الدستور حرم أكلها *** لا والذي خلق العقول السامية
    ما دخل وهابيتي في أمركم *** ماذا اخترمت لتنكروا إسلاميه
    هي شيعة لا تشتم الكوسا فما *** الداعي لتكفيري ودق عظامية
    ماخنتكم في صحبة المحشي *** ولا أفسدت بالتقليل منه صياميه

    هذه الحوادث تعطينا تصورا عن الأحوال التي كان يعيشها القاسمي ورفاقه من قبل الجهلة والمبتدعة، والذين كانوا رافضين لنشر العلم وفتح باب الاجتهاد.

    أما ما تعرض له القاسمي ورفاقه من تنكيل من قبل الحكومة في عهد السلطان عبد الحميد وحكومة الاتحاد والترقي فقد كان شديداً، ففي عام 1327 يتهم القاسمي والبيطار بالتحريض على تأسيس جمعية النهضة السورية المناهضة لحكم الاتحاديين والمطالبة بالاستقلال الإداري وقيام حكومة عربية، وأنهم على صلة بأمراء من نجد، فأنكر هذه التهم وبين عدم صلته بجمعية النهضة، والتي كان رئيسها محب الدين الخطيب وسكرتيرها صلاح القاسمي شقيقه الأصغر!

    دور القاسمي الإصلاحي:

    برغم حياة القاسمي القصيرة حيت عاش 49 سنة فقط وكانت مليئة بالحوادث والمحن، إلا أنه عُدّ علامة الشام، فقد وفقه الله عز وجل مبكراً لطلب العلم والاطلاع الواسع ومنحه الذكاء الحاد، ويسر له معرفة منهج السلف والحق مبكرا وهو شاب.

    وهذا كله جعل تأثير القاسمي ممتداً لليوم، فقد تمثل الدور الإصلاحي للقاسمي في ثلاثة محاور:

    1- نشر الكتب المهمة لعلماء الأمة، وتأليف الكتب المهمة لحياة الأمة اليوم:

    يلخص لنا القاسمي رؤيته لدور الكتاب في نهضة الأمة ونشر منهج الحق في رسالة للشيخ محمد نصيف، من أعيان مدينة جُدة يحثه فيها على طباعة الكتب فيقول: "ولا يخفى فضلكم أن أعظم واسطة لنشر المذهب السلفي هو طبع كتبه، وأن كتاباً واحداً تتناوله الأيدي على طبقاتها خير من مئة داعٍ وخطيب، لأن الكتاب يبقى أثره، ويأخذه الموافق والمخالف، وأعرف كثيراً من الجامدين اهتدوا بواسطة ما طبعناه ونشرناه، اهتداء ما كان يظن، والحمد لله على ذلك".

    ويبدو أن تحول القاسمي لمنهج السلف أصلاً كان بسبب بعض الكتب التي كان الشيخ طاهر الجزائري ينشرها. ويمكن أن نتحدث عن اهتمام القاسمي بالكتب في النقاط التالية:

    أ – حرص القاسمي على نشر الكتب النافعة وخاصة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وكان هذا غالب موضوعات رسائله للعلامة الآلوسي، وقد نصحه الآلوسي مراسلة الشيخ نصيف بخصوص طباعة آثار ابن تيمية، فكتب له القاسمي سنة 1327هـ: " أخي تعلمون أن شيخ الإسلام توفي بدمشق وأن رسائله بحمد الله معظمها والحمد لله في دمشق، وإن فقد منها شيء أو طار من الشام لغيرها إلا أن في المكتبة العمومية – يقصد المكتبة الظاهرية التي أسسها طاهر الجزائري- عندنا من رسائله وقواعده في كتاب " الكواكب" الذي جمعه الشيخ ابن عروة، وكتب فيه جملة وافرة من تآليف شيخ الإسلام وبها ما يكفي ويشفي... فإن رأيتم أن نسعى لنسخ كل ما هو عندنا بالشام بحيث لا نبقي له – قدس الله روحه – شيئاً يكون ذلك من أكبر حسناتكم".

    ب - كما أن القاسمي كان يحث بعض الأمراء والملوك على طباعة الكتب ونشرها بين العلماء، كما فعل مع سلطان مراكش حين زار دمشق.

    ج - وكان القاسمي يحرص على طباعة كتب بعض العلماء المتبوعين من المقلدة والمتعصبة، انظر ماذا كتب القاسمي لأحد أصدقائه في رسالة سنة 1328: "ظفرنا بنسخة ورسالة مهمة للبركوي، انتصر فيها للشيخين فيما ذهب إليه، لا بل زاد عليهما كما ترون من مطالعتها، وقد عانيت كثيراً في تصحيحها، لأن الأصل المطبوع محرف للغاية.

    وهذه الرسالة تأثيرها على الجامدين والجهمية أكثر من تأثير مؤلفات الشيخين في الموضوع، لأن الإمام البركوي شهرته عظيمة، ولا يظن الجامدون بمثله أن يصدع بما صدع به، لأنهم يحسبون أن هذا البحث لم ينفرد به إلا الحنابلة، وأما رجل حنفي تركي يوافق على ذلك، فلا يخالونه، إلا أن هذا الرجل - رضي الله عنه- لقد أبان عن فضل عظيم، ودين قويم، وقلب سليم".

    د - أما كتب القاسمي نفسه فقد زادت عن مئة كتاب، وغالبها مما يحتاجه الناس ويسد ثغرة عندهم ويقدم بديلاً عن الباطل الذي اعتادوه، ومن أمثلة ذلك:

    - كتاباه "منتخب التوسلات" و"الأوراد المأثورة": فحين وجد أن الناس تتمسك بأوراد للقطب الفلاني والولي العلاني، رغب بأن يستبدل لهم ذلك بأدعية من القرآن وأدعية الفرج بعد الشدة، وسماها "منتخب التوسلات" وذلك في سنة 1315. ثم جمع أوراد الصباح والمساء وما يقال في السَّحر مما صحح وثبت، وسماها "الأوراد المأثورة" في سنة 1319، وكتب القاسمي عن ذلك: "وحبذا اليوم الذي نرى فيه لا ينتشر إلا المأثور، ولا يعتقد إلا الحق، وما ذلك على الله بعزيز"، والحمد لله اليوم غالب الفضائيات والإذاعات تنشر ما ورد في السنة الصحيحة مما تقر به عين القاسمي ولعلها تكون في ميزان حسناته إن شاء الله.

    - كتابه دلائل التوحيد: وقد كتبه سنة 1326 رداً على مقال في صحيفة المؤيد تتضمن إنكار وجود الله وبعض الشبه عن الإسلام، وذلك حين رفض أحد كبار علماء الشام الرد بمقال على المقال الذى انتشر في آلاف النسخ من الجريدة، واكتفى بالرد عليه في درسه بالمسجد الأموي!! وهذا المنطق الأعوج لا يزال لليوم هناك من يسير عليه! أما القاسمي فقد انتصب للدفاع والرد بكتاب يطبع بالآلاف ويكون بين يدى الناس الذين يحتاجونه وهم المثقفون الذين يقرؤون الجرائد التي تنتشر فيها هذه التفاهات.


    - كتابه قواعد التحديث: وقد صنفه عام 1320 وراجعه مع الجزائري سنة 1324 وطبع 1352 سنة، أي بعد وفاته بعشرين سنة. والكتاب يقوم على جمع كلام العلماء السابقين، وهو ما عابه محمد كرد علي على القاسمي، لكن حجة القاسمي أنه أراد أن يجابه المتعصبة الجامدين الحشويين الرافضين للبحث في الأحاديث وتمييز الصحيح من السقيم بأقوال علمائهم المتبوعين والمشهورين.

    - شذرة من السيرة النبوية: رسالة صغيرة ألفها وطبعها في مطبعة المنار أثناء زيارته للقاهرة سنة 1321، وكان الغرض منها أن يكون بديلاً لما يقرأ في الموالد من كتب بدعية تحتوي على الكثير من الخرافات والأكاذيب.

    وهي من فصلين: إعجاز القرآن، وغرر من الوصايا النبوية، وختمها بأربع فوائد: أصل قصة المولد، التحذير من البدع في تلاوة قصة المولد، حكم القيام عند ذكر الولادة، من أحدث المولد.

    - إصلاح المساجد من البدع والعوائد: وذكر القاسمي أن سبب تأليف هذا الكتاب هو كثرة البدع في المساجد، مما جعل إزالتها أولوية لدى المصلحين.

    - موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين: كان القاسمي لما زار مصر سنة 1321 برفقة الشيخ عبد الرزاق البيطار التقى بالشيخ محمد عبده، وحضر بعض دروسه وزاره في بيته وأصبح بينهما صلة قوية على غرار صلة البيطار بعبده الوثيقة من قبل، ومن الأشياء التي سأل عنها القاسمي عبده: هل هناك كتاب تنصح أن ندرسه للعامة؟ فكان جواب محمد عبده: إن أحسن ما ينفع العامة كتب الغزالي بشرط تجريدها من الواهيات. ويبدو أن هذا صادف قبولا وقناعة سابقة للقاسمي تجاه كتب الغزالي، ولذلك فبعد عودته بسنتين شرع في اختصار كتاب إحياء علوم الدين وأخرج لنا كتابه المتميز "موعظة المؤمنين".

    - قاموس الصناعات الشامية: من حرص القاسمي على التأليف ونفع المسلمين ومن بره بأبيه أنه اقترح عليه تأليف كتاب في نهاية حياته حول الصناعات والحرف في الشام، فسأله أبوه كيف أفعل؟ فأجابه: تستأجر دابة وتذهب لمحل الحرفيين وتسجل أسماء الصناعات والحرف ثم تدرسها. وقد فعل والده ذلك، لكنه مات وقد وصل لحرف السين، فأتمه جمال وزوج شقيقته خليل العظم.

    وقد أصبح هذا الكتاب فريداً في بابه ولم يعرف له مثيل، وهذا يدل على سعة أفق القاسمي واهتمامه بالحياة والصناعة ونهضتها وعلم التاريخ والاجتماع، وقد قامت دراسات تحليلية كثيرة حول الكتاب عربية وغربية.

    - إرشاد الخلق للعمل بخبر البرق: ألفه سنة 1329 لبيان جواز الاعتماد على الوسائل الحديثة للاتصالات في نقل خبر ثبوت شهر رمضان والعيد. وهو مما يدل على معاصرته للقضايا المستجدة ومواكبته للمخترعات الحديثة، وكان طاهر الجزائري قد حثه على تأليفه.

    - الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس: وذلك لبيان حقيقة الطلاق بالثلاثة وأنه لا يقع، وإلا لأصبح غالب الناس أولاد زنا، بسبب قلة دينهم.

    - محاسن التأويل: وهو تفسير قيم كتبه في أربع عشرة سنة، ولم يطبع إلا بعد وفاته بأكثر من أربعين سنة، وقد كانت عائلة القاسمي تعتبره كنزاً، فلما تعرض حيهم للقصف الفرنسي سنة 1925، لم يحمل أولاد القاسمي من بيتهم إلا تفسير والدهم والذي كان في 12 مجلدا بخط القاسمي نفسه، ولم يكن له نسخة أخرى! والتزم القاسمي أن يضمن تفسيره كل ما يقع عليه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم مما يتعلق بتفسير القرآن في موضعه.

    كُتب القاسمي كثيرة ولكن هذه بعضاً منها تدل على سعة أفقه ومعايشته لأحوال أمته، وحرصه على نهضتها ورفعتها من خلال التأليف كوسيلة إصلاحية، لا فائدة دنيوية من ورائها كحالنا اليوم حيث التأليف عند كثيرين وسيلة لمنصب أو ترقية أو مال، يقول القاسمي عن أحد الكتب في رسالة لمحمد نصيف: "ويعلم الحق أني لو أوتيت ما يمكنني القيام بطبعه على نفقتي لما تأخرت في طبع كل ما جمعت، ولكن يكفي (كما يقول الأستاذ طاهر الجزائري) الفقير: أن يجمع ويؤلف..".

    هـ - وكان القاسمي يطلب من بعض طلبته نسخ بعض الكتب ويعطيه أجراً، بدلاً من أن يذله بقبول الصدقة والزكاة. وكان يحث ويشجع بعض طلبته على تأليف الكتب، وقد شجع تلميذه بهجة البيطار على تأليف بعض الكتب وأثنى عليه في رسائله الشخصية لبعض أصدقائه.












    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح

    علاّمة الشام جمال الدين القاسمي [2]

    . أسامه شحادة





    تمهيد:

    في الحلقة الماضية تناولنا نشأة علامة الشام جمال الدين القاسمي ومسيرته في طلب العلم، وتناولنا الدور الأول من أدوار القاسمي الإصلاحية وهو نشر الكتب وتأليفها، ونواصل بيان أدواره الإصلاحية ومسيرته الدعوية.

    دور القاسمي الإصلاحي:

    2- نشره للعلم ورعايته لطلابه وتنشئتهم ليكونوا قادة ودعاة متميزين:

    لقد تميز القاسمي باهتمامه بطلبته ورعايته لهم في مختلف جوانب حياتهم، ولذلك استمروا على الوفاء لمنهج شيخهم بعد وفاته وكانوا قادة الشام وعلماءه. ومن مظاهر اهتمام القاسمي بطلابه ما يلي:

    1- كان القاسمي يدرّس في غالب أوقاته وفي كل مكان، في مسجده وبيته وبيوت أصدقائه وفي الرحلات والمتنزهات، وكان بيته يستقبل أفواج الطلاب من الصباح إلى ما بعد العشاء.

    رثاه أخوه صلاح الدين فقال:


    كان يقضى النهار والليل بالدرس *** ويحيي الأسحار بالتهليل
    قد أذابت حياته لوعة البحـ *** ـث فناب الضلوع داء النحول

    2- كان القاسمي يدرّس جميع الطبقات من العامة والخاصة وطلبة الشريعة وطلاب المدارس العصرية، ولكن كان له عناية خاصة بالأذكياء من طلبته.


    3- كان القاسمي يعامل طلابه على أنهم أصحابه وأصدقاؤه، فيقول في إجازة كتبها لتلميذه: "طلب منى مصاحبنا وقريبنا الشيخ حامد التقي الإجازة".

    4- كان يحث طلبته على النقاش والحوار معه، فمن ذلك قوله لهم: "عليكم أن تفكروا بتفكير خصوم السلفية وتأتوني بحججهم وشبههم لأرد عليها".

    5- كان يعدّ طلابه ليكونوا دعاة وموجهين للمجتمع، فلما اشتكى إليه أحدهم أن الناس لا يتقبلون منه تدريسه ووعظه وأنه يريد العودة للدراسة على الشيخ، كتب إليه يقول: "إنني علمتك السنين الطويلة لترينا خدمتك للعلم وآثارك في مثل هذه البلاد المتعطشة لأمثالك فاثبت في وظيفتك".

    6- كان القاسمي يهتم جداً بتحلي طلابه بالأدب والعقل والذكاء، ولكنه يعرف أن هذا يحتاج إلى تفاعل الطالب مع شيخه، ولذلك نبه القاسمي أحد طلابه بقوله: "بقي علم لا أستطيع تعليمك إياه وهو أن تكون ذكياً بحاثاً لبقاً، فكن من نفسك كذلك".

    7- كان يحرص على أن يتيح لطلبته الالتقاء بالعلماء والمصلحين الذين يزورونه حتى يرفع من سويّتهم العلمية، وحتى يستفيدوا من أكثر من شيخ ولا يكونوا أسرى لأسلوبه وطريقته.

    8 - ضرب القاسمي للناس المثل بنفسه بطلب العلم وتعليمه، فلما جاءه عبدالوهاب الإنكليزي وصادق النقشبندي وهما من خريجي المدارس العصرية لتعلم ما ينقصهم من علوم الدين، طلب منهم القاسمي أن يدرسوه ما ينقصه من علوم الدنيا، فدرس عليهم الجغرافيا والرياضيات، رغم أنهم من جيل طلابه وتلاميذه!!

    9- وكانت النتيجة أن طلاب القاسمي أكملوا مسيرة شيخهم بنشر الإصلاح والعلم وإقامة الجمعيات الثقافية ونشر المؤلفات النافعة مما أحدث نهضة إصلاحية في الشام قضى عليها حافظ الأسد ببعثيته الدموية وعلويته الطائفية، هذه النهضة لا يزال يتحسر عليها المخلصون.

    10- مما يبين أهمية وجود تلاميذ للمصلحين يحملون دعوتهم ويبرهنون على نجاح مسعاهم، قول القاسمي: "وقد ظهر لي أخيراً شيء آخر: وهو أن حق من يصنف في تراجم الرجال أن لا يُترجم إلا ذوي الأثر أو التأثير، فالأول يدخل فيه من صنف وألف في أي فن كان، بشرط الإجادة لما صنفه أو اخترعه، ما لم يسبق فيه، ويدخل في الثاني كل عالم غير مؤلف، ولكنه أنجب تلامذة، أو وقف نفسه على التعليم في فن أو فنون، وكان سالكاً سبيل السلف في النصح، والصدق، والإخلاص، والأخلاق"، وقد جمع الله عز وجل للقاسمي كل ذلك إن شاء الله.

    طلاب القاسمي:

    قال الأديب حسني كنعان: "تلاميذ العلامة الكبير المرحوم الشيخ جمال الدين القاسمي في دمشق كثيرون، وهم صفوة علماء البلاد الشامية وفضلائها"، ولذلك أرى أنه يمكن أن نقسم طلاب القاسمي إلى ثلاث مجموعات هي:

    أولاً- طلابه الذين أصبحوا من علماء الشام:

    1- العلامة محمد بهجة البيطار: وهو حفيد العلامة عبدالرزاق البيطار، رفيق درب القاسمي، كان من أبرز وأكبر طلاب القاسمي، درس عليه أربع سنوات، تولى الخطابة والتدريس في مسجد الدقاق بأمر من جده البيطار، وعمل مدرساً في عدد من المدارس الأهلية والنظامية، فدرس الدين والعربية والفرنسية، وكان عضوا بمجمع اللغة العربية بدمشق، وكانت باكورة أعماله في المجمع محاضرة عن "حياة شيخ الإسلام ابن تيمية"، طلب منه الملك عبدالعزيز بن سعود سنة 1344هـ إدارة المعهد العلمي بمكة المكرمة، فأقام بها سنين ودرس بالحرم المكي والمدنى، وأصبح عضوا بمحكمة مكة المكرمة، وسنفصل في سيرته في حلقة خاصة.


    قال عنه ظافر ابن العلامة جمال القاسمي: "كان تلميذاً لوالدي جمال الدين القاسمي، لا بل كان من أخص تلاميذه، إن لم يكن أخصهم على الإطلاق".

    وقال ولده عاصم البيطار عن علاقة أبيه بشيخه القاسمي: "غرس في نفسه حب السلفية ونقاء العقيدة والبعد عن الزيف والقشور وحسن الانتفاع بالوقت".

    قال في شيخه القاسمي: "ولو طال عمره لرأينا من آثاره النافعة أكثر مما رأينا، ومن نفاسة تآليفه فوق ما شاهدنا، فإن الإستاذ كان في تجدد مستمر، استمده من علوم العصر وحقائقه، وانكشف له به عن كثير من أسرار الشريعة وغوامضها". وقال أيضاً: "أستاذنا الإمام، عالم الشام، وعلم الأعلام"، وكان يذكر شيخه القاسمي دوما ويترحم عليه، ولذلك سارع إلى مساعدة تلميذه ظافر القاسمي في نشر تراث أبيه خاصة كتاب (قواعد التحديث)، وتفسير القاسمي (محاسن التأويل).

    2- الشيخ حامد التقي: كان من أقارب القاسمي وأسن طلابه، درس عليه ولازمه 17 سنة، ولذلك كان من أعرف الناس بشيخه، واصل حمل رسالة شيخه الإصلاحية في التدريس والخطابة في المساجد والتعليم في المدارس، وكان كثير الثناء والمدح للقاسمي حتى سأله سائل: ألا يوجد عالم في دمشق سوى شيخك القاسمي؟ فأجابه: بلى يوجد في دمشق كثير من العلماء... ولكن هؤلاء العلماء على كثرتهم لم يقم منهم أحد بجهد علمي مثل الجهود التي قام بها أستاذنا المرحوم، فكان مدرساً وواعظاً، وخطيباً وموجهاً، ومصلحاً ومؤلفاً،... وكان إلى هذا يدرس بالمسجد للعامة وفي البيت للخاصة، والحلقة التي يعقدها في داره يؤمه فيها كبار الشخصيات السورية الذين لهم صيتهم وشهرتهم بالأقطار العربية والعالم الإسلامي، أمثال السادة المرحومين: الأمير شكيب أرسلان، والشيخ طاهر الجزائري للمشاركة في التوجيه، وعبدالرحمن الشهبندر، ومحمد كرد علي، والشيخ جميل الشطي. أ.هـ

    ومن تلاميذ الشيخ حامد: الشيخ علي الصابوني والشيخ محمد مهدى إستانبولي.

    3- الشيخ توفيق البرزة: كان من طلاب القاسمي المبرزين والذين كان القاسمي يستشيرهم في المسائل والقضايا، درس أيضاً على الشيخ كامل القصاب رفيق الشيخ عز الدين القسام، واشتهر بالدفاع والمناظرة عن الإسلام ضد شبهات المستشرقين والمنحرفين من أهل البدع.

    قال عن القاسمي: "إن من يلازمه ويرى علمه وسيرته، قلّ أن يعجبه كثير من الشيوخ الذين يدعون التربية وهم غلاظ الأكباد، قساة القلوب".

    4- الشيخ عبدالفتاح الإمام: لازم القاسمي زماناً وأصبح من حملة منهج وفكر القاسمي الإصلاحي، كان يشبه العلامة طاهر الجزائري في هيئته البسيطة والمتواضعة وترك الزواج، اهتم بالشأن العام وتأسيس الجمعيات وحث الناس كثيراً على ذلك ثم كان من المؤسسين لجمعية "التمدن الإسلامي" وكتب في مجلتها "التمدن الإسلامي" مقالات قوية، وشارك أيضاً في تأسيس جمعية "أنصار الفضيلة"، وجمعية "الشبان المسلمين" وأصبح رئيساً لها، تفرغ للكتابة والتأليف ونشر الكتب، وكان حريصاً على الدفاع عن الإسلام في وجه خصومه في تلك المرحلة التي وفدت فيها الأفكار الغربية للشام.

    5- الشيخ محمد جميل الشطي: لازم القاسمي واستفاد منه كثيرا، وأصبح مفتي الحنابلة في زمانه. قال في رثاء شيخه القاسمي:

    مهلاً عداة المصلحين عدمتكم *** إنى لكم والله غير مسالم
    ها نحن بالمرصاد أنصار الهدى *** ندعو إلى الجولان كل مزاحم
    إن كان مات القاسمي فإنكم *** سترون منا كل يوم قاسمي
    نحمي طريقته ونرعى عهده *** في الحق لا نخشى ملامة لائم

    ثانيا- تلاميذه الذين أصبحوا علماء في بلادهم:

    1- الشيخ محمد بخيت المطيعي: مفتي الديار المصرية، التقي بالقاسمي ودرس عليه العلوم الفلسفية لما زار القاهرة.

    2- العلامة أحمد شاكر: محدث الديار المصرية، لازم القاسمي في القاهرة، يقول أحمد شاكر: "أستاذنا القاسمي رحمه الله كنت ممن اتصل به من طلاب العلم، ولزم حضرته، واستفاد من توجيهه إلى الطريق السوي، والسبيل القويم".

    3- الشيخ عبد العزيز السناني: من علماء نجد، رحل إلى القاسمي وأخذ عنه واستمرت بينهما المراسلة.

    4- الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع: من علماء نجد، زار دمشق ولازم القاسمي فيها مدة ودرس عليه ورغّبه بالعلم.

    ثالثاً – من الشخصيات العامة التي تأثرت بدعوته ومؤلفاته:

    كان للقاسمي لقاءات وجلسات عامة مع كثير من النخب والشباب الذكي النابه الذين درسوا في المدارس العصرية التابعة للإرساليات التبشيرية أو الدولة والتي لم تكن تهتم بالعلوم الشرعية، أو في الجامعات، كما تأثر الكثير منهم بكتب القاسمي، وذلك أن القاسمي كان يدرك مدى أهمية كسب هؤلاء الشباب الذكي المتعلم لصف الإصلاح الإسلامي في مقاومة الخرافة والجهل في الداخل والغزو الفكري الأوروبي الوافد.


    وكانت علاقة القاسمي بهم لا تقتصر على التعليم بل حتى التشجيع على الكتابة ومراجعة ما ينشرون، فيكتب القاسمي في يومياته: "زارنى بعد العشاء سليم أفندي الجزائري ومعه أسعد أفندي بنباشي وبقية رفقتهم، وتم ما صححته له من مقالة (ميزان التعقل)، وفيها عبارات أشرت عليه بحذفها، والاستعاضة عنها. فلا أدري أيمتثل أم لا! نسأله تعالى أن يجعل كُتابنا ونبهاءنا ممن يعضد الدين، ويدعم قواعد اليقين، ويوقف نفسه على محاسن الإسلام، بمنّه وكرمه".


    من أبرز هؤلاء الشباب:

    1- العلامة محب الدين الخطيب: صاحب المطبعة السلفية ومكتبتها والذي كان له دور بارز في تأسيس مسيرة الصحوة الإسلامية المعاصرة، كان محب الدين صديق شقيق القاسمي الأصغر صلاح الدين، وكان محب الدين مؤسس جمعية النهضة والتي كان صلاح الدين أمين السر فيها، وبسبب مشاركة شقيق القاسمي فيها وصغر سن المؤسسين لها حيث كانوا في العشرين من عمرهم فقد تم اتهام القاسمي واستجوابه من قبل وزارة العدل بدمشق بأنه المحرض والمدبر للجمعية من وراء الكواليس، وهو الأمر الذي نفاه القاسمي، ولكن بالتأكيد أن القاسمي كان راضياً عن الجمعية وأعمالها، وهو ما سيتأكد لاحقاً بدعم القاسمي لمسار أخيه السياسي- الذي تولى رعايته وتنشئته- حين أعلن عودة الدستور سنة 1326هـ وانضمامه لبعض الأحزاب.

    وقد كان محب الدين يحضر بعض جلسات حلقة الشيخ طاهر الجزائري والتي يشارك بها القاسمي، وكان يتردد محب الدين على مدرسة عبدالله باشا التي يدرس بها القاسمي، وكان يلتقي به في بيته مع زملائه الشباب في الإجازات التي يقضونها في دمشق بعد سفرهم للدراسة في إسطنبول.

    كتب محب الدين لزميله صلاح الدين معزيا له في وفاة القاسمي فقال: "ذاكرين الليالي الجميلة التي جمعتني وإياك بجامعة الصداقة والإخاء بين جدران جامع السنانية، وفي حلقة الدرس الذي كان فقيد دولة الإصلاح جمال الدين يخترق فيه بحكمته سجف أرواحنا، وحجب أفئدتنا، فيبني هناك ما هدمه جهل معلمينا الآخرين من سعادة الإيمان وطمأنينة اليقين، جزاه الله عن الإسلام بأحسن ما يجزي الله به أولياءه".

    ويقول عن فضل القاسمي عليه: " لولا أن الله سبحانه تداركنا فقيض لنا آباء روحيين أنقذونا من هذا الجو الخانق، وأقربهم إلى أخي صلاح الدين شقيقه الأكبر علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي وإخوان له في حلقة نورانية كانت تسمى "حلقة الشيخ طاهر الجزائري"".

    ويصف الخطيب دور القاسمي فيقول: "والسيد جمال الدين القاسمي رحمه الله مصباح من مصابيح الإصلاح الإسلامي التي ارتفعت فوق دياجير حياتنا الحاضرة في الثلث الأول من القرن الهجري الرابع عشر فنفع الله بعلمه وعمله ما شاء أن ينفعهم، ثم انتقل إلى رحمة الله تاركاً من آثاره العلمية المطبوعة ما لا تكاد تخلو منه مكتبة قائل بالإصلاح في العالم الإسلامي".

    2- الأستاذ خير الدين الزركلي: المؤرخ المشهور صاحب كتاب (الأعلام)، تعرف على القاسمي من كتبه وخاصة كتابه "دلائل التوحيد"، ثم التقى به واستفاد منه كثيراً، ترجم له في كتابه الإعلام فقال: "إمام الشام في عصره، علماً بالدين، وتضلعاً من فنون الأدب، كان سلفي العقيدة، اتهمه حسدته بتأسيس مذهب جديد في الدين سموه: "المذهب الجمالي"، فقبضت عليه الحكومة سنة (1313هـ) وسألته، فرد التهمة، فأخلي سبيله، واعتذر إليه والي دمشق".

    وأكتفي بهؤلاء من قائمة طويلة تضم د.عبدالرحمن شهبندر الذي أصبح وزير خارجية سوريا سنة 1920، وشكري العسلي الذي أصبح النائب في مجلس المبعوثان وكان من القادة الذين أعدمهم جمال باشا السفاح في دمشق سنة 1916م، وفارس الخوري المسيحي الذي شارك في تأسيس المجمع العلمي بدمشق وأصبح وزيراً وممثل سوريا في مجلس الأمن وترأسه فترة وتولى رئاسة حكومة سوريا وكان وطنياً فريداً، ومحمد كرد علي العلامة اللغوي المعروف، وغيرهم من المصلحين والأعلام الذين استفادوا من القاسمي ومنهجه وعلمه.

    3- فتح باب الاجتهاد والعمل على مواكبة قضايا العصر وتقديم حلول لمشاكله

    هذا هو المحور الثالث من محاور الإصلاح الذي قام به القاسمي، فالاجتهاد وكسر الجمود والتقليد ومعالجة المشاكل العصرية كانت هي المهيمنة على مسار القاسمي، فلم يكن يقبل بالانزواء عن حياة الناس وقضاياهم، بل كان يدرك تماماً وظيفة العالم في إرشاد الخلق وهدايتهم ودوره الطليعي في قيادة الجماهير لا الركض خلفها.

    وأجمل بعض معالم هذا الدور الإصلاحي في النقاط التالية:

    1- مواكبة العلوم والمعارف العصرية، ولذلك كان يحرص على مطالعة المجلات والصحف، ومتابعة أخبار المخترعات العصرية، وكان القاسمي يقول: "أسباب الرقي انتشار هذه الثلاثة: المطابع والجرائد والمدارس إذا وجهت توجيهاً صحيحاً".


    ومن ذلك قصته في إدراك فائدة الهاتف حين قام بزيارة لمنزل الشيخ محمد عبده مفتي مصر في مصر (سنة 1321هـ /1904م) دون موعد سابق فلم يجده وكان بعيدا،ً فتأسف على ضياع الوقت – وهو الحريص على وقته – بينما صديق له اتصل بمنزل المفتي وعلم أنه غير موجود فلم يذهب، فعلق القاسمي على ذلك في كتابه عن رحلته لمصر: "فتوفر له الأجرة التي صرفت، والوقت الذي أضعناه، وهذه ثمرة العلوم المكتشفة، والتي عادت على الناس بفوائد لا تحصى".

    ويعلق القاسمي على اكتشاف التلغراف فيقول: "ما ظهر من التلغراف هو قطرة من بحر ما سيظهر في العصور التالية من المكتشفات والمخترعات (ويخلق ما لا تعلمون) مما فيه مرتفق للناس، ومنتفع لهم، وخدمة لعامة طبقاتهم"، فيكشف القاسمي بذلك عن بصيرة نورانية ترتبط بالقرآن الكريم وتحلق في سماء العلم والتقدم.

    2- كان القاسمي متابعاً للأفكار الجديدة في السياسة والاقتصاد كما كان دارساً للأفكار القديمة لأهل البدع، يقول القاسمي عن نبز الجامدين للمصلحين: "وإن رأوا حثه على البذل والإنفاق في سبيل الله، ودعواه الموسرين للعطف على البؤساء، لقبوه اشتراكياً"، مما يدل على معرفته لمفهوم الاشتراكية في ذلك الزمان المتقدم!!

    وعلى نفس المنوال نجد القاسمي في كتابه "جوامع الآداب" يفصل في آداب النائب البرلماني لمجلس المبعوثان العثماني فيقول: "النائب مشرع للقوانين أول ما تجب عليه معرفته أن يحسن علم الحقوق ويعرف حركة المجالس النيابية عند الأمم الراقية ويحسن تاريخ أمته واجتماعها ويعرف ما يدليها ويرفعها ويدرك علائق حكومتنا بحكومات أوروبا وما تم بينا وبينها من المعاهدات وما نالوه منا من الامتيازات ويكون قادراً على الاستخراج من كتب السياسة والإدارة والقضاء بإحدى اللغات الأجنبية". مما يدل على عميق إدراك القاسمي للعملية الديمقراطية وآلياتها مبكراً.

    3- كان القاسمي على منهج الأنبياء في إصلاح دين الناس ودنياهم، فلم يكتفِ بتعليم الدين ووعظ المسلمين، بل كان يحرص على إصلاح حال المسلمين بإرشادهم لاستخدام الوسائل العصرية في شؤون دينهم ودنياهم، فها هو القاسمي يؤلف كتاب "إرشاد الخلق للعمل بخبر البرق" وكتاب "فتاوى الأشراف بالعمل بالتلغراف"، لتسخير الوسائل الحديثة للاتصالات في خدمة الإسلام والمسلمين.

    وبالمقابل نجد القاسمي يحث الناس على استخدام السماد الكيماوي بأنواعه والآلات الزراعية وضرورة مكافحة الآفات والحشرات المضرة بالزراعة، مما يساعد على نمو الزراعة والعمران في الشام، ومن أجل هذا حث والده على تأليف كتاب قاموس الصناعات الشامية والذي يعد لليوم فريداً في بابه.

    ولما زار المدينة المنورة كتب في وصف رحلته يقول: "والمدينة في حاجة كبرى إلى مصلح، وأمير غيور، يسعى في تنوير طرقها، واتساع عمرانها، وتمهيد سبل رقيها المادي والأدبي".

    4- كان القاسمي مؤيداً لسنّ دستور للدولة العثمانية يتم من خلاله تحديد المسؤوليات والحقوق للناس والحكومة والسلطان، ولذلك حين أعلن الدستور سنة 1326هـ /1908م أيده القاسمي ونقد الذين عارضوا الدستور العثماني من بعض العلماء المأجورين أتباع أبي الهدي الصيادي والذين روجو أن الدستور يحتوي على مخالفات شرعية فتصدى لهم القاسمي وبين أن الدستور والقانون يشبهان الفروع المدونة في كتب الفقه التي مأخوذها الاجتهاد من المصادر الأربعة: الكتاب والسنة والقياس والإجماع، وأنه قام به علماء بالشرع لهم.

    وقد حضر القاسمي حفلاً بمناسبة إعلان الدستور لحزب الأحرار ألقي فيه صلاح القاسمي كلمة بعنوان "منزلة القانون من الدين" ووجد ظافر القاسمي مسودة الخطاب بخط أبيه جمال القاسمي!!

    وقد فرح القاسمي بزوال حالة الخوف والكبت وشيوع الحرية للبحث والعلم والدعوة التي تدعم انتشار الإصلاح، وهو حال يشابه حالنا اليوم بازدياد مساحة حرية التعبير والدعوة ونسأل الله تعالى أن يجنبنا حالة الكبت من جديد بسبب المكائد والمؤامرات التي يحيكها بعض الفاسدين في الداخل بحثّ من الأعداء في الخارج والغفلة عن ذلك من قبل المسلمين، كما حدث للشام بعد حكم الاتحاديين حتى ترحم الناس على السلطان عبد الحميد وعرفوا فضله!!

    5- حث القاسمي المصلحين على تولي المناصب والمسؤوليات العامة من أجل دعم حركة الإصلاح وعدم ترك المجال للمفسدين، فنراه يكاتب أحد أصدقائه مصبراً إياه على البقاء في منصبه فيقول: "ولا أحب أن تظهروا الاستقالة، أو التأفف.... وهكذا مشربي ونصيحتي لإخواني الذين يستشيروني في الاستقالة من المناصب في الحكومة، مع علمي أن بقاءهم رحمة، وأنه لا يأتي خلف لهم يحاكيهم، ولربما كانت استقالة المصلح أو الخيّر أو التقي بلاء، وثلمة لا تسد.

    فوجود الكامل في وظيفة أو منصب يعلم الناس كيف يكون الكمال، كيف يكون الورع، كيف تكون الرحمة بالناس، كيف تكون المعاملة بالحسنى، وهكذا... فالحمد لله الذي أرانا أناساً يقتدى بفعالهم مثلكم"، وهذا الخطاب كأنه موجه اليوم لإخواننا من الإسلاميين الذي وصلوا لسدة الحكم في عدد من البلاد، فعليهم أن يتقوا الله ربهم ويحسنوا إلى عباده فينالوا أجر الإتقان وأداء الأمانة، وأجر الدعوة للخير وتقديم الأسوة الحسنة.

    وحدث أن دخل القاسمي على شيخه بكري العطار فرآه مضطرباً، بسبب موظف بالمحكمة الشرعية يعطل معاملة له عنده من شهر من أجل الحصول على رشوة، فإذا كنت أنا شيخ علماء دمشق لا أستطيع تمرير معاملة إلا برشوة، فكيف يصنع عامة الناس.

    فعاتبه القاسمي وقال له: "قد عاملك بما تستحق، لأن ديدنك في دروسك العامة والخاصة أنك تنفر الناس من قبول وظائف المحاكم الشرعية وتقول: إن المحاكم "مصاطب" جهنم، فإذا لم يتقدم لطلب أمثال هذه المناصب الأتقياء تقدم الجاهل الفاسد أمثال هذا الرجل الذي تشكو منه.

    فقال له شيخه: أصبت، فإننا نحن مقصرون في عدم قبول هذه الوظائف للقيام بحق العباد.

    6- تبنى الشيخ القاسمي جواز دفع الزكاة للمصالح العامة للمسلمين وأن ذلك يدخل في مصرف (في سبيل الله)، وقد رد على الشيخ رشيد رضا منعه من ذلك وكتب إليه يقول: " فإذن "سبيل الله" كل أمر فيه تقرب إلى الله، فإذا دفع الإنسان من ماله إعانة لمدرس، أو طريق، أو مشروع خيري، أو طبع كتاباً، أو اشترى شيئاً منها لمحتاج، أو نحوه فكله في سبيل الله يجوز حسبانه من الزكاة المفروضة.... وهذه الفتوى تسهل على كثير من الأغنياء الدفع من أموالهم لبعض المهمات التي يحتاج إليها، ويحسبونه أنه لا يحسب من زكاتهم، فيتوقفون أو يدفعون على كره".

    7- في مطلع القرن العشرين أعلنت اليابان أنها ستعيد النظر في وضعها الديني وتبحث عن دين يلبي حاجة اليابانيين الذين اهتزت قناعاتهم بالبوذية والوثنية بسبب تطور الحالة العلمية والعقلية للشعب الياباني المتجه باطراد نحو الصناعة والتقدم والرقي.

    وقد شغل ذلك فكر القاسمي وعدد من العلماء، فكتب القاسمي في يومياته يقول: "زرت في الضحوة الشيخ عبدالله الخاني، وكانت المذاكرة أهمها في إسلام اليابان وأن الأولى انتخاب رجال أكفاء حكماء من كل بلدة مهمة من بلاد الدولة، يتعاضدون ويتذاكرون، ويكتبون جداول في مزايا الإسلام، ورفع الشبه الحديثة والقديمة التي يختلقها أعداؤه، وأن يستفيدوا بمبادلة آرائهم ما يعود عليهم بالفائدة، وإلا فوجود جماعة قليلين رسمياً قد لا يجدي. والله العليم"، مما ينبئ عن شعور عالٍ بالمسؤولية عن نشر الإسلام في ربوع الدنيا.

    وكتب القاسمي في رسالة لأحد رفاقه يقول: "لما جمعت الهمة للرد على الدهريين في كتابهم المرسل من اليابان، أعياني أن أجد ضالتي في الكتب المتداولة، إذ رأيتها كأنها جمعت لزمن غير هذا الزمان، أو لبلاد غير هذه البلاد، فطفقت أنقب وأبحث عما يرد الشبه تلك الضالة"، فخرج لنا بكتابه الرائع (دلائل التوحيد).

    8- ومما تميز به القاسمي مخالطة الناس ومعرفة حاجاتهم والتيسير عليهم بترك الجمود والتعصب الفقهي دون دليل بالفتوى الميسرة المقرونة بالدليل الشرعي، ففي كتابه (المسح على الجوربين) يشير القاسمي لأثر التشدد بدون حق في منع المسح على الخفين على الصغار من تلاميذ المدارس فيقول: "رثى بعض أساتذة المدارس ما يعانيه الأطفال والبنات في الوضوء أيام الشتاء من مشقة غسل الرجلين، وما ينالها من الألم والبرودة... قيل لو أنهم يعلمون رخصة لتيسر لهم الأمر، وترفع عنهم الإصر، لما وجدوا عذراً في ترك الصلاة التي هي من أعظم دعائم الإيمان وأشهر شعائر الإسلام". وقد لا يفهم البعض أهمية هذا التيسير لأنه لم يعش زمن التعصب المقيت الذي كان يبطل صلاة من مسح على الخفين والجوارب مما جعل الكثير يتفلت من الصلاة هرباً من مشقة الوضوء في البرد!!

    9- بمخالطة الناس أدرك القاسمي عجز القضاء الشرعي الجامد على التقليد الرافض للاجتهاد عن حل مشاكل الناس بسبب تمسكه بأقوال الرجال بدلاً من نصوص الوحي، فدعا إلى إصلاح القضاء وألف في ذلك كتابه (أوامر في إصلاح القضاء الشرعي في تنفيذ بعض العقود على مذهب الشافعية وغيرهم"، ولذلك دعا إلى اجتهاد القاضي والاعتماد على الدليل الصحيح وعدم الالتزام بالمذهب فقط، ودعا إلى اعتماد كافة المذاهب في القضاء وعدم قصرها على المذهب الحنفي وهو ما استجابت له حكومة الباب العالي بالدولة العثمانية.

    ونكتفي بهذه الملامح من الدور الإصلاحي الاجتهادي الذي قام به جمال الدين القاسمي رحمه الله.


    وقفة مع المآخذات على القاسمي:

    أخذ على القاسمي في زمنه واليوم أناس من قصيري النظر بعض الاجتهادات والأقوال التي تخالف منهج السلف كدفاعه عن الجهم بن صفوان في كتابه (تاريخ الجهمية)، وكذلك ثنائه على ابن عربي، وميله للتقريب مع الشيعة والتهوين من شأنهم، ومسائل أخرى.

    وبداية أقول لا شك أن القاسمي أخطأ في هذه المسائل، ولكن هل هذا يجعله دخيلا على السلفية، والسلفية منه براء!!

    لماذا نفترض العصمة والكمال للبشر؟ القاسمي كغيره من العلماء يصيب ويخطئ، ومن المقرر أن الخطأ في المسائل العلمية والعملية مما يغفر للعلماء والمجتهدين، فلماذا التشنيع والنكال؟!

    وحال القاسمي تقدم له الكثير من العذر والمسامحة على هذه الزلات، فهو قد نشأ على خلاف منهج السلف ثم تعرف عليه في وقت غربة وشدة، وثانيا مات شاباً لم يمتد به الحياة ليدرك خطأه في تلك المسائل، وكان في وقت لا زالت فيه كثير من المخطوطات التي تبين الصواب والحق غير متوفرة، وأخيراً فإن هذه المسائل لم تكن عمدة منهجه ولا هي مما قام طلابه بنشرها بل طويت ولم تجد من يحملها وينشرها.

    وأظن أن نفسية القاسمي التي عانت من الاضطهاد السياسي في الحقبة الحميدية جعلته يتعاطف مع جهم والجعد بوصفه مثقفا مضطهدا كحال القاسمي ضد الوالي خالد القسري الظالم!! وأما تساهله مع الشيعة فكان بسبب طمعه في محاولة جمع كلمة الأمة الإسلامية المشتتة ضد خصومها الذين يقضمون أطرافها كل يوم، ولنتذكر أنه كان يناقش في كتابة "نقد النصائح الكافية" بعض شيعة حضرموت المقيمين في أندونيسيا، وكان هذا مسلك رشيد رضا، ولكن ظهر فيما بعد لرشيد رضا أنه لا أمل من الشيعة وتقريبهم فنبذهم، فيما لم يمتد العمر بالقاسمي!

    وفاته:
    توفي رحمه الله تعالي في 23 جمادى الأولى 1332هـ الموافق 18/4/1914م، وكان عمره 49 عاماً، وذلك بعد مرض استمر معه عدة أشهر، ودفن في مقبرة الباب الصغير، وكانت جنازته حافلة جداً، ونعاه أهل العلم في دمشق وبيروت ومصر والعراق. وأكتفي بتعزية العلامة السيد محمود شكري الألوسي للسيد رشيد رضا بوفاة القاسمي، والذي كتب إليه يقول: (أما بعد؛ فقد نعت إلينا صحف البلاد الشامية وفاة العلامة السيد جمال الدين القاسمي قدّس الله روحه الزكية، فأمضّ ذلك الخبر قلبي وأفض لبّي، وجرح فؤادي وطرد رقادي.... وحيث كان المشار إليه من أعزة أحبابكم، وخُلّص أصفيائكم، مع ما كان عليه من الفضل الوافر، والأدب الباهر، والورع الظاهر، والنسب الطاهر، والذب عن الشرع المبين، وقوة الإيمان واليقين، ومناضلة الحائدين والملحدين، وأنه حسبما اعترف له الموافق والمخالف: أحيا به الله الشريعة والهدى وأقام فيه شعائر الإسلام... هذا مع أسفي عليه كل الأسف، وتصاعد أنفاسي بمزيد اللهف، وقد جرت عليه من العيون عيون، فإنّا لله وإنا إليه راجعون).










    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح



    الشيخ المجاهد عز الدين القسام
    أسامه شحادة







    تمهيد:

    إن كان الشيخ المجاهد البطل عز الدين القسام لا يُعرف الكثير عن تفاصيل حياته وسيرته فذلك لأنه لم يدونها أو يترك خلفه شيئا يشير إليها، لكنه ترك خلفه أثراً ومنهجاً حياً في الأمة لا تزال تقتدى به الأجيال.

    والعجيب أن سيرة القسام تناولها طرفان قصرا في حقها، فغالب من درس حركة القسام هم اليساريون من أمثال الكاتب الفلسطيني اليساري عبد القادر ياسين الذي قدم الشيخ القسام في كتاباته في قالب اشتراكي ومناضل ثوري ينطلق من جذر طبقي ومتمرد على البرجوازية العفنة ويسعى لبناء دولة اشتراكية! في تغييب كامل للإسلام والدين عن منهج القسام وحركته.


    وقابلَهم طرف آخر متأخر فدافع عن إسلامية القسام وسلفيته لكنه كان ضيق الأفق، فحصر القسام وجهاده في قالب ضيق بسبب رؤيته الخاصة للسياسة والدين، فمثلاً الأستاذ محمد محمد حسن شراب رجح أن الشيخ كامل القصاب شبه عميل للإنجليز وأن القسام تعامل معه مضطراً!! وأن مشاركته مع القسام في كتاب النقد والبيان مشاركة رمزية!! وأن العلاقة بين القسام والحاج أمين الحسيني كانت متوترة بسبب تذبذب الحسيني في وطنيته!! وهذا غير صحيح، وسبب هذه الآراء العجيبة هو تحليله للأحداث السياسية بطريقة متعسفة تميل لرؤية حزب التحرير، وإلا فإن المعاصرين للقصاب والحاج أمين مثل الشيخ علي الطنطاوي والشيخ زهير الشاويش لهم رؤية مناقضة تماماً حول وطنية القصاب والحاج أمين وهي الرؤية المنطقية والتي تدل عليها نتائج حياة القصاب والحسيني.

    والداعي لهذا التنبيه هو شح المصادر الأصلية عن سيرة القسام، وندرة المصادر الصافية فيها!!

    نشأته:

    هو عز الدين عبد القادر مصطفى يوسف محمد القسام، وقد اختلف في سنة ولادته ولكن الأرجح أنه ولد في عام 1300هـ الموافق 1883م، في مدينة جبلة في محافظة اللاذقية في سوريا.

    والده هو عبد القادر بن محمود القسام، أحد شيوخ الطريقة القادرية وكذلك جده، وكان جده قد قدم من العراق إلى جبلة، ولذلك كان بعض مريدي القادرية بالعراق يزورون قبر جده ووالده في جبلة.

    ولذلك نشا القسام في بيت متدين وذي صبغة صوفية، ولذلك ذهب للكُتاب فقرأ القرآن وتعلم القراءة والكتابة والحساب على يد والده، ثم درس في جبلة على يد الشيخ سليم طيارة والشيخ أحمد الأورادي، ولما رأى أبوه حرصه على العلم أرسله للأزهر ليزداد علماً، وهو في سن الرابعة عشرة، وكان ذلك سنة 1896م. هذا هو كل ما لدينا عن القسام في صغره !!

    في الأزهر:

    اختلف المؤرخون للقسام حول المدة التي قضاها في مصر، ولكنها فترة لا تقل عن سبع سنوات ولا تزيد عن عشر سنوات، ولم يذكر أحد تفاصيل حياته في مصر أو العلماء الذين التقى بهم أو أخذ عنهم، لكنه ذهب للأزهر زمن تولي الشيخ محمد عبده لمشيخته، وقيامه ببعض الإصلاحات فيه، وكانت مصر آنذاك تعيش صراعاً بين التيار الإسلامي الذي يمثله جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، والعلمانيين أتباع المحتلين من أمثال فرح أنطون ولطفي السيد.

    كما أن الصراع السياسي مع الاحتلال البريطاني كان على أشدّه بعد فشل ثورة أحمد عرابي سنة 1882م، وتزعّم مصطفى كامل تيار المقاومة للاحتلال.

    والقصة اليتيمة التي رُويت عن حياة القسام في أثناء دراسته بالأزهر، هي حين انقطع المصروف عنه وعن رفيقه عز الدين التنوخي من أهلهما، فاقترح القسام أن يصنعا هريسة ويبيعاها للطلاب، فخجل التنوخي وقال: أنا أخجل أن أنادي على بضاعتنا، فقال له القسام: أنا أصيح على بضاعتنا، وهكذا تمكنا من إكمال دراستهما.

    وفي مرة جاء والد التنوخي لزيارته بالقاهرة فوجده واقفاً بجوار القسام وهو ينادي على هريستهما، فسألهما: ما هذا؟

    فخجل التنوخي وقال لوالده متنصلاً: عز الدين علمني، وهو صاحب الفكرة، ولكن التنوخي صدم حين أجابه والده: لقد علمك الحياة.

    وهي قصة تكشف عن شخصية عصامية مبكرة للقسام، قادرة على مواجهة الظروف والتحديات وابتكار الحلول والعلاج للأزمات، وهو ما سيكون سبب تميز القسام في تكوين أول تنظيم عسكري جهادي في فلسطين.

    عودته من الأزهر:

    هناك تنازع في السنة التي عاد فيها القسام لبلده جبلة بناء على الخلاف في عدد السنوات التي قضاها بالأزهر، فالبعض يرى أنه عاد في سنة 1903م والبعض يقول عاد في سنة 1906م، وقد ظهر أثر الأزهر على الشاب العائد، ومن هذه الآثار يمكن أن نستشف المحاضن التي عايشها القسام في مصر.

    فبداية رفض القسام أن يقوم بزيارة قصر الأفندي المتحكم في المنطقة على طريقة الإقطاع، ويعلن أن المسافر والضيف هو المستحق للزيارة وليس المقيم، ويهوّن على أبيه بالقول من أن الأفندي لن يستطيع أذيتك بسبب قوتي بعلمي وإيماني، وهذا يشير إلى وجود وعي جديد في ذهن الشاب المتعلم تجاه أصحاب النفوذ والجاه.

    ومن ثم يسافر القسام لتركيا فيزور مساجدها ليطلع على طرق التدريس وخطب الجمعة فيها قبل أن يعود ويتفرغ للتعليم والتدريس في المساجد والمدارس وتجمعات العمال وكل مكان، ويمكن أن نقسم جهود القسام للجوانب التالية:

    1- التعليم والخطابة والإمامة:

    فبدأ يعلم في زاوية والده ولم يقتصر في تدريسه على الأطفال بل علّم حتى الكبار والعمال والفتيات شملهم بتعليمه وإرشاده، ولم يقتصر على القرآن الكريم بل علمهم القراءة والكتابة والعلوم الأولية.

    وعمل مدرساً في جامع السلطان، وبدأ يخطب في مسجد المنصورى بطريقة مختلفة عن الخطب التقليدية، فأصبحت القرية لا تتخلف عن صلاة الجمعة وبدأت آثار دعوته تنتشر ويلمسها الجميع، وبدأ وعي جديد ينتشر بين الناس يحرص على العلم والفضيلة وأداء الفروض الشرعية.

    واستمر القسام في التدريس طيلة حياته، فدرّس في مدينتي بانياس واللاذقية قبل أن يفتتح مدرسة في بلده جبلة سنة 1912م.

    ولما هاجر لفلسطين سنة 1920م عمل في التدريس أيضاً، فقد درّس في مدرسة الإناث الإسلامية وفي مدرسة البرج الإسلامية للطلاب، وهما مدرستان تتبعان الجمعية الإسلامية في حيفا، وكان يرعى طلابه علميا ويوجههم لبناء مستقبلهم بإرشادهم لما يوافق قدراتهم من مهن وأعمال.

    وتولى القسام الإمامة والخطابة والتدريس بمسجد الاستقلال، والذي أصبح منارة لبث العلم والوعي في حيفا وما حولها، وكانت خطبه ودروسه تتناول كافة شؤون الدين والدنيا، وبث فيها ضرورة العلم والعمل والجهاد حتى يحافظ المسلم على إيمانه وحياته من مطامع المحتلين البريطانيين واليهود، ففي إحدى خطبه كان يخبئ سلاحاً تحت ثيابه فرفعه وقال: "مَن كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقتني مثل هذا"، فأُخذ مباشرة إلى السجن وتظاهر الناس لإخراجه وأضربوا إضراباً عاماً.

    وينقل يوسف الشايب الذي استمع لآخر خطبة جمعة للقسام عنه قوله: "أيها الناس لقد علمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالما بها، وعلمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلّغت اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون".

    وأسس في حيفا مدرسة لتعليم العمال الأميين القراءة والكتابة والدين وصنع منهم قادة للجهاد في فلسطين حملوا الراية بعده سنين طويلة.

    ولزيادة مساحة تعليمه وتدريسه عمل القسام في وظيفة مأذون ليتجول بين الناس الذين قد لا يحضرون للمسجد لكنهم يحتاجون لشيخ عند الزواج، فكان يستغل الأعراس لبث الدعوة والتعليم والتواصل مع الناس.

    وأيضاً حين تأسست في فلسطين فروع لجمعية الشباب المسلمين سنة 1928م التي كانت قد تأسست أصلاً في مصر سنة 1927م على يد نخبة من الشخصيات السلفية منهم العلامة محب الدين الخطيب والعلامة محمود تيمور باشا، كان القسام رئيساً لفرع حيفا، وفي سنة 1932م انتخب القسام رئيساً مؤقتا للمؤتمر العام لفروع الجمعية بفلسطين بوصفه أكبر الأعضاء سناً، وقد استفاد القسام من أنشطة الجمعية وانتشارها لنشر العلم والدعوة للجهاد في ربوع فلسطين وتهيئة الشباب بدنياً للجهاد من خلال فرق الكشافة التابعة للجمعية.

    وهذه السيرة الطويلة من التعليم وبث الوعي والاهتمام بكافة شرائح المجتمع والانضمام للجمعيات تؤكد أن القسام كان على صلة وثيقة بالشيخ محمد رشيد رضا، سواء صلة مباشرة أو متابعة مجلته المنار والتي أصلت وأسست للأفكار والمنهج الذي التزمه القسام طيلة حياته.

    2- سلفية القسام:

    تميز القسام بعد عودته من مصر بالتزام الكتاب والسنة ومنهج الصحابة، مما يدلل على تأثره بالبيئة الإصلاحية السلفية في مصر، وذلك بعد أن كان صوفياً على الطريقة القادرية كوالده وجده، ومن أول مظاهر ذلك أنه منع زيارة قبر جده ووالده من قبل أفراد الطريقة القادرية بالعراق، وذلك لأن السفر لزيارة القبور من الأمور التي نهى عنها الشرع.

    وحارب كثيرا من البدع والخرافات التي تنتشر بين الناس في ذلك الزمان مثل:

    - حج النساء إلى مزار الخضر على سفوح جبل الكرمل وتقديم القرابين له.

    - ما يصنعه بعض الجهلة من بدع على المآذن في الأذان وفي المساجد عقب الصلوات وغيرها.

    - أنكر قراءة المولد النبوي بالغناء والتمطيط، والمبالغة بتوقيعه على ألحان الموسيقى، ورفض ما أدخل في سيرة مولده صلى الله عليه وسلم من الأمور التي لم تثبت، ودعا إلى العناية بأحوال وشمائل النبي صلى الله عليه وسلم، والتزام سنته العملية وسيرته كقدوة للمسلمين.

    - أنكر على فرقتي البهائية والقاديانية اللتين تتواجدان في حيفا وعكا، وأنكر على من شارك في جنازة عباس البهائي.

    - رفع الأصوات بالتهليل والتكبير أثناء تشييع الجنائز. وهي القضية التي كبرت حتى أصدر هو والشيخ كامل القصاب كتابه الوحيد "النقد والبيان في دفع أوهام خزيران، والدفاع عن سنة خير الأنام فيما يتعلق بالسنة، والبدعة، والمولد، وآداب قراءة القرآن، والصياح والنياح في الجنائز، والمآتم والمقابر".

    وهذه بعض العبارات الواردة في الكتاب مما يدلّ على سلفيتهما:

    * قالا عن كتاب الاعتصام للشاطبي: "وكنا نود أن نرشد الأستاذ الجزار وتلميذه إلى الاستفادة من هذا الكتاب الذي لا ندّ له في بابه، ولكنا خشينا أن يرميا مؤلفه بالنزعة (الوهابية) - التي هي حجة العاجز لترويج الباطل، وإضاعة الدين- التي رميانا بها، وإن تقدم زمن ذلك الإمام الشاطبي العظيم على زمن محمد بن عبدالوهاب ما يقرب من (500 سنة)!! لأنه لا يبعد أن يعللا ذلك بأنه من باب أخذ المتقدم عن المتأخر!".

    * وقالا: "يعلم أن ذلك الدعي في العلم يعد العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم زيغاً، والعياذ بالله تعالى".

    * وقالا عن اتباعهما للسنة النبوية: "وأكبر دليل على تمسكنا بسنة نبيِنا، وسنة الشيخين من بعده، نهينا الناس عن مخالفة سنة الخلفاء الراشدين في تشييع الجنازة برفع الصوت".

    ومن الدلائل على سلفية القسام تعاونه مع الشيخ كامل القصاب في الثورة السورية والثورة الفلسطينية، والشيخ كامل القصاب من رؤوس السلفيين في الشام وأحد الشخصيات التي اعتمد عليها الملك عبدالعزيز بن سعود في تأسيس إدارة المعارف بمكة.

    ومن الدلائل أيضاً ثناء وتأييد كبار السلفيين في عصره عليه وعلى الشيخ القصاب بسبب كتابهما "النقد والبيان"، وهذا يؤشر لوجود علاقات ومعرفة بينه وبينهم سواء كانت علاقة مباشرة أو من خلال علاقته بالقصاب، فمن هؤلاء في الشام: الشيخ محمد بهجة البيطار، الشيخ عبد القادر بدران، محمد جميل الشطي.

    ومنهم العلامة محمد بهجت الأثري بالعراق، والعلامة محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية.

    ومن الإشارات المهمة على ترسيخ القسام للسلفية في نفوس طلابه وتلاميذه ما نقله الأستاذ زهير الشاويش عن ملازمة أحد أبرز تلاميذ القسام والقادة القساميين وهو أبو إبراهيم الصغير عند إقامته بدمشق لدروس العلامة الألباني.

    ومن الإشارات اللطيفة في هذا الباب أن العلامة الألباني كان يحضر دروس العلامة محمد بهجت البيطار لكتاب الحماسة لأبي تمام مع عدد من أساتذة المجمع العلمي منهم الأستاذ عز الدين التنوخي شريك القسام في بيع الهريسة بالقاهرة!!

    3- مشاركات القسام الجهادية في ليبيا وسوريا

    كثير من الناس يظن أن جهاد القسام اقتصر على فلسطين ضد الإنجليز واليهود وهذا غير صحيح، فأول مشاركة جهادية للقسام كانت عام 1911م حين حرّض الناس على التطوع للجهاد في طرابلس الغرب بليبيا ضد الإيطاليين، فقاد مظاهرة في بلدته جبلة وهي تهتف: يا رحيم ويا رحمن ... انصر مولانا السلطان ... واكسر أعداءنا الطليان.

    ومن ثم انتقى 250 متطوعا للجهاد وجمع لهم التبرعات ونسق مع السلطات العثمانية التي رحبت بتطوعهم، وطلبت منهم المجيء للأسكندرونة لتسفيرهم إلى طرابلس بليبيا، لكنهم مكثوا في الأسكندرونة 40 يوماً دون جدوى وبعدها طلب منهم العودة، وقيل إن التبرعات أرسلها القسام مع ثقات لأهل طرابلس، وقيل إن القسام سافر سراً لطرابلس والتقى بشيخ المجاهدين عمر المختار وسلمه إياها، وقيل بنى بها مدرسة في جبلة.

    وحين احتلت فرنسا سوريا على إثر اتفاقيات سايس بيكو، كان القسام أول الرافضين لها والمجاهدين ضدها في شمال سوريا، وهو من أشعل الثورة في جبال صهيون ضد الفرنسيين، وتعاون في ذلك مع عمر البيطار، ولذلك باع بيته واشترى بثمنه سلاحاً يجاهد به، وهذا كله بعد أن عبأ الناس في المسجد والمدرسة واللقاءات للجهاد ضد الاحتلال الفرنسي، ومن استجاب له قام القسام بتدريبه على استعمال السلاح بسبب خبرته العسكرية التي اكتسبها من فترة انضمامه للجيش العثماني زمن الحرب العالمية الأولى.

    وبسبب دوره المركزي في الجهاد أرسل له الفرنسيون أحد أقاربه ليساومه على ترك الجهاد مقابل تعيينه قاضياً شرعياً، ولما رفض ذلك أوعزوا للديوان العرفي في دويلة العلويين التي أسسوها أن يصدروا عليه حكما بالإعدام، وهذه فضيحة من فضائح العلويين عبر التاريخ بوقوفهم إلى جانب المحتلّين ضد أبناء بلدهم وليس دينهم!!

    وبسبب عجز الثورة عن مقاومة فرنسا في الشمال والحكم بالإعدام على القسام قرر ومعه عدد من رفاقه مغادرة سوريا لفلسطين، فذهب لدمشق ونزل عند صديقه القديم عز الدين التنوخي، وشارك في معركة ميسلون بدمشق، وبعدها سافر سراً إلى عكا ثم استقر في حيفا.

    4 – جهاده في فلسطين

    وصل القسام عام 1921م إلى فلسطين مع بعض رفاقه ولم يكن الجهاد ضد اليهود والإنجليز غائبا عن تخطيطه، فهو تلميذ لرشيد رضا الذي كان أول من حذر من خطر الهجرات والصهيونية ومخططاتها، ولذلك سعى أن يكون قريباً من العمال والفقراء لأنهم دوماً المحضن المؤيد للجهاد لأنهم أنقى في الفطرة ولم يتلطخوا بالعمالة للمحتلين.

    ولذلك حرص على مخالطتهم وتعليمهم وتوجيههم وزرع عقيدة الجهاد بينهم، فاستخلص من المجاهدين الشرفاء والذين قادوا الجهاد في فلسطين سنوات طويلة حتى بعد استشهاده رحمه الله.

    كانت رؤية القسام للخطر الصهيوني على فلسطين تنبع من ثقافة عميقة تدرك أبعاد المشروع الصهيوني مبكراً بفضل كتابات رشيد رضا، كما أنها تدرك عبثية الوسائل السلمية في مقاومتها وذلك بعد تجربته في جهاد ومقاومة الفرنسيين، وكان القسام حازماً وواضحاً أن الجهاد هو الحل لمقاومة الصهيونية، وأن على أهل فلسطين البدء بالجهاد وعدم الانتظار حتى يتمكن اليهود من توطين أعداد كبيرة من المهاجرين اليهود في فلسطين.

    ولذلك يتفق المؤرخون على أن طلاب القسام وتلاميذه هم الذين بدؤوا الجهاد في فلسطين، فثورة البراق سنة 1929م كانت رداً على اعتداء اليهود على حائط البراق، وبسبب هذه الثورة وقع عدد من الشهداء والمصابين وقدم عدد آخر للمحاكمة التي حكمت عليهم بالإعدام وهم الأبطال الثلاثة المشهورون: فؤاد حجازى وعطا الزير ومحمد جمجوم.

    وفي يوم إعدامهم خطب القسام خطبة نارية وهو متجهم الوجه دامع العينين فقال: "يا أهل حيفا يا مسلمون ألا تعرفون فؤاد حجازي؟ ألم يكن فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم إخوانكم؟ ألم يجلسوا معكم في دروس جامع الاستقلال ؟ إنهم الآن على أعواد المشانق".

    وشارك في ثورة البراق من تلاميذ القسام وأعوانه: عبدالله الأصبح في منطقة صفد، والشيخ فرحان السعدي في قضاء جنين.

    وكان لطلاب القسام عدة عمليات جهادية في المدة من 1931 – 1935م، منها الهجوم على مستعمرة الياجور قرب يافا، وعمليات الهجوم على مستعمرات بلغوريا وكفار هاسيديم وعتليت والعفولة، والهجوم على مستعمرة نهلال.

    وقد كان نشاط القسام التحريضي على الجهاد موضع مراقبة من الإنجليز، ولذلك حين تصاعدت الهجمات في شمال فلسطين اتهم القسام بأنه المدبر لها، واستدعي للتحقيق لكن لم يثبت عليه شيء، وذلك بسبب دقته الفائقة في السرية والكتمان، ولكن مع هذا قرر القسام إيقاف الهجمات لفترة.

    تنظيم القسام الجهادي

    لم يكن جهاد القسام عفويا، بل كان عن تخطيط دقيق وعمل مرتب استغرق وقتاً طويلاً، فهو كان ينتقي عناصره من رواد دروسه وخطبه، ولا يقبل إلا من يجد فيه الإخلاص والجدية والاستعداد للتضحية والالتزام بالسرية، فعندها يدخله في حلقة سرية مكونة من 5 أفراد يهيئهم علمياً ومعنوياً وعسكرياً للجهاد.

    وقد تمكن القسام من تكوين حوالي 12 حلقة لا تعرف إحداها الأخرى، ثم ارتفع عدد أعضاء المجموعة لـ 9 أفراد.

    ولم يكن يستثني القسام أي شريحة من تنظيمه بل حرص حتى على الرجال المتورطين في السرقة والمشاكل، إذ كان يرى فيهم جرأة وشجاعة لو وجهت للجهاد لكان لها تميز، وفعلاً كان هناك عدد من رفقاء القسام من هؤلاء مثل: حسن الباير الذي روى قصته فقال: "أنا من قرية برقين قضاء جنين، وكنت من قبل أسرق وأرتكب المحرمات، فجاءني المرحوم عز الدين القسام، وأخذ يهديني ويعلمني الصلاة، وينهاني عن مخالفة الشرع الشريف وأوامر الله، وقبل مدة أخذني المرحوم الشيخ عز الدين القسام إلى أحد جبال برقين، وهناك أعطاني بندقية، فسألته: لم هذه؟ فأجاب: لأجل أن تتمرن عليها، وتجاهد مع إخوانك في سبيل الله".

    وتكونت قيادة للتنظيم من أبرز هذه المجموعات وكان الجميع يدفع اشتراكا شهريا بسيطا للتنظيم، وكان للتنظيم مجموعات في 13 مدينة ومنطقة في فلسطين، وكان له عدة لجان منها: لجنة لشراء السلاح، ولجنة للتجسس على العدو، ولجنة للتدريب العسكري، ولجنة للاتصالات السياسية، ولجنة التمويل.

    وعُرف أتباع القسام بعد استشهاده باسم القساميين لأنه لم يضع اسما للتنظيم، واختلف في عدد أعضاء التنظيم عند استشهاده فبعضهم يحصره في أعضاء المجموعات فقط وبعضهم يتجاوزه ليصل لرقم 1000 قسامي!!

    كان القسام يرفض دعوات بعض أنصاره للقيام بثورة شاملة وكان يصر على تأجيل ذلك لحين استكمال الاستعداد وتوفر مخزون جيد من الأسلحة وزيادة العدد لحد الكفاية، لأنه يعد لثورة جهادية شاملة وليس لعملية محدودة فهو يدرك فداحة المخطط الصهيوني الذي لا يجدي معه عمل جهادي محدود.

    لكن مع تزايدد أعداد التنظيم وتصاعد وتيرة الهجرة اليهودية ووقوع ثورة البراق وتكاثر الشكوك حول نشاط القسام من قبل الإنجليز، واكتشاف تهريب اليهود للسلاح عبر الميناء كل هذا جعل القسام يسرع من خطته وينطلق للعلنية فخطب خطبته الأخيرة وخرج مباشرة من حيفا، حتى أن الشرطة بحثت عنه بعد الخطبة فلم تجده!!

    وكانت نية القسام عدم البدء بالقتال مع الإنجليز واليهود، بل التجول بين الناس وحثهم على الجهاد واقتناء السلاح وتهيئتهم، لكن قدر الله غير ذلك، إذ بينما كان القسام يبث الدعوة الجهادية في نواحي جنين قام بعض الحرس بإطلاق النار على دورية شرطة لظنه أنها تبحث عنهم، فانتبه الإنجليز لوجود جماعة مسلحة جهادية وقد ربطتها بغياب القسام، وفورا أمر القسام بالرحيل فتوجهوا جهة أحراش قرية يعبد، ولكن الإنجليز أعلنوا عن مكافأة لمن يدل على (عصابة إجرامية قتلت شرطياً) – نفس الدعاية التي يقوم بها بشار الأسد اليوم بعد 75 سنة ضد الثوة السورية!! – وفعلا قام بعض الناس بإبلاغ الشرطة عن تحركات القسام ومجموعته وهم لا يعرفونهم، حتى حوصر القسام ومعه 8 من رفاقه، ومع هذا أمر القسام أن لا يطلقوا النار على الشرطة العرب الذين جعلهم الإنجليز في المقدمة، وإنما يطلقون على الإنجليز فقط!! ورفض القسام الاستسلام فاستُشهد بإذن الله هو وثلاثة من رفاقه وجرح وأسر الباقي منهم وذلك يوم 20/11/1935م.

    أثر جهاد القسام على القضية الفلسطينية

    قلنا أن القسام لم يكن يسعى للصدام في ذلك الوقت مع الإنجليز فقد نقل عنه قوله: " ليس المهم أن نحرر فلسطين في بضعة أشهر، بل المهم أن نعطي من أنفسنا الدرس للأمة، وللأجيال القادمة"، وفعلاً حقق الله ما كان يقصده القسام باستشهاده وإحياء الجهاد في القضية الفلسطينية.

    ومن أول مظاهر اليقظة الجهادية التي أحدثها القسام ما جرى في جنازته، إذ قرر الإنجليز الساعة العاشرة صباحاً لموعد خروج الجنازة من بيت القسام الواقع خارج بلدة جبلة للمقبرة دون الصلاة عليها في المسجد في وسط حيفا، لكن المشيعين رفضوا ذلك ويصف لنا الأستاذ أكرم زعيتر مسيرة الجنازة وهو من السياسيين القلائل الذين شاركوا في جنازة القسام ورفيقيه، إذ خرج الآلاف يشيعونها من كافة أنحاء فلسطين وقد تحولت لمظاهرة ضد المحتلين حيث ساروا بالجنازة لوسط حيفا وصلّوا عليها في جامع الجرينة، وهم يكبرون ويهتفون بالانتقام له، وهاجم المشيعون دائرة البوليس واصطدموا بالقوات الإضافية التي جاءت لمنع مسيرة الجنازة وأجبروها على الانسحاب، ورفض المشيعون نقل الجنازة بالسيارة وحملوها على أكتافهم للمقبرة التي تبعد خمسة كيلومترات عن البلدة.

    وكتب أكرم زعيتر عن أثر استشهاد القسام فقال: "ليس من سبيل إلى الخلاص إلا الجهاد الدامي، وقد فتح القسام الباب فلنلجنه، وإنا لفاعلون إنها دعوة جديدة أخذت تظهر على ألسنة الناس، ويجهر بها الكتاب، ولم نكن نعرفها من قبل نفخت في الأمة روحاً لم تكن تفطن لها.. "، وقال أيضاً: "لقد سمعتك قبل اليوم خطيباً تتكئ على السيف، وتهدر من على المنبر، وسمعتك اليوم خطيباً تتكئ على الأعناق، ولا منبر تقف عليه، ولكنك والله اليوم أخطب منك حياً".

    وقال عجاج نويهض: "سافر القسام وكان جواز سفره الأكبر مصحفاً في جيبه وقلبه"، وقال حمدي الحسيني: "إن القسام عدل من هذه القضية ما إعوج"، وقال الشيخ سليمان التاجي: "القسام نقل القضية من دور الكلام إلى دور العمل".

    ورثاه الشاعر فؤاد الخطيب بقوله:

    أولت عمامتك العمائم

    شرفا تقصر عنده التيجان

    إن الزعامة والطريق مخوفة

    غير الزعامة والطريق أمان

    لقد اختط القسام في حياته وموته منهجاً جهادياً أعطى القضية الفلسطينية بعداً جديداً لا تزال ثماره الزكية تؤتى أكلها لليوم والحمد لله.

    القساميون على نهج شيخهم

    ذكرنا أن القسام لم يكن معه إلا 8 من رفاقه يوم استشهاده لأن خطته كانت بث رفاقه بين الناس لتهيئتهم للجهاد، وفعلاً كان رفاق القسام على قدر المسئولية والأمانة.

    وصفهم أحمد الشقيري وهو أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية فقال: "لم تجر على ألسنتهم تعابير الكفاح المسلح والحركة الوطنية والاستعمار والصهيونية، فقد كانت تعابيرهم على بساطته تنبع من ينبوع أروع وأرفع، هو «الإيمان والجهاد في سبيل اللّه»، لقد كانوا قوماً مؤمنين، صنعهم الإيمان، فصفت نفوسهم، وتآلفت إراداتهم، وتعاظمت عزائمهم، وأحسوا أن حبلهم مع اللّه قد أصبح موصولاً، وأن الباب بينهم وبينه قد بات مفتوحاً".

    وكان زعيم القساميين الذي حمل الراية بعد القسام هو الشيخ المجاهد فرحان السعدي والذي فجر الثورة الشهيرة (ثورة 1936م) بعد 5 شهور من استشهاد القسام، والتي استمرت حتى 1939، وما لبث أن أُعدم سنة 1937 وهو في الثمانين من عمره بسب جهاده ضد الإنجليز واليهود.

    وبعد إعدامه واصل القساميون المسيرة وكانوا القادة في المسيرة الجهادية في كل فلسطين وخاصة مناطق الشمال، فقاموا باغتيال حاكم منطقة الخليل لويس أندروز سنة 1937، ويعتبر أبو إبراهيم الكبير من أبرز القادة القساميين.

    ولأن القساميين لم يكن لهم اسم أو حزب خاص فقد كان المؤرخون للقضية الفلسطينية يشيرون لهم باسم الشيوخ، مثل المؤرخ الفلسطيني المعروف محمد عزة دروزة في قوله: "وكل ما أمكن هو توحيد القيادة العليا في عدة مناطق تحت إدارة عصبة من طبقة المشايخ التي كان يتزعمها أبو إبراهيم الكبير خليل العيسى"، وذكر منهم:

    الشيخ أبو إبراهيم الصغير، توفيق الإبراهيم تلميذ العلامة الألبانى لاحقاً، وأبو علي سليمان العبد القادر، والشيخ عطية أحمد، والشيخ يوسف أبو درة، الشيخ عبدالفتاح العبد.

    الخاتمة

    لقد كانت حياة القسام نموذجاً للعالم المربي والداعية المصلح والمجاهد الصابر، ويكاد أن يكون قدّم تجربة متكاملة للعلاقة بين العلم والعمل، وأعاد للناس تجسيد المفهوم النبوي لدور العالم وهو وراثة النبوة وتجسيدها في واقع الناس بالتعليم والقدوة وقرن العلم بالعمل والجهاد، فرحمة الله على الشيخ عز الدين القسام ورفاقه بالأمس واليوم والمستقبل.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح

    عالم الشام محمد بهجة البيطار
    أسامه شحادة






    تمهيد

    يعد العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار أحد أبرز وأشهر تلاميذ العلامة جمال الدين القاسمي، وأحد رواد الإصلاح الديني والتربوي في الشام والجزيرة العربية، وقد كان رحمه الله فقيها وبحاثة ومحققا ومؤرخا ولغويا، ورغم هذا فإنه لم يأخذ حقه من الترجمة ولم يدون في سيرته إلا كتاب وحيد للدكتور عدنان الخطيب لا يفي بحق البيطار.

    ولد محمد بهجة البيطار بدمشق سنة 1894 لأسرة دمشقية عريقة تعود جذورها للجزائر قبل أكثر من مائتي عام، وعرف كثير من أفرادها بالعلم والأدب والتقوى، فوالده هو الشيخ محمد بهاء الدين بن عبد الغني حسن إبراهيم الشهير بابن البيطار والذي كان يعد من رؤوس الصوفية في زمانه والذي كان عالماً أديباً، وكان جده عالماً معروفاً تولى الإمامة والخطابة وخلفه فيها ابنه والد علامتنا محمد بهجة ، ووالدته هي ابنة عم أبيه الشيخ عبد الرزاق ابن حسن البيطار، رفيق العلامتين طاهر الجزائري وجمال الدين القاسمي.

    كانت بدايته العلمية الدراسة على يد والده فتلقى مبادئ علوم الدين واللغة، ثم درس الابتدائية في المدرسة الريحانية، ودرس الثانوية في المدرسة الكاملية بدمشق والتي أسسها الشيخ كامل القصاب رفيق الشيخ المجاهد عز الدين القسام. وتعلم الفرنسية في المدرسة العيزرية النصرانية على يد المسيو موريس والذي أسلم على يد الشيخ بهجة وأصبح الأستاذ عبدالله الريحاني.

    تحوله لمنهج السلف وشيوخه:

    نشأ بهجة البيطار– بحسب ترجمته لجده - في عصر راج فيه "جمود على القديم، وتلقي الأقوال بالتسليم من دون تمحيص للصحيح من السقيم"، وكان أبوه من غلاة الصوفية القائلين بوحدة الوجود كابن عربي وابن سبعين والحلاج، وغيرهم، فنشأ على طريقة أبيه، لكن الله لطف به وهداه لمنهج السلف وذلك بواسطة جده لأمه الشيخ عبدالرزاق البيطار والذي ترك التعصب المذهبي والغلو الصوفي بعد بلوغه سن الخمسين كما ترجم بهجة البيطار لجده في مجلة المنار ونشرها في مقدمة تحقيقه لكتاب جده "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر"، إذ توفي والده سنة 1910م وعمر بهجة حوالى 16 سنة، فتولى جده رعايته فترك التصوف وسار في طريق طلب العلم بالدليل وترك البدع والخرافات والأحاديث الضعيفة.

    وتابع بهجة البيطار دراسة العلوم الدينية والعربية على يد جده الشيخ عبد الرزاق البيطار، وعلى رفيقه الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي الذي لازمه بهجة آخر ثلاث سنوات من حياته كما ذكر ذلك في ترجمته لجده، وحيث توفي القاسمي سنة 1332هـ/1914م، فعلى هذا يكون بهجة البيطار تحول لمنهج السلف وعمره حوالى 16-17 سنة تقريباً، وقد تركت هذه السنوات الثلاث على شخصية بهجة أثراً كبيراً طوال حياته، يقول ابنه عاصم البيطار: "وكان والدي ملازماً للشيخ جمال الدين، شديد التعلق به، وكان للشيخ - رحمه الله- أثر كبير، غرس في نفسه حب السلف ونقاء العقيدة، والبعد عن الزيف والقشور، وحسن الانتفاع بالوقت والثبات على العقيدة، والصبر على المكاره في سبيلها، وكم كنت أراه يبكي وهو يذكر أستاذه القاسمي".‏

    ودرس بهجة البيطار على محدث الديار الشامية الشيخ محمد بدر الحسيني، وعلى الشيخ محمد خضر حسين التونسي والذي تولى مشيخة الأزهر لاحقاً، وقد كان مجيء الخضر لدمشق قبيل وفاة القاسمي فعوض الله به أهل دمشق عن فقد القاسمي، يحدثنا بهجة البيطار عن شيوخه والبيئة التي عاش فيها فيقول: "أستاذنا الجليل الشيخ محمد الخضر حسين، عَلَمٌ من أعلام الإسلام هاجر إلى دمشق في عهد علامتي الشام المرحومين: جدي عبدالرزاق البيطار، وأستاذي الشيخ جمال الدين القاسمي؛ فاغتبطا بلقائه، واغتبط بلقائهما، وكنا نلقاه، ونزوره معهما، ونحضر مجالسه عندهما، فَأُحْكِمَتْ بيننا روابط الصحبة والألفة والود من ذلك العهد. ولما توفي شيخنا القاسمي - تغمده المولى برضوانه - أوائل سنة 1332 هـ لم نجد نحن معشر تلاميذه مَنْ نقرأ عليه أحب إلينا ولا آثر عندنا من الأستاذ الخضر؛ لما هو متصف به من الرسوخ في العلم، والتواضع في الخلق، واللطف في الحديث، والرقة في الطبع، والإخلاص في المحبة، والبر بالإخوان، والإحسان إلى الناس، فكان مصداق قول الشاعر:

    كأنك من كل الطباع مركبٌ فأنت إلى كلِّ النفوس محبَّبُ

    وأخذنا من ذلك الحين نقتطف ثمار العلوم والآداب من تلكم الروضة الأُنُف، ونرتشف كؤوس الأخلاق من سلسبيل الهدى والتقوى، ولم يكن طلاب المدارس العالية في دمشق بأقل رغبة في دروسه، وإجلالا لمقامه، وإعجاباً بأخلاقه من إخوانهم طلاب العلوم الشرعية، بل كانوا كلهم مغتبطين في هذه المحبة والصحبة، مجتمعين حول هذا البدر المنير.

    وقد قرأنا عليه في المعقول والمنقول، والفروع والأصول، طائفة من أفضل ما صنف في موضوعه، وهي لعمر الحق دالة على حسن اختياره، وسلامة ذوقه، وقوة علمه، وشدة حرصه على النهوض بطلابه، وإعدادهم للنهوض بأمتهم.

    وقد كنت نظمت أبياتاً جمعت فيها بين ذكر هذه الكتب، ووصف دروس الأستاذ، وجعلتها ذكرى لنفسي ولمن شاركوني في الطلب والتحصيل، عند أستاذنا الجليل، فقلت:

    يا سائلي عَنْ درسِ ربِّ الفضْل مولانا الإمام

    ابن الحسين التونسيِّ محمد الخضر الهمام

    سَلْ عنهُ مُسْتصفى الأصول لليث معترك الزحام

    أعني الغزاليَّ الحكيــم رئيس أعلام الكلام


    وكذاك في فن الخلاف بداية العالي المقام

    أعني ابنَ رُشْدٍ مَنْ غدا بطل الفلاسفة العظام

    وكذا صحيح أبي حسيــنٍ مسلمٍ حَبْرِ الأنام

    وكذلك المغني إلى شيخ النحاة ابن الهشام

    وكـذا كـتاب أبي يزيد ابـن المبرّد في الختام

    تـلك الدروس كما الشموس تـنير أفلاك الظلام

    يـدني إلـيك بـها حقائـق كـل علم بانسجام

    فـتكون مـنك حقائق المعنى على طرف الثمام

    فـالحق عـوضنا بـه مـن شـيخنا شيخ الشآم

    فـعـليه مـا ذرّ الـغزالـة رحمة الملك السلام

    وهكذا كان تحول مسار محمد بهجة البيطار بسبب بوفاة والده وتحول جده وملازمته للقاسمي ودراسته على الخضر حسين، فغدا مع الأيام بتوفيق الله ومن ثم جده واجتهاده عالم الشام محمد بهجة البيطار.

    مساره العملي والدعوي والتربوي:

    1- عقب وفاة والده سنة 1910 تولى البيطار الخطابة والتدريس في جامع القاعة بحي الميدان خلفاً لوالده وعمره 16 سنة، ثم تولى سنة 1917 الخطابة والتدريس في جامع كريم الدين الشهير بالدقاق خلفاً لخاله، والذي بقي بهجة يخطب ويدرس فيه حتى توفي، وجامع الدقاق هو مسجد الحي التي تسكنه أسرة البيطار، والذي توارث فيه آل البيطار الإمامة والخطابة لأكثر من مائة عام.

    2- في هذه المرحلة تعرف البيطار على كثير من المصلحين والقادة والمفكرين، فقد كان القاسمي وجده عبدالرزاق البيطار يتيحون له لقاء أعلام العصر حين يزورون دمشق وكانوا يذكرون أخبار طلابهم في مراسلاتهم مع أقرانهم، فهذا القاسمي يكتب للشيخ محمد ناصيف يقول: "مما قدمناه لكم: كتاب "نقد عين الميزان" للشيخ محمد بهجة البيطار، أحد ملازمي دروسنا الليلية والنهارية، وهو ممن يرجى له مستقبل علم حسن، إن شاء الله"، وكتب الألوسي للقاسمي يثني على كتاب بهجة البيطار فقال: "إنى أبارك لكم وأهنيكم على أن نبغ من تلامذتكم مثل العلامة الشيخ البيطار، بارك الله فيك وفيه، وقد ألقم الرافضي الحجر، ورد منه العجر والبجر"، وقد صدر هذا الكتاب سنة 1331هـ وعمر البيطار 20 سنة! ولاحظ تشجيع القاسمي والألوسي للبيطار والثناء عليه مما يفتقده كثير من المربين والمدرسين اليوم تجاه طلابهم وتلاميذهم!!

    وهذا الرد من بهجة البيطار كان برضى شيخه القاسمي، وهذه الخطابات تكشف عن حقيقة وعي القاسمي بانحراف الشيعة وأن الظلم والكذب من طبعهم، فالقاسمي ألف رسالته "ميزان الجرح والتعديل" عام 1330هـ والتي تلطف معهم فيها بل جاملهم، مما جعل بعض علماء عصره ينتقده عليها لكن الشيعة شنوا عليه حملة ظالمة، فتصدى لهم البيطار عام 1331هـ وهو في العشرين من عمره، ثم ما لبث أن توفي القاسمي في العام التالي (1332هـ).

    3- وبسبب دعم وتوجيه وتقديم شيوخ البيطار له عند المصلحين، نجد العلامة محمد رشيد رضا بالاتفاق مع الأمير فيصل بن الحسين يكلف محمد بهجة البيطار وشلاش النجدي أن يحملا رسالة سياسية ودينية للأمير عبد العزيز بن سعود في نجد لإرساء التعاون والتفاهم و"عقد اتفاق عام بين جميع أمراء الجزيرة العربية وأئمتها الكرام دفعاً للعدوان الأجنبي"، وذلك سنة 1338هـ/ 1920م. وهذا الاختيار للبيطار هو بسبب سلفيته مما يفتح المجال لتقبلها لدى عبدالعزيز.

    وقد كانت هذه المهمة الأولى للبيطار لخدمة الإسلام على يد "سيدنا الإمام" ويقصد رشيد رضا كما دونها في كتابه الذي وصف به رحلته وسماه "الرحلة الحجازية النجدية، صور من حياة البادية 1338هـ - 1920 م"، وواضح اهتمام البيطار المبكر بعلم الاجتماع والعمران والذي سيكون حاضراً في حياة ومنهج البيطار طيلة حياته.

    وكتب رشيد رضا في المنار عن هذه المهمة في مقالاته "العبرة بسيرة الملك فيصل رحمه الله تعالى" فقال: "وذكرت له – يقصد الأمير عبدالعزيز بن سعود- فيه أنني مرسل إياه مع الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار (وهو خير ثقة من أهل العلم والصلاح هنا، فثقوا به فيما يبلغكم عني ويبلغني عنكم، وإن كان غير متمرس بالسياسة على أنني لقنته ما لا بد له من العلم به من الأحوال الحاضرة)".

    وفعلاً بقي الشيخ بهجة غير متمرس بالسياسة، ومن ذلك ما رواه الشيخ علي الطنطاوي تليمذ الشيخ بهجة عن خداع الروس للشيخ لما زار روسيا، فقال: "لقد خدع أكثر من ذهب إلى روسيا من العلماء والمشايخ، حتى شيخنا الشيخ بهجة. وكانت لي دروس ليلية في مسجد الجامعة بدمشق، وكنت أتكلم ليلة عن الشيوعية، فدخل شيخنا الشيخ بهجة. ففرحت، وقلت له: تفضل يا سيدي أهلاً وسهلاً، حدثهم عما رأيت في روسيا.

    فكان مما قال: أنه لم ير عورة بادية ولا ذراعاً عارياً، ما رأى إلا الحجاب السابغ، فتألمت ووجدت أنه – غفر الله له – سيهدم عليّ ما بنيت، وينفض ما أبرمت. فسألته لأنبّه الشباب السامعين، وكم هي درجة الحرارة هناك يا سيدي؟ فقال: عشرون تحت الصفر. فأفهمتهم أن هذا الحجاب للخوف من البرد لا للحرص على الفضيلة".

    وهذا لا ينقص من قدر الشيخ فقد فتح الله عز وجل له في باب التعليم والتربية ما لم يفتح له في باب السياسة، ولذلك لم يتصدر لها ويخض فيما لا يحسن، وكان مهتماً بدراسة علم الإجتماع والتعرف على أسرار الشعوب والعمران وله في ذلم مقالات مهمة في مجلة المنار وغيرها.

    4- درس الشيخ في المدرسة الكاملية وغيرها من المدارس الأهلية، ثم طلبت منه مديرية التعليم بدمشق سنة 1921، زمن تولي العلامة محمد كرد علي لها، أن يدرس في مدرسة الميدان الابتدائية الدروس الدينية والعربية والفرنسية بمدرسة خالد بن الوليد، وكان الشيخ بهجة يدرك مدى أهمية هذه الوظيفة فأقبل عليها بكليته.

    ويشرح لنا الشيخ الطنطاوي نظرتهم للتعليم الابتدائي آنذاك، فيقول: "لقد عرفتم أن الذين كانوا يعملون معي أو كنت أنا أعمل معهم في المدارس الابتدائية هم من جلّة مشايخنا ومن كبار زملائنا، علماء كبار وأدباء معروفون. حسبكم أن منهم شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار، وشيخنا حامد التقي، وأن منهم الطبيب الشيخ رفيق السباعي... ما كنت ولا كان كثير من إخواني نعد أنفسنا معلمين فقط. وما كنا نرانا مسؤولين أمام وزارة المعارف وحدها، نطبق مناهجها ونطيع أوامرها، بل كنا نعد الجواب للسؤال يوم العرض على الله: السؤال عن تربية الأولاد على ما يرضيه، على الشريعة التي بعث بها خاتم رسله، عن تخريج أمة جديدة تؤمن بالله إيماناً خالياً من الشرك كله، الظاهر منه والخفي. تخاف الله ولا تخاف في الحق أحداً إلا الله ... كنا نلقنهم العقيدة سالمة من الشوائب، ونعودهم العبادات بعيدة عن الرياء، والسلوك الذي يحببهم إلى الناس، ولا يكرههم إلى الله".

    أما سر تفرد الشيخ البيطار بالقبول بين التلاميذ فتكشفه لنا نصيحة الشيخ لابنه عاصم لما تخرج من جامعة دمشق سنة 1952م وعزم على العمل في سلك التعليم، فأوصاه بقوله: هناك "أمر مهمٍّ يجب أن تضعه في حسبانك، وأن توليَه قَدْرًا كبيرًا من عنايتك واهتمامِك، هو أن تَكسبَ قلوبَ طلاَّبك، وأن تَحملَهُم على محبَّتك واحترامك، فإذا ما نَجحتَ في هذا الأمر، أدَّيتَ رسالتَكَ على الوجه الأكمَل الأتَمِّ؛ لأن طلاَّبَك إذا ما أحبُّوكَ أحبُّوا مادَّتَك واعتَنَوا بما تُقدِّم لهم من علم ونُصح وفائدة، وانتَفَعوا بها".

    5- وفي سنة 1344هـ - 1926م طلب منه أن يمثل سوريا بالمؤتمر الإسلامي العالم الأول الذي دعا إلى عقده في مكة المكرمة الملك عبد العزيز بن سعود، لبحث قضايا المسلمين في العالم بعد إلغاء الخلافة العثمانية.

    وبعد انتهاء المؤتمر طلب منه الملك عبد العزيز البقاء في مكة المكرمة للمساعدة على نهضة الحجاز بتوصية من الشيخ كامل القصاب الذي كان يتولى إدارة المعارف بالحجاز، خاصة أن البيطار في كتابه "الرحلة الحجازية النجدية" زار مدارس المدينة المنورة وكتب عن مشاهداته فيها وما تحتاجه من عناية وتطوير في مناهجها وأحوال المعلمين، كما كتب عن "المتدينة" وهم البدو الذين انخرطوا في الدعوة السلفية الوهابية لكن بعضهم لم يجد من يعلمه حقيقة الدعوة فخلط عاداته البدوية القديمة غير المنضبطة بالشرع بالدعوة الوهابية مما أنتج خليطا مشوها من السلوك المنسوب للشرع والوهابية وهما بريئان منها، وبسبب هذا السلوك المنحرف خشي البيطار على نفسه أن يقتل إذا مر في أراضيهم، ورأى البيطار أن انتشار الدعاة والعلماء بينهم ضرورة ملحة.

    6- أسند إليه القصاب تأسيس وإدارة المعهد العلمي بمكة والذي يعتبر أول مدرسة حكومية، وبقي في إدارة المعهد خمس سنوات. وكان طيلة هذه السنوات يدرس بالحرم المكي، وتولى إمامة صلاة الظهر فيه بالنيابة في سنة 1345هـ ، ولما زار المدينة شهراً درّس في الحرم النبوي.

    وفي هذه الأثناء (سنة 1346هـ) عين أيضاً عضواً بمحكمة مكة الشرعية الكبرى ونائبا لرئيس هيئة المراقبة القضائية، وقد رفض الشيخ راتب القضاء وبقي على راتب التعليم برغم أنه نصف راتب القضاء وذلك أن الزهد في الدنيا وزخرفها من سمات البيطار.

    وفي سنة 1347 عين أيضا مفتشاً للعلوم الدينية بمدارس الحجاز، ومدرساً للتوحيد والتربية العلمية، كما عين عضوا بمجلس المعارف العمومية.

    6- بعد خمس سنوات عاد محمد بهجة البيطار إلى دمشق سنة 1931م، فوجد أن وظيفته أسندت لغيره، وفقد عشرة أعوام من سنوات تقاعده، لكن هذا لم يؤثر عليه حيث عاد لمسجد الدقاق يؤم ويدرس ويخطب فيه، وكانت خطب الشيخ دعوة للعودة للقرآن والسنة والاجتهاد، وترك التعصب والتحذير من البدع والخرافات والشركيات، مما أدى لتغيير هائل في أهل دمشق، وممن تأثر بهذه الخطب: الشيخ علي الطنطاوي والذي يصف تفرد طريقة البيطار في الخطابة عن خطباء عصره، فيقول: "لم يكن يقرأ الخطبة من ديوان قديم كما كان يصنع أكثر الخطباء، ولا من ورقة مكتوبة يضع عينه فيها، ولا يرفع رأسه عنها، بل كان يخطب ارتجالا ولم يكن يلقي كلامه ذلك الإلقاء الملحن الممطوط الذي يسبب النعاس ويستدعي الملل، ... عرفته في تلك الأيام فوجدتني معجباً به، ولكني مخالف له، لقد وجدت أن الذي أسمعه منه يصدم كل ما نشأت عليه، فقد كنت في العقائد على ما قرره الأشاعرة والماتريدية، وهو شيء يعتمد في تثبيت التوحيد من قريب أو بعيد على الفلسفة اليونانية وهي فلسفة بدائية، وكنت موقنا بما ألقوه علينا وهو أن طريقة السلف في توحيد الصفات أسلم، وطريقة الخلف أحكم، فجاء الشيخ بهجة يقول لي: بأن ما عليه السلف هو الأسلم وهو الأحكم. وكنت قد نشأت على النفرة من ابن تيمية والهرب منه، بل وبغضه، فجاء يعظمه لي، ويحببه إلي، وكنت حنفياً متعصباً للمذهب الحنفي، وهو يريد أن أجاوز حدود التعصب المذهبي، وأن أعتمد على الدليل لا على ما قيل.

    وتأثرت به وذهبت مع الأيام مذهبه مقتنعاً به، ولكن لم يكن هذا التحول هيناً ولا سهلاً، وما كنت سهل القياد ولا سريع الانقياد، بل ناضلت دون ما كنت اعتقده، وأمضيت عشرات الجلسات والسهرات في المجادلات والمناظرات، أنا باندفاعي وحماستي وعنفي، والشيخ بهجة بسعة صدره وطول أناته وغزير علمه وقوة حجته... فغدوت سلفي العقيدة متمسكاً بالدليل".

    وقد كانت العادة أن الخطيب بعد صلاة الجمعة يستقبل المصلين في بيته، ويسجل لنا عاصم البيطار ذكرياته عن هذه الجلسات فيقول: "كانت تُعقَد في بيت سيدي الوالد رحمه الله (ت 1976م) من بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع حتى صلاة العصر، وكان أركان هذه الجلسات الفتية الدائمون الأساتذة الأجلاء: عز الدين علم الدين التنوخي والشيخ علي الطنطاوي وشاعر الشام أنور العطار وأستاذنا الأفغاني رحمهم الله جميعاً.‏ كانوا يؤدون صلاة الجمعة في جامع كريم الدين الشهير بالدقاق، وكان والدي مدرّساً فيه وخطيب الجمعة على منبره مدةً تزيد على ستين عاماً، فإذا قُضِيت الصلاة شرّفوا دارنا، وتناولوا طعام الغداء، ثم تبدأ الجلسة العملية التي كانت روضة من رياض المعرفة. ومن الطريف أنهم كانوا يشترطون أن يكون الطعام لوناً واحداً لا يتغير، وهو (الكوسا المحشوّ) ولطالما سمعت الأستاذ الطنطاوي يردد: لا صلاة إلا في الدقاق، ولا طعام إلا الكوسا... وكان الطنطاوي بحقٍّ هو المحرك لهذه الجلسات التي استمرت أعواماً؛ وكم يحزّ في النفس الآن أن وسائل التسجيل لم تكن متوافرة عندنا في تلك الأيام. ولو سُجّل ما كان يدور في هذه الاجتماعات لوقفنا على كنوزٍ من العلوم والمعارف. وقد تجاوزت أخبار هذه الجلسات الأسبوعية الحدود، ووصلت إلى أسماع الكثير من أصدقاء الوالد في العالمين العربي والإسلامي، ولذا كان يحضرها علماء كبار ممن يُلمُّون بدمشق، وإنني لأذكر ممن حضر عدداً من هذه الجلسات: أميرَ البيان شكيب أرسلان، وعين أعيان جدة الشيخ محمد نصيف، والعلامة الجليل أبا الحسن الندوي، ونائب رئيس جمعية العلماء الجزائريين ثم رئيسها بعد وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس، الشيخ البشير الإبراهيمي الذي أقام في دمشق فترة بعد أن نفاه الفرنسيون".

    أما الشيخ علي الطنطاوي فيحدث عن خطب البيطار والجلسات التي تعقبها في بيته وأثرها في الشباب أمثاله فيقول: "وكنت كلما حضرت خطبته، وانصرف إلى داره انصرف معه جماعة من الناس، فوجدوا المائدة معدة، ففي كل جمعة وليمة، ويبقون يتحدثون ويستمعون إلى الشيخ فيستفيدون حتى يؤذن العصر، فيصلوا ويذهبوا، وكنت آخذ إليه كل من عنده شبهة في الدين، أو كلام في الإسلام سمعه من غير المسلمين، فيزيل الشيخ الشبهة ويدفع الاعتراض"، والطنطاوي في موضع آخر يقول إنه حضر خطبة البيطار أكثر من ثلث قرن"، وكان هذا دأب البيطار: كرم وضيافة وتعليم.

    7- وبعد ثلاث سنوات دعته جمعية المقاصد في 1353هـ/ 1934م لتدريس العلوم الشرعية والأدب في كليتي المقاصد الخيرية للبنين والبنات في مدينة بيروت، وفي نفس السنة طلبت منه وزارة المعارف التدريس بثانوية البنات ودار المعلمات بدمشق، فكان يسافر عصر الجمعة لبيروت ويعود منها مساء الثلاثاء من كل أسبوع، وقد كان بدأ في مراجعة وتحقيق كتاب "قواعد التحديث" للقاسمي بطلب من ولده ظافر، فأصبح يستغل مكوثه في السيارة والقطار بين بيروت ودمشق لإكمال المراجعة والتصحيح.

    8- ثم عين مدرسا في الكلية الشرعية في سنة 1361هـ، وبدأ يدرس تفسير القرآن من الوجهة الأدبية في دار المعلمين العليا سنة 1942م.

    وقد كان البيطار متميزاً في تدريسه للطلاب حتى قال فيه أحد الأدباء من طلابه:

    وما أستاذنا البيطار إلا وحيد الشام في علم الكتاب

    فيشرح حين يشرح كل صدر بمعنى من معانيه العذاب

    ويبعث همة الآساد فينا كان الشيخ في شرخ الشباب

    9- وبسبب حسن عمله السابق في تأسيس المعهد العلمي بمكة أعاد الملك عبدالعزيز بن سعود في عام 1363هـ/ 1943م استدعاءه للحجاز ليتولى تأسيس دار التوحيد بالطائف لتعليم الطلبة ليكونوا قضاة ومفتين ودعاة، وبقي البيطار ثلاث سنوات هناك أسس فيها الدار حتى أصبحت ثانوية كبيرة، وقد رافقه في هذه المهمة ولداه يسار وعاصم. وقد كان للبيطار صلة شخصية بالملك عبد العزيز بل كانت من المتانة بحيث أنه شجع ويسر للشيخ علي الطنطاوي الكتابة والتواصل مع الملك.

    ومن القضايا الجديرة بالبحث والدراسة هي الدور الكبير والريادي للعلماء السلفيين في دعم ومساعدة الدولة السعودية في نشأتها، فقد كان من سياسة الملك عبد العزيز الاستعانة بالعلماء السلفيين من الشام ومصر وغيرها في إنشاء المؤسسات العلمية والدعوية والتعليمية والإعلامية والسياسية، فقد كان من رجاله العلماء الأجلاء: كامل القصاب، محمد بهجة البيطار، خير الدين الزركلي، حامد الفقي، عبدالظاهر أبو السمح، تقي الدين الهلالي، وكان لرشيد رضا دور كبير في الدعاية للدولة السعودية ومنهجها.

    10- وبعد أن أمضى ثلاث سنوات في الطائف عاد لدمشق، فعهدت إليه جامعة دمشق في عام 1947 تدريس مادتي التفسير والحديث في كلية الآداب، وفي سنة 1953 أُحيل للتقاعد.

    11- لكن الشيخ البيطار بقي يقدم بعض المحاضرات في التفسير في كلية الشريعة، واستمر يدرس ويخطب الجمعة بمسجد الدقاق، وإلقاء الأحاديث الدينية والاجتماعية في الإذاعة السورية، بالإضافة لنشاطه الكبير لخدمة المجمع العلمي بإلقاء المحاضرات والإشراف على مجلة المجمع ومطبوعاته حتى وفاته، وكان البيطار قد انتخب عضواً عاملاً في المجمع العلمي العربي بدمشق سنة ‏1923م، وانتخب عضوا مراسلاً للمجمع العراقي سنة 1954م. كما كان البيطار عضواً في جمعية العلماء، ثم في رابطة العلماء في دمشق.

    وبدأ البيطار يكتب في مجلة المجمع من سنة 1933م، وقد كتب مقالات كثيرة في التعريف بالكتب والمؤلفات الحديثة، ومما عرف به البيطار بحسب المسرد الذي وضعه د.عدنان الخطيب لمقالات البيطار نجد هذه الكتب: عبدة الشيطان لعبد الرزاق الحسني، الخلافة لتوماس آرنولد، بصائر جغرافية لرشيد العابري، الوحدة الإسلامية بين الأخذ والرد لمحمود الملاح، مذكرات سائح في الشرق العربي لأبي الحسن الندوي، توضيح الكافية الشافية لعبدالرحمن السعدي، رسائل الإيمان تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، ويتضح منها سعة اطلاع الشيخ وتنوع مطالعاته.

    12- وتقديرا للشيخ ومكانته التربوية فقد تم استدعاؤه للرياض من قبل الملك سعود بن عبد العزيز سنة 1961 للمشاركة في مشاورات تأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، قدم خلالها تصوره والمنهج المقترح للجامعة. وفي السنة التالية زار المدينة المنورة وزار الجامعة واطلع على سير الأمور فيها وألقى بعض المحاضرات على الطلبة.

    13- أتيح للشيخ زيارة الحجاز عدة مرات، وزار العراق والكويت ومصر وفلسطين والأردن وباكستان والهند وروسيا وأمريكا وكندا، وذلك لحضور بعض المؤتمرات وإلقاء بعض المحاضرات.

    14- تميز الشيخ بزهده في الدنيا وزخارفها برغم علاقته بالملوك والرؤساء، فقد رفض تقاضي راتب القضاء بمكة واكتفى براتب التعليم برغم أنه نصف راتب القضاء، ولما أهداه الملك سيارة وهبها لدار التوحيد بالطائف، ولما صرف له المجمع العلمي بروسيا ألف ليرة لشراء الهدايا رفض استلامها، وحين دخل في شراكة لتأسيس مدرسة أهلية بعد رجوعه من الحجاز سنة 1931م وقدر أنها لم تنجح، تحمل الخسارة وحده ولم يطالب شركاه بتحمل الخسارة معه حفاظاً على صداقته بهم.

    15- كان الشيخ آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يكن يقتصر على فئة دون أخرى، ففي حفل تأبين الشيخ المحدث بدر الدين الحسيني، حضر الحفلَ ولدُه رئيس الجمهورية السورية آنذاك الشيخ تاج الدين الحسيني ورئيس الحكومة والوزراء، عدد الشيخ البيطار في كلمته مناقب شيخه الحسيني ثم التفت نحو مقاعد الرئيس والحكومة ووجه الحديث إليهم أن الفقيد كان إذا قابل المسؤولين قال لهم: أيها الرؤساء أيها الوزراء والأمراء أيها الأغنياء: أنتم خلفاء الله في أرضه على عباده... فانظروا ماذا تقولون في خلافتكم... وعدلتم في الرعية جعلكم مع عباده الأبرار في جنات تجرى من تحتها الأنهار... وإن انحرفتم عن الطريق السوي... أدخلكم ناراً وقودها الناس والحجارة...

    ثم عاد البيطار بوجهه للجمهور أمامه وقال: هكذا كان شيخنا الشيخ بدر الدين يقول تغمده الله برحمته".

    16- كان للشيخ علاقات مع الهيئات السلفية خارج سوريا، فالبيطار كان من أوائل من تولى الفتيا على صفحات مجلة (الهدي النبوي) التابعة لجماعة أنصار السنة المحمدية بمصر منذ الأعداد الأولى لصدورها، وذلك من خلال علاقة البيطار ببعض علماء الجماعة مثل الشيخ عبد الرزاق عفيفي الذي كان معلماً في دار التوحيد بالطائف والتي أسسها البيطار.

    وكذلك تم منح البيطار منح لقب "الرئيس الشرفي" لجمعية العلماء المسلمين بالجزائر سنة 1951م، مع بعض العلماء الأجانب الذين يشتركون معها في الفكر والمنهج والهدف، بهدف توسيع نشاطها الإعلامي ولفك حصار الاحتلال الفرنسي لها، والذين منحوا هذا اللقب: محمد بهجة البيطار (سوريا)، محمد تقي الدين الهلالي (العراق)، محمد عبد اللطيف دراز (مصر)، محمد أمين الحسيني (فلسطين)، محمد بن العربي العلوي (المغرب)، عبد القادر المغربي (سوريا)، عبد العزيز جعيط (تونس)، مسعود الندوي (باكستان)، أحمد بن محمد التيجاني (المغرب)، محمد نصيف (الحجاز).

    وقد كان للبيطار علاقة وثيقة جداً بالشيخ البشير الإبراهيمي حين استقر بالشام سنة 1916م قبل عودته للجزائر.

    17- من ثمرات هذه المسيرة الطويلة للبيطار كوكبة من العلماء الأفذاذ في مجالات علمية متعددة، فمن تلاميذ البيطار: ولداه يسار وعاصم واللذان كانا متميزين في خلقهما وعلمهما حيث كان عاصم يعد أفضل مدرسي النحو في السعودية والشام، والشيخ الأديب علي الطنطاوي، وعميد مجمع اللغة العربية عز الدين التنوخي، والشيخ عبد القادر الأرناؤوط، والشيخ محمد نسيب الرفاعي، والشيخ الألبانى حيث كان يحضر دروسه مع عدد من أساتذة المجمع العلمي بدمشق، وكان الشيخ البيطار من الذين اقترحو تخريج أحاديث كتاب "منار السبيل" وهو من أهم كتب الحنابلة، فخرجه الشيخ الألباني في كتابه العظيم "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل".

    ويقول الشيخ مسلم الغنيمي عن تطور حال تلاميذ البيطار: "حاول أوليائي أن يفصلونى عن الأستاذ الشيخ سعدي لأنه يتردد على الشيخ محمد بهجة، فأنا بقراءتي على أستاذ يتردد على الشيخ محمد بهجة أسيء إلى سمعة عائلتي (آل الغنيمي)، وكيف أصبح الحال اليوم من أن من تتلمذ عليه يعد مفخرة واعتزازاً، فقد تتلمذ عليه الملوك والأمراء والرؤساء والوزراء والدكاترة وأساتذة الجامعات، ولم يكن هذا الفارق العظيم بين الماضي المظلم المتدثر برداء العلم، والحاضر المشرق بنور العلم والعرفان إلا بسبب جهاده ونضاله وصبره على أذى المغرضين والمتمشيخين الجهل، وسار بالدعوة إلى الله على المنهاج الذي رسمه رب العالمين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم: "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"، فكانت النتيجة واحدة، صد وإعراض في أول الأمر، ثم دخول الناس في دين الله أفواجاً".

    18- كانت وفاته في يوم السبت 30 جمادى الأولى 1396هـ/ 29 أيار- مايو 1976م إثر مرض لم يمهله طويلاً، فصلي عليه في مسجد الدقاق الذي أمّ فيه وخطب أكثر من سين عاماً، وشيعه خلق كثير منهم الوزراء والعلماء والأغنياء والفقراء.

    19- أثنى عليه عدد من كبار العلماء فقال عنه العلامة البشير الإبراهيمي: "علم من أعلام الإسلام، وإمام من أئمة السلفية الحقة، دقيق الفهم لأسرار الكتاب والسنة، واسع الإطلاع على آراء المفسرين والمحدثين سديد البحث في تلك الآراء، أصولي النزعة في الموازنة والترجيح بينها ثم له بعد رأيه الخاص... والأستاذ البيطار مجموعة فضائل، ما شئت أن تراه في عالم مسلم من خلق فاضل إلا رأيته فيه... و(هو) مفكر عميق التفكير".

    ورثاه العلامة محمد بهجة الأثري العراقي بقصيدة قال فيها:

    عَلَمٌ على الذُّرُوات رفَّ كما رف السنا وتلامح النُّوْر

    العلمُ ملءُ جنانه دُفَقٌ والعقل خلف لسانه وَقْرُ

    تتألق الفصحى على فمه زهواً كما يتألق البدرُ

    عالٍ على الأهواء مُتِّشِحٌ بحجىً له في لمحه غوْرُ

    مصباحه الفرقان يتبعه أنى أشارت آيُهُ الزُّهْرُ

    ينحو ويسلك ما تفهَّمه منه النبيُّ وصحبه الغُرُّ

    ويقيم من مالوا به جنفاً حتى يثوب إلى الهدى الصُعْرُ

    كم نزَّه الإسلام من بدعٍ قد باضها الشيطان والكفرُ

    مقبوحةٍ شوهاءَ شاه بهاً وجه الهدى وتلوث الطهرُ

    20- ترك البيطار 15 كتابا وتحقيقاً لبعض كتب شيوخه وفاءً لبعض حقهم عليه، كما ترك الفقيد مؤلفات عديدة وبحوثاً كثيرة نشرت له في مختلف الصحف والمجلات السورية والعربية السعودية والمصرية والعراقية. طبع بعضها مستقلاً، ومازال الكثير منها شتيتاً في باطن المجلات، أما تآليفه وما طبع منها مستقلاً من أبحاثه فهو:

    * كتاب (قواعد التحديث، من فنون مصطلح الحديث لجمال الدين القاسمي) حققه وخرج أحاديثه.

    * تفسير (سورة يوسف) حيث أكمل التفسير الذي بدأه السيد رشيد رضا مع التقديم له.

    * كتاب (المعاملات في الإسلام وتحقيق ما ورد في الربا) وقد بدأه محمد رشيد رضا وأكمله البيطار ووضع مقدمته.

    * كتاب (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر) تأليف جد البيطار، الشيخ عبد الرزاق، تحقيق محمد بهجة البيطار.

    * رسالة (الإسلام والصحابة الكرام بين السنة والشيعة).

    * بحث (الإنجيل والقرآن في كفتي الميزان).




    مصادر للتوسع:

    ترجمة ذاتية بقلم البيطار ملحقة بكتابه الرحلة الحجازية.

    محمد بهجة البيطار، د.عدنان الخطيب.


    رجال من التاريخ، علي الطنطاوي.

    رجال فقدناهم، مجد مكي.
    تاريخ علماء دمشق، محمد الحافظ ونزار أباظة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,503

    افتراضي رد: :: سلسلة رموز الإصلاح

    محدث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
    أسامه شحادة





    تمهيد:

    يعد محدث العصر الشيخ الألباني أحد أهم المصلحين السلفيين المعاصرين والذين تركو أثراً بارزاً على مسيرة الأمة الإسلامية، ولم يقتصر تأثيره ودوره على بلد محدد بل لقد بلغ تأثيره كافة أرجاء المعمورة ولا يمكن لباحث منصف في مسيرة الإصلاح المعاصر أن يتجاوز جهوده ودوره المحوري في الصحوة الإسلامية المعاصرة برغم أنه لم ينشئ جماعة خاصة به أو يرعى مؤسسة أو جمعية بعينها، ويكفيه شرفاً أن حرصه على نشر السنة النبوية الصحيحة أصبح وسام تفوق يتسابق الجميع على الوصول إليه حتى من خصومه ومخالفيه.



    مولده ونشأته:

    ولد الشيخ محمد ناصر الدين بن الحاج نوح نجاتي الألباني عام 1333هـ الموافق 1914م في مدينة أشقودرة، عاصمة دولة ألبانيا - حينئذ - لأسرة فقيرة متدينة يغلب عليها الطابع العلمي، وكان والده أحد علماء المذهب الحنفي والذي هو مذهب الدولة العثمانية، ولما ضعفت الخلافة الإسلامية تم اقتطاع ألبانيا من جسد الدولة العثمانية سنة 1912م وإلحاق بعضها بصربيا وجزء بالجبل الأسود/ مقدونيا وقسم بقي باسم ألبانيا، فاضطربت أحوال المسلمين بها لذلك، وأصبحت ألبانيا وكأنها تابعة لإيطاليا بزعامة موسوليني، وقلد أحمد زاغو ملك ألبانيا سياسات أتاتورك المعادية للدين فمنع المسلمات من لبس الحجاب، فآثر والده الهجرة إلى دمشق الشام للإقامة الدائمة فيها حرصاً على الإسلام والدين وذلك سنة 1923م، وفعل ذلك الكثير من الألبانيين.

    في دمشق درس الألباني بمدرسة الإسعاف الخيري المرحلة الابتدائية وكان لا يعرف العربية أبداً، ولكن لأن المدارس النظامية في ذلك الوقت كانت تحت عهدة الاحتلال ولم تكن تعنى بالعلوم الشرعية بشكل جيد، لم يرغب والده أن يبقى في هذه المدارس وقام هو بنفسه بتعليمه فقرأ الألباني القرآن الكريم على يد والده ودرسه التجويد، والنحو والصرف، والفقه الحنفي، ودرس على الشيخ سعيد البرهاني "مراقي الفلاح" في الفقه الحنفي وبعض كتب اللغة والبلاغة.

    كما تعلم علوم الشريعة على يد والده، فقد علمه أيضاً مهنة إصلاح الساعات، فأجادها حتى صار من أصحاب الشهره فيها، وأخذ يتكسب رزقه منها.

    توجهه إلى علم الحديث واهتمامه به:

    لقد نشأ الألباني في بيئة حنفية متعصبة، وكان التقليد والتصوف هما المنهجان السائدان في الشام آنذاك، وكان الألباني على هذا المنوال حيث يأخذه والده لزيارة قبور الأولياء كابن عربي والنابلسي، وكان الجو معاديا لدعوة الكتاب والسنة والتي كانت تُلقب وتُنبز بالوهابية، إلا أن الله عزوجل أراد للألباني أن ينتقل لمنهج الاتباع والاجتهاد والحرص على السنة، يقول الألباني عن ذلك: "فلم أزل على خطى والدي في هذا الاتجاه حتى هداني الله إلى السنة، فأقلعت عن الكثير مما كنت تلقيته عنه مما كان يحسبه قربة وعبادة"، وكان ذلك بتقدير الله لوالده بالهجرة لدمشق فتعلم العربية وقرأ الكتب السلفية، ولذلك كان الألباني يدعو ويشكر لوالديه دوماً هذا الفضل، برغم أن والده رفض منهجه السلفي وخيّره بين أن يوافقه في مذهبه الحنفي أو يفارقه في البيت والعمل، فاختار الألباني أن يتمسك باتباع الدليل الصحيح من القرآن الكريم والسنة، هذا والألباني لم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره!!

    وقصة تحول الألباني لمنهج الكتاب والسنة كان عن طريق قراءته وهو دون سن العشرين لمجلة المنار التي يصدرها العلامة محمد رشيد رضا في مصر، يحدثنا الألباني عن تلك الفترة فيقول: "أول ما ولعت بمطالعته من الكتب: القصص العربية كالظاهر وعنترة والملك سيف وما إليها. ثم القصص البوليسية المترجمة كأرسين لوبين وغيرها، وذات يوم لاحظت بين الكتب المعروضة لدى أحد الباعة جزءا من مجلة المنار فاطلعت عليه ووقعت فيه على بحث بقلم السيد رشيد رضا يصف فيه كتاب الإحياء للغزالي، ويشير إلى محاسنه ومآخذه .. ولأول مرة أواجه مثل هذا النقد العلمي فاجتذبني ذلك إلى مطالعة الجزء كله ثم أمضي لأتابع موضوع تخريج الحافظ العراقي على الإحياء ورأيتني أسعى لاستئجاره لأني لا أملك ثمنه. ومن ثم أقبلت على قراءة الكتب، فاستهواني ذلك التخريج الدقيق حتى صممت على نسخه".

    من هنا كانت شرارة توجه الألباني لدراسة علم الحديث، وفي هذا دلالة هامة جداً على دور المجلات والصحف ووسائل الإعلام الصادقة في هداية المسلمين ونفعهم شباباً ورجالاً وأن الصحف والمجلات سبب هام من أسباب نهضة المسلمين العصرية، فبسبب مقال يشاء الله عز وجل ظهور محدث للعصر!!

    وتدور عجلة الزمان ويبدأ الألباني في عام 1372هـ يكتب في المجلات أبحاثا ومقالات في علم الحديث في مجلة (التمدن الإسلامي) يكون لها تأثير كبير في نشر علم الحديث والعناية بالتزام السنة الصحيحة في سوريا وخارجها، وكانت بداية التعريف بالألباني في العالم الإسلامي، ويقول د. أحمد معبد عن هذه المقالات: "كنت أسأل نفسي كيف يعرف الشيخ ناصر الحديث الصحيح من الضعيف... هل هو ساحر"، ثم يصبح د.أحمد معبد شيخاً في علم الحديث.

    ومجلة المنار كانت سبباً مهماً في قيام الصحوة الإسلامية الإصلاحية المباركة بل كان بعض المستشرقين يعدها وزارة الإعلام للعالم الإسلامي، وقد كانت تتداول في الشام عند الباعة بسبب ما شهده الشام من دعوة إصلاحية تناولناها في الحلقات السابقة كان من رموزها العلامة طاهر الجزائري والعلامة عبد الرزاق البيطار والعلامة جمال الدين القاسمي والشيخ محمد بهجة البيطار، والذي تعرف عليه الألباني وحضر بعض مجالسه ودروسه.

    فواظب الفتى الألباني على مطالعة مجلة المنار والاستفادة من أبحاثها وخاصة تحقيقات رشيد رضا في علم الحديث وكان أول عمل حديثي قام به هو نسخ كتاب "المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" للحافظ العراقي، ولم يكن ذلك مجرد نسخ، فبعد أن نسخ نصف مجلد خطر له أن يقوم بشرح غريب الكلمات، فأعاد نسخ المجلد من جديد مع شرح غريب الكلمات حتى صار التعليق على الكتاب أكثر من المتن، وقد بلغ عدد صفحاته 2000 صفحة!! ويقول الألبانى عن ذلك الجهد: "وأحسب أن هذا المجهود الذي بذلته في دراستي تلك هو الذي شجعني وحبب إليّ المضي في ذلك الطريق"، وأصبح الاهتمام بالحديث وعلومه شغله الشاغل، وأصبح معروفاً بذلك في الأوساط العلمية بدمشق، حتى إن إدارة المكتبة الظاهرية بدمشق خصصت غرفة خاصة له ليقوم فيها بأبحاثه العلمية المفيدة، وسمح له أن يدخلها وقت ما شاء، وبقي الألباني يذكر فضل العلامة رشيد رضا عليه فيقول: "فإنني بفضل الله عز وجل بما أنا فيه من الاتجاه إلى السلفية أولا وإلى تمييز الأحاديث الضعيفة والصحيحة ثانياً يعود الفضل الأول في ذلك إلى السيد رضا رحمه الله عن طريق أعداد مجلته المنار التي وقفت عليها في أول اشتغالي بطلب العلم".

    وهنا يجب أن نتنبه لتواصل الأجيال والتأثير غير المباشر لجهود المصلحين، فرشيد رضا يؤسس المنار ويبث فيها دعوته الإصلاحية والتي منها تعظيم السنة والدعوة لتنقيتها من الشوائب التي ألصقت بها فيتشربها الألباني ويجعلها تياراً جارفاً يسري في الأمة، والعلامة طاهر الجزائري يقوم بتأسيس المكتبة الظاهرية سنة 1296هـ - 1880م، والتي يقوم الألباني بعد حوالي 50 سنة بقراءة مخطوطاتها والبالغ عددها نحو عشرة آلاف مخطوط ورقة ورقة وهو يبحث عن ورقة ضائعة من مخطوط (ذم الملاهي) للحافظ ابن أبي الدنيا، وكان أحيانا يبقى واقفا على السلم عدة ساعات يقرأ، هذا كله وهو في إجازة مرضية بأمر الطبيب!!

    وبسبب البحث عن هذه الورقة تمكّن الألباني من وضع فهرس لمخطوطات المكتبة الظاهرية! وقد أعاد الألباني قراءة كل المخطوطات في المكتبة الظاهرية ثلاث مرات، ونسخ كل ما فيها من فوائد حديثية، وأصبحت زيارة مكتبات المخطوطات وجمع ما فيها من فوائد حديثية هواية وصِفة لازمة للألباني فقد جمع من مخطوطات الظاهرية، ومكتبة الأوقاف بحلب، والمكتبة المحمودية بالمسجد النبوي، ومكتبة عارف حكمت بالمدينة النبوية، ومكتبة الجامعة الإسلامية، وغيرها من مكتبات المخطوطات حتى تجمع عنده حوالي أربعون مجلداً، وكانت هذه المجلدات الأربعون الثروة العلمية الحديثية التي تفوق بها الألباني في علم الحديث على غيره، ولقلة مالِه كان يكتب هذه الفوائد على ظهر ورق الإعلانات الذي يجمعه من الطرقات أو يشتريه بثمن بخس.

    وليس بغريب أن يقرأ الألباني كل هذه المخطوطات، فالجميع يشهد له حتى في شيخوخته بجلَده وصبره على القراءة والبحث والكتابة حتى قبل 50 يوما من وفاته، فكيف كانت همته حين كان شاباً؟ فقد بدأ حياته بتعلم مهنة النجارة، لكن كان يتوقف العمل في الشتاء فاقترح عليه والده أن يعلّمه مهنة تصليح الساعات، فكان يستغل وقت الفراغ وعدم وجود عمل للمطالعة، وبعدما انفصل عن والده في دكان خاص به أصبح يعمل ساعة أو ساعتين في اليوم يحصل بها القوت الضروري لعائلته، ثم يذهب للمكتبة الظاهرية لعدة ساعات، ثم لما أصبح عنده مساعد في الدكان أصبح يعمل ثلاث ساعات يومي الثلاثاء والجمعة فقط، والباقي يقضيه في الظاهرية، فبهذا الجد والاجتهاد والعصامية في التعلم أصبح الألباني محدث الزمان وناصر السنة.

    فما عسى أن يقول الشعر في رجل يدعوه حتى عداه ناصر الدين

    وهذه المطالعة لمخطوطات الظاهرية ومنها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية، وغيرهما من أعلام المدرسة السلفية كان لها بالغ الأثر في توجه الألباني السلفي.

    دعوة العلامة الألباني:

    هذه المطالعة لمجلة المنار ومن ثم مخطوطات الظاهرية وشخصية الألباني القوية والجريئة ساهمت في أن يبدأ الألباني في الجهر بقناعاته الإصلاحية والسلفية في دمشق، والجهر بهذه القناعات كان هو الشيء الجديد على دمشق وأهلها، فقد كان تلاميذ القاسمي موجودين ومعروفين أمثال العلامة بهجت البيطار، والشيخ عبد الفتاح الإمام، رئيس جمعية الشبان المسلمين في سوريا، والشيخ توفيق البزرة، لكن نشاطهم كان بين محبيهم وتلاميذهم، فجاء الألباني يجهر بها بين الناس ويدافع عنها بقوة وشدة، وبكل وضوح وصراحة، وتحمل في سبيل ذلك الكثير من المصاعب والمتاعب، ومن هنا أصبحت السلفية المعاصرة في الشام ترتبط باسم الألباني.

    فبدأ الألباني يناقش والده وشيخه وبقية شيوخه حول قضايا التوحيد والشرك مثل الصلاة في المساجد التى بها قبور ونتج عن هذه المناقشات تأليف كتابه "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد"، وتوالت النقاشات والمتاعب حتى طلب منه والده الانفصال عنه بسبب رفض الألباني الالتزام بالصلاة خلف الإمام الحنفي، إذ كانت صلاة الجماعة تقتصر على أتباع كل مذهب لوحده، ولذلك كانت تتكرر الجماعة أربع مرات لكل صلاة في مناقضة تامة لجمع الكلمة ووحدة الأمة بسبب التعصب والجمود الفقهي، فكان الألباني يرفض ذلك ويصلي مع أول إمام مهما كان مذهبه([1])، وكانت هذه من أولى القضايا التي خالف الألباني فيها الجمهور العام، واتهم بالوهابية، وعدم احترام المذاهب الأربعة، ورفعت ضده شكاوى كيدية عند السلطات. ففي مرة من المرات لما رآه الإمام وكان أحد المتعصّبة صاح فيه أمام الناس: يالّا ! بَرَّا ! بَرَّآ ! بَرّآ ! ولما رفض الشيخ الخروج من المسجد وتدخل الناس، صلى بهم لكنه بعد الصلاة عاد للصراخ والتهجم على الألباني وأرسل بعض أتباعه ليعتدوا على الشيخ في الشارع فمنعه أصدقاء الشيخ والمصلون من ذلك!

    ولذلك منع الألباني من الخطابة والتدريس في عدد من المساجد والمدن، وسجن مرتين، وفي الأردن وشى به بعض الناس فأبعد من الأردن ثم تدخل بعض الشيخ محمد إبراهيم شقرة لدى الملك الحسين فسمح بعودته للأردن وبقي فيها حتى وفاته، وتعرض خلالها لبعض المضايقات الرسمية والأمنية.

    هذا في الوقت الذي وافقه على دعوته أفاضل العلماء من تلاميذ الجزائري والقاسمي وعبد الرزاق البيطار، المعروفون بالعلم والدين في دمشق، والذين شجعوه على الاستمرار قدماً في دعوته، وقد لقيت دعوة الشيخ قبولا بين أوساط المثقفين وطلاب جامعة دمشق، لقدرتهم على فهم دعوة الشيخ، بعكس عامة الناس الأميين الذين تسيطر عليهم الخرافة والتصوف، وقد كانت دروس الشيخ منذ سنة 1943م بدأت في دكانه ثم انتقلت إلى بيوت بعض الإخوة ثم استأجروا لهم مقرا خاصاً للدروس، وفي سنة 1949م أقاموا أول صلاة للعيد بالمصلى وليس بالمساجد.

    ومن الملاحظ تأثير البيئة على الشيخ، فهو هاجر من بلده خوفاً على دينه من بطش الحكومة المعادية للإسلام، ولذلك نجده يجعل استئناف الحياة الإسلامية وتطبيق حكم الله من صلب دعوته، كما أن مطالعته لمجلة الشيخ رشيد رضا "المنار" كان لها دور مهم في تكوين وبلورة شخصيته الثقافية وشمولية نظرته، ولذلك حقق الشيخ كتاب "حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام" لرشيد رضا في اهتمام مبكر بالمرأة المسلمة وتقدمها، وخصص لهن درسا خاصا لشرح كتاب "الأدب المفرد" للإمام البخاري.

    كذلك وجود الشيخ في بيئة منفتحة ومشاركته علماء عصره أمثال: العلامة البيطار وأساتذة الجامعة السورية وغيرهم، جعلت الشيخ يدرس كتاب "منهاج الإسلام في الحكم" لمحمد أسد، وهو المستشرق اليهودي الذي أسلم، وبهذا يتضح حضور الجانب السياسي في فكر الشيخ مبكراً.

    كما أن الشيخ حج أكثر من ثلاثين مرة واعتمر كثيراً وكانت رحلاته مليئة باللقاءات والمناقشات والدروس، وسافر مبكراً لأوربا وبعض البلاد الإسلامية، وكذلك التدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مما أتاح للشيخ أن يحتك بالعلماء الكبار كالعلامة أحمد شاكر والشيخ حامد الفقي والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة والدكتور تقي الدين الهلالي والأستاذ محب الدين الخطيب، ومن إدارة الجامعة الإسلامية العلامة محمد بن إبراهيم وبعده العلامة ابن باز وبالمدرسين في الجامعة والطلاب من بلاد شتى، كل ذلك جعل الشيخ يطلع على كثير من مشاكل وتجارب العمل الإسلامي وينقل رؤيته ودعوته لبلاد كثيرة، مما مكّن الشيخ من تكوين رؤيته السلفية الخاصة بالتغيير والنهضة، هذه الرؤية التي تعد أساس الفكر السلفي الدعوي والحركي المعاصر إن صح التعبير.

    وأيضاً هذا الاحتكاك والسفر جعلا دعوة الشيخ تصل إلى أماكن عديدة رغم ضعف وسائل الاتصال في ذلك الزمن.



    مراحل دعوة الألباني:

    ويمكن تقسيم دعوة الشيخ الألباني إلى ثلاث مراحل:

    أولاً: دعوته في سوريا

    والتي تمثل مرحلة التكوين، فقد كان الشيخ في قوة الشباب وبداية حياته العلمية والدعوية، وكانت له دروس علمية يعقدها مرتين كل أسبوع ويحضرها طلبة العلم وبعض أساتذة الجامعات ومن هؤلاء الأستاذ أحمد راتب النفاخ ود. محمد رشاد سالم المصري، محقق كتاب منهاج السنة لابن تيمية، ومن الكتب التي كان يدرسها في حلقات علمية:

    - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب.

    - الروضة الندية شرح الدرر البهية للشوكاني، شرح صديق حسن خان.

    - أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف.

    - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير، شرح أحمد شاكر.

    - منهاج الإسلام في الحكم لمحمد أسد.

    - فقه السنه لسيد سابق.

    وكان الشيخ وهو في العشرينيات من عمره يكتب المقالات للمجلات مثل مجلة (التمدن الإسلامي) التي يرأسها الأستاذ أحمد العظمة ومجلة (المسلمون) التي يرأسها الدكتور مصطفى السباعي.

    وأصبح له جولات دعوية منتظمة شهرياً لعدد من المحافظات كحمص وحماة وإدلب وحلب والرقة واللاذقية، وكان لها دور مؤثر في نشر الدعوة للتمسك بالكتاب والسنة وفهم السلف


    وقد طلبت منه كلية الشريعة بجامعة دمشق تخريج أحاديث البيوع الخاصة بموسوعة الفقه التي عزمت الجامعة على إصدارها عام 1955م. كما اختير عضواً في لجنة الحديث التي شكلت في عهد الوحدة بين مصر وسوريا (1958-1961م)، للإشراف على نشر كتب السنة وتحقيقها.

    وقد عمل الشيخ الألباني في المكتب الإسلامي الذي أسسه الشيخ زهير الشاويش في تحقيق التراث الإسلامي ونشر السنة وهو مما ساهم في نشر دعوة ومؤلفات وتحقيقات الشيخ في بلدان كثيرة.

    وقد عاش الشيخ تقلبات الشام السياسية سواء الظلم الواقع عليها بسبب الاحتلال الفرنسي وتداعيات الثورة ضد الفرنسيين، ثم الحكومات الوطنية، وصولاً لمرحلة الانقلابات، ثم استيلاء البعثيين على الحكم واستفراد العلويين منهم بالحكم بالحركة التصحيحية التي قام بها حافظ الأسد عام 1970م.

    تعرض الشيخ الألباني شأنه شأن رموز العلم والإصلاح دوماً للابتلاء، فقد سجن مرتين، الأولى كانت قبل عام 1967 حيث اعتقل لمدة شهر في قلعة دمشق، وهي نفس القلعة التي سجن فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، وعندما قامت حرب الـ 67 رأت الحكومة أن تفرج عن جميع المعتقلين السياسيين، لكن بعدما اشتدت الحرب عاد الشيخ إلى المعتقل مرة ثانية بسب الوشايات وشهادت الزور ضده عند الحكام، فسجن في سجن الحسكة شمال شرق دمشق ثمانية أشهر، وفي السجن اختصر صحيح مسلم وهو من كتب الشيخ المفقودة، واجتمع مع شخصيات كبيرة في المعتقل.

    وفي سنة 1980م هاجر الشيخ إلى الأردن وبقي فيها رحمه الله حتى توفي عام 1999م.

    ومن تلاميذ الألباني في هذه المرحلة: أخوه الكبير محمد ناجي أبو أحمد - توفي مبكرا- ومن أشد مناصري الألباني ودعوته: الشيخ محمد عيد عباسي، الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي، الأستاذ خير الدين وانلي، الشيخ علي خشان، الشيخ عدنان العرعور، الشيخ محمد جميل زينو، الشيخ عبد الرحمن عبد الصمد، الأستاذ محمود مهدي الأستانبولي، ومن الذين استفادوا من الشيخ وتأثروا بمنهجه: الأستاذ زهير الشاويش، الأستاذ عصام العطار، الشيخ الدكتور عبد الرحمن الباني.

    ثانياً: مرحلة التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة :

    وهي على قصرها التي لم تتعدّ ثلاث سنوات (1381- 1383/ 1961-1963) تعد مرحلة هامة جداً في حياته، ذلك أنها أوجدت للشيخ تلاميذ حملوا دعوته لبلاد لم يزرها أو يعرفها، وأصبح هناك تيار ينسب للشيخ في العالم وليس سوريا فقط، لأنه درّس منهجه في علم الحديث عمليا وبطريقة أكاديمية للطلاب، وأحدث بذلك نقلة في شعبية علم الحديث في العالم بعد أن كان علماً نظرياً لا يعرفه إلا أفراد محدودون، ورسخ رؤيته الدعوية بين السلفيين. خاصة إذا علمنا أن الشيخ الألباني والشيخ محمد بن عبد الوهاب البنا هما اللذان رعيا في الجامعة الإسلامية الرحلة الأسبوعية للطلبة والتي كانت مدرسة دعوية علمية خرّجت العديد من العلماء والدعاة.

    وكل من كتب عن الألباني في الجامعة الإسلامية ذكر نشاط الشيخ في التدريس حتى في الفسحة بين المحاضرات، وأما جلساته ولقاءاته بعد الدوام الجامعي فكانت دوما مناقشات وبحوث يدرب فيها الطلاب على النقاش وطلب الدليل للوصول للقناعة، وكانت هذه اللقاءات والجلسات سببا في تعرف الألبانى على كثير من العلماء والدعاة والمدرسين من السعودية وغير السعودية ومن السلفيين وغير السلفيين، وكانت سبباً أيضاً في التعريف به عندهم.

    وقد سعد الشيخ بسكنى المدينة المنورة وقال: "وجدت مناخاً رائعاً جداً، لديهم استعداد لتقبل الدعوة أولاً، والمنهج العلمي الذي أنا فطرت عليه وظللت عليه ثانياً"، وقد طلب منه وزير المعارف السعودي – آنذاك- الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ في عام 1388هـ أن يتولى الإشراف على قسم الدراسات الإسلامية العليا في جامعة أم القرى بمكة، لكن حالت بعض الظروف دون ذلك، ولكن تم اختياره عضوا في المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من عام 1395- 1398هـ.

    وقد أوصى الشيخ أن توقف مكتبته الشخصية بعد وفاته لصالح مكتبة الجامعة الإسلامية، في رد للجميل للجامعة ومكتبتها والمكتبات العامة على الشيخ، وقال الشيخ في وصيته: "لأن لي فيها ذكريات حسنة في الدعوة للكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح يوم كنت مدرساً فيها راجياً من الله تعالى أن ينفع بها روادها كما نفع بصاحبها – يومئذ- طلابها"، وهذا تواصل مع منهج الإصلاح الذي أسسه طاهر الجزائري بتأسيس المكتبة الظاهرية والتي تعذر على الألباني إهداؤها مكتبته لها وهي تحت حكم العلويين البعثيين من آل الأسد الذين فر بنفسه وأهله وكتبه من بطشهم قبل 30 سنة.

    ومن أبرز تلاميذ الشيخ في المدينة: الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، الدكتور الشيخ عمر الأشقر الذي كان أمين مكتبة الجامعة وجار الشيخ في السكن، الشيخ مقبل الوادعي.



    ثالثاً مرحلة الإقامة بالأردن :

    هذه هي المدة الأخيرة من حياة الشيخ، وقد بدأت سنة 1980م، وكان عمر الشيخ حينها يقارب 66 سنة، وامتدت هذه المرحلة حتى وفاته سنة 1999م، ويحدثنا الألباني عن فراره بدينه من سوريا وهجرته للأردن فيقول: "هاجرت بنفسي وأهلي من دمشق الشام إلى عمان، في أول رمضان سنة 1400هـ فبادرت إلى بناء دار لي فيها آوي إليها ما دمت حياً، فيسر الله لي ذلك بمنّه وفضله وسكنتها بعد كثير من التعب والمرض أصابني من جراء ما بذلت من جهد في البناء والتأسيس، ولا زلت أشكو منه شيئاً قليلاً".

    جعل الشيخ أعماله العلمية خلال إقامته بالأردن أولوية شبه مطلقة، على حساب نشاطه الدعوي، فها هو يقول: "فإنه ما كاد بعض إخواننا في الأردن يشعرون بأنني استقررت في الدار، حتى بدؤوا يطلبون مني أن أستأنف إلقاء الدروس التي كنت ألقيها... وعلى الرغم من أنني ما كنت عازماً على شيء من الإلقاء، لأوفر ما بقي من نشاط وعمر لإتمام بعض مشاريعي العلمية"، ولهذا الموقف عدة أسباب منها: بلوغ الشيخ هذا السن، واضطراب الوضع السياسي في المنطقة، وتعرض الشيخ للطرد من الأردن بسبب وشاية المخالفين لدعوة الكتاب والسنة والذين يعرفون خطورة الشيخ عليهم، فالشيخ كان له زيارات سابقة للأردن لزيارة ابنته المقيمة بعمان، وكان يلقي بعض الدروس في زياراته، وكان الألباني قد زار الأردن عام 1973م ، وتمكّن الشيخ من معالجة هذه الفتنة والقضاء عليها.

    هذا التغيير في حياة الشيخ وتقليل النشاط الدعوي كان لمجمل هذه الأسباب، ولكن مع هذا الاهتمام بالجانب التأليفي إلا أن الشيخ بقي على تواصل مع الناس والعامة من خلال اللقاءات العامة في المناسبات الاجتماعية، وكذلك من خلال تلقي الاتصالات الهاتفية، وقد سجلت هذه اللقاءات والاتصالات فبلغت أكثر من ألف شريط.

    ومن أبرز تلاميذ الألباني في الأردن: الشيخ محمد إبراهيم شقرة، الشيخ علي حسن الحلبي، الشيخ مشهور حسن سلمان، الشيخ محمد موسى نصر، الشيخ حسين العوايشة، والشيخ عصام هادي، وغيرهم.

    منهج الألباني:

    الدعوة الإسلامية العلمية تشكل لب رؤية الشيخ المنهجية للتغيير والإصلاح، والتي تعد أساس الفكر السلفي المعاصر، وهو يؤمن أن هذه الرؤية هي الموصلة للدولة الإسلامية، فهو يقول: "الذين يشتغلون بالدعوة هم الذين يشتغلون بإقامة الدولة المسلمة، لكن لا يلهجون بهذا الكلام، ولا يستغلون عواطف الناس، وإنما يعملون على السكوت والصمت"، وقد تحققت هذه الرؤية في مصر حيث فاجأ السلفيون الجميع بتصدر المشهد السياسي اعتماداً على جهودهم العلمية الهادئة طيلة العقود الماضية، والشيخ يعتبر نفسه امتدادا لحركة مصلحي الشام الذين لم يشكلوا إطارا أو تنظيما لتجسيد هذه الرؤية والتي كان يعبر عنها الألباني بقوله: "دعوتنا ثقّف ثم كتّل"، بعكس الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي كان له سعي قوي للتحالف مع قوة سياسية لتجسيد رؤيته الدعوية.

    لكن الألباني الذي عاصر ظهور الجماعات الإسلامية قام بتأطير الدعوة السلفية في نقاط محددة حتى تتبين معالم الدعوة السلفية ويسهل فهمها لدى الجيل الجديد الذي أصبح يرغب بالنقاط العملية والمركزة وينفر من البيانات الإنشائية والبلاغية، فصاغ الألباني خمس نقاط تحدد معالم منهجه ودعوته وهدفه، سماها (دعوتنا) هي:

    1- الرجوع إلى الكتاب الكريم والسُّنَّة الصحيحة، وَفَهمُهُما على النهج الذي كان عليهِ السَّلَف الصالح رضوان الله عليهم.

    2- تعريف المسلمين بدينهم الحق ودعوتهم إلى العمل بتعاليمه وأحكامه، والتحلي بفضائله وآدابه، التي تَكْفُلُ لهم رِضوانَ الله، وتُحَقق لهم السعادة والمجد.

    3- تحذير المسلمين من الشِّرك على اختلاف مظاهره، ومن البدع والأفكار الدخيلة، والأحاديث المنكرة والموضوعة، التي شَوَّهَت جمال الإسلام وحالت دون تقدم المسلمين.

    4- إحياء التفكير الإسلامي الحر في القواعد الإسلامية، وإزالة الجمود الفكري الذي ران على عقول كثير من المسلمين، وأبعدهم عن منهل الإسلام الصافي.

    5- السعي نحو استئناف حياة إسلامية وإنشاء مجتمع إسلامي وتطبيق حكم الله في الأرض.

    هذه دعوتنا؛ ونحن ندعو المسلمين جميعاً إلى مؤازرتنا في حمل هذه الأمانة التي تنهض بهم.

    آليات الألباني :

    ولتحقيق هذه الأهداف فقد اعتمد الألباني عددا من الآليات هي:

    1- التصفية والتربية: وهي عند الألباني نقطة البدء بالإصلاح لحل مشكلة ضياع وتخلف المسلمين، والمقصود بالتصفية تقديم الإسلام إلى الشباب المسلم مصفى من كل ما دخله على مد هذه القرون والسنين الطوال من العقائد الباطلة ومن الخرافات والبدع والضلالات، ومن ذلك ما دخل فيه من أحاديث غير صحيحة وقد تكون موضوعة ... فالتصفية إنما يراد بها تقديم العلاج الذي هو الإسلام الصحيح الذي حقق للأمة من قبل العزة والرفعة، وحين تم خلطه بالبدع والشركيات تخلفت الأمة وانحطت بين الأمم؛ وقد تركز جهد الشيخ في هذا الباب وقد جعل مشروعه الشخصي لنهضة الأمة "تقريب السنة بين يدي الأمة" وقد وُفق توفيقا كبيراً بفضل الله.

    أما التربية فالمقصود بها تنشئة الجيل على الإسلام الصحيح عقيدة وعبادة وسلوكاً، ولكن الشيخ لم يفصل كثيراً في تفاصيل تطبيق وتنفيذ الأمة ولذلك لا يزال كثير من أتباع الشيخ لا يفهم من العملية التربوية سوى عنوانها!!

    2- من السياسة اليوم ترك السياسة: يكرر الشيخ الألباني أن السياسة جزء مهم من الإسلام، ولكنه يعتقد أن مشاركة السلفيين في السياسة ليس هذا أوانه بل في مرحلة تالية، وهو يشرح موقفه من السياسة بقوله: "نحن لا نشتغل في السياسة لكن ليس لأن الاشتغال في السياسة ليس من الإسلام لا، السياسة من الإسلام ... فنحن لا ننكر وجوب الاشتغال بالسياسة لكننا رأينا في هذا الزمان أن من السياسة ترك السياسة. والغرض الآن نوافق على عدم الاشتغال وقتياً وإلا فكيف يمكن إقامة الدولة المسلمة إلا بمثل هذه السياسة لكن الذين ينبغي أن يشتغلوا بالسياسة ينبغي أن يكونوا علماء أن يكونوا فقهاء أن يكونوا علماء بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح".

    وفي الحقيقة أن هذا موقف سياسي من الشيخ فقد علّله بالسياسة وليس بالدين، وثانيا نحن اليوم نجد عددا من الحركات الإسلامية السياسسة تتخذ قرار المقاطعة والمشاركة في اللعبة السياسية لعدم الجدوى منها، وهذا هو لب موقف الشيخ من المشاركة السلفية السياسية: مطلوبة حين تكون مجدية سواء من صلاحية البيئة السياسية للمشاركة السلفية – كما حدث في مصر- ومن ناحية وجود قوة مؤثرة للسلفيين عند مشاركتهم.

    3- دعوتنا ثقّف ثم كتّل: عايش الشيخ عددا من التكتلات الإسلامية في عصره وأدرك خطورة سياسة التجميع دون تربية وتوعية، ولذلك كان يلخص الفرْق بين الدعوة السلفية وغيرها من الجماعات الإسلامية بقوله: "دعوتنا ثقّف ثم كتّل، وغيرنا كتل ثم ثقف ثم لا شيء".



    الدور الإصلاحي الذي حققه الألباني:

    يمكن أن نجمل دور الألباني في محورين هما: إنتاجه العلمي في المقالات والكتب والمحاضرات، وترسيخه لمنهج تحقيق السنة والفقه المقارن في العالم الإسلامي.

    1- إنتاجه العلمي:

    تميز إنتاج الألباني العلمي بكونه ينتظم ضمن مشروعه الكبير "تقريب السنة بين يدي الأمة"، وتميز بسهولة العبارة ووضوحها بخلاف الشائع في زمنه كأثر من آثار التخلف والجمود والتعصب الفقهي، وتميز بتلبية حاجات المجتمع الآنية وترسيخ منهج الدعوة للكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، وتميز أيضاً بالاختصار واليسر كما في كتابه "صحيح الجامع الصغير".

    ومن يتأمل إنتاج الشيخ والذي بلغ 230 منتجا بين تأليف وتخريج وتعليق وفتوى بخلاف الأشرطة يجد أن الشيخ شارك في كافة المجالات تقريباً، وهذا التفصيل:

    * فهو كتب وخرّج وحقّق في ما يخص تصحيح عقائد الناس مثل: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، التوسل أحكامه وأنواعه، الاحتجاج بالقدر لابن تيمية، أصول السنة واعتقاد الدين للحميدي (خ)، شرح العقيدة الطحاوية، العقيدة الطحاوية شرح وتعليق، وغيرها.

    * كتب في علوم القرآن: معالم التنزيل للبغوي(خ)، بين يدي التلاوة(خ)، كيف يجب أن نفسر القرآن.

    * وكتب في العبادات والمعاملات مثل: صفة الصلاة وله فيها ثلاثة كتب كبير وصغير ومختصر، وحجة النبي صلى الله عليه وسلم، أحكام الجنائز، أحكام الركاز (خ) حجاب المرأة المسلمة، حقيقة الصيام، آداب الزفاف، المسح على الجوربين، وإصلاح المساجد لجمال الدين القاسمي.

    * كتب في السيرة : فقه السيرة للغزالي، دفاع عن الحديث النبوي والسيرة في فقه السيرة.

    * كتب في تخريج أحاديث الفقه الحنبلي: ويعد كتابه (إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل) أول كتاب حديثي يختص بالمذهب الحنبلي، ويلحق بهذا كتابه (الذب الأحمد عن مسند الإمام أحمد).

    * كتب في فقه الدليل والفقه المقارن: التعليقات الرضية على الروضة الندية، تمام المنة، الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب.

    * كتب في السنة النبوية تخريجاً وتحقيقاً وتأصيلاً مثل: مختصر البخاري ومسلم، وتخريج وتحقيق كتب السنن الأربعة، والسلسلة الصحيحة والضعيفة، العودة للسنة(خ)، الحديث حجة بنفسه، وغيرها.

    * كتب في علم الحديث: الإكمال في أسماء الرجال للتبريزي، الباعث الحثيث، تاريخ دمشق.

    * كتب في تصحيح المفاهيم: إرشاد النقاد في تيسير الاجتهاد للصنعاني(خ)، حقوق النساء لرشيد رضا، الدعوة السلفية أهدافها وموقفها من المخالفين(خ)، فقه الواقع، المصطلحات الأربعة .

    * كتب في تزكية النفوس: صحيح الكلم الطيب، رياض الصالحين، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، كلمة الإخلاص لابن رجب، لفتة الكبد في تربية الولد لابن الجوزي، مساوئ الأخلاق للخرائطي.

    * فهارس علمية للكتب والمكتبات: أسماء الكتب المنسوخة من المكتبة الظاهرية(خ)، بغية الحازم في فهارس مستدرك الحاكم(خ)، فهرس كتاب الكواكب الدراري لابن عروة الحنبلي، فهرس المخطوطات الحديثية في مكتبة الأوقاف الحلبية، منتخبات من فهرس المكتبة البريطانية(خ).

    * كتب في الرد على المنحرفين: الرد على التعقيب الحثيث للحبشي، التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، الرد على أرشد السلفي، الرد على كتاب المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الرافضي(خ).

    تكامل الشيخ مع الجهود الإصلاحية الأخرى:

    آمن الشيخ الألباني بتكامل الجهود في العمل الدعوي، وخاصة في مجال التثقيف والتأليف، وكان يرى أن من تطبيقات مبدأ "التصفية" الذي يؤمن به: المساهمة في تصفية بعض الكتابات العصرية المهمة لرموز الدعوة الإسلامية من الأحاديث الضعيفة، لما لها من دور مهم في "تربية" الصحوة الإسلامية ومن ذلك :

    - تعقيبه على كتاب "الحجاب" وتخريج أحاديث كتاب "المصطلحات الأربعة في القرآن" .

    - كتاب "المرأة المسلمة" ، قام الألباني بمراجعته والتعليق عليه وتخريج أحاديثه.

    - ألف الشيخ كتابا مستقلا هو "غاية المرام في تخريج أحاديث كتاب الحلال والحرام" ، وخرج أحاديث كتابه "علاج مشكلة الفقر".

    - تخريج أحاديث كتاب "فقه السيرة" .

    - تخريجه لأحاديث كتاب "فقه السنة" للشيخ سيد سابق، وسماه "تمام المنة".

    والمتأمل في هذه الكتب التي اعتنى الشيخ الألباني بها يجد بكل وضوح أنها كتب تخدم أهداف الشيخ في تربية المسلمين على الأحكام الشرعية الصحيحة، مما يحقق وجود المجتمع المسلم، الذي يعد بداية "السعي نحو استئناف حياة إسلامية وإنشاء مجتمع إسلامي وتطبيق حكم الله في الأرض" .

    وعناية الشيخ بهذه الكتب التي ألفها قادة بارزون في جماعات غير سلفية ، تثبت جدية موقف الشيخ في التعاون بين الجماعات على ضوء الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة.



    2- المحور الثاني للدور الإصلاحي للألباني: ترسيخ منهج تحقيق السنة والفقه المقارن في العالم الإسلامي

    لقد وفق الله عز وجل الألبانى لترسيخ منهج تحقيق السنة حتى أصبح منهجاً راسخاً أكاديمياً وشعبياً فلا يقبل حديثا دون تحقيق وبيان صحته، ولا يقتصر هذا على السلفيين بل أصبح لكثير من خصومهم عناية بتخريج الأحاديث وتحقيقها، بعد أن كان هذا نسياً منسياً حتى عند علماء السعودية، يقول العلامة ابن عثيمين عن دور الشيخ في هذا الباب: "إن كثيرا من المشايخ قبل دعوة الشيخ ما كانوا يفرقون بين الحديث الصحيح والضعيف والموضوع، ومن المشايخ من كان يفتي ويبني فتواه على أحاديث ضعيفة بل بعضها موضوع، فبدأ الشيخ ينشر هذا العلم الشريف حتى تبصر الناس وعرفوا الصحيح من الضعيف، فجزاه الله خير الجزاء".

    كما أن أبحاث الشيخ ومناقشاته للمسائل الفقهية على منهج اتباع الدليل ترسخ حتى أصبح هو المنهج المتبع في الجامعات باسم "الفقه المقارن"، وقد كان للشيخ دور بارز في ترسيخ هذا النهج من خلال تمييز صحة الأحاديث ونشر السنن العملية المجهولة لكثير من الفقهاء حتى أصبح الاعتماد على الآثار ركن أساسي في الأبحاث المعاصرة، ويندر أن تجد بحثا فقهيا لا يعتمد على تخريجات الألباني كأساس أو مساندة.

    وهذا المنهج المقارن المعتمد على الدليل هو الذي فتح باب الاجتهاد المعاصر وقضى على الجمود والانغلاق وتخلص المسلمون من كثير من الفتاوى المتعنتة دون حق، مثل فتوى عدم طهارة الجنب الذي يضع حشوة في أسنانه، والتي تنازع فيها الألباني مع والده فيها، ومن ثم تراجع والده لرأيه.



    وفاته رحمه الله تعالى:

    كانت وفاته رحمه الله عصر يوم السبت 22 جمادى الآخرة 1420ه الموافق 2/11/1999م، في مدينة عمان بالأردن، وقد بلغ 85 عاماً، وصلى عليه وشيعه آلاف من محبيه وتلاميذه في نفس الليلة بحسب وصيته.

    ولعل من الكلمات المختصرة التي وصفت الشيخ الألباني بعمق ما قاله الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق دفاعاً عن الشيخ ضد هجوم مجلة المجتمع الكويتية على الألباني:

    "لم ينضم ناصر الدين طيلة حياته إلى جماعة معينة من جماعات الدعوة، ولم يعادِ أي مجموعة منها ونصح لها جميعاً، ولم يدخر وسعاً في تربية شباب أي مجموعة منها، وقام بنشر العلم الشرعي بكل طاقته في كل اتجاه، ولم ينشء الشيخ تنظيماً خاصاً ولا أقام جماعة خاصة بنظام خاص، لا لعجزه عن ذلك ولا لأنه يرى أن هذا حرام وإثم، ولكن لأنه يرى أن الأولى به أن ينشر علمه للناس جميعاً وللجماعات كافة وذلك أنه يرى أن المنهج السلفي لفهم الدين هو المنهج الكفيل بعودة المسلمين إلى الدين الحق عقيدة وعبادة ومعاملة وأخلاقاً".


    مراجع للتوسع:

    · حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه، محمد إبراهيم الشيباني.

    · علماء الشام في القرن العشرين، محمد حامد الناصر.

    · محدث العصر الإمام محمد ناصر الدين الألباني كما عرفته، عصام موسى هادي.

    · الألباني بقلمه، عصام هادي.

    · الإمام الألباني دروس ومواقف وعبر، عبدالعزيز السدحان.

    · محمد ناصر الدين الألباني محدث العصر وناصر السنة، إبراهيم العلي.


    · مقالات الألباني، نور الدين طالب.

    · علماء ومفكرون عرفتهم، محمد المجذوب.




    [1] وفي آخر حياة والده لان الأب لدعوة الابن وأصبح يعترف له بصواب بعض ما يدعو إليه، وكانت علاقته به طيبة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •