العلم نقطة كثَّرها الجاهلون



أسامة شحادة



تشتهر هذه المقولة عن الخليفة الراشد، علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «العلم نقطة كثرها الجاهلون»، وهذه حقيقة صادقة، فالعلم والمعرفة الصحيحة والسليمة نقطة، بمعنى أنها محدودة وبسيطة وواضحة، بينما الجهل متعدد وكثير ومتناقض ومتضارب ومعقد وغير واضح، ونلحظ هذا في كلام الكهان والعرافين أو النصابين والمحتالين أو الأطباء المزيفين الذين يبيعون وهْم الشفاء على الناس، ولعل مقولة أديسون حول المصباح الكهربائي تجسد لنا نقطة العلم وكثرة الجهل حين قال: أنا أعرف طريقةً لصناعة المصباح و١٠ آلاف طريقة لا تصنع المصباح!

وتكاد هذه الكلمات المعدودة تفسر لنا إشكالية معاصرة ومقلقة، وهي أنه برغم انفجار ثورة المعلومات في عصرنا وبكافة الأشكال والصور من آلاف عناوين الكتب التي تقذف بها المطابع، أو تبثها منصات الكتب الإلكترونية، أو ملايين المقالات والتحليلات التي تنتجها الصحف والمجلات والدوريات -على تنوع اهتماماتها وتخصصاتها-، فضلا عن الأعداد غير المحدودة للأخبار المقروءة أو المشاهدة أو المسموعة، ومقابل هذا كله طوفان أمواج مشاركات العامة في وسائل التواصل الاجتماعية، برغم كل هذا الانفجار المعلوماتي، فإن مساحة الجهل تزيد ولا تنقص! وتقبّل الإشاعات والخرافات يروج بشكل خرافي!

الشأن الديني والإسلامي

وهذا لا يختص بمجال معرفي دون سواه، فعلى صعيد الشأن الديني والإسلامي تحديدا فإن الكتب والمقالات والبرامج والرسائل على شبكات التواصل التي تفتقد للسند العلمي والدقة الموضوعية هي الأكثر انتشارا وتداولا.

أصحابها غير مؤهلين

ومن مظاهر جهل هذه الكتب والمواد وفسادها أن أصحابها غير مؤهلين أو منحرفون عن المنهجية العلمية المتفق عليها، أو تداولها لأحاديث ضعيفة ومكذوبة على النبي -[-، أو تقوم على أخطاء في فهم الأدلة الشرعية، ومن أشهر الأمثلة على ذلك رسالة الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية، التي تتداول بين الناس منذ عقود ولا أصل لها ولا يعرف من هو الشيخ أحمد أصلا! والغريب أن الرسالة تقوم على فكرة مغلوطة وساذجة لكنها تروج من قبل مثقفين كبار، فهي تطلب من الناس إعادة نسخ كميات منها باليد أو الطباعة وإلا ستصيبهم عقوبة من الله -عز وجل-، وسذاجة الطلب تهديد المسلم والمسلمة إذا لم يوزعا المصحف أو ينسخا منه بالعقاب رغم أن ذلك ليس مطلوبا منه أصلا، فهل هذه الرسالة المزعومة أفضل وأهمّ من المصحف!

حالة وباء الكورونا

ولو أخذنا حالة وباء الكورونا (كوفيد ١٩) اليوم وبرغم أن هذا الأمر يتعلق بالطب والعلم، إلا أنك لو فتشت عن حجم المنشورات العلمية المحترمة والأخبار الصحيحة والموثوقة عنه من مصادر معتبرة، مقارنة بحجم انتشار الشائعات والخرافات والمعلومات المضللة لكانت لصالح الخرافة والجهل بأضعاف مضاعفة.

صور متعددة

ويتمثل ذلك بصور متعددة منها:

- إعادة نشر مقاطع ومعلومات قديمة عن أصناف سابقة من عائلة كورونا باعتبارها تخص كوفيد ١٩.

- الكذب والتزوير بترجمة بعض المقاطع لتمرير نظريات المؤامرة على غرار ترجمة خطاب لرئيسة ألمانيا ميركل أنها تشكر طبيبا تونسيا على اختراع دواء لكوفيد ١٩.

- اجتزاء بعض المقاطع أو الجمل من سياقها للبرهنة على أوهام محددة وإشاعات لا حقيقة لها، كمثل حكاية الشرائح التي سيُحقن بها البشر.

- ومن ذلك قيام بعضهم بكتابة خطاب أو رسالة على لسان شخصية مشهورة فتنتشر انتشار الهشيم وتصبح مسلّمات يستدل بها، وهي في حقيقتها خيال جامح وكلام مرسل، كالرسالة والمخاطب المنسوب لترامب في هذه الفترة.

النتيجة التي أود الوصول إليها

فمثل هذه المعلومات عبرت كوكب الأرض من شماله لجنوبه ومن غربه لشرقه العديد من المرات بينما الأوراق العلمية تزحف زحف السلحفاة بين أيدى الباحثين ولا تلقى رواجا وإقبالا.

النتيجة التي أود الوصول إليها من خلال هذه المقولة الذهبية للخليفة الرابع علي - رضي الله عنه - أن ضبط منهجية التعلم والمعرفة بالحرص على العلم الصافي والصحيح يوفر على الإنسان الوقت والجهد، وهو أمر واضح وليس مرهقا متعبا على غرار اتباع الجهل والخرافات، وذلك يكون من خلال ضبط المنهجية العلمية التي من قواعدها الأساسية التي نبه عليها علماء السنة من قرون: إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدّعيا فالدليل.

أهمية التثبت

فلو التزم كل منا قبل أن يقبل أو ينقل خبرا أن يتثبت منه لانحصر كثير من الأكاذيب والشائعات، لكن حين يتحكم الهوى بالإنسان فإنه يغفل آلية التثبت وهي أمر رباني «فتثبتوا»، وكم يتناقل الفضلاء أخبارا وقصصا ومنشورات هي أحاديث ضعيفة أو أخطاء شرعية أو أكاذيب وأراجيف، أو صور ومقاطع مفبركة أو أخبار سياسية وعلمية زائفة، ثم تصبح هذه مسلّمات وثقافة عامة.

المطالبة بالدليل


ولو كان طلب الدليل أصلا ثابتا يطالب به كل مدعٍ كما يأمرنا ربنا {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: ١١١)، لانكشفت الحقائق من الأباطيل، والدليل المطلوب بحسب الدعوى ومجالها.

ضبط مسارنا العلمي

بهذه المنهجية العلمية نضبط مسارنا العلمي على الصعيد الفردي والمجتمعي، وتتبدل الثقافة السائدة من ثقافة الكثرة الفارغة والجاهلة لثقافة النقطة السليمة والواعية، وعند تحقق هذه الحالة المجتمعية تتحقق لهذا المجتمع النهضة والقوة والريادة، أما بقاء ثقافة الجهل الكثير فسنبقى ندور بين نجاح وإخفاق جزئي كما هو مشاهد منذ عقود، بل قرون.