أهل الاجتهاد والنصوص

يسري عبد الغني عبد اللّه

موقف أهل الاجتهاد من النصوص الشرعية:
من الواجب علينا شرعاً اتباع القرآن الكريم والحديث النبوي المطهر وما أجمع عليه أهل الاجتهاد، وتلقِّيه بالسمع والطاعة. وصدق الله - تعالى - إذ يقول: إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْـمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ [النور: 51].
وقـد ثبتـت في السنة الشريفة عصمة هذه الأمة من الخطأ والضلال، كـقـوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يجمع الله أمتي على ضلالة»[1]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سره بحبوحة الجنة؛ فليلزم الجماعة»[2]، وأيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من فارق الجماعة قيد شبر؛ فقد خلع رِبقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع»[3]، وغير هذا كثير مما تواتر نقله عن الثقات، وإذا لم يكن متواتراً باللفظ فهو متواتر بالمعنى.
وإذا كانت العادة تفيد استحالة أن يجتمع كل أهل الاجـتــهاد في عصر من العصور على حكم معين ويجزموا به جـــزماً قــاطـــعاً، ولا يــكون لهــم مــن القــرآن الكريم أو السنـــة النبـــوية الصحيحة مستند قاطع بنوا عليه إجماعهم، كما أنه من المحال أن يكونوا مخطئين في إجماعهم ولا يتنبه واحد منهم إلى الخطأ؛ فما اتفقوا عليه إذاً صوابٌ مستنِدٌ إلى دليل من الكتاب أو السنة؛ فيكون العمل به واجباً علينا.
نقول: من المشهور المتداول أنه «لا اجتهاد مع النص»، وقد يقصدون بالنص هنا آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة.
وحــقــيــقة الأمر أن المجــتهد إذا تلقّى النص القرآني أو النبوي؛ فعليه تجاهه واجبان مهمان:
الواجب الأول: تدقيق النص:

على المجتهد أن يقطع أو يطمئن كل الاطمئنان إلى أن النص صدر عن الشارع فعلاً، فإن كان النص قرآنياً؛ فهو متواتر كله بجميع ألفاظه وحروفه إلا القراءات الشاذة، ويجب الإيمان به والتعبد بتلاوته، والعمل بأحكامه.
وإن كان حديثاً؛ فمنه المتواتر لفظاً ومعنى، وهذا يجب قبـوله بلا بحـث أو اجـتـهاد؛ للقـطع بصدوره عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، كالحديث الذي نعرفه جميعاً: «من كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوأ مقعده من النار»[4].
وأما ما كان غير متواتر فيبحث فيه المجتهد؛ فإن اطمأن بغالب الظن إلى صدوره عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أي أنه حديث صحيح أو حسن؛ فقد وجب عليه وعلى مَنْ بلَغَه الحديث المقبـول أن يعمل به، أمَّا إذا كان الحديث ضعيفاً في نظره؛ فلا يجب العمل به، اللهم إلا ما كان حثاً على فضائل الأعمال، وقد رأى بعض العلماء العمل به بجملة من الشروط، وما سواه فلا.
وأما الحديث الموضوع فليس بحديث أصلاً، وتحرُم روايته فضلاً عن العمل به، إلا للتنبيه على أنه حديث موضوع مكذوب على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وعليه؛ فالاجتهاد مطلوب لتوثيق النص النبوي وتدقيقه وتحقيقه، وإظهار صحته أو حُسْنه قبل العمل به.
الواجب الثاني: البحث في دلالة النص ومعناه:
على المجتهد أن يبحث في دلالة النص ومعناه ما لم يكن مردوداً ضعيفاً، وعليه أن يتنبه إلى ما يستفاد منه من أحكام؛ فإن دلالة ألفاظ القرآن الكريم على معانيها قد تكون قطعـية؛ كـدلالة كل عـدد على مدلولـه الخاص، كما في قوله - تعالى -: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْـمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور: 4].
وقد تكون ظنية؛ كدلالة القُرْء على الحيض أو على الطُّهر في قوله - تعالى -: وَالْـمُطَلَّقَ اتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة: 228].
فأما المتواتر نقله من النصوص؛ فهو قطعي الثبوت، فإن كان أيضاً قطعي الدلالة على معناه؛ فليس للمجتهد أو لأي مكلَّف إزاءه إلا أن يطيعه ويعمل بما فيه، وهو ما يصدق عليه حقاً قولهم: لا اجتهاد مع النص.
أما بالنسبة للنص الظني الثبوت أو الدلالة؛ فالاجتهاد من خلال تحقيق ثبوته وتحديد معناه؛ مجال يختلف فيه الفقهاء، ويمكن لمن له أهلية النظر والاجتهاد أن يعيد النظر فيه، إلا ما أجمع عليه المجتهدون في عصر سابق، هنا يمتنع إحداث قول جديد يخالف كل ما قالوه.
وأمـا العـمـل فـي إطـار ما اتفـقــوا علـيـه؛ فـهـو واجـب علـى كـل مكلَّف، واضعــين في الحسبان أن الاجــتــهاد ليس بــاباً مفــتـوحـاً لكــل مـن هـب ودب، ولكـن للفـقـهاء والعـلـمــاء الذيـن درسوا علوم الدين الإسلامي دراسة شامـلـة مستــفـيـضة، وحصـلوا على قسـط وافـر مـن العلــوم والمعارف، وتدربوا على النقد والتمحيص والاجتهاد، وعــرفــوا جـيــداً أصول الديــن وقواعده. والدين علم؛ فلا يصح أن يأتي من لا يعرف هذه الأصول وتلك القواعد فيتصدى للإفتاء أو الاجتهاد؛ فإن هذا يثير البلبلة والفتن والقلاقل بين الناس.
الأحكام الفقهية الاجتهادية المختلَف فيها:
غـني عن البيان أن التراث الفـقهي يتـضمن أحكاماً لا محل للخـلاف فـيها؛ لكونـها قطـعية مـن حيث الثبوت والدلالة؛ أو لاتفاق المجتهدين كافة في عصر من العصور عليها.
ويتضمن هذا التراث أيضاً أحكاماً اختلف فيها المجتهدون بحسب ما غلب على ظن كل منهم بشأن ثبوت الدليل المتعلق بها أو معناه، ومن ثم عرّفوا الفقه بأنه «العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسَبة من أدلتها التفصيلية». وهذا النوع الثاني من الأحكام لا يلزم المجتهد ولا يجب عليه العمل به؛ إذ واجبه العمل بما يؤديه إليه اجتهاده، فإن وافق اجتهادُه اجتهادَ غيره؛ عمِل به ولا ضرر ولا ضرار في ذلك، وهو في الحقيقة يعمل باجتهاد نفسه.
وإن كان استنباطه من الدليل، سواء كان نصاً قرآنياً ظـني الدلالـة، أو كان نـصاً ثـبوتـياً ظنـي الثـبوت أو الدلالة، أو كـان دليلاً آخر غـيـر نصّـيٍّ كالقـياس أو الاسـتـصحاب أو الاستحسان أو المصلحة المرسلة، أو نحوها، نقول: إن استنبط المجتهد من مثل هذا الدليل حكماً مخالِفاً لما استفاده أو استنبطه غيره من أهل الاجتهاد؛ وجب عليه العمل بما يؤديه إليه اجتهاده.
أما الجمهور من الناس وأفرادهم من غير أهل الاجتهاد؛ فمن واجبهم العمل برأي أيٍّ من المجتهدين الذين يوثق بعلمهم ودينهم.
أما الخروج عن المذاهب المعتبَرة جميعها إلى قول لم يقل به فقيه مجتهد؛ فهو عمل بالهوى ومخالفة للشرع. وعلينا أن نسأل أهل الذكر المشهود لهم بالعلم والمعرفة والأمانة والاعتدال والصدقية فـيما يعِنُّ لـنا من أمور لا نعلمها، وألا نلجأ إلى الأدعياء الذين لم يدرسوا الدين دراسة علمية منهجية بأصوله وقواعده.
وكما يقول الإمام الشاطبي في كتابه (الموافقات): «المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراجُ المكلَّف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبدٌ لله اضطراراً».
والدليل على ذلك عدة أمور:
1 - النـص الصـريـح الدال على أن العـباد خُلِقوا ليعبدوا الله حـق العبـادة، وليـدخلوا تحـت أمـره ونـهيه عن طواعـية تامة وكاملة، كقوله - تعالى -: وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ.
[الذاريات: 56 - 57]
2 - ما دل على ذم مخالفة هذا القصد وذم مَنْ أعرض عن الله، كما في قوله - تعالى -: يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْـحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْـحِسَابِ [ص: 26].
3 - ما عُلِم بالتجارب والعادات من أن مصالح الناس الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى.
ويمكن أن ننتهي من ذلك إلى قاعدة شرعية كلية هي «أن كل عمل كان المتّـبَع فيه الهوى بإطلاق - من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخير - فهو باطل بإطلاق».
عند الاختيار:
ومن ثم؛ اشترط العلماء عند الاختيار بين هذه البدائل أن يُراعَى في الترجيح بينها أمران:
الأمر الأول:
إيـثـار الرأي الأقــوى دليــلاً، وتحـرِّي مقصد الشرع، وما الأوفق للنصوص الشريفة وأهدافها.
الأمر الثاني:
ما هو أكثر عوناً على تحقيق مصالح المسلمين المشروعة في المكان والزمان المعينين.
وهنا نحب أن نؤكد أن الشريعة الإسلامية لا تُغْفِل العُرف أو العادة تماماً، ولكنها تقسم العرف إلى قسمين:
أ - عُرْفٍ فاسد يصادم النصوص الشرعية الثابتة ومدلولاتها؛ فهذا ينبغي عدم العمل به، وإلا حكَمنا بالهوى وخالفنا حكم الله - تعالى - وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو الرحمة المهداة، وفي ذلك الخسران في الدنيا والآخرة.
يقول - تعالى -: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].
ب - عُرْفٍ صحيح يشهد له الشرع، أو لا يخالف نصوص الشرع أو مقاصده التي هدفها صالح الناس وخيرهم، وهذا لا بأس بمراعاته، بل إن الشريعة تعتد به، وتبني بعض الأحكام عليه، كما هو معلوم، وقد أفرد له بعـض الفقهاء أبواباً خاصة في كتبهم الفقهية، واهتموا به وبـدراسـته، مثل: ابن عابدين في حاشيته، وغيره من العلماء.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
(*) كاتب وباحث في الدراسات العربية والإسلامية.
[1] المستدرك للحاكم، رقم 361.
[2] المعجم الكبير للطبراني.
[3] الترمذي، رقم 2790.
[4] رواه البخاري ومسلم.