تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 9 من 29 الأولىالأولى 12345678910111213141516171819 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 161 إلى 180 من 571

الموضوع: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

  1. #161
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (160)

    سُورَةُ النَّحْلِ(6)
    صـ 351 إلى صـ 355




    المسألة الخامسة : لا يخفى أن الفضة والذهب يمنع الشرب في آنيتهما مطلقا ، ولا يخفى أيضا أنه يجوز لبس الذهب والحرير للنساء ويمنع للرجال . وهذا مما لا خلاف فيه ; لكثرة النصوص الصحيحة المصرحة به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين على ذلك ، ومن شذ فهو محجوج بالنصوص الصريحة وإجماع من يعتد به من المسلمين على ذلك . وسنذكر طرفا قليلا من النصوص الكثيرة الواردة في ذلك .

    أما الشرب في آنيتهما : فقد أخرج الشيخان ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، عن حذيفة - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ; فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " ، ولفظة : " ولا تأكلوا في صحافها " في صحيح مسلم : وعن أم سلمة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " ، متفق عليه . وفي رواية لمسلم : " إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة ، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " ، والأحاديث بمثل هذا كثيرة .

    وأما لبس الحرير والديباج الذي هو نوع من الحرير : فعن حذيفة - رضي الله عنه - [ ص: 351 ] قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ; فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " ، أخرجه الشيخان وباقي الجماعة . وعن عمر - رضي الله عنه - سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تلبسوا الحرير ; فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " ، متفق عليه . وعن أنس - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة " ، متفق عليه أيضا . والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا .

    وأما لبس الذهب : فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهاهم عن خاتم الذهب " ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا أشعث بن سليم ، قال : سمعت معاوية بن سويد بن مقرن ، قال : سمعت البراء بن عازب - رضي الله عنهما - يقول : " نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبع : نهى عن خاتم الذهب - أو قال حلقة الذهب - ، وعن الحرير ، والإستبرق ، والديباج ، والميثرة الحمراء ، والقسي ، وآنية الفضة ، وأمرنا بسبع : بعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وتشميت العاطس ، ورد السلام ، وإجابة الداعي ، وإبرار المقسم ، ونصر المظلوم " ، ولفظ مسلم في صحيحه قريب منه ، إلا أن مسلما قدم السبع المأمور بها على السبع المنهي عنها . وقال في حديثه : " ونهانا عن خواتيم ، أو عن تختم بالذهب " ، وهذا الحديث المتفق عليه يدل على أن لبس الذهب لا يحل للرجال ; لأنه إذا منع الخاتم منه فغيره أولى ، وهو كالمعلوم من الدين بالضرورة ، والأحاديث فيه كثيرة .

    وأما جواز لبس النساء للحرير : فله أدلة كثيرة ، منها : حديث علي - رضي الله عنه - : أهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - حلة سيراء ، فبعث بها إلي فلبستها فعرفت الغضب في وجهه ، فقال : " إني لم أبعث بها إليك لتلبسها ، إنما بعثت بها إليك لتشقها خمرا بين نسائك " ، متفق عليه . وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أنه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برد حلة سيراء . أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة . وإباحة الحرير للنساء كالمعلوم بالضرورة . ومخالفة عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - في ذلك لا أثر لها ; لأنه محجوج بالنصوص الصحيحة ، واتفاق عامة علماء المسلمين .

    وأما جواز لبس الذهب للنساء : فقد وردت فيه أحاديث كثيرة . منها : ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والحاكم وصححاه ، والطبراني من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي ، وحرم على ذكورها " ، وفي هذا الحديث كلام ; لأن راويه عن أبي موسى وهو سعيد بن أبي هند ، قال [ ص: 352 ] بعض العلماء : لم يسمع من أبي موسى .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : ولو فرضنا أنه لم يسمع منه فالحديث حجة ; لأنه مرسل معتضد بأحاديث كثيرة ، منها ما هو حسن ، ومنها ما إسناده مقارب ، كما بينه الحافظ في التلخيص وبإجماع المسلمين ، وقد قال البيهقي - رحمه الله - في سننه الكبرى ، " باب سياق أخبار تدل على تحريم التحلي بالذهب " ، وساق أحاديث في ذلك ، ثم قال : " باب سياق أخبار تدل على إباحته للنساء " ، ثم ساق في ذلك أحاديث ، وذكر منها حديث سعيد بن أبي هند المذكور عن أبي موسى ، ثم قال : ورويناه من حديث علي بن أبي طالب ، وعقبة بن عامر ، وعبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر منها أيضا حديث عائشة قالت : قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - حلية من عند النجاشي أهداها له ، فيها خاتم من ذهب ، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعود معرضا عنه أو ببعض أصابعه ، ثم دعا أمامة بنت أبي العاص بنت ابنته زينب ، فقال : " تحلي هذا يا بنية " ، وذكر منها أيضا حديث بنت أسعد بن زرارة - رضي الله عنه - : أنها كانت هي وأختاها في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن أباهن أوصى إليه بهن ، قالت : فكان - صلى الله عليه وسلم - يحلينا بالذهب واللؤلؤ . وفي رواية : " يحلينا رعاثا من ذهب ولؤلؤ " ، وفي رواية : " يحلينا التبر واللؤلؤ " ، ثم قال البيهقي : قال أبو عبيد : قال أبو عمرو : وواحد الرعاث رعثة ، ورعثة وهو القرط . ثم قال البيهقي : فهذه الأخبار وما ورد في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب للنساء ، واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة . وقد قال بعض أهل العلم : إن موافقة الإجماع لخبر الآحاد تصيره قطعيا لاعتضاده بالقطعي ، وهو الإجماع . وقد تقدم ذلك في " سورة التوبة " ، والله أعلم .

    فتحصل أنه لا شك في تحريم لبس الذهب والحرير على الرجال ، وإباحته للنساء .
    المسألة السادسة : أما لبس الرجال خواتم الفضة فهو جائز بلا شك ، وأدلته معروفة في السنة ، ومن أوضحها خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضة المنقوش فيه : " محمد رسول الله " ، الذي كان يلبسه بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان . حتى سقط في بئر أريس كما هو ثابت في الصحيحين . أما لبس الرجال لغير الخاتم من الفضة ففيه خلاف بين العلماء ، وسنوضح هذه المسألة إن شاء الله .

    اعلم أولا : أن الرجل إذا لبس من الفضة مثل ما يلبسه النساء من الحلي : كالخلخال ، والسوار ، والقرط ، والقلادة ، ونحو ذلك ، فهذا لا ينبغي أن يختلف في منعه ; لأنه تشبه [ ص: 353 ] بالنساء ، ومن تشبه بهن من الرجال فهو ملعون على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما مر آنفا . وكل من كان ملعونا على لسانه - صلى الله عليه وسلم - فهو ملعون في كتاب الله ، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - ; لأن الله يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وأما غير ذلك كجعل الرجل الفضة في الثوب ، واستعمال الرجل شيئا محلى بأحد النقدين ; فجماهير العلماء منهم الأئمة الأربعة على أن ذلك ممنوع ، مع الإجماع على جواز تختم الرجل بخاتم الفضة . والاختلاف في أشياء : كالمنطقة ، وآلة الحرب ونحوه ، والمصحف . والاتفاق على جعل الأنف من الذهب وربط الأسنان بالذهب والفضة . وسنذكر بعض النصوص من فروع المذاهب الأربعة في ذلك .

    قال خليل بن إسحاق المالكي في مختصره الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى ما نصه : وحرم استعمال ذكر محلى ولو منطقة وآلة حرب ; إلا السيف والأنف ، وربط سن مطلقا ، وخاتم فضة ; لا ما بعضه ذهب ولو قل ، وإناء نقد واقتناؤه وإن لامرأة . وفي المغشى ، والمموه ، والمضبب ، وذي الحلقة ، وإناء الجوهر ، قولان . وجاز للمرأة الملبوس مطلقا ولو نعلا لا كسرير . انتهى الغرض من كلام خليل مع اختلاف في بعض المسائل التي ذكرها عند المالكية . وقال صاحب تبيين الحقائق في مذهب الإمام أبي حنيفة ما نصه : ولا يتحلى الرجل بالذهب والفضة ، إلا بالخاتم والمنطقة وحلية السيف من الفضة . اهـ .

    وقال النووي في شرح المهذب في مذهب الشافعي : " فصل فيما يحل ويحرم من الحلي : " فالذهب أصله على التحريم في حق الرجال ، وعلى الإباحة للنساء - إلى أن قال : وأما الفضة فيجوز للرجل التختم بها ، وهل له ما سوى الخاتم من حلي الفضة : كالدملج ، والسوار ، والطوق ، والتاج ; فيه وجهان . قطع الجمهور بالتحريم . انتهى محل الغرض من كلام النووي . وقال ابن قدامة في المقنع في مذهب الإمام أحمد : ويباح للرجال من الفضة الخاتم ، وفي حلية المنطقة روايتان ، وعلى قياسها الجوشن والخوذة والخف والران والحمائل . ومن الذهب قبيعة السيف . ويباح للنساء من الذهب والفضة كل ما جرت عادتهن بلبسه قل أو كثر . انتهى محل الغرض من المقنع .

    فقد ظهر من هذه النقول : أن الأئمة الأربعة في الجملة متفقون على منع استعمال المحلى بالذهب أو الفضة من ثوب أو آلة أو غير ذلك ، إلا في أشياء استثنوها على اختلاف بينهم في بعضها . وقال بعض العلماء : لا يمنع لبس شيء من الفضة . واستدل من قال بهذا بأمرين : أحدهما : أنها لم يثبت فيها تحريم . قال صاحب الإنصاف في شرح قول صاحب [ ص: 354 ] المقنع : وعلى قياسها الجوشن والخوذة إلخ ، ما نصه : وقال صاحب الفروع فيه : ولا أعرف على تحريم الفضة نصا عن أحمد . وكلام شيخنا يدل على إباحة لبسها للرجال ، إلا ما دل الشرع على تحريمه - انتهى . وقال الشيخ تقي الدين أيضا : لبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام لم يكن لأحد أن يحرم منه ، إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه ، فإذا أباحت السنة خاتم الفضة دل على إباحة ما في معناه ، وما هو أولى منه بالإباحة ، وما لم يكن كذلك فيحتاج إلى نظر في تحليله وتحريمه ، والتحريم يفتقر إلى دليل ، والأصل عدمه . ونصره صاحب الفروع ، ورد جميع ما استدل به الأصحاب . انتهى كلام صاحب الإنصاف .

    الأمر الثاني : حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على ذلك . قال أبو داود في سننه : حدثنا عبد الله بن مسلمة ، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد - عن أسيد بن أبي أسيد البراد ، عن نافع بن عياش ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب ، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقا من نار فليطوقه طوقا من ذهب ، ومن أحب أن يسور حبيبه سوارا من نار فليسوره سوارا من ذهب ، ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها " هذا لفظ أبي داود .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر لي - والله أعلم - أن هذا الحديث لا دليل فيه على إباحة لبس الفضة للرجال . ومن استدل بهذا الحديث على جواز لبس الرجال للفضة فقد غلط ; بل معنى الحديث : أن الذهب كان حراما على النساء ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى الرجال عن تحلية نسائهم بالذهب ، وقال لهم : " العبوا بالفضة " ، أي : حلوا نساءكم منها بما شئتم . ثم بعد ذلك نسخ تحريم الذهب على النساء . والدليل على هذا الذي ذكرنا أمور :

    الأول : أن الحديث ليس في خطاب الرجال بما يلبسونه بأنفسهم ; بل بما يحلون به أحبابهم ، والمراد نساؤهم ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه : " من أحب أن يحلق حبيبه " ، " أن يطوق حبيبه " ، " أن يسور حبيبه " ، ولم يقل : من أحب أن يحلق نفسه ، ولا أن يطوق نفسه ، ولا أن يسور نفسه ; فدل ذلك دلالة واضحة لا لبس فيها على أن المراد بقوله : " فالعبوا بها " ، أي : حلوا بها أحبابكم كيف شئتم ; لارتباط آخر الكلام بأوله .

    الأمر الثاني : أنه ليس من عادة الرجال أن يلبسوا حلق الذهب ، ولا أن يطوقوا بالذهب ، ولا يتسوروا به في الغالب ; فدل ذلك على أن المراد بذلك من شأنه لبس الحلقة [ ص: 355 ] والطوق والسوار من الذهب ، وهن النساء بلا شك .

    الأمر الثالث : أن أبا داود - رحمه الله - قال بعد الحديث المذكور متصلا به : حدثنا مسدد ، ثنا أبو عوانة ، عن منصور ، عن ربعي بن خراش ، عن امرأته ، عن أخت لحذيفة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا معشر النساء ، أما لكن في الفضة ما تحلين به ، أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به " .

    حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا أبان بن يزيد العطار ، ثنا يحيى أن محمد بن عمرو الأنصاري ، حدثه أن أسماء بنت يزيد حدثته : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها مثله من النار يوم القيامة ، وأيما امرأة جعلت في أذنها خرصا من ذهب جعل في أذنها مثله من النار يوم القيامة " .

    فهذان الحديثان يدلان على أن المراد بالحديث الأول : منع الذهب للنساء ، وأن قوله : " فالعبوا بها " معناه : فحلوا نساءكم من الفضة بما شئتم كما هو صريح في الحديثين الأخيرين . وهذا واضح جدا كما ترى .

    ويدل له أن الحافظ البيهقي - رحمه الله - ذكر الأحاديث الثلاثة المذكورة التي من جملتها : " وعليكم بالفضة فالعبوا بها " ، في سياق الأحاديث الدالة على تحريم الذهب على النساء أولا دون الفضة ، ثم بعد ذلك ذكر الأحاديث الدالة على النسخ ، ثم قال : واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة . والله أعلم انتهى .

    ومن جملة تلك الأحاديث المذكورة ، حديث : " فالعبوا بها " ، وهو واضح جدا فيما ذكرنا . فإن قيل : قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المذكور : " يحلق حبيبه " ، " أن يطوق حبيبه " ، " أن يسور حبيبه " ، يدل على أن المراد ذكر ; لأنه لو أراد الأنثى لقال : حبيبته بتاء الفرق بين الذكر والأنثى .

    فالجواب : أن إطلاق الحبيب على الأنثى باعتبار إرادة الشخص الحبيب مستفيض في كلام العرب لا إشكال فيه ; ومنه قول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - :
    منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغار النجوم من حبيب أصاب قلبك منه سقم
    فهو داخل مكتوم


    ومراده بالحبيب أنثى ; بدليل قوله بعده : [ ص: 356 ]
    لم تفتها شمس النهار بشيء غير أن الشباب ليس يدوم


    وقول كثير عزة :
    لئن كان برد الماء هيمان صاديا إلي حبيبا إنها لحبيب


    ومثل هذا كثير في كلام العرب ، فلا نطيل به الكلام .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #162
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (161)

    سُورَةُ النَّحْلِ(7)
    صـ 356 إلى صـ 360



    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي من كتاب الله - جل وعلا - وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - : أن لبس الفضة حرام على الرجال ، وأن من لبسها منهم في الدنيا لم يلبسها في الآخرة . وإيضاح ذلك أن البخاري قال في صحيحه في باب : " لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز منه " : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، قال : كان حذيفة بالمدائن فاستسقى فأتاه دهقان بماء في إناء من فضة ، فرماه به ، وقال : إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة " ، فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح : " الذهب ، والفضة ، والحرير : والديباج ; هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " ، يدخل في عمومه تحريم لبس الفضة ; لأن الثلاث المذكورات معها يحرم لبسها بلا خلاف . وما شمله عموم نص ظاهر من الكتاب والسنة لا يجوز تخصيصه إلا بنص صالح للتخصيص ; كما تقرر في علم الأصول .

    فإن قيل : الحديث وارد في الشرب في إناء الفضة لا في لبس الفضة ؟ .

    فالجواب : أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، لا سيما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر في الحديث ما لا يحتمل غير اللبس : كالحرير ، والديباج .

    فإن قيل : جاء في بعض الروايات الصحيحة ما يفسر هذا ، ويبين أن المراد بالفضة الشرب في آنيتها لا لبسها ; قال البخاري في صحيحه " باب الشرب في آنية الذهب " ، حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى قال : كان حذيفة بالمدائن فاستسقى ، فأتاه دهقان بقدح فضة ، فرماه به ، فقال : إني لم أرمه ، إلا أني نهيته فلم ينته ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن الحرير والديباج ، والشرب في آنية الذهب والفضة ، وقال : " هن لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " ، " باب آنية الفضة " ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن ابن عون ، عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، قال : خرجنا مع حذيفة وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تلبسوا الحرير والديباج ; فإنها لهم في الدنيا [ ص: 357 ] ولكم في الآخرة " ، انتهى .

    فدل هذا التفصيل - الذي هو النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة ، والنهي عن لبس الحرير والديباج - : على أن ذلك هو المراد بما في الرواية الأولى ، وإذن فلا حجة في الحديث على منع لبس الفضة ; لأنه تعين بهاتين الروايتين أن المراد الشرب في آنيتها لا لبسها ; لأن الحديث حديث واحد .

    فالجواب من ثلاثة أوجه :

    الأول : أن الرواية المتقدمة عامة بظاهرها في الشرب واللبس معا ، والروايات المقتصرة على الشرب في آنيتها دون اللبس ذاكرة بعض أفراد العام ، ساكتة عن بعضها . وقد تقرر في الأصول : " أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه " ، وهو الحق كما بيناه في غير هذا الموضع . وإليه أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما لا يخصص به العموم على الصحيح :


    وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد


    الوجه الثاني : أن التفصيل المذكور لو كان هو مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان الذهب لا يحرم لبسه ، وإنما يحرم الشرب في آنيته فقط ، كما زعم مدعي ذلك التفصيل في الفضة ; لأن الروايات التي فيها التفصيل المذكور : " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة " ، فظاهرها عدم الفرق بين الذهب والفضة . ولبس الذهب حرام إجماعا على الرجال .

    الوجه الثالث : وهو أقواها ، ولا ينبغي لمن فهمه حق الفهم أن يعدل عنه ; لظهور وجهه ، هو : أن هذه الأربعة المذكورة في هذا الحديث ، التي هي : الذهب ، والفضة ، والحرير ، والديباج ، صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها للكفار في الدنيا ، وللمسلمين في الآخرة ، فدل ذلك على أن من استمتع بها من الدنيا لم يستمتع بها في الآخرة ، وقد صرح - جل وعلا - في كتابه العزيز بأن أهل الجنة يتمتعون بالذهب والفضة من جهتين :

    إحداهما : الشراب في آنيتهما .

    والثانية : التحلي بهما . وبين أن أهل الجنة يتنعمون بالحرير والديباج من جهة واحدة وهي لبسها ، وحكم الاتكاء عليهما داخل في حكم لبسهما . فتعين تحريم الذهب والفضة من الجهتين المذكورتين . وتحريم الحرير والديباج من الجهة الواحدة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الروايات الصحيحة في الأربعة المذكورة : " هي لهم في الدنيا ، ولكم في [ ص: 358 ] الآخرة " ; لأنه لو أبيح التمتع بالفضة في الدنيا والآخرة ; لكان ذلك معارضا لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " هي لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة " ، وسنوضح ذلك - إن شاء الله تعالى - من كتاب الله - جل وعلا - .

    اعلم أولا : أن الديباج هو المعبر عنه في كتاب الله بالسندس والإستبرق . فالسندس : رقيق الديباج . والإستبرق : غليظه .

    فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن الله - جل وعلا - بين تنعم أهل الجنة بلبس الذهب والديباج الذي هو السندس والإستبرق في " سورة الكهف " ، في قوله : أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق الآية [ 18 \ 31 ] ، فمن لبس الذهب والديباج في الدنيا منع من هذا التنعم بهما المذكور في " الكهف " .

    ذكر - جل وعلا - تنعم أهل الجنة بلبس الحرير والذهب في " سورة الحج " ، في قوله : إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد . [ 22 \ 23 - 24 ] .

    وبين أيضا تنعمهم بلبس الذهب والحرير في " سورة فاطر " ، في قوله : جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن . الآية [ 35 \ 33 ، 34 ] ، فمن لبس الذهب والحرير في الدنيا منع من هذا التنعم بهما المذكور في " سورة الحج وفاطر " .

    وذكر - جل وعلا - تنعمهم بلبس الحرير في " سورة الإنسان " ، في قوله : وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا [ 76 \ 12 ] ، وفي " الدخان " بقوله إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق الآية [ 44 \ 51 - 53 ] ، فمن لبس الحرير في الدنيا منع من هذا التنعم به المذكور في " سورة الإنسان والدخان " .

    وذكر - جل وعلا - تنعمهم بالاتكاء على الفرش التي بطائنها " من إستبرق " في " سورة الرحمن " ، بقوله : متكئين على فرش بطائنها من إستبرق . الآية [ 55 \ 54 ] . فمن اتكأ على الديباج في الدنيا منع هذا التنعم المذكور في " سورة الرحمن " .

    وذكر - جل وعلا - تنعم أهل الجنة بلبس الديباج ، الذي هو السندس والإستبرق ولبس [ ص: 359 ] الفضة في " سورة الإنسان " أيضا ، في قوله : عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ 76 \ 21 ] .

    فمن لبس الديباج أو الفضة في الدنيا منع من التنعم بلبسهما المذكور في " سورة الإنسان " ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " هي لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة " ، فلو أبيح لبس الفضة في الدنيا مع قوله في نعيم أهل الجنة : وحلوا أساور من فضة [ 76 \ 21 ] ; لكان ذلك مناقضا لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " هي لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة " .

    وذكر تنعم أهل الجنة بالشرب في آنية الذهب في " سورة الزخرف " ، في قوله تعالى : يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب الآية [ 43 \ 71 ] ، فمن شرب في الدنيا في أواني الذهب منع من هذا التنعم بها المذكور في " الزخرف " .

    وذكر - جل وعلا - تنعم أهل الجنة بالشرب في آنية الفضة في " سورة الإنسان " ، في قوله : ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا [ 76 \ 15 - 18 ] ، فمن شرب في آنية الفضة في الدنيا منع هذا التنعم بها المذكور في " سورة الإنسان " ، فقد ظهر بهذا المصنف دلالة القرآن والسنة الصحيحة على منع لبس الفضة . والعلم عند الله تعالى .
    تببيه .

    فإن قيل : عموم حديث حذيفة المذكور الذي استدللتم به ، وبيان القرآن أنه شامل للبس الفضة والشرب فيها ، وقلتم : إن كونه واردا في الشرب في آنية الفضة لا يجعله خاصا بذلك ; فما الدليل في ذلك على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟

    قال البخاري في صحيحه ، حدثنا مسدد ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ; فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له ، فأنزلت عليه : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) [ 11 \ 114 ] ، قال الرجل [ ص: 360 ] ألي هذه ؟ قال : " لمن عمل بها من أمتي " اهـ ، هذا لفظ البخاري في التفسير في " سورة هود " ، وفي رواية في الصحيح ، قال : " لجميع أمتي كلهم " اهـ . فهذا الذي أصاب القبلة من المرأة نزلت في خصوصه آية عامة اللفظ ، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ألي هذه ؟ ومعنى ذلك : هل النص خاص بي لأني سبب وروده ؟ أو هو على عموم لفظه ؟ وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لجميع أمتي " معناه أن العبرة بعموم لفظ : " إن الحسنات يذهبن السيئات " ، لا بخصوص السبب ، والعلم عند الله تعالى ؟

    وقوله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : " وترى الفلك " [ 16 \ 14 ] ، أي : السفن ، وقد دل القرآن على أن : " الفلك " يطلق على الواحد وعلى الجمع ، وأنه إن أطلق على الواحد ذكر ، وإن أطلق على الجمع أنث ، فأطلقه على المفرد مذكرا في قوله : " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " [ 36 \ 41 ، 42 ] ، وأطلقه على الجمع مؤنثا في قوله : والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس [ 2 \ 164 ] ، وقوله : مواخر [ 16 \ 14 ] ، جمع ماخرة ، وهو اسم فاعل ، مخرت السفينة تمخر - بالفتح - وتمخر - بالضم - مخرا ومخورا : جرت في البحر تشق الماء مع صوت . وقيل : استقبلت الريح في جريتها . والأظهر في قوله : ولتبتغوا من فضله [ 16 \ 14 ] ، أنه معطوف على قوله : لتأكلوا منه لحما طريا [ 16 \ 14 ] ، ولعل هنا للتعليل كما تقدم .

    والشكر في الشرع : يطلق من العبد لربه ; كقوله هنا ولعلكم تشكرون [ 16 \ 14 ] ، وشكر العبد لربه : هو استعماله نعمه التي أنعم عليه بها في طاعته . وأما من يستعين بنعم الله على معصيته فليس من الشاكرين ; وإنما هو كنود كفور .

    وشكر الرب لعبده المذكور في القرآن كقوله : فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] ، وقوله إن ربنا لغفور شكور [ 35 \ 34 ] ، هو أن يثيب عبده الثواب الجزيل من العمل القليل . والعلم عند الله تعالى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #163
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (162)

    سُورَةُ النَّحْلِ(8)
    صـ 361 إلى صـ 365



    قوله تعالى : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون ، ذكر - جل وعلا - في هاتين الآيتين أربع نعم من نعمه على خلقه ، مبينا لهم عظيم منته عليهم بها :

    الأولى : إلقاؤه الجبال في الأرض لتثبت ولا تتحرك ، وكرر الامتنان بهذه النعمة في [ ص: 361 ] القرآن كقوله : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ 78 \ 6 - 7 ] ، وقوله : وجعلنا في الأرض رواسي الآية [ 21 \ 31 ] ، وقوله : وجعلنا فيها رواسي شامخات [ 77 \ 27 ] ، وقوله - جل وعلا - : خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم الآية [ 31 \ 10 ] ، وقوله : والجبال أرساها [ 79 \ 32 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .

    ومعنى تميد : تميل وتضطرب .

    وفي معنى قوله أن وجهان معروفان للعلماء : أحدهما : كراهة أن تميد بكم . والثاني : أن المعنى : لئلا تميد بكم ; وهما متقاربان .

    الثانية : إجراؤه الأنهار في الأرض المذكور هنا في قوله : وأنهارا [ 16 \ 15 ] ، وكرر - تعالى - في القرآن الامتنان بتفجيره الماء في الأرض لخلقه : كقوله : وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر الآية [ 14 \ 32 - 33 ] ، وقوله : أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون [ 56 \ 68 - 70 ] ، وقوله : وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره الآية [ 36 \ 34 - 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    الثالثة : جعله في الأرض سبلا يسلكها الناس ، ويسيرون فيها من قطر إلى قطر في طلب حاجاتهم المذكور هنا في قوله : وسبلا ، وهو جمع سبيل بمعنى الطريق . وكرر الامتنان بذلك في القرآن ; كقوله : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 \ 31 ] ، وقوله : والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا [ 71 \ 19 ] ، وقوله : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا [ 20 \ 52 ، 53 ] .

    وقوله : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها الآية [ 67 \ 15 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون [ 43 \ 9 - 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    الرابعة : جعله العلامات لبني آدم ; ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر المذكور هنا في قوله : وعلامات وبالنجم هم يهتدون [ 16 \ 16 ] ، وقد ذكر الامتنان بنحو ذلك في [ ص: 362 ] القرآن في قوله : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر الآية [ 6 \ 97 ] .
    قوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق الآية ، تقدم بيان مثل هذه الآية في موضعين .
    قوله تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن بني آدم لا يقدرون على إحصاء نعم الله لكثرتها عليهم ، وأتبع ذلك بقوله : إن الله لغفور رحيم [ 16 \ 18 ] ، فدل ذلك على تقصير بني آدم في شكر تلك النعم ، وأن الله يغفر لمن تاب منهم ، ويغفر لمن شاء أن يغفر له ذلك التقصير في شكر النعم . وبين هذا المفهوم المشار إليه هنا بقوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [ 14 \ 34 ] .

    بين في موضع آخر : أن كل النعم على بني آدم منه - جل وعلا - ، وذلك في قوله : وما بكم من نعمة فمن الله الآية [ 16 \ 53 ] .

    وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن المفرد إذا كان اسم جنس وأضيف إلى معرفة ، أنه يعم كما تقرر في الأصول ; لأن : " نعمة الله " [ 16 \ 18 ] مفرد أضيف إلى معرفة فعم النعم . وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود عاطفا على صيغ العموم :

    أو بإضافة إلى معرف إذا تحقق الخصوص قد نفي .
    قوله تعالى : وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار إذا سئلوا عما أنزل الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا : لم ينزل عليه شيء . وإنما هذا الذي يتكلم به من أساطير الأولين ، نقله من كتبهم . والأساطير : جمع أسطورة أو إسطارة ، وهي الشيء المسطور في كتب الأقدمين من الأكاذيب والأباطيل . أصلها من سطر : إذا كتب . ومنه قوله تعالى : وكتاب مسطور [ 52 \ 2 ] ، وقال بعض العلماء : الأساطير : الترهات والأباطيل . وأوضح هذا المعنى في آيات أخر ; كقوله : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا [ 25 \ 5 ] ، وقوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين [ 8 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله : ماذا ، يحتمل أن تكون " ذا " موصولة و " ما " مبتدأ ، وجملة " أنزل " [ ص: 363 ] صلة الموصول ، والموصول وصلته خبر المبتدأ . ويحتمل أن يكون مجموعهما اسما واحدا في محل نصب ، على أنه مفعول " أنزل " ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :


    ومثل ماذا بعد ما استفهام أو من إذا لم تلغ في الكلام


    وبين - جل وعلا - كذب الكفار في دعواهم : أن القرآن أساطير الأولين بقوله : قل أنزله الذي يعلم السر الآية [ 25 \ 6 ] ، وبقوله هنا : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة [ 16 \ 25 ] .
    قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن أولئك الكفار الذين يصرفون الناس عن القرآن بدعواهم أنه أساطير الأولين ، تحملوا أوزارهم - أي : ذنوبهم - كاملة ، وبعض أوزار أتباعهم الذين اتبعوهم في الضلال ; كما يدل عليه حرف التبعيض الذي هو " ومن " ، في قوله : ومن أوزار الذين يضلونهم الآية [ 16 \ 25 ] .

    وقال القرطبي : " من " لبيان الجنس ; فهم يحملون مثل أوزار من أضلوهم كاملة .

    وأوضح تعالى هذا المعنى في قوله : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 39 \ 13 ] ، واللام في قوله " ليحملوا " تتعلق بمحذوف دل المقام عليه ، أي : قدرنا عليهم أن يقولوا في القرآن : أساطير الأولين ; ليحملوا أوزارهم .

    تنبيه .

    فإن قيل : ما وجه تحملهم بعض أوزار غيرهم المنصوص عليه بقوله : ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الآية [ 16 \ 25 ] ، وقوله : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم الآية [ 29 \ 13 ] ، مع أن الله يقول : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 35 \ 18 ] ، ويقول - جل وعلا - : ولا تكسب كل نفس إلا عليها [ 6 \ 164 ] ، ويقول تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون [ 2 \ 134 ، 2 - 141 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    [ ص: 364 ] فالجواب - والله تعالى أعلم - أن رؤساء الضلال وقادته تحملوا وزرين : أحدهما : وزر ضلالهم في أنفسهم .

    والثاني : وزر إضلالهم غيرهم ; لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا . وإنما أخذ بعمل غيره ; لأنه هو الذي سنه وتسبب فيه ، فعوقب عليه من هذه الجهة ; لأنه من فعله ، فصار غير مناف لقوله ولا تزر وازرة الآية [ 35 \ 18 ] .

    وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن الأعمش ، عن موسى بن عبد الله بن يزيد ، وأبي الضحى ، عن عبد الرحمن بن هلال العبسي ، عن جرير بن عبد الله ، قال : جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم الصوف ، فرأى سوء حالهم ، قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة ، فأبطؤوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه ، قال : ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق ، ثم جاء آخر ، ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده ، كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء . ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده ، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء " اه .

    أخرج مسلم في صحيحه هذا الحديث ، عن جرير بن عبد الله من طرق متعددة . وأخرجه نحوه أيضا من حديث أبي هريرة بلفظ : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا " . ومن دعا إلى ضلالة ، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " اه .

    قال مقيده عفا الله عنه : هذه النصوص الصحيحة تدل على رفع الإشكال بين الآيات ، كما تدل على أن جميع حسنات هذه الأمة في صحيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فله مثل أجور جميعهم ; لأنه - صلوات الله عليه وسلامه - هو الذي سن لهم السنن الحسنة جميعها في الإسلام ، نرجو الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة ، وأن يصلي ويسلم عليه أتم صلاة وأزكى سلام .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : ( بغير علم ) [ 16 \ 25 ] ، يدل على أن الكافر غير معذور بعد إبلاغ الرسل المؤيد بالمعجزات ، الذي لا لبس معه في الحق ، ولو كان يظن أن [ ص: 365 ] كفره هدى ; لأنه ما منعه من معرفة الحق مع ظهوره إلا شدة التعصب للكفر ، كما قدمنا الآيات الدالة على ذلك في " الأعراف " ; كقوله : ( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) [ 7 \ 30 ] ، وقوله : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) [ 18 \ 103 - 104 ] ، وقوله : ( وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) [ 39 \ 47 ] ، وحملهم أوزارهم هو اكتسابهم الإثم الذي هو سبب ترديهم في النار ، أعاذنا الله والمسلمين منها .

    وقال بعض العلماء : معنى حملهم أوزارهم : أن الواحد منهم عند خروجه من قبره يوم القيامة يستقبله شيء كأقبح صورة ، وأنتنها ريحا ; فيقول : من أنت ؟ فيقول : أو ما تعرفني ! فيقول : لا ولله ، إلا أن الله قبح وجهك ! أنتن ريحك ! فيقول أنا عملك الخبيث ، كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه فطالما ركبتني في الدنيا ! هلم أركبك اليوم ; فيركب على ظهره اه .

    وقوله ( ألا ساء ما يزرون ) [ 16 \ 25 ] ، ( ساء ) فعل جامد ; لإنشاء الذم بمعنى بئس ، و ( ما ) ، فيها الوجهان المشار إليهما بقوله في الخلاصة :


    وما مميز وقيل فاعل في نحو نعم يقول الفاضل


    وقوله ( يزرون ) ، أي : يحملون ، وقال قتادة : يعملون . اه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #164
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (163)

    سُورَةُ النَّحْلِ(9)
    صـ 366 إلى صـ 370


    قوله تعالى : قد مكر الذين من قبلهم .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار الذين كانوا قبل كفار مكة قد مكروا . وبين ذلك في مواضع أخر ; كقوله : وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا [ 13 \ 42 ] ، وقوله : وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال [ 14 \ 46 ] .

    وبين بعض مكر كفار مكة ، بقوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك الآية [ 8 \ 30 ] .

    وذكر بعض مكر اليهود بقوله : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين [ 3 \ 54 ] .

    وبين بعض مكر قوم صالح ، بقوله : ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين الآية [ 27 \ 50 ، 51 ] .

    وذكر بعض مكر قوم نوح بقوله : ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن [ ص: 366 ] آلهتكم الآية [ 71 \ 22 - 23 ] .

    وبين مكر رؤساء الكفار في قوله : بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله الآية [ 34 \ 33 ] ، والمكر : إظهار الطيب وإبطان الخبيث ، وهو الخديعة . وقد بين - جل وعلا - أن المكر السيئ لا يرجع ضرره إلا على فاعله ; وذلك في قوله : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] .
    قوله تعالى : فأتى الله بنيانهم من القواعد ، أي : اجتثه من أصله واقتلعه من أساسه ; فأبطل عملهم وأسقط بنيانهم . وهذا الذي فعل بهؤلاء الكفار الذين هم نمروذ وقومه - كما قدمنا في " سورة الحجر " - فعل مثله أيضا بغيرهم من الكفار . فأبطل ما كانوا يفعلون ويدبرون ; كقوله : ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون [ 7 \ 137 ] ، وقوله : كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله [ 5 \ 64 ] ، وقوله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار [ 59 \ 2 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : ثم يوم القيامة يخزيهم ، أي : يفضحهم على رءوس الأشهاد ويهينهم بإظهار فضائحهم ، وما كانت تجنه ضمائرهم ، فيجعله علانية .

    وبين هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور [ 100 \ 9 - 10 ] ، أي : أظهر علانية ما كانت تكنه الصدور ، وقوله : يوم تبلى السرائر [ 86 \ 9 ] .

    وقد بين - جل وعلا - في موضع آخر : أن من أدخل النار فقد ناله هذا الخزي المذكور ، وذلك في قوله : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته [ 3 \ 192 ] ، وقد قدمنا في سورة " هود " إيضاح معنى الخزي .
    قوله تعالى : ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يسأل المشركين يوم القيامة سؤال توبيخ ، فيقول لهم : أين المعبودات التي كنتم تخاصمون رسلي وأتباعهم بسببها ، قائلين : إنكم لا بد لكم أن تشركوها معي في عبادتي ؟

    وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون [ 28 \ 62 ، 28 \ 74 ] ، وقوله : وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون [ ص: 367 ] من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون [ 26 \ 92 ، 93 ] ، وقوله : ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا الآية [ 40 \ 73 - 74 ] ، وقوله : حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا الآية [ 7 \ 37 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقرأ عامة القراء : شركائي [ 16 \ 27 ] ، بالهمزة وياء المتكلم ، ويروى عن ابن كثير من رواية البزي أنه قرأ " شركاي " ، بياء المتكلم دون همز ، ولم تثبت هذه القراءة .

    وقرأ الجمهور : تشاقون [ 16 \ 27 ] ، بنون الرفع مفتوحة مع حذف المفعول .

    وقرأ نافع : " تشاقون " بكسر النون الخفيفة التي هي نون الوقاية ، والمفعول به ياء المتكلم المدلول عليها بالكسرة مع حذف نون الرفع ; لجواز حذفها من غير ناصب ولا جازم إذا اجتمعت مع نون الوقاية ، كما تقدم تحريره في " سورة الحجر " ، في الكلام على قوله : فبم تبشروني [ 15 \ 54 ] .
    قوله تعالى : فألقوا السلم ، أي : الاستسلام والخضوع . والمعنى : أظهروا كمال الطاعة والانقياد ، وتركوا ما كانوا عليه من الشقاق . وذلك عندما يعاينون الموت ، أو يوم القيامة . يعني : أنهم في الدنيا يشاقون الرسل ، أي : يخالفونهم ويعادونهم ، فإذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم ، أي : خضعوا واستسلموا وانقادوا حيث لا ينفعهم ذلك .

    ومما يدل من القرآن على أن المراد بإلقاء السلم : الخضوع والاستسلام ، قوله : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا [ 4 \ 94 ] ، على قراءة نافع وابن عامر وحمزة بلا ألف بعد اللام . بمعنى الانقياد والإذعان . وقوله : فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم الآية [ 4 \ 91 ] .

    والقول بأن السلم في الآيتين الأخيرتين : الصلح والمهادنة لا ينافي ما ذكرنا ; لأن المصالح منقاد مذعن لما وافق عليه من ترك السوء . وقوله : وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 16 \ 78 ] ، فكله بمعنى الاستسلام والخضوع والانقياد . والانقياد عند معاينة الموت لا ينفع ، كما قدمنا ، وكما دلت عليه آيات كثيرة ; كقوله : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن الآية [ 4 \ 18 ] ، وقوله : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية [ 40 \ 85 ] [ ص: 368 ] وقوله : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 91 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ، يعني أن الذين تتوفاهم الملائكة في حال كونهم ظالمي أنفسهم إذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم ، وقالوا : " ما كنا نعمل من سوء " [ 16 \ 28 ] ، فقوله ما كنا نعمل من سوء ، معمول قول محذوف بلا خلاف .

    والمعنى : أنهم ينكرون ما كانوا يعملون من السوء ، وهو الكفر وتكذيب الرسل والمعاصي . وقد بين الله كذبهم بقوله : بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون [ 16 \ 28 ] .

    وبين في مواضع أخر : أنهم ينكرون ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي كما ذكر هنا . وبين كذبهم في ذلك أيضا ; كقوله : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 6 \ 23 - 24 ] ، وقوله : قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله [ 40 \ 74 ] ، وقوله : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون [ 58 \ 18 ] ، وقوله : ويقولون حجرا محجورا [ 25 \ 22 ] ، أي : حراما محرما أن تمسونا بسوء ; لأنا لم نفعل ما نستحق به ذلك ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله هنا : " بلى " [ 16 \ 28 ] ، تكذيب لهم في قولهم : ما كنا نعمل من سوء .

    تنبيه .

    لفظة : " بلى " لا تأتي في اللغة العربية إلا لأحد معنيين ، لا ثالث لهما :

    الأول : أن تأتي لإبطال نفي سابق في الكلام ، فهي نقيضة " لا " ; لأن " لا " لنفي الإثبات ، و " بلى " ، لنفي النفي ; كقوله هنا : ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، فهذا النفي نفته لفظة " بلى " ، أي : كنتم تعملون السوء من الكفر والمعاصي ، وكقوله : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن [ 64 \ 7 ] ، وكقوله : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم [ 34 \ 3 ] ، وقوله : وقالوا لن يدخل الجنة [ ص: 369 ] إلا من كان هودا أو نصارى [ 2 \ 111 ] ، فإنه نفى هذا النفي بقوله - جل وعلا - : بلى من أسلم وجهه لله الآية [ 2 \ 112 ] ، ومثل هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب .

    الثاني : أن تكون جوابا لاستفهام مقترن بنفي خاصة ; كقوله : ألست بربكم قالوا بلى [ 7 \ 172 ] ، وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى [ 36 \ 81 ] ، وقوله : أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى [ 40 \ 50 ] ، وهذا أيضا كثير في القرآن وفي كلام العرب . أما إذا كان الاستفهام غير مقترن بنفي فجوابه ب " ، نعم " لا بـ " ، بلى " ، وجواب الاستفهام المقترن بنفي و " نعم " مسموع غير قياسي ; كقوله :
    أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك لنا تداني نعم وترى الهلال كما أراه
    ويعلوها النهار كما علاني


    فالمحل لـ " بلى " لا لـ " نعم " في هذا البيت .

    فإن قيل : هذه الآيات تدل على أن الكفار يكتمون يوم القيامة ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي ، كقوله عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله : ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، ونحو ذلك . مع أن الله صرح بأنهم لا يكتمون حديثا في قوله : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] .

    فالجواب : هو ما قدمنا من أنهم يقولون بألسنتهم : " والله ربنا ما كنا مشركين " ; فيختم الله على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون ، فالكتم باعتبار النطق بالجحود وبالألسنة ، وعدم الكتم باعتبار شهادة أعضائهم عليهم . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : فادخلوا أبواب جهنم الآية ، لم يبين هنا عدد أبوابها ، ولكنه بين ذلك في " سورة الحجر " في قوله - جل وعلا - : لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 15 \ 44 ] ، أرجو الله أن يعيذنا وإخواننا المسلمين منها ومن جميع أبوابها ; إنه رحيم كريم .
    قوله تعالى : وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المتقين إذا سئلوا عما أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا : أنزل عليه خيرا ; أي : رحمة وهدى وبركة لمن اتبعه وآمن به . ويفهم من صفة أهل هذا الجواب [ ص: 370 ] بكونهم متقين - أن غير المتقين يجيبون جوابا غير هذا . وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في قوله عن غير المتقين وهم الكفار : وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين [ 156 \ 24 ] ، كما تقدم .
    قوله تعالى : للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن من أحسن عمله في هذه الدار التي هي الدنيا كان له عند الله الجزاء الحسن في الآخرة . وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة الآية [ 10 \ 26 ] ، والحسنى : الجنة . والزيادة : النظر إلى وجه الله الكريم . وقوله : ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 563 \ 31 ] ، وقوله : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [ 55 \ 60 ] ، وقوله : من جاء بالحسنة فله خير منها [ 28 \ 84 ] ، وقوله في هذه الآية : حسنة ، أي : مجازاة حسنة بالجنة ونعيمها . والآيات في مثل ذلك كثيرة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #165
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (164)

    سُورَةُ النَّحْلِ(10)
    صـ 371 إلى صـ 375



    قوله تعالى : ولدار الآخرة خير ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن دار الآخرة خير من دار الدنيا . وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة ، كقوله : وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير الآية [ 28 \ 80 ] ، وقوله : وما عند الله خير للأبرار ، وقوله : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ، وقوله : وللآخرة خير لك من الأولى [ 932 \ 4 ] ، وقوله : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله الآية [ 3 \ 14 - 15 ] ، وقوله ، خير [ 16 \ 30 ] ، صيغة تفضيل ، حذفت همزتها ; لكثرة الاستعمال تخفيفا .

    وإليه أشار ابن مالك في الكافية بقوله :


    وغالبا أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر


    وإنما قيل لتلك الدار : الدار الآخرة ; لأنها هي آخر المنازل ، فلا انتقال عنها البتة إلى دار أخرى .

    والإنسان قبل الوصول إليها ينتقل من محل إلى محل . فأول ابتدائه من التراب ، ثم انتقل من أصل التراب إلى أصل النطفة ، ثم إلى العلقة ، ثم إلى المضغة ، ثم إلى العظام ، ثم [ ص: 371 ] كسا الله العظام لحما ، وأنشأها خلقا آخر ، وأخرجه للعالم في هذه الدار ، ثم ينتقل إلى القبر ، ثم إلى المحشر ، ثم يتفرقون : يومئذ يصدر الناس أشتاتا [ 99 \ 6 ] ، فسالك ذات اليمين إلى الجنة ، وسالك ذات الشمال إلى النار : ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [ 30 \ 14 - 16 ] .

    فإذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار - فعند ذلك تلقى عصا التسيار ، ويذبح الموت ، ويقال : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، ويبقى ذلك دائما لا انقطاع له ، ولا تحول عنه إلى محل آخر .

    فهذا معنى وصفها بالآخرة ; كما أوضحه - جل وعلا - بقوله : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ 23 \ 12 - 16 ] .

    تنبيه .

    أضاف - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة الدار إلى الآخرة ، مع أن الدار هي الآخرة بدليل قوله : ولدار الآخرة الآية [ 16 \ 30 ] ، بتعريف الدار ونعتها بالآخرة في غير هذا الموضع . وعلى مقتضى قول ابن مالك في الخلاصة :
    ولا يضاف اسم لما به اتحد معنى وأول موهما إذا ورد


    فإن لفظ " الدار " يؤول بمسمى الآخرة . وقد بينا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في " سورة فاطر " ، في الكلام على قوله : " ومكر السيئ " [ 35 \ 43 ] : أن الذي يظهر لنا أن إضافة الشيء إلى نفسه بلفظين مختلفين - أسلوب من أساليب اللغة العربية ; لتنزيل التغاير في اللفظ منزلة التغاير في المعنى . وبينا كثرته في القرآن ، وفي كلام العرب . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ولنعم دار المتقين ، مدح الله - جل وعلا - دار المتقين التي هي الجنة في هذه الآية الكريمة ; لأن " نعم " ، فعل جامد لإنشاء المدح . وكرر الثناء عليها في آيات كثيرة ; لأن فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . كما [ ص: 372 ] قال تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية [ 32 \ 17 ] ، وقال : وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا [ 76 \ 20 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
    قوله تعالى : جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المتقين يدخلون يوم القيامة جنات عدن . والعدن في لغة العرب : الإقامة . فمعنى " جنات عدن " : جنات إقامة في النعيم ، لا يرحلون عنها ، ولا يتحولون .

    وبين في آيات كثيرة : أنهم مقيمون في الجنة على الدوام ، كما أشار له هنا بلفظة " عدن " ، كقوله : لا يبغون عنها حولا [ 18 \ 108 ] ، وقوله : الذي أحلنا دار المقامة من فضله الآية [ 35 \ 35 ] ، والمقامة : الإقامة . وقد تقرر في التصريف : أن الفعل إذا زاد على ثلاثة أحرف فالمصدر الميمي منه ، واسم الزمان ، واسم المكان كلها بصيغة اسم المفعول . وقوله : إن المتقين في مقام أمين [ 44 \ 51 ] ، على قراءة نافع وابن عامر بضم الميم من الإقامة . وقوله : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : تجري من تحتها الأنهار [ 16 \ 31 ] .

    بين أنواع تلك الأنهار في قوله : فيها أنهار من ماء غير آسن ، إلى قوله من عسل مصفى [ 47 \ 15 ] ، وقوله هنا : لهم فيها ما يشاءون [ 16 \ 31 ] ، أوضحه في مواضع أخر ; كقوله : لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد [ 50 \ 35 ] ، وقوله : وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون [ 43 \ 71 ] ، وقوله : لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا ، وقوله : لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين [ 39 \ 34 ] ، وقوله : ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم [ 41 \ 31 - 32 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في هذه الآية : كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] .

    يدل على أن تقوى الله هو السبب الذي به تنال الجنة .

    وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] ، وقوله : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين [ 3 \ 133 ] ، وقوله : إن المتقين في جنات وعيون [ ص: 373 ] [ 15 \ 45 ] ، وقوله : إن المتقين في جنات ونعيم [ 52 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المتقين الذين كانوا يمتثلون أوامر ربهم ، ويجتنبون نواهيه تتوفاهم الملائكة ; أي : يقبضون أرواحهم في حال كونهم طيبين ، أي : طاهرين من الشرك والمعاصي - على أصح التفسيرات - ويبشرونهم بالجنة ، ويسلمون عليهم .

    وبين هذا المعنى أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ 41 \ 30 ] ، وقوله : وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 73 ] ، وقوله : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار [ 13 \ 23 - 24 ] ، والبشارة عند الموت ، وعند دخول الجنة من باب واحد ; لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة . ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، ويقولون لهم : سلام عليكم ادخلوا الجنة - أن الذين لم يتصفوا بالتقوى لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة ، ولم تسلم عليهم ، ولم تبشرهم .

    وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر ; كقوله : الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم الآية [ 16 \ 28 ] ، وقوله : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ، إلى قوله وساءت مصيرا [ 4 \ 97 ] ، وقوله : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم الآية [ 8 \ 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله : تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم [ 16 \ 28 ] ، وقوله : تتوفاهم الملائكة طيبين [ 16 \ 32 ] ، قرأهما عامة القراء غير حمزة : " تتوفاهم " بتاءين فوقيتين . وقرأ حمزة " يتوفاهم " بالياء في الموضعين .

    تنبيه .

    أسند هنا - جل وعلا - التوفي للملائكة في قوله : تتوفاهم الملائكة [ 16 \ 32 ] [ ص: 374 ] وأسنده في " السجدة " ، لملك الموت في قوله : قل يتوفاكم ملك الموت [ 32 \ 11 ] ، وأسنده في " الزمر " إلى نفسه - جل وعلا - في قوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها الآية [ 39 \ 42 ] ، وقد بينا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " السجدة " : أنه لا معارضة بين الآيات المذكورة ، فإسناده التوفي لنفسه ; لأنه لا يموت أحد إلا بمشيئته تعالى ، كما قال : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] ، وأسنده لملك الموت ; لأنه هو المأمور بقبض الأرواح ، وأسنده إلى الملائكة ; لأن لملك الموت أعوانا من الملائكة ينزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت ، كما قاله بعض العلماء . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه بعث في كل أمة رسولا بعبادة الله وحده ، واجتناب عبادة ما سواه .

    وهذا هو معنى " لا إله إلا الله " ; لأنها مركبة من نفي وإثبات ، فنفيها هو خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات ، وإثباتها هو إفراده - جل وعلا - بجميع أنواع العبادات بإخلاص ، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله - عليهم صلوات الله وسلامه - .

    وأوضح هذا المعنى كثيرا في القرآن عن طريق العموم والخصوص . فمن النصوص الدالة عليه مع عمومها قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] ، وقوله : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [ 43 \ 45 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    ومن النصوص الدالة عليه مع الخصوص في إفراد الأنبياء وأممهم قوله تعالى : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 7 \ 59 ] ، وقوله تعالى : وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 7 \ 65 ] ، وقوله تعالى : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 7 \ 73 ] ، وقوله : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 7 \ 85 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    واعلم أن كل ما عبد من دون الله ، فهو طاغوت ، ولا تنفع عبادة الله إلا بشرط اجتناب عبادة ما سواه ; كما بينه تعالى بقوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد [ ص: 375 ] استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 265 ] ، وقوله : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الأمم التي بعث فيها الرسل بالتوحيد منهم سعيد ، ومنهم شقي . فالسعيد منهم : يهديه الله إلى اتباع ما جاءت به الرسل ، والشقي منهم : يسبق عليه الكتاب فيكذب الرسل ، ويكفر بما جاءوا به . فالدعوة إلى دين الحق عامة ، والتوفيق للهدى خاص ; كما قال تعالى : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] ، فقوله : فمنهم [ 16 \ 36 ] ، أي : من الأمم المذكورة في قوله : في كل أمة رسولا ، وقوله : من هدى الله ، أي : وفقه لاتباع ما جاءت به الرسل . والضمير المنصوب الذي هو رابط الصلة بالموصول محذوف ، أي : فمنهم من هداه الله . على حد قوله في الخلاصة :

    والحذف عندهم كثير منجلي في عائد متصل إن انتصب بفعل أو وصف كمن نرجو يهب .

    وقوله : ومنهم من حقت عليه الضلالة [ 16 \ 36 ] ، أي : وجبت عليه ولزمته ; لما سبق في علم الله من أنه يصير إلى الشقاوة . والمراد بالضلالة : الذهاب عن طريق الإسلام إلى الكفر .

    وقد بين تعالى هذا المعنى في آيات أخر ; كقوله : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] ، وقوله : فمنهم شقي وسعيد [ 11 \ 105 ] ، وقوله : فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 78 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #166
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (165)

    سُورَةُ النَّحْلِ(11)
    صـ 376 إلى صـ 380



    قوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية : أن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إسلام قومه لا يهدي من سبق في علم الله أنه شقي .

    وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ 28 \ 56 ] ، وقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] ، وقوله : من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون [ 7 \ 186 ] [ ص: 376 ] وقوله : ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ 6 \ 125 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقرأ هذا الحرف نافع ، وابن عامر ، وابن كثير ، وأبو عمر : فإن الله لا يهدي من يضل [ 16 \ 37 ] ، بضم الياء وفتح الدال ; ومن " يهدي " مبنيا للمفعول . وقوله : من نائب الفاعل . والمعنى : أن من أضله الله لا يهدى ، أي : لا هادي له .

    وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي بفتح الياء وكسر الدال ، من " يهدي " ، مبنيا للفاعل . وقوله : من ، مفعول به لـ يهدي ، والفاعل ضمير عائد إلى الله تعالى . والمعنى : أن من أضله الله لا يهديه الله . وهي على هذه القراءة فيمن سبقت لهم الشقاوة في علم الله ; لأن غيرهم قد يكون ضالا ثم يهديه الله كما هو معروف .

    وقال بعض العلماء : لا يهدي من يضل ما دام في إضلاله له ; فإن رفع الله عنه الضلالة هذه فلا مانع من هداه . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار حلفوا جهد أيمانهم - أي : اجتهدوا في الحلف - وغلظوا الأيمان على أن الله لا يبعث من يموت . وكذبهم الله - جل وعلا - في ذلك بقوله : بلى وعدا عليه حقا [ 16 \ 38 ] ، وكرر في آيات كثيرة هذا المعنى المذكور هنا من إنكارهم للبعث وتكذيبه لهم في ذلك ، كقوله : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن الآية [ 64 \ 7 ] ، وقوله : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] ، وقوله : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 ، 79 ] ، وقوله : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .

    وقوله : بلى [ 16 \ 38 ] ، نفي لنفيهم البعث كما قدمنا . وقوله : وعدا ، مصدر مؤكد لما دلت عليه " بلى " ; لأن " ، بلى " تدل على نفي قولهم : لا يبعث الله من يموت . ونفي هذا النفي إثبات ، معناه : لتبعثن . وهذا البعث المدلول على إثباته بلفظة : " بلى " فيه معنى وعد الله بأنه سيكون . فقوله : وعدا [ 16 \ 38 ] مؤكد له .

    وقوله : حقا مصدر أيضا ، أي : وعد الله بذلك وعدا ، وحقه حقا ، وهو [ ص: 377 ] مؤكد أيضا لما دلت " بلى " ، واللام في قوله : ليبين لهم الذي يختلفون فيه [ 16 \ 39 ] ، وفي قوله : وليعلم الذين كفروا الآية [ 16 \ 39 ] ، تتعلق بقوله : " بلى " ، أي : يبعثهم ليبين لهم . . إلخ . والضمير في قوله : لهم عائد إلى من يموت ; لأنه شامل للمؤمنين والكافرين .

    وقال بعض العلماء : اللام في الموضعين تتعلق بقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا الآية [ 16 \ 36 ] ، أي : بعثناه ليبين لهم . . إلخ ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه لا يتعاصى على قدرته شيء ، وإذ يقول للشيء : " كن " ، فيكون بلا تأخير . وذلك أن الكفار لما : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] ، ورد الله عليهم كذبهم بقوله : بلى وعدا عليه حقا ، بين أنه قادر على كل شيء ، وأنه كلما قال لشيء " كن " كان .

    وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله في الرد على من قال : من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] .

    وبين أنه لا يحتاج أن يكرر قوله : " كن " ، بل إذا قال للشيء " كن " مرة واحدة ، كان في أسرع من لمح البصر ، في قوله : وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [ 54 \ 50 ] ، ونظيره قوله : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير [ 16 \ 77 ] ، وقال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الآية [ 3 \ 59 ] ، وقال : خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة [ 31 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وعبر تعالى عن المراد قبل وقوعه باسم الشيء ; لأن تحقق وقوعه كالوقوع بالفعل ، فلا تنافي الآية إطلاق الشيء على خصوص الموجود دون المعدوم ; لأنه لما سبق في علم الله أنه يوجد ذلك الشيء ، وأنه يقول له كن فيكون كان تحقق وقوعه بمنزلة وقوعه ; أو لأنه أطلق عليه اسم الشيء باعتبار وجوده المتوقع ، كتسمية العصير خمرا في قوله : إني أراني أعصر خمرا [ 12 \ 36 ] ، نظرا إلى ما يؤول إليه في ثاني حال . وقرأ هذا الحرف ابن عامر والكسائي " فيكون " [ 16 \ 40 ] ، بفتح النون منصوبا بالعطف على قوله : أن نقول . وقيل : [ ص: 378 ] منصوب بأن المضمرة بعد الفاء في جواب الأمر . وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهو يكون . ولقد أجاد من قال :


    إذا ما أراد الله أمرا فإنما يقول له كن قولة فيكون


    واللام في قوله : " لشيء " ، وقوله : " له " للتبليغ . قاله أبو حيان .
    قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه لم يرسل قبله - صلى الله عليه وسلم - من الرسل إلا رجالا ، أي : لا ملائكة . وذلك أن الكفار استغربوا جدا بعث الله رسلا من البشر ، وقالوا : الله أعظم من أن يرسل بشرا يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ; فلو كان مرسلا أحدا حقا لأرسل ملائكة كما بينه تعالى في آيات كثيرة ، كقوله : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ 10 \ 2 ] ، وقوله : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم الآية [ 50 \ 2 ] ، وقوله : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ 25 \ 7 ] ، وقوله : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، وقوله : ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله الآية [ 64 \ 6 ] ، وقوله ، أبشرا منا واحدا نتبعه . . . الآية [ 54 \ 24 ] ، وقوله : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين [ 23 \ 24 ] ، وقوله : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ - 34 ] ، وقوله : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا الآية [ 14 \ 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقد بين الله - جل وعلا - في آيات كثيرة : أن الله ما أرسل لبني آدم إلا رسلا من البشر ، وهم رجال يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، ويتزوجون ، ونحو ذلك من صفات البشر ; كقوله هنا : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون الآية [ 16 \ 43 ] ، وقوله : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ، وقوله : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] ، [ ص: 379 ] وقوله : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين [ 21 \ 7 ، 8 ] ، وقوله : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ 13 \ 38 ] ، وقوله : قل ما كنت بدعا من الرسل . . . الآية [ 46 \ 9 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقرأ جمهور القراء هذا الحرف : " يوحى إليهم " بالياء المثناة التحتية ، وفتح الحاء مبنيا للمفعول . وقرأه حفص عن عاصم " نوحي إليهم " [ 16 \ 43 ] ، بالنون وكسر الحاء مبنيا للفاعل . وكذلك قوله في آخر سورة " يوسف " : " إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى " [ 12 \ 109 ] ، وأول " الأنبياء : " إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر . . " الآية [ 21 \ 7 ] . كل هذه المواضع قرأ فيها حفص وحده بالنون وكسر الحاء . . . والباقون بالياء التحتية وفتح الحاء أيضا . وأما الثانية : في " سورة الأنبياء " وهي قوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون الآية [ 21 \ 25 ] .

    فقد قرأه بالنون وكسر الحاء حمزة والكسائي وحفص . والباقون بالياء التحتية وفتح الحاء أيضا . وحصر الرسل في الرجال في الآيات المذكورة لا ينافي أن من الملائكة رسلا ; كما قال تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس [ 22 \ 75 ] ، وقال : الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا الآية [ 35 \ 1 ] ; لأن الملائكة يرسلون إلى الرسل ، والرسل ترسل إلى الناس . والذي أنكره الكفار هو إرسال الرسل إلى الناس ، وهو الذي حصر الله فيه الرسل في الرجال من الناس ، فلا ينافي إرسال الملائكة للرسل بالوحي ، ولقبض الأرواح ، وتسخير الرياح والسحاب ، وكتب أعمال بني آدم ، وغير ذلك ; كما قال تعالى : فالمدبرات أمرا [ 79 \ 5 ] .

    تنبيه .

    يفهم من هذه الآيات أن الله لم يرسل امرأة قط ; لقوله : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا [ 16 \ 43 ] ، ويفهم من قوله : فاسألوا أهل الذكر [ 16 \ 43 ] أن من جهل الحكم : يجب عليه سؤال العلماء والعمل بما أفتوه به . والمراد بأهل الذكر في الآية : أهل الكتاب ، وهذه الأمة أيضا يصدق عليها أنها أهل الذكر ; لقوله : إنا نحن نزلنا الذكر . . . الآية [ 15 \ 9 ] ، إلا أن المراد في الآية أهل الكتاب . والباء في قوله : [ ص: 380 ] بالبينات والزبر [ 16 \ 44 ] ، قيل : تتعلق بـ " ما أرسلنا " داخلا تحت حكم الاستثناء مع " رجالا " ، أي : وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات ، كقولك : ما ضربت إلا زيدا بالسوط ; لأن أصله ضربت زيدا بالسوط . وقيل : تتعلق بقوله : " رجالا " صفة له ، أي : رجالا متلبسين بالبينات . وقيل : تتعلق بـ " أرسلنا " مضمرا دل عليه ما قبله . كأنه قيل : بم أرسلوا ؟ قيل : بالبينات . وقيل : تتعلق ب " نوحي " ، أي : نوحي إليهم بالبينات ; قاله صاحب الكشاف . والعلم عند الله تعالى .


    قوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ، المراد بالذكر في هذه الآية : القرآن ; كقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] .

    وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية حكمتين من حكم إنزال القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - :

    إحداهما : أن يبين للناس ما نزل إليهم في هذا الكتاب من الأوامر والنواهي ، والوعد والوعيد ، ونحو ذلك . وقد بين هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضا ; كقوله : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه [ 16 \ 64 ] ، وقوله إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس الآية [ 4 \ 105 ] .

    الحكمة الثانية : هي التفكر في آياته والاتعاظ بها ; كما قال هنا : ولعلهم يتفكرون [ 16 \ 44 ] ، وقد بين هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضا ; كقوله : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] ، وقوله : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] ، وقوله : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #167
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (166)

    سُورَةُ النَّحْلِ(12)
    صـ 381 إلى صـ 385



    قوله تعالى : أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون .

    أنكر الله - جل وعلا - على الذين يعملون السيئات من الكفر والمعاصي ، ومع ذلك يأمنون عذاب الله ولا يخافون أخذه الأليم ، وبطشه الشديد ، وهو قادر على أن يخسف بهم الأرض ، ويهلكهم بأنواع العذاب . والخسف : بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل ; كما فعل الله بقارون ، قال الله تعالى فيه : فخسفنا به وبداره الأرض الآية [ 28 \ 81 ] ، وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة ; كقوله : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في [ ص: 381 ] السماء الآية [ 67 \ 16 ، 17 ] ، وقوله : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا [ 17 \ 68 ] ، وقوله : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [ 7 \ 99 ] ، وقد قدمنا طرفا من هذه في أول " سورة الأعراف " .

    واختلف العلماء في إعراب : " السيئات " [ 16 \ 45 ] ، في هذه الآية الكريمة ; فقال بعض العلماء : نعت لمصدر محذوف ، أي : مكروا المكرات السيئات ، أي : القبيحات قبحا شديدا ; كما ذكر الله عنهم في قوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك الآية [ 8 \ 30 ] ، وقال بعض العلماء : مفعول به لـ " مكروا " على تضمين " مكروا " معنى فعلوا . وهذا أقرب أوجه الإعراب عندي . وقيل : مفعول به لـ " أمن " ، أي : أأمن الماكرون السيئات ، أي : العقوبات الشديدة التي تسوءهم عند نزولها بهم . ذكر الوجه الأول : الزمخشري ، والأخيرين ابن عطية . وذكر الجميع أبو حيان في " البحر المحيط " .

    تنبيه .

    كل ما جاء في القرآن من همزة استفهام بعدها واو العطف أو فاؤه ; كقوله : أفنضرب عنكم الذكر صفحا [ 43 \ 5 ] ، أفلم يروا إلى ما بين أيديهم [ 34 \ 9 ] ، أفلم تكن آياتي تتلى عليكم [ 45 \ 31 ] ، إلخ ، وفيه وجهان معروفان عند علماء العربية : أحدهما : أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة ما بعدها على محذوف دل المقام عليه ; كقولك مثلا : أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا ؟ أعموا فلم يروا إلى ما بين أيديهم ؟ ألم تأتكم آياتي أفلم تكن تتلى عليكم ؟ وهكذا وإلى هذا الوجه أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله :


    وحذف متبوع بدا هنا استبح وعطفك الفعل على الفعل يصح


    ومحل الشاهد في الشطر الأول دون الثاني .

    الوجه الثاني : أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة للجملة المصدرة بهمزة الاستفهام على ما قبلها ; إلا أن همزة الاستفهام تزحلقت عن محلها فتقدمت على الفاء والواو ; وهي متأخرة عنهما في المعنى ، وإنما تقدمت لفظا عن محلها معنى ; لأن الاستفهام له صدر الكلام .

    [ ص: 382 ] فبهذا تعلم : أن في قوله تعالى في هذه الآية التي هي قوله : أفأمن الذين مكروا السيئات الآية [ 16 \ 45 ] ، الوجهين المذكورين ; فعلى الأول : فالمعنى أجهل الذين مكروا السيئات وعيد الله بالعقاب ؟ أفأمن الذين مكروا السيئات ، إلخ . وعلى الثاني فالمعنى فأأمن الذين مكروا السيئات ; فالفاء عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام ، والأول : هو الأظهر . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : رحيم أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء الآية ، تقدم بيان هذه الآية وأمثالها من الآيات في " سورة الرعد " .
    قوله تعالى : وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون . نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة جميع البشر عن أن يعبدوا إلها آخر معه ، وأخبرهم أن المعبود المستحق لأن يعبد وحده واحد ، ثم أمرهم أن يرهبوه ، أي : يخافونه وحده ; لأنه هو الذي بيده الضر والنفع ، لا نافع ولا ضار سواه .

    وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين [ 51 \ 50 - 51 ] ، وقوله : الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد [ 50 \ 26 ] ، وقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] ، وقوله : ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا [ 17 \ 39 ] .

    وبين - جل وعلا - في مواضع أخر : استحالة تعدد الألهة عقلا ; كقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] ، وقوله : وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون [ 23 \ 91 - 92 ] ، وقوله : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ 17 \ 42 ] ، والآيات بعبادته وحده كثيرة جدا ، فلا نطيل بها الكلام . وقدم المفعول في قوله : وإياي فارهبون ، للدلالة على الحصر . وقد تقرر في الأصول في مبحث " مفهوم المخالفة " ، وفي المعاني في مبحث القصر " : أن تقديم المعمول من صيغ الحصر . أي : خافون وحدي ولا تخافوا سواي . وهذا الحصر المشار إليه هنا بتقديم المعمول بينه - جل وعلا - في مواضع أخر ; كقوله : فلا تخشوا الناس واخشون الآية [ 5 \ 44 ] ، وقوله : الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله [ ص: 383 ] الآية [ 33 \ 39 ] ، وقوله : إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله الآية [ 9 \ 18 ] ، وقوله : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 175 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : وله الدين واصبا ، الدين هنا : الطاعة . ومنه سميت أوامر الله ونواهيه دينا ; كقوله : إن الدين عند الله الإسلام [ 3 \ 19 ] ، وقوله : ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] ، وقوله : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [ 3 \ 85 ] .

    والمراد بالدين في الآيات : طاعة الله بامتثال جميع الأوامر ، واجتناب جميع النواهي . ومن الدين بمعنى الطاعة : قول عمرو بن كلثوم في معلقته :


    وأيام لنا غر كرام عصينا الملك فيها أن ندينا


    أي : عصيناه وامتنعنا أن ندين له ، أي : نطيعه . وقوله واصبا [ 16 \ 52 ] ، أي : دائما ، أي : له - جل وعلا - : الطاعة والذل والخضوع دائما ; لأنه لا يضعف سلطانه ، ولا يعزل عن سلطانه ، ولا يموت ولا يغلب ، ولا يتغير له حال بخلاف ملوك الدنيا ; فإن الواحد منهم يكون مطاعا له السلطنة والحكم ، والناس يخافونه ويطمعون فيما عنده برهة من الزمن ، ثم يعزل أو يموت ، أو يذل بعد عز ، ويتضع بعد رفعة ; فيبقى لا طاعة له ولا يعبأ به أحد ، فسبحان من لم يتخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرا .

    وهذا المعنى الذي أشار إليه مفهوم الآية بينه - جل وعلا - في مواضع أخر ; كقوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء [ 3 \ 26 ] ، وقوله تعالى : خافضة رافعة [ 56 \ 3 ] ; لأنها ترفع أقواما كانت منزلتهم منخفضة في الدنيا ، وتخفض أقواما كانوا ملوكا في الدنيا ، لهم المكانة الرفيعة ، وقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] .

    ونظير هذه الآية المذكورة قوله : ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب [ 37 \ 8 - 9 ] ، أي : دائم . وقيل : عذاب موجع مؤلم ، والعرب تطلق الوصب على المرض ، وتطلق الوصوب على الدوام . وروي عن ابن عباس : أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن قوله تعالى : وله الدين واصبا [ 16 \ 52 ] ، قال له : الواصب : الدائم ، واستشهد له بقول أمية بن أبي الصلت الثقفي : [ ص: 384 ]
    وله الدين واصبا وله الملك وحمد له على كل حال


    ومنه قول الدؤلي :


    لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا


    وممن قال : بأن معنى الواصب في هذه الآية الدائم : ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وميمون بن مهران ، والسدي ، وقتادة ، والحسن ، والضحاك ، وغيرهم . وروي عن ابن عباس أيضا " واصبا " : أي : واجبا . وعن مجاهد أيضا : " واصبا " : أي : خالصا . وعلى قول مجاهد هذا ، فالخبر بمعنى الإنشاء ; أي : ارهبوا أن تشركوا بي شيئا ، وأخلصوا لي الطاعة - وعليه فالآية كقوله : أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون [ 3 \ 83 ] ، وقوله : ألا لله الدين الخالص [ 39 \ 3 ] ، وقوله : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ 98 \ 5 ] ، وقوله : " واصبا " [ 16 \ 52 ] ، حال عمل فيه الظرف .

    وقوله تعالى : أفغير الله تتقون ، أنكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة على من يتقي غيره ; لأنه لا ينبغي أن يتقى إلا من بيده النفع كله والضر كله ; لأن غيره لا يستطيع أن ينفعك بشيء لم يرده الله لك ، ولا يستطيع أن يضرك بشيء لم يكتبه الله عليك .

    وقد أشار تعالى هنا إلى أن إنكار اتقاء غير الله ; لأجل أن الله هو الذي يرجى منه النفع ، ويخشى منه الضر ، ولذلك أتبع قوله : أفغير الله تتقون [ 16 \ 52 ] ، بقوله : وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [ 16 \ 53 ] ، ومعنى " تجأرون " : ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة عند نزول الشدائد ; ومنه قول الأعشى أو النابغة يصف بقرة :


    فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأرا


    وقول الأعشى :


    يراوح من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا


    ومنه قوله تعالى : حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون [ 23 \ 64 - 65 ] ، وقد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء [ ص: 385 ] قدير [ 6 \ 17 ] ، وقوله : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده الآية [ 10 \ 107 ] ، وقوله : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده الآية [ 35 \ 2 ] ، وقوله : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا الآية [ 9 \ 51 ] ، وقوله : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته الآية [ 39 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . وفي حديث ابن عباس المشهور : " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف " .
    قوله تعالى : ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن بني آدم إذا مسهم الضر دعوا الله وحده مخلصين له الدين ; فإذا كشف عنهم الضر ، وأزال عنهم الشدة : إذا فريق منهم وهم الكفار يرجعون في أسرع وقت إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي . وقد كرر - جل وعلا - هذا المعنى في القرآن ; كقوله في " يونس " : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين [ 10 \ 22 ] ، إلى قوله : إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق [ 10 \ 23 ] ، وقوله " في الإسراء " : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا [ 17 \ 67 ] ، وقوله في آخر " العنكبوت " : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] ، وقوله في " الأنعام " : قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون [ 6 \ 64 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقد قدمنا هذا في " سورة الأنعام " في الكلام على قوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله [ 6 \ 40 ] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #168
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (167)

    سُورَةُ النَّحْلِ(13)
    صـ 386 إلى صـ 390


    قوله تعالى : فتمتعوا فسوف تعلمون ، صيغة الأمر في قوله : فتمتعوا [ 16 \ 55 ] ، للتهديد . وقد تقرر في " فن المعاني ، في مبحث الإنشاء " وفي " فن الأصول ، في مبحث الأمر " : أن من المعاني التي تأتي لها صيغة إفعل التهديد ; كقوله هنا : فتمتعوا [ ص: 386 ] فسوف تعلمون ، وتشهد لهذا المعنى آيات أخر ; كقوله . قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار [ 39 \ 8 ] ، وقوله : قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار [ 14 \ 30 ] ، وقوله : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ 15 \ 3 ] ، وقوله : فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون [ 43 \ 83 ، 70 \ 42 ] ، وقوله : كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون [ 77 \ 46 ] ، وقوله : فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون [ 52 \ 45 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ، في ضمير الفاعل في قوله : لما لا يعلمون [ 16 \ 56 ] ، وجهان :

    أحدهما : أنه عائد إلى الكفار ، أي : ويجعل الكفار للأصنام التي لا يعلمون أن الله أمر بعبادتها ، ولا يعلمون أنها تنفع عابدها أو تضر عاصيها - نصيبا إلخ ; كقوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير [ 22 \ 71 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    وقال صاحب الكشاف : ومعنى كونهم لا يعلمونها :

    أنهم يسمونها آلهة ، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع ، وتشفع عند الله ; وليس كذلك وحقيقتها أنها جماد ، لا يضر ولا ينفع ; فهم إذا جاهلون بها .

    الوجه الثاني : أن واو " يعلمون " [ 16 \ 56 ] ، واقعة على الأصنام ; فهي جماد لا يعلم شيئا ، أي : ويجعلون للأصنام الذين لا يعلمون شيئا لكونهم جمادا - نصيبا إلخ . وهذا الوجه كقوله : أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون [ 16 \ 21 ] ، وقوله : فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين [ 10 \ 29 ] ، وقوله : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها الآية [ 7 \ 195 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وعلى هذا القول فالواو راجعة إلى " ما " من قوله " لما لا يعلمون " ، وعبر عنهم بـ " ما " التي هي لغير العاقل ; لأن تلك المعبودات التي جعلوا لها من رزق الله نصيبا جماد لا تعقل شيئا . وعبر بالواو في " لا يعلمون " على هذا القول لتنزيل الكفار لها منزلة العقلاء في زعمهم أنها تشفع ، وتضر وتنفع .

    وإذا عرفت ذلك : فاعلم أن هذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة بينه تعالى في [ ص: 387 ] غير هذا الموضع ; كقوله : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون [ 6 \ 136 ] ، وذلك أن الكفار كانوا إذا حرثوا حرثا ، أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منها جزءا ، وللوثن جزءا ; فما جعلوا من نصيب الأوثان حفظوه ، وإن اختلط به شيء مما جعلوه لله ردوه إلى نصيب الأصنام ، وإن وقع شيء مما جعلوه لله في نصيب الأصنام تركوه فيه ، وقالوا : الله غني والصنم فقير . وقد أقسم - جل وعلا - : على أنه يسألهم يوم القيامة عن هذا الافتراء والكذب ، وهو زعمهم أن نصيبا مما خلق الله للأوثان التي لا تنفع ولا تضر في قوله : تالله لتسألن عما كنتم تفترون [ 16 \ 56 ] ، وهو سؤال توبيخ وتقريع .
    قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ، قوله : ويجعلون ، أي : يعتقدون . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يعتقدون أن لله بنات إناثا ، وذلك أن خزاعة وكنانة كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ; كما بينه تعالى بقوله : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا الآية [ 43 \ 19 ] ، فزعموا لله الأولاد ، ومع ذلك زعموا له أخس الولدين وهو الأنثى ، فالإناث التي جعلوها لله يكرهونها لأنفسهم ويأنفون منها ; كما قال تعالى عنهم : وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا [ 16 \ 58 ] ، أي ; لأن شدة الحزن والكآبة تسود لون الوجه : وهو كظيم [ 16 \ 58 ] ، أي : ممتلئ حزنا وهو ساكت . وقيل : ممتلئ غيظا على امرأته التي ولدت له الأنثى : يتوارى من القوم من سوء ما بشر به [ 16 \ 59 ] ، أي : يختفي من أصحابه من أجل سوء ما بشر به لئلا يروا ما هو فيه من الحزن والكآبة ، أو لئلا يشمتوا به ويعيروه . ويحدث نفسه وينظر : أيمسكه ، أي : ما بشر به وهو الأنثى ، على هون [ 16 \ 59 ] ، أي : هوان وذل . أم يدسه [ 16 \ 59 ] ، في التراب : أي : يدفن المذكور الذي هو الأنثى حيا في التراب ، يعني : ما كانوا يفعلون بالبنات من الوأد وهو دفن البنت حية ، كما قال تعالى : وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت [ 81 \ 8 - 9 ] .

    وأوضح - جل وعلا - هذه المعاني المذكورة في هذه الآيات في مواضع أخر ، فبين أن [ ص: 388 ] جعلهم الإناث لله ، أو الذكور لأنفسهم قسمة غير عادلة ، وأنها من أعظم الباطل .

    وبين أنه لو كان متخذا ولدا - سبحانه وتعالى - عن ذلك ! ; لاصطفى أحسن النصيبين ، ووبخهم على أن جعلوا له أخس الولدين ، وبين كذبهم في ذلك ، وشدة عظم ما نسبوه إليه . كل هذا ذكره في مواضع متعددة ; كقوله : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 ] ، وقوله : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف [ 37 \ 151 - 154 ] ، وقوله : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، وقوله : أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين [ 43 \ 16 ] ، وقوله : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار [ 39 \ 4 ] ، وقوله : أم له البنات ولكم البنون [ 52 \ 39 ] ، وقال - جل وعلا - : ويجعلون لله ما يكرهون [ 16 \ 62 ] ، وقال : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 18 ] ، وقال : وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم [ 43 \ 17 ] .

    وبين شدة عظم هذا الافتراء ، بقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 88 - 93 ] ، وقوله : إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في هذه الآية : ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] ، مبتدأ وخبر . وذكر الزمخشري والفراء وغيرهما : أنه يجوز أن تكون " ما " [ 16 \ 59 ] في محل نصب عطفا على " البنات " [ 16 \ 57 ] ، أي : ويجعلون لله البنات ، ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون . أورد إعرابه بالنصب الزجاج ، وقال : العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم ; قاله القرطبي . وقال أبو حيان " في البحر المحيط " : قال الزمخشري : ويجوز في " ما " في " ما يشتهون " الرفع على الابتداء ، والنصب على أن يكون معطوفا على " البنات " ، أي : وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور . انتهى . وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الفراء والحوفي وقال أبو البقاء وقد حكاه : وفيه نظر . وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو [ ص: 389 ] وهي : أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدى إلى ضميره المتصل المنصوب .

    ; فلا يجوز : زيد ضربه ، أي : زيدا . تريد ضرب نفسه ، إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية ، أو فقد وعدم ; فيجوز : زيد ظنه قائما ، وزيد فقده ، وزيد عدمه . والضمير المجرور بالحرف كالمنصوب المتصل ; فلا يجوز : زيد غضب عليه ، تريد غضب على نفسه . فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب ; إذ يكون التقدير : ويجعلون لهم ما يشتهون . فالواو ضمير مرفوع " ولهم " [ 16 \ 57 ] مجرور باللام . فهو نظير : زيد غضب عليه . اه . والبشارة تطلق في العربية على الخبر بما يسر ، وبما يسوء . ومن إطلاقها على الخبر بما يسوء قوله هنا : وإذا بشر أحدهم بالأنثى الآية [ 16 \ 58 ] ، ونظيره قوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم [ 53 \ 21 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : من بغضهم للبنات مشهور معروف في أشعارهم ; ولما خطبت إلى عقيل بن علفة المري ابنته الجرباء قال :


    إني وإن سيق إلي المهر ألف وعبدان وذود عشر أحب أصهاري إلي القبر


    ويروى لعبد الله بن طاهر قوله :


    لكل أبي بنت يراعى شؤونها ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
    فبعل يراعيها وخدر يكنها وقبر يواريها وخيرهم القبر


    وهم يزعمون أن موجب رغبتهم في موتهن ، وشدة كراهيتهم لولادتهن : الخوف من العار ، وتزوج غير الأكفاء ، وأن تهان بناتهم بعد موتهم ; كما قال الشاعر في ابنة له تسمى مودة :


    مودة تهوى عمر شيخ يسره لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
    يخاف عليها جفوة الناس بعده ولا ختن يرجى أود من القبر


    قوله تعالى : ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه لو عاجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع من في الأرض ، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة ; لأن العجلة من شأن من يخاف فوات الفرصة ، ورب السماوات والأرض لا يفوته شيء أراده . وذكر هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله في آخر سورة " فاطر " : ولو يؤاخذ [ ص: 390 ] الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة الآية [ 35 \ 45 ] ، وقوله : وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب الآية [ 18 \ 58 ] ، وأشار بقوله : ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى [ 16 \ 61 ] ، إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمل . وبين ذلك في غير هذا الموضع ; كقوله : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] ، وقوله : ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب [ 29 \ 53 ] .

    وبين هنا : أن الإنسان إذا جاء أجله لا يستأخر عنه ، كما أنه لا يتقدم عن وقت أجله . وأوضح ذلك في مواضع أخر ; كقوله : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر الآية [ 71 \ 4 ] ، وقوله : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها الآية [ 63 \ 11 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    واعلم : أن قوله تعالى : ما ترك عليها من دابة [ 16 \ 61 ] ، فيه وجهان من العلماء :

    واعلم أنه خاص بالكفار ; لأن الذنب ذنبهم ، والله يقول : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 6 \ 164 ] ، ومن قال هذا القول قال : " من دابة " [ 16 \ 61 ] ، أي : كافرة ، ويروى هذا عن ابن عباس . وقيل : المعنى أنه لو أهلك الأباء بكفرهم لم تكن الأبناء .

    وجمهور العلماء ، منهم ابن مسعود ، وأبو الأحوص ، وأبو هريرة ، وقال الآخر :
    تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم


    وقد ولدت امرأة أعرابي أنثى ، فهجرها لشدة غيظه من ولادتها أنثى ، فقالت :


    ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل بالبيت الذي يلينا
    غضبان إلا نلد البنينا ليس لنا من أمرنا ما شينا
    وإنما نأخذ ما أعطينا


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #169
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (168)

    سُورَةُ النَّحْلِ(14)
    صـ 391 إلى صـ 395


    تنبيه .

    لفظة " جعل " تأتي في اللغة العربية لأربعة معان :

    الأول : بمعنى اعتقد ; كقوله - تعالى - هنا : ويجعلون لله البنات [ 16 \ 57 ] ، قال [ ص: 391 ] في الخلاصة :
    وجعل اللذ كاعتقد


    الثاني : بمعنى صير كما تقدم في الحجر ; كقوله : وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 16 ] ، قال في الخلاصة :


    .... والتي كصيرا وأيضا بها انصب مبتدا وخبرا


    الثالث : بمعنى خلق ; كقوله : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [ 6 \ 1 ] ، أي : خلق الظلمات والنور .

    الرابع : بمعنى شرع ; كقوله :


    وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر


    قال في الخلاصة :


    كأنشأ السائق يحدو وطفق كذا جعلت وأخذت وعلق


    وقوله في هذه الآية الكريمة : سبحانه [ 16 \ 57 ] ، أي : تنزيها له - جل وعلا - عما لا يليق بكماله وجلاله ، وهو ما ادعوا له من البنات سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا !

    وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره على أن الآية عامة ; حتى إن ذنوب بني آدم لتهلك الجعل في حجره ، والحبارى في وكرها ، ونحو ذلك ; لولا أن الله حليم لا يعجل بالعقوبة ، ولا يؤاخذهم بظلمهم .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : وهذا القول هو الصحيح ; لما تقرر في الأصول من : أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة " من " تكون نصا صريحا في العموم . وعليه فقوله : " من دابة " يشمل كل ما يطلق عليه اسم الدابة نصا .

    وقال القرطبي في تفسيره : فإن قيل : فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم ؟ قيل : يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء ، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة .

    وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ، ثم بعثوا على أعمالهم " ، اه محل الغرض منه بلفظه . والأحاديث بمثله كثيرة معروفة .

    وإذا ثبت في الأحاديث الصحيحة : أن العذاب إذا نزل بقوم عم الصالح والطالح ، [ ص: 392 ] فلا إشكال في شمول الهلاك للحيوانات التي لا تعقل . وإذا أراد الله إهلاك قوم أمر نبيهم ومن آمن منهم أن يخرجوا عنهم ; لأن الهلاك إذا نزل عم .
    تنبيه .

    قوله : ما ترك عليها من دابة [ 16 \ 61 ] ، الضمير في " عليها " ، راجع إلى غير مذكور وهو الأرض ; لأن قوله : من دابة يدل عليه ; لأن من المعلوم : أن الدواب إنما تدب على الأرض . ونظيره قوله تعالى : ما ترك على ظهرها من دابة [ 35 \ 45 ] ، وقوله : حتى توارت بالحجاب [ 38 \ 32 ] ، أي : الشمس ولم يجر لها ذكر ، ورجوع الضمير إلى غير مذكور يدل عليه المقام كثير في كلام العرب ; ومنه قول حميد بن ثور :


    وصهباء منها كالسفينة نضجت به الحمل حتى زاد شهرا عديدها


    فقوله : " صهباء منها " ، أي : من الإبل ، وتدل له قرينة " كالسفينة " مع أن الإبل لم يجر لها ذكر ، ومنه أيضا قول حاتم الطائي :


    أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر


    فقوله : " حشرجت وضاق بها " يعني النفس ، ولم يجر لها ذكر ; كما تدل له قرينة " وضاق بها الصدر " ، ومنه أيضالبيد في معلقته :


    حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها


    فقوله : " ألقت " ، أي : الشمس ، ولم يجر لها ذكر ، ولكن يدل له قوله : وأجن عورات الثغور ظلامها .

    لأن قوله : " ألقت يدا في كافر " ، أي : دخلت في الظلام . ومنه أيضا قول طرفة في معلقته :


    على مثلها أمضي إذا قال صاحبي ألا ليتني أفديك منها وأفتدي


    فقوله : " أفديك منها " ، أي : الفلاة ، ولم يجر لها ذكر ، ولكن قرينة سياق الكلام تدل عليها .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يؤاخذ الآية [ 16 \ 61 ] ، الظاهر أن المفاعلة فيه بمعنى الفعل المجرد ; فمعنى آخذ الناس يؤاخذهم : أخذهم بذنوبهم ; لأن المفاعلة [ ص: 393 ] تقتضي الطرفين . ومجيئها بمعنى المجرد مسموع نحو : سافر وعافى . وقوله : " يؤاخذ " [ 16 \ 61 ] ، إن قلنا : إن المضارع فيه بمعنى الماضي فلا إشكال . وإن قلنا : إنه بمعنى الاستقبال فهو على إيلاء لو المستقبل وهو قليل ; كقوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم [ 4 \ 9 ] ، وقول قيس بن الملوح :


    ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ومن دون رمسينا من الأرض سبسب
    لظل صدى صوتي وإن كنت رمة لصوت صدى ليلى يهش ويطرب


    والجواب بحمله على المضي في الآية تكلف ظاهر ، ولا يمكن بتاتا في البيتين ، وأمثلته كثيرة في القرآن وفي كلام العرب . وقد أشار لذلك في الخلاصة بقوله :

    لو حرف شرط في مضي ويقل إيلاؤها مستقبلا ، لكن قبل .
    قوله تعالى : ويجعلون لله ما يكرهون ، أبهم - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة هذا الذي يجعلونه لله ويكرهونه ; لأنه عبر عنه بـ " ما " الموصولة ، وهي اسم مبهم ، وصلة الموصول لن تبين من وصف هذا المبهم إلا أنهم يكرهونه . ولكنه بين في مواضع أخر : أنه البنات والشركاء وجعل المال الذي خلق لغيره ، قال في البنات : ويجعلون لله البنات [ 16 \ 57 ] ، ثم بين كراهيتها لها في آيات كثيرة ، كقوله : وإذا بشر أحدهم بالأنثى الآية [ 16 \ 61 ] .

    وقال في الشركاء : وجعلوا لله شركاء الآية [ 6 \ 100 ] ، ونحوها من الآيات . وبين كراهيتهم للشركاء في رزقهم بقوله : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون [ 30 \ 28 ] ، أي : إذا كان الواحد منكم لا يرضى أن يكون عبده المملوك شريكا له مثل نفسه في جميع ما عنده ; فكيف تجعلون الأوثان شركاء لله في عبادته التي هي حقه على عباده ! وبين جعلهم بعض ما خلق الله من الرزق للأوثان في قوله : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، إلى قوله : ساء ما يحكمون [ 16 \ 136 ] ، وقوله : ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم [ 16 \ 56 ] ، كما تقدم .
    قوله تعالى : وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يقولون بألسنتهم الكذب ; فيزعمون أن لهم الحسنى ، والحسنى تأنيث الأحسن ، قيل : المراد بها الذكور ; كما تقدم في قوله : ولهم ما يشتهون [ ص: 394 ] [ 16 \ 57 ] ، والحق الذي لا شك فيه : أن المراد بالحسنى : هو زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقا فسيكون لهم فيها أحسن نصيب كما كان لهم في الدنيا . ويدل على صحة هذا القول الأخير دليلان :

    أحدهما : كثرة الآيات القرآنية المبينة لهذا المعنى ; كقوله تعالى عن الكافر : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، وقوله : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] ، وقوله : وقال لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وقوله : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقوله : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات الآية [ 23 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    والدليل الثاني : أن الله أتبع قوله : أن لهم الحسنى [ 16 \ 62 ] ، بقوله : لا جرم أن لهم النار الآية [ 16 \ 62 ] ، فدل ذلك دلالة واضحة على ما ذكرنا ، والعلم عند الله . والمصدر المنسبك من " أن " ، وصلتها في قوله : أن لهم الحسنى [ 16 \ 62 ] في محل نصب ، بدل من قوله الكذب ، ومعنى وصف ألسنتهم الكذب قولها للكذب صريحا لا خفاء به .

    وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب [ 16 \ 116 ] ، ما نصه : فإن قلت : ما معنى وصف ألسنتهم الكذب ؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه ، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ; فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته ، وصورته بصورته . كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر . اه .
    قوله تعالى : لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ، في هذا الحرف قراءتان سبعيتان ، وقراءة ثالثة غير سبعية . قرأه عامة السبعة ما عدى نافعا : مفرطون ، بسكون الفاء وفتح الراء بصيغة اسم المفعول ; من أفرطه . وقرأ نافع بكسر الراء بصيغة اسم الفاعل ; من أفرط . والقراءة التي ليست بسبعية بفتح الفاء وكسر الراء المشددة بصيغة اسم الفاعل من فرط المضعف ، وتروى هذه القراءة عن أبي جعفر . وكل هذه القراءات لها مصداق في كتاب الله .

    أما على قراءة الجمهور : مفرطون ، بصيغة المفعول فهو اسم مفعول أفرطه : إذا [ ص: 395 ] نسيه وتركه غير ملتفت إليه ; فقوله : مفرطون ، أي : متروكون منسيون في النار . ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا [ 7 \ 51 ] ، وقوله : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد الآية [ 32 \ 14 ] ، وقوله : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار الآية [ 45 \ 34 ] ، فالنسيان في هذه الآيات معناه : الترك في النار . أما النسيان بمعنى زوال العلم : فهو مستحيل على الله ; كما قال تعالى : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] ، وقال : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] .

    وممن قال بأن معنى : مفرطون ، منسيون متركون في النار : مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن الأعرابي ، وأبو عبيدة ، والفراء ، وغيرهم .

    وقال بعض العلماء : معنى قوله : مفرطون ، على قراءة الجمهور : أي : مقدمون إلى النار معجلون ; من أفرطت فلانا وفرطته في طلب الماء ، إذا قدمته ، ومنه حديث : " أنا فرطكم على الحوض " ، أي : متقدمكم . ومنه قول القطامي : فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تقدم فراط لرواد .

    وقول الشنفرى :
    هممت وهمت فابتدرنا وأسبلت وشمر مني فارط متمهل


    أي : متقدم إلى الماء . وعلى قراءة نافع فهو اسم فاعل أفرط في الأمر : إذا أسرف فيه وجاوز الحد . ويشهد لهذه القراءة قوله : وأن المسرفين هم أصحاب النار [ 40 \ 43 ] ، ونحوها من الآيات . وعلى قراءة أبي جعفر ، فهو اسم فاعل ، فرط في الأمر : إذا ضيعه وقصر فيه ، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله الآية [ 39 \ 56 ] ، فقد عرفت أوجه القراءات في الآية ، وما يشهد له القرآن منها .

    وقوله : لا جرم ، أي : حقا أن لهم النار . وقال القرطبي في تفسيره : لا رد لكلامهم وتم الكلام ، أي : ليس كما تزعمون وجرم أن لهم النار حقا أن لهم النار ! وقال بعض العلماء : " لا " صلة ، و " جرم " بمعنى كسب ; أي : كسب لهم عملهم أن لهم النار .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #170
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (169)

    سُورَةُ النَّحْلِ(15)
    صـ 396 إلى صـ 400


    قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ، بين - جل وعلا - في هذه الآية [ ص: 396 ] الكريمة : أن في الأنعام عبرة دالة على تفرد من خلقها ، وأخلص لبنها من بين فرث ودم ; بأنه هو وحده المستحق لأن يعبد ، ويطاع ولا يعصى . وأوضح هذا المعنى أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون [ 23 \ 21 ] ، وقوله : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [ 16 \ 5 ] ، وقوله : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 36 \ 71 - 73 ] ، وقوله : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت [ 88 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقد دلت الآيات المذكورة على أن الأنعام يصح تذكيرها وتأنيثها ; لأنه ذكرها هنا في قوله : نسقيكم مما في بطونه [ 16 \ 66 ] ، وأنثها في " سورة : قد أفلح المؤمنون " في قوله : نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة [ 23 \ 21 ] ، ومعلوم في العربية : أن أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير نظرا إلى اللفظ ، والتأنيث نظرا إلى معنى الجماعة الداخلة تحت اسم الجنس . وقد جاء في القرآن تذكير الأنعام وتأنيثها كما ذكرناه آنفا . وجاء فيه تذكير النخل وتأنيثها ; فالتذكير في قوله : كأنهم أعجاز نخل منقعر [ 54 \ 20 ] ، والتأنيث في قوله : كأنهم أعجاز نخل خاوية [ 69 \ 7 ] ، ونحو ذلك . وجاء في القرآن تذكير السماء وتأنيثها ; فالتذكير في قوله : السماء منفطر به [ 73 \ 18 ] ، والتأنيث في قوله : والسماء بنيناها بأيد الآية [ 51 \ 47 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وهذا معروف في العربية ، ومن شواهده قول قيس بن الحصين الحارثي الأسدي وهو صغير في تذكير النعم :

    في كل عام نعم تحوونه يلقحه قوم وتنتجونه .

    وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر وشعبة عن عاصم " نسقيكم " ، بفتح النون . والباقون بضمها ، كما تقدم بشواهده " في سورة الحجر " .
    مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة :

    المسألة الأولى : استنبط القاضي إسماعيل من تذكير الضمير في قوله : مما في [ ص: 397 ] بطونه [ 16 \ 66 ] : أن لبن الفحل يفيد التحريم . وقال : إنما جيء به مذكرا ; لأنه راجع إلى ذكر النعم ; لأن اللبن للذكر محسوب ، ولذلك قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن لبن الفحل يحرم " ، حيث أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس ، فللمرأة السقى ، وللرجل اللقاح ; فجرى الاشتراك فيه بينهما . اه . بواسطة نقل القرطبي .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : أما اعتبار لبن الفحل في التحريم فلا شك فيه ، ويدل له الحديث المذكور في قصة عائشة مع أفلح أخي أبي القعيس ; فإنه متفق عليه مشهور . وأما استنباط ذلك من عود الضمير في الآية فلا يخلو عندي من بعد وتعسف . والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الثانية : استنبط النقاش وغيره من هذه الآية الكريمة : أن المني ليس بنجس ، قالوا : كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا ، كذلك يجوز أن يخرج المني من مخرج البول طاهرا .

    قال ابن العربي : إن هذا لجهل عظيم ، وأخذ شنيع ، اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ، ليكون عبرة ; فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة . وليس المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به ، أو مقيسا عليه .

    قال القرطبي بعد أن نقل الكلام المذكور : قلت : قد يعارض هذا بأن يقال : وأي منه أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم ؟ وقد قال تعالى : يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 7 ] ، وقال : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [ 16 \ 72 ] ، وهذا غاية في الامتنان .

    فإن قيل : إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول .

    قلنا : هو ما أردناه ; فالنجاسة عارضة وأصله طاهر . اه محل الغرض من كلام القرطبي .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : وأخذ حكم طهارة المني من هذه الآية الكريمة لا يخلو عندي من بعد . وسنبين إن - شاء الله - حكم المني : هل هو نجس أو طاهر ، ؟ وأقوال العلماء في ذلك ، مع مناقشة الأدلة . اعلم : أن في مني الإنسان ثلاثة أقوال للعلماء : الأول : أنه طاهر ، وأن حكمه حكم النخامة والمخاط ; وهذا هو مذهب الشافعي ، وأصح الروايتين عن أحمد ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وعطاء ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور ، وداود ، [ ص: 398 ] وابن المنذر ، وحكاه العبدري ، وغيره عن سعد بن أبي وقاص ، وابن عمر ، وعائشة - رضي الله عنهم - . كما نقله النووي في " شرح المهذب " وغيره .

    القول الثاني : أنه نجس ، ولا بد في طهارته من الماء سواء كان يابسا أو رطبا ; وهذا هو مذهب مالك ، والثوري ، والأوزاعي .

    القول الثالث : أنه نجس ، ورطبه لا بد له من الماء ، ويابسه لا يحتاج إلى الماء بل يطهر بفركه من الثوب حتى يزول منه ; وهذا هو مذهب أبي حنيفة . واختار الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : أنه نجس ، وأن إزالته لا تتوقف على الماء مطلقا .

    أما حجة من قال إنه طاهر كالمخلط فهي بالنص والقياس معا ، ومعلوم في الأصول : أن القياس الموافق للنص لا مانع منه ; لأنه دليل آخر عاضد للنص ، ولا مانع من تعاضد الأدلة .

    أما النص فهو ما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يذهب فيصلي فيه " ، أخرجه مسلم في صحيحه ، وأصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد . قالوا : فركها له يابسا ، وصلاته في الثوب من غير ذكر غسل دليل على الطهارة . وفي رواية عند أحمد : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ، ثم يصلي فيه ، ويحته من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه . وفي رواية ، عن عائشة عند الدارقطني : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يابسا ، وأغسله إذا كان رطبا** " ، وعن إسحاق بن يوسف قال : حدثنا شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المني يصيب الثوب ; فقال : " إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق ، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة " .

    قال صاحب ( منتقى الأخبار ) بعد أن ساق هذا الحديث كما ذكرنا : رواه الدارقطني ، وقال : لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك . قلت : وهذا لا يضر ; لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين ، فيقبل رفعه وزيادته .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : ما قاله الإمام المجد - رحمه الله - ( في المنتقى ) من قبول رفع العدل وزيادته ، هو الصحيح عند أهل الأصول وأهل الحديث كما بيناه مرارا ، إلى غير ذلك من الأحاديث في فرك المني وعدم الأمر بغسله .

    وأما القياس العاضد للنص فهو من وجهين : أحدهما : إلحاق المني بالبيض ; [ ص: 399 ] بجامع أن كلا منهما مائع يتخلق منه حيوان حي طاهر ، والبيض طاهر إجماعا ; فيلزم كون المني طاهرا أيضا .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : هذا النوع من القياس هو المعروف بالقياس الصوري ، وجمهور العلماء لا يقبلونه ، ولم يشتهر بالقول به إلا إسماعيل ابن علية ; كما أشار له في مراقي السعود بقوله :


    وابن علية يرى للصوري كالقيس للخيل على الحمير


    وصور القياس الصوري المختلف فيها كثيرة ; كقياس الخيل على الحمير في سقوط الزكاة ، وحرمة الأكل للشبه الصوري . وكقياس المني على البيض لتولد الحيوان الطاهر من كل منهما في طهارته . وكقياس أحد التشهدين على الآخر في الوجوب أو الندب لتشابههما في الصورة . وكقياس الجلسة الأولى على الثانية في الوجوب لتشبهها بها في الصورة . وكإلحاق الهرة الوحشية بالإنسية في التحريم . وكإلحاق خنزير البحر وكلبه بخنزير البر وكلبه ، إلى غير ذلك من صوره الكثيرة المعروفة في الأصول . واستدل من قال بالقياس الصوري : بأن النصوص دلت على اعتبار المشابهة في الصورة في الأحكام ; كقوله : فجزاء مثل ما قتل من النعم [ 5 \ 95 ] ، والمراد المشابهة في الصورة على قول الجمهور . وكبدل القرض فإنه يرد مثله في الصورة . وقد استسلف - صلى الله عليه وسلم - بكرا ورد رباعيا كما هو ثابت في الصحيح . وكسروه - صلى الله عليه وسلم - بقول القائف المدلجي في زيد بن حارثة وابنه أسامة : " هذه الأقدام بعضها من بعض " ; لأن القيافة قياس صوري ; لأن اعتماد القائف على المشابهة في الصورة .

    الوجه الثاني من وجهي القياس المذكور : إلحاق المني بالطين ، بجامع أن كلا منهما مبتدأ خلق بشر ; كما قال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة الآية [ 23 \ 12 - 13 ] .

    فإن قيل : هذا القياس يلزمه طهارة العلقة ، وهي الدم الجامد ; لأنها أيضا مبتدأ خلق بشر ، لقوله تعالى : ثم خلقنا النطفة علقة [ 23 \ 14 ] ، والدم نجس بلا خلاف .

    فالجواب : أن قياس الدم على الطين في الطهارة فاسد الاعتبار ; لوجود النص بنجاسة الدم . أما قياس المني على الطين فليس بفاسد الاعتبار ; لعدم ورود النص بنجاسة المني .

    [ ص: 400 ] وأما حجة من قال بأن المني نجس فهو بالنص والقياس أيضا . أما النص فهو ما ثبت عن عائشة - رضي الله عنه - قالت : " كنت أغسل المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء " ، متفق عليه . قالوا : غسلها له دليل على أنه نجس . وفي رواية عند مسلم عن عائشة بلفظ : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل المني ، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه " .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : وهذه الرواية الثابتة في صحيح مسلم تقوي حجة من يقول بالنجاسة ; لأن المقرر في الأصول : أن الفعل المضارع بعد لفظة " كان " يدل على المداومة على ذلك الفعل ، فقول عائشة في رواية مسلم هذه : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل " ، تدل على كثرة وقوع ذلك منه ، ومداومته عليه ، وذلك يشعر بتحتم الغسل . وفي رواية عن عائشة في صحيح مسلم أيضا : أن رجلا نزل بها فأصبح يغسل ثوبه . فقالت عائشة : إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه . فإن لم تر نضحت حوله . ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركا فيصلي فيه . اه .

    قالوا : هذه الرواية الثابتة في الصحيح عن عائشة ، صرحت فيها : بأنه إنما يجزئه غسل مكانه . وقد تقرر في الأصول ( في مبحث دليل الخطاب ) وفي المعاني ( في مبحث القصر ) : أن " إنما " من أدوات الحصر ; فعائشة صرحت بحصر الإجزاء في الغسل ; فدل ذلك على أن الفرك لا يجزئ دون الغسل ، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على غسله .

    وأما القياس : فقياسهم المني على البول والحيض ، قالوا : ولأنه يخرج من مخرج البول ، ولأن المذي جزء من المني ; لأن الشهوة تحلل كل واحد منهما فاشتركا في النجاسة .

    وأما حجة من قال : إنه نجس ، وإن يابسه يطهر بالفرك ولا يحتاج إلى الغسل فهي ظواهر نصوص تدل على ذلك ، ومن أوضحها في ذلك حديث عائشة عند الدارقطني الذي قدمناه آنفا : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يابسا ، وأغسله إذا كان رطبا " .

    وقال المجد ( في منتقى الأخبار ) بعد أن ساق هذه الرواية ما نصه : قلت : فقد بان من مجموع النصوص جواز الأمرين .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #171
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (170)

    سُورَةُ النَّحْلِ(16)
    صـ 401 إلى صـ 405


    قال مقيده - عفا الله عنه - : إيضاح الاستدلال بهذا الحديث لهذا القول : أن الحرص [ ص: 401 ] على إزالة المني بالكلية دليل على نجاسته ، والاكتفاء بالفرك في يابسه يدل على أنه لا يحتاج إلى الماء . ولا غرابة في طهارة متنجس بغير الماء ; فإن ما يصيب الخفاف والنعال من النجاسات المجمع على نجاستها يطهر بالدلك حتى تزول عينه . ومن هذا القبيل قول الشوكاني : إنه يطهر مطلقا بالإزالة دون الغسل ، لما جاء في بعض الروايات من سلت رطبه بإذخرة ونحوها . ورد من قال : إن المني طاهر احتجاج القائلين بنجاسته ، بأن الغسل لا يدل على نجاسة شيء ، فلا ملازمة بين الغسل والتنجيس ; لجواز غسل الطاهرات كالتراب والطين ونحوه يصيب البدن أو الثوب . قالوا : ولم يثبت نقل بالأمر بغسله ، ومطلق الفعل لا يدل على شيء زائد على الجواز .

    قال ابن حجر ( في التلخيص ) : وقد ورد الأمر بفركه من طريق صحيحة ، رواه ابن الجارود ، ففي ( المنتقى ) ، عن محسن بن يحيى ، عن أبي حذيفة ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث ، قال : كان عند عائشة ضيف فأجنب ، فجعل يغسل ما أصابه ; فقالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بحته - إلى أن قال : وأما الأمر بغسله فلا أصل له .

    وأجابوا عن قول عائشة : " إنما يجزئك أن تغسل مكانه " ، لحمله على الاستحباب ; لأنها احتجت بالفرك . قالوا : فلو وجب الغسل لكان كلامها حجة عليها لا لها ، وإنما أرادت الإنكار عليه في غسل كل الثوب ; فقالت : " غسل كل الثوب بدعة منكرة ، وإنما يجزئك في تحصيل الأفضل والأكمل أن تغسل مكانه . . . " إلخ .

    وأجابوا عن قياس المني على البول والدم ; بأن المني أصل الأدمي المكرم فهو بالطين أشبه ، بخلاف البول والدم .

    وأجابوا عن خروجه من مخرج البول بالمنع ، قالوا : بل مخرجهما مختلف ، وقد شق ذكر رجل بالروم ، فوجد كذلك ، فلا ننجسه بالشك . قالوا : ولو ثبت أنه يخرج من مخرج البول لم يلزم منه النجاسة ; لأن ملاقاة النجاسة في الباطن لا تؤثر ، وإنما تؤثر ملاقاتها في الظاهر .

    وأجابوا عن دعوى أن المذي جزء من المني بالمنع أيضا ، قالوا : بل هو مخالف له في الاسم والخلقة وكيفية الخروج ; لأن النفس والذكر يفتران بخروج المني ، وأما المذي فعكسه ، ولهذا من به سلس المذي لا يخرج منه شيء من المذي . وهذه المسألة فيها للعلماء مناقشات كثيرة ، كثير منها لا طائل تحته . وهذا الذي ذكرنا فيها هو خلاصة أقوال [ ص: 402 ] العلماء وحججهم .

    قال مقيده - عفا الله عنه ** - : أظهر الأقوال دليلا في هذه المسألة عندي - والله أعلم - : أن المني طاهر ; لما قدمنا من حديث إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق ، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة " ، وهذا نص في محل النزاع .

    وقد قدمنا عن صاحب المنتقى أن الدارقطني قال : لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك ، وأنه هو قال : قلت : وهذا لا يضر ; لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين ، فيقبل رفعه وزيادته . انتهى .

    وقد قدمنا مرارا : أن هذا هو الحق ; فلو جاء الحديث موقوفا من طريق ، وجاء مرفوعا من طريق أخرى صحيحة حكم برفعه ; لأن الرفع زيادة ، وزيادات العدول مقبولة ، قال في مراقي السعود :


    والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ
    - إلخ .

    وبه تعلم صحة الاحتجاج برواية إسحاق المذكور المرفوعة ، ولا سيما أن لها شاهدا من طريق أخرى .

    قال ابن حجر ( في التلخيص ) ما نصه : فائدة -

    روى الدارقطني ، والبيهقي من طريق إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المني يصيب الثوب ؟ قال : " إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق " ، وقال : " إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة " ، ورواه الطحاوي من حديث حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مرفوعا ، ورواه هو والبيهقي من طريق عطاء عن ابن عباس موقوفا ، قال البيهقي : الموقوف هو الصحيح . انتهى .

    فقد رأيت الطريق الأخرى المرفوعة من حديث حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، وهي مقوية لطريق إسحاق الأزرق المتقدمة .

    واعلم أن قول البيهقي - رحمه الله - : والموقوف هو الصحيح ولا يسقط به الاحتجاج بالرواية المرفوعة ; لأنه يرى أن وقف الحديث من تلك الطريق علة في الطريق المرفوعة . وهذا قول معروف لبعض العلماء من أهل الحديث والأصول ، ولكن الحق : أن الرفع [ ص: 403 ] زيادة مقبولة من العدل ، وبه تعلم صحة الاحتجاج بالرواية المرفوعة عن ابن عباس في طهارة المني ، وهي نص صريح في محل النزاع ، ولم يثبت في نصوص الشرع شيء يصرح بنجاسة المني .

    فإن قيل : أخرج البزار ، وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما ، وابن عدي في الكامل ، والدارقطني والبيهقي والعقيلي في الضعفاء ، وأبو نعيم في المعرفة من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بعمار فذكر قصة ، وفيها : " إنما تغسل ثوبك من الغائط ، والبول ، والمني ، والدم ، والقيء ، يا عمار ، ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء " .

    فالجواب : أن في إسناده ثابت بن حماد ، عن علي بن زيد بن جدعان ، وضعفه الجماعة المذكورون كلهم إلا أبا يعلى بثابت بن حماد ، واتهمه بعضهم بالوضع . وقال اللالكائي : أجمعوا على ترك حديثه . وقال البزار : لا نعلم لثابت إلا هذا الحديث . وقال الطبراني : تفرد به ثابت بن حماد ، ولا يروى عن عمار إلا بهذا الإسناد . وقال البيهقي : هذا حديث باطل ، إنما رواه ثابت بن حماد وهو متهم بالوضع ; قاله ابن حجر في ( التلخيص ) ، ثم قال : قلت ورواه البزار ، والطبراني من طريق إبراهيم بن زكريا العجلي ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، لكن إبراهيم ضعيف ، وقد غلط فيه ، إنما يرويه ثابت بن حماد . انتهى .

    وبهذا تعلم أن هذا الحديث لا يصح الاحتجاج به على نجاسة المني . والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الثالثة : قال القرطبي : في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره . فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به ; لأنه مائع طاهر حصل في وعاء نجس . وذلك أن ضرع الميتة نجس ، واللبن طاهر ; فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس . فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه . فمن قال : إن الإنسان طاهر حيا وميتا فهو طاهر . ومن قال : ينجس بالموت فهو نجس . وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة ; لأن الصبي قد يتغذى به كما يتغذى من الحية . وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم " ، ولم يخص . انتهى كلام القرطبي .
    قوله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا الآية [ 16 \ 97 ] ، جمهور العلماء على أن المراد بالسكر في هذه الآية الكريمة : الخمر ; لأن [ ص: 404 ] العرب تطلق اسم السكر على ما يحصل به السكر ، من إطلاق المصدر وإرادة الاسم . والعرب تقول : سكر " - بالكسر - " سكرا [ 16 \ 67 ] ، " بفتحتين وسكرا " بضم فسكون " .

    وقال الزمخشري في الكشاف : والسكر : الخمر ; سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا ، نحو رشد رشدا ورشدا . قال :


    وجاءونا بهم سكر علينا فأجلى اليوم والسكران صاحي
    ا هـ .

    ومن إطلاق السكر على الخمر قول الشاعر :


    بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر


    وممن قال : بأن السكر في الآية الخمر : ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو رزين ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وابن أبي ليلى ، والكلبي ، وابن جبير ، وأبو ثور ، وغيرهم . وقيل : السكر : الخل . وقيل : الطعم ، وقيل : العصير الحلو .

    وإذا عرفت أن الصحيح هو مذهب الجمهور ، وأن الله امتن على هذه الأمة بالخمر قبل تحريمها فاعلم أن هذه الآية مكية ، نزلت بعدها آيات مدنية بينت تحريم الخمر ، وهي ثلاث آيات نزلت بعد هذه الآية الدالة على إباحة الخمر .

    الأولى : آية البقرة التي ذكر فيها بعض معائبها ومفاسدها ، ولم يجزم فيها بالتحريم ، وهي قوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ، وبعد نزولها تركها قوم للإثم الذي فيها ، وشربها آخرون للمنافع التي فيها .

    الثانية : آية النساء الدالة على تحريمها في أوقات الصلوات ، دون الأوقات التي يصحو فيها الشارب قبل وقت الصلاة ، كما بين صلاة العشاء وصلاة الصبح ، وما بين صلاة الصبح وصلاة الظهر ، وهي قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية [ 4 \ 43 ] .

    الثالثة : آية المائدة الدالة على تحريمها تحريما باتا ، وهي قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إلى قوله : فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] .

    [ ص: 405 ] وهذه الآية الكريمة تدل على تحريم الخمر أتم دلالة وأوضحها ; لأنه تعالى صرح بأنها رجس ، وأنها من عمل الشيطان ، وأمر باجتنابها أمرا جازما في قوله : فاجتنبوه ، واجتناب الشيء : هو التباعد عنه ، بأن تكون في غير الجانب الذي هو فيه . وعلق رجاء الفلاح على اجتنابها في قوله : لعلكم تفلحون ، ويفهم منه أنه من لم يجتنبها لم يفلح ، وهو كذلك .

    ثم بين بعض مفاسدها بقوله : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة [ 15 \ 91 ] ، ثم أكد النهي عنها بأن أورده بصيغة الاستفهام في قوله : فهل أنتم منتهون [ 5 \ 91 ] ، فهو أبلغ في الزجز من صيغة الأمر التي هي " انتهوا " ، وقد تقرر في فن المعاني : أن من معاني صيغة الاستفهام ، التي ترد لها ، الأمر ; كقوله : فهل أنتم منتهون ، وقوله : وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم الآية [ 3 \ 20 ] ، أي : أسلموا . والجار والمجرور في قوله : ومن ثمرات النخيل الآية [ 16 \ 67 ] ، يتعلق بـ تتخذون ، وكرر لفظ " من " للتأكيد ، وأفرد الضمير في قوله " منه " مراعاة للمذكور ; أي : تتخذون منه ، أي : مما ذكر من ثمرات النخيل والأعناب . ونظيره قول رؤبة :
    فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق


    فقوله : " كأنه " ، أي : ما ذكر من خطوط السواد والبلق . وقيل : الضمير راجع إلى محذوف دل المقام عليه ، أي : ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ، أي : عصير الثمرات المذكورة ، وقيل : قوله : ومن ثمرات النخيل ، معطوف على قوله : مما في بطونه [ 16 \ 66 ] ، أي : نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل . وقيل : يتعلق بـ : نسقيكم ، [ 16 \ 66 ] محذوفة دلت عليها الأولى ; فيكون من عطف الجمل . وعلى الأول يكون من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل . وقيل : معطوف على " الأنعام " [ 16 \ 66 ] ، وهو أضعفها عندي .

    وقال الطبري : التقدير : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا ; فحذف " ما " .

    قال أبو حيان البحر : وهو لا يجوز على مذهب البصريين . وقيل : يجوز أن يكون صفة موصوف محذوف ، أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه [ ص: 406 ] ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز :
    ما لك عندي غير سوط وحجر وغير كبداء شديدة الوتر
    جادت بكفي كان من أرمى البشر


    أي : بكفي رجل كان " إلخ " ، ذكره الزمخشري وأبو حيان .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : أظهر هذه الأقوال عندي : أن قوله : ومن ثمرات ، يتعلق بـ : تتخذون ، أي : تتخذون من ثمرات النخيل ، وأن " من " ، الثانية : توكيد للأولى . والضمير في قوله : منه ، عائد إلى جنس الثمر المفهوم من ذكر الثمرات ، والعلم عند الله تعالى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #172
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (171)

    سُورَةُ النَّحْلِ(17)
    صـ 406 إلى صـ 410


    تنبيه .

    اعلم : أن التحقيق على مذهب الجمهور : أن هذه الآية الكريمة التي هي قوله - جل وعلا - : ومن ثمرات النخيل والأعناب [ 16 \ 67 ] منسوخة بآية " المائدة " المذكورة . فما جزم به صاحب مراقي السعود فيه وفي شرحه ( نشر البنود ) من أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها الأولى ; بناء على أن إباحتها الأولى إباحة عقلية ، والإباحة العقلية هي البراءة الأصلية ، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي ، وهي ليست من الأحكام الشرعية ; فرفعها ليس بنسخ . وقد بين في المراقي : أنها ليست من الأحكام الشرعية بقوله :


    وما من البراءة الأصلية قد أخذت فليست الشرعية


    وقال أيضا في إباحة الخمر قبل التحريم :


    أباحها في أول الإسلام براءة ليست من الأحكام


    كل ذلك ليس بظاهر ، بل غير صحيح ; لأن إباحة الخمر قبل التحريم دلت عليها هذه الآية الكريمة ، التي هي قوله : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا الآية [ 16 \ 67 ] ، وما دلت على إباحته آية من كتاب الله لا يصح أن يقال : إن إباحته عقلية ، بل هي إباحة شرعية منصوصة في كتاب الله ، فرفعها نسخ . نعم ! على القول بأن معنى السكر في الآية : الخل أو الطعم أو العصير ; فتحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها ، وإباحتها الأولى : عقلية . وقد بينا هذا المبحث في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات [ ص: 407 ] الكتاب ) .

    فإن قيل : الآية واردة بصيغة الخبر ، والأخبار لا يدخلها النسخ كما تقرر في الأصول :

    فالجواب : أن النسخ وارد على ما يفهم من الآية من إباحة الخمر . الإباحة حكم شرعي كسائر الأحكام قابل للنسخ ; فليس النسخ واردا على نفس الخبر ، بل على الإباحة المفهومة من الخبر ; كما حققه ابن العربي المالكي وغيره .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ورزقا حسنا [ 16 \ 67 ] ، أي : التمر ، والرطب ، والعنب ، والزبيب ، والعصير ، ونحو ذلك .
    تنبيه آخر .

    اعلم : أن النبيذ الذي يسكر منه الكثير لا يجوز أن يشرب منه القليل الذي لا يسكر لقلته . وهذا مما لا شك فيه .

    فمن زعم جواز شرب القليل الذي لا يسكر منه كالحنفية وغيرهم ، فقط غلط غلطا فاحشا ; لأن ما يسكر كثيره يصدق عليه بدلالة المطابقة أنه مسكر ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كل مسكر حرام " ، وقد ثبت عنه في الصحيح - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام " ، ولو حاول الخصم أن ينازع في معنى هذه الأحاديث ، فزعم أن القليل الذي لا يسكر يرتفع عنه اسم الإسكار فلا يلزم تحريمه ، قلنا : صرح - صلى الله عليه وسلم - بأن " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، وهذا نص صريح في محل النزاع لا يمكن معه كلام . وعن عائشة - رضي الله عنه - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل مسكر حرام ، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام " ، رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن . وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، رواه أحمد وابن ماجه ، والدارقطني وصححه . ولأبي داود وابن ماجه ، والترمذي مثله سواء من حديث جابر . وكذا لأحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده . وكذلك الدارقطني من حديث الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - . وعن سعد بن أبي وقاص : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن قليل ما أسكر كثيره " ، رواه النسائي والدارقطني . وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه قوم فقالوا : يا رسول الله ، إنا ننبذ النبيذ فنشربه على غدائنا وعشائنا ؟ فقال : " اشربوا فكل مسكر حرام " . فقالوا : يا رسول الله ، إنا نكسره بالماء ؟ [ ص: 408 ] فقال : " حرام قليل ما أسكر كثيره " ، رواه الدارقطني . اه . بواسطة نقل المجد في ( منتقى الأخبار ) .

    فهذه الأحاديث لا لبس معها في تحريم قليل ما أسكر كثيره . وقال ابن حجر ( في فتح الباري ) في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - عند البخاري : " كل شراب أسكر فهو حرام " ، ما نصه : فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مثله ، وسنده إلى عمرو صحيح . ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعا : " كل مسكر حرام ، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام " ، ولابن حبان والطحاوي من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره " ، وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث - إلى أن قال : وجاء أيضا عن علي عند الدارقطني ، وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني ، وعن خوات بن جبير عند الدارقطني والحاكم والطبراني ، وعن زيد بن ثابت عند الدارقطني . وفي أسانيدها مقال ; لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة .

    قال أبو المظفر بن السمعاني ( وكان حنفيا فتحول شافعيا ) : ثبتت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم المسكر .

    ثم ساق كثيرا منها ، ثم قال : والأخبار في ذلك كثيرة ، ولا مساغ لأحد في العدول عنها والقول بخلافه ; فإنها حجج قواطع . قال : وقد زل الكوفيون في هذا الباب ، ورووا فيه أخبارا معلولة ، لا تعارض هذه الأخبار بحال . ومن ظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب مسكرا فقد دخل في أمر عظيم ، وباء بإثم كبير . وإنما الذي شربه كان حلوا ولم يكن مسكرا . وقد روى ثمامة بن حزن القشيري : أنه سأل عائشة عن النبيذ ؟ فدعت جارية حبشية فقالت : سل هذه ، فإنها كانت تنبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت الحبشية : كنت أنبذ له في سقاء من الليل ، وأوكثه وأعلقه فإذا أصبح شرب منه . أخرجه مسلم .

    وروى الحسن البصري عن أمه عن عائشة نحوه . ثم قال : فقياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها ، والمفاسد التي توجد في الخمر **توجد في النبيذ ، إلى أن قال : وعلى الجملة ، فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر - قل أو كثر - مغنية عن القياس . والله أعلم .

    وقد قال عبد الله بن المبارك : لا يصح في حل النبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة [ ص: 409 ] شيء ولا عن التابعين ; إلا عن إبراهيم النخعي . انتهى محل الغرض من ( فتح الباري ) بحذف ما لا حاجة إليه .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : تحريم قليل النبيذ الذي يسكر كثيره لا شك فيه ; لما رأيت من تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " .

    واعلم : أن قياس النبيذ المسكر كثيره على الخمر بجامع الإسكار لا يصح ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح بأن " كل مسكر حرام " ، والقياس يشترط فيه ألا يكون حكم الفرع منصوصا عليه كحكم الأصل . كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
    وحيثما يندرج الحكمان في النص فالأمران قل سيان


    وقال ابن المنذر : وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة ، وإذا اختلف الناس في الشيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . اه .
    قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل الآية ، المراد بالإيحاء هنا : الإلهام . والعرب تطلق الإيحاء على الإعلام بالشيء في خفية ; ولذا تطلقه على الإشارة ، وعلى الكتابة ، وعلى الإلهام ; ولذلك قال تعالى : وأوحى ربك إلى النحل [ 16 \ 68 ] ، أي : ألهمها . وقال : فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة الآية [ 19 \ 11 ] ، أي : أشار إليهم . وسمى أمره للأرض إيحاء في قوله : يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها [ 99 \ 4 ، 5 ] ، ومن إطلاق الوحي على الكتابة قول لبيد في معلقته :


    فمدافع الريان عري رسمها خلقا كما ضمن الوحي سلامها


    ف " الوحي " في البيت ( بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء ) جمع وحي بمعنى الكتابة . وسيأتي لهذه المسألة - إن شاء الله - زيادة إيضاح .
    قوله تعالى : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن من الناس من يموت قبل بلوغ أرذل العمر ، ومنهم من يعمر حتى يرد إلى أرذل العمر . وأرذل العمر آخره الذي تفسد فيه الحواس ، ويختل فيه النطق والفكر ، وخص بالرذيلة ; لأنه حال لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد . بخلاف حال الطفولة ، فإنها حالة ينتقل منها إلى القوة وإدراك الأشياء . وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله في سورة الحج : ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا [ 22 \ 5 ] ، وقوله في الروم : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من [ ص: 410 ] بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة الآية [ 30 \ 54 ] ، وأشار إلى ذلك أيضا بقوله : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] ، وقوله في سورة المؤمن : ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون [ 40 \ 67 ] .

    وقال البخاري في صحيحه في الكلام على هذه الآية الكريمة : باب قوله تعالى : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر [ 16 \ 70 ] ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور ، عن شعيب ، عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو : " أعوذ بالله من البخل والكسل ، وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات " ، اه . وعن علي - رضي الله تعالى عنه - : أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة . وعن قتادة : تسعون سنة . والظاهر أنه لا تحديد له بالسنين ، وإنما هو باعتبار تفاوت حال الأشخاص ; فقد يكون ابن خمس وسبعين أضعف بدنا وعقلا ، وأشد خرفا من آخر ابن تسعين سنة ، وظاهر قول زهير في معلقته :
    سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم



    أن ابن الثمانين بالغ أرذل العمر
    ، ويدل له قول الآخر :


    إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان


    وقوله : " لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " [ 16 \ 70 ] ( أي يرد إلى أرذل العمر ، لأجل أن يزول ما كان يعلم من العلم أيام الشباب ، ويبقى لا يدري شيئا ; لذهاب إدراكه بسبب الخوف . ولله في ذلك حكمة .

    وقال بعض العلماء : إن العلماء العاملين لا ينالهم هذا الخرف وضياع العلم والعقل من شدة الكبر ، ويستروح لهذا المعنى من بعض التفسيرات ) في قوله : ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية [ 95 \ 5 - 6 ] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #173
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (172)

    سُورَةُ النَّحْلِ(18)
    صـ 411 إلى صـ 415


    قوله تعالى : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون ، أظهر التفسيرات في هذه الآية الكريمة : أن الله ضرب فيها مثلا للكفار ، بأنه فضل بعض الناس على بعض في الرزق ، ومن ذلك تفضيله المالكين على المملوكين في الرزق ، وأن المالكين لا يرضون لأنفسهم أن يكون المملوكون شركاءهم فيما رزقهم الله من [ ص: 411 ] الأموال والنساء وجميع نعم الله . ومع هذا يجعلون الأصنام شركاء لله في حقه على خلقه ، الذي هو إخلاص العبادة له وحده ، أي : إذا كنتم لا ترضون بإشراك عبيدكم معكم في أموالكم ونسائكم : فكيف تشركون عبيدي معي في سلطانيا ؟ ! .

    ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم الآية [ 30 \ 28 ] ، ويؤيده أن " ما " في قوله : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] ، نافية ، أي : ليسوا برادي رزقهم عليهم حتى يسووهم مع أنفسهم . اه .

    فإذا كانوا يكرهون هذا لأنفسهم : فكيف يشركون الأوثان مع الله في عبادتها مع اعترافهم بأنها ملكه ؟ ! ! كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .

    وهذه الآية الكريمة نص صريح في إبطال مذهب الاشتراكية القائل : بأنه لا يكون أحد أفضل من أحد في الرزق ، ولله في تفضيل بعضهم على بعض في الرزق حكمة ; قال تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا الآية [ 43 \ 32 ] ، وقال : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 13 \ 26 ] ، وقال : على الموسع قدره وعلى المقتر قدره [ 2 \ 236 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وفي معنى هذه الآية الكريمة قولان آخران :

    أحدهما : أن معناها أنه جعلكم متفاوتين في الرزق ; فرزقكم أفضل مما رزق كلمة واحدة ، وهم بشر مثلكم وإخوانكم ; فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم ، حتى تساووا في الملبس والمطعم ; كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه أمر مالكي العبيد أن يطعموهم مما يطعمون ، ويكسوهم مما يلبسون " ، وعلى هذا القول فقوله تعالى : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] ، لوم لهم ، وتقريع على ذلك .

    القول الثاني : أن معنى الآية أنه - جل وعلا - هو رازق المالكين والمملوكين جميعا ; فهم في رزقه سواء ، فلا يحسبن المالكون أنهم يردون على مماليكهم شيئا من الرزق ، فإنما ذلك رزق الله يجريه لهم على أيديهم . والقول الأول : هو الأظهر وعليه جمهور العلماء ، [ ص: 412 ] ويدل له القرآن كما بينا . والعلم عند الله تعالى .

    وقوله أفبنعمة الله يجحدون [ 16 \ 71 ] ، إنكار من الله عليهم جحودهم بنعمته ; لأن الكافر يستعمل نعم الله في معصية الله ، فيستعين بكل ما أنعم به عليه على معصيته ، فإنه يرزقهم ويعافيهم ، وهم يعبدون غيره . وجحد : تتعدى بالباء في اللغة العربية ; كقوله : وجحدوا بها الآية [ 27 \ 14 ] ، وقوله : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] ، والجحود بالنعمة هو كفرانها .
    قوله تعالى : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة الآية ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه امتن على بني آدم أعظم منة بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا من جنسهم وشكلهم ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة .

    ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثا ، وجعل الإناث أزواجا للذكور ، وهذا من أعظم المنن ، كما أنه من أعظم الآيات الدالة على أنه - جل وعلا - هو المستحق أن يعبد وحده .

    وأوضح في غير هذا الموضع : أن هذه نعمة عظيمة ، وأنها من آياته - جل وعلا - ; كقوله : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [ 30 \ 21 ] ، وقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 36 - 39 ] ، وقوله تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] .

    واختلف العلماء في المراد بالحفدة في هذه الآية الكريمة ; فقال جماعة من العلماء : الحفدة : أولاد الأولاد ، أي : وجعل لكم من أزواجكم بنين ، ومن البنين حفدة . وقال بعض العلماء : الحفدة الأعوان والخدم مطلقا ; ومنه قول جميل :


    حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال


    أي : أسرعت الولائد الخدمة ، والولائد الخدم . الواحدة وليدة ، ومنه قول الأعشى :
    كلفت مجهولها نوقا يمانية إذا الحداة على أكسائها حفدوا


    أي : أسرعوا في الخدمة . [ ص: 413 ] ومنه قوله في سورة الحفد التي نسخت : وإليك نسعى ونحفد ، أي : نسرع في طاعتك . وسورة الخلع وسورة الحفد اللتان نسختا يسن عند المالكية القنوت بهما في صلاة الصبح ، كما هو معروف .

    وقيل : الحفدة الأختان ، وهم أزواج البنات ، ومنه قول الشاعر :


    فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما يعد كثير
    .

    ولكنها نفس علي أبية عيوف لأصهار اللئام قذور


    والقذور : التي تتنزه عن الوقوع فيما لا ينبغي ، تباعدا عن التدنس بقذره .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : الحفدة : جمع حافد ، اسم فاعل من الحفد وهو الإسراع في الخدمة والعمل . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة قول بعض العلماء في الآية . فنبين ذلك .

    وفي هذه الآية الكريمة قرينة دالة على أن الحفدة أولاد الأولاد ; لأن قوله : وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [ 16 \ 72 ] ، دليل ظاهر على اشتراك البنين والحفدة في كونهم من أزواجهم ، وذلك دليل على أنهم كلهم من أولاد أزواجهم . ودعوى أن قوله : " وحفدة " معطوف على قوله : " أزواجا " [ 16 \ 72 ] ، غير ظاهرة . كما أن دعوى أنهم الأختان ، وأن الأختان أزواج بناتهم ، وبناتهم من أزواجهم ، وغير ذلك من الأقوال كله غير ظاهر . وظاهر القرآن هو ما ذكر ، وهو اختيار ابن العربي المالكي والقرطبي وغيرهما . ومعلوم : أن أولاد الرجل ، وأولاد أولاده : من خدمه المسرعين في خدمته عادة . والعلم عند الله تعالى .
    تنبيه .

    في قوله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا الآية [ 16 \ 72 ] ، رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها .

    حتى روي أن عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك تزوج سعلاة منهم ، وكان يخبؤها عن سنا البرق لئلا تراه فتنفر . فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة ، فقالت : عمرو ! ونفرت . فلم يرها أبدا ; ولذا قال علباء بن أرقم يهجو أولاد عمرو المذكور :


    ألا لحى الله بني السعلاة عمرو بن يربوع لئام النات .

    [ ص: 414 ] ليسوا بأعفاف ولا أكيات


    وقوله : " النات " ، أصله " الناس " أبدلت فيه السين تاء . وكذلك قوله " أكيات " أصله " أكياس " جمع كيس ، أبدلت فيه السين تاء أيضا . وقال المعري يصف مراكب إبل متغربة عن الأوطان : إذا رأت لمعان البرق تشتاق إلى أوطانها . فزعم أنه يستر عنها البرق لئلا يشوقها إلى أوطانها ، كما كان عمرو يستره عن سعلاته :
    إذا لاح إيماض سترت وجوهها كأني عمرو والمطي سعالي


    والسعلاة : عجوز الجن . وقد روي من حديث أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أحد أبوي بلقيس كان جنيا " .

    قال صاحب الجامع الصغير : أخرجه أبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه في التفسير ، وابن عساكر : وقال شارحه المناوي : في إسناده سعيد بن بشر قال في الميزان عن ابن معين : ضعيف . وعن ابن مسهر : لم يكن ببلدنا أحفظ منه ، وهو ضعيف منكر الحديث ، ثم ساق من مناكيره هذا الخبر اه . وبشير بن نهيك أورده الذهبي في الضعفاء . وقال أبو حاتم : لا يحتج به . ووثقه النسائي . انتهى .

    وقال المناوي في شرح حديث " أحد أبوي بلقيس كان جنيا " ، قال قتادة : ولهذا كان مؤخر قدميها كحافر الدابة . وجاء في آثار : أن الجني الأم ، وذلك أن أباها ملك اليمن خرج ليصيد فعطش ، فرفع له خباء فيه شيخ فاستسقاه ، فقال : يا حسنة ، اسقي عمك ; فخرجت كأنها شمس بيدها كأس من ياقوت . فخطبها من أبيها ، فذكر أنه جني ، وزوجها منه بشرط أنه إن سألها عن شيء عملته فهو طلاقها . فأتت منه بولد ذكر ، ولم يذكر قبل ذلك ، فذبحته فكرب لذلك ، وخاف أن يسألها فتبين منه . ثم أتت ببلقيس فأظهرت البشر ; فاغتم فلم يملك أن سألها ، فقالت : هذا جزائي منك ! باشرت قتل ولدي من أجلك ! وذلك أن أبي يسترق السمع فسمع الملائكة تقول : إن الولد إذا بلغ الحلم ذبحك ، ثم استرق السمع في هذه فسمعهم يعظمون شأنها ، ويصفون ملكها ، وهذا فراق بيني وبينك ; فلم يرها بعد . هذا محصول ما رواه ابن عساكر عن يحيى الغساني . اه من شرح المناوي للجامع الصغير .

    وقال القرطبي في تفسير " سورة النحل " : كان أبو بلقيس وهو : السرح بن الهداهد بن شراحيل ، ملكا عظيم الشأن ، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفأ لي . وأبى [ ص: 415 ] أن يتزوج منهم ; فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن ; فولدت له بلقمة وهي بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها .

    وقال أبو هريرة : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كان أحد أبوي بلقيس جنيا " ** - إلى أن قال : ويقال : إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرا لملك عات** ، يغتصب نساء الرعية ، وكان الوزير غيورا فلم يتزوج . فصحب مرة في الطريق رجلا لا يعرفه ، فقال : هل لك من زوجة ؟ فقال : لا أتزوج أبدا . فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن . فقال : لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدا . قال : بل يغتصبها ! قال : إنا قوم من الجن لا يقدر علينا . فتزوج ابنته فولدت له بلقيس ، إلى غير ذلك من الروايات .

    وقال القرطبي أيضا : وروى وهيب بن جرير بن حازم ، عن الخليل بن أحمد ، عن عثمان بن حاضر ، قال : كانت أم بلقيس من الجن ، يقال لها : بلعمة بنت شيصان .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر أن الحديث الوارد في كون أحد أبوي بلقيس جنيا ضعيف .

    وكذلك الآثار الواردة في ذلك ليس منها شيء يثبت .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #174
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (173)

    سُورَةُ النَّحْلِ(19)
    صـ 416 إلى صـ 420


    مسألة .

    اختلف العلماء في جواز المناكحة بين بني آدم والجن . فمنعها جماعة من أهل العلم ، وأباحها بعضهم .

    قال المناوي ( في شرح الجامع الصغير ) : ففي الفتاوى السراجية للحنفية : لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء ; لاختلاف الجنس . وفي فتاوى البارزي من الشافعية : لا يجوز التناكح بينهما . ورجح ابن العماد جوازه . اه .

    وقال الماوردي : وهذا مستنكر للعقول ; لتباين الجنسين ، واختلاف الطبعين ; إذ الآدمي جسماني ، والجني روحاني . وهذا من صلصال كالفخار ، وذلك من مارج من نار ، والامتزاج مع هذا التباين مدفوع ، والتناسل مع هذا الاختلاف ممنوع . اه .

    وقال ابن العربي المالكي : نكاحهم جائز عقلا ; فإن صح نقلا فبها ونعمت .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : لا أعلم في كتاب الله ولا في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نصا يدل على جواز مناكحة الإنس الجن ، بل الذي يستروح من ظواهر الآيات عدم جوازه . فقوله في هذه الآية الكريمة : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا الآية [ 16 \ 72 ] ، ممتنا على [ ص: 416 ] بني آدم بأن أزواجهم من نوعهم وجنسهم ، يفهم منه أنه ما جعل لهم أزواجا تباينهم كمباينة الإنس للجن ، وهو ظاهر .

    ويؤيده قوله تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [ 30 \ 21 ] ، فقوله : أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ، في معرض الامتنان يدل على أنه ما خلق لهم أزواجا من غير أنفسهم ; ويؤيد ذلك ما تقرر في الأصول من أن : " النكرة في سياق الامتنان تعم " ، فقوله : جعل لكم من أنفسكم أزواجا [ 16 \ 72 ] ، جمع منكر في سياق الامتنان فهو يعم ، وإذا عم دل ذلك على حصر الأزواج المخلوقة لنا فيما هو من أنفسنا ، أي : من نوعنا وشكلنا . مع أن قوما من أهل الأصول زعموا " أن الجموع المنكرة في سياق الإثبات من صيغ العموم " ، والتحقيق أنها في سياق الإثبات لا تعم ، وعليه درج في مراقي السعود ; حيث قال في تعداده للمسائل التي عدم العموم فيها أصح :
    منه منكر الجموع عرفا وكان والذي عليه انعطفا


    أما في سياق الامتنان فالنكرة تعم . وقد تقرر في الأصول " أن النكرة في سياق الامتنان تعم " ، كقوله : وأنزلنا من السماء ماء طهورا [ 25 \ 48 ] ، أي : فكل ماء نازل من السماء طهور . وكذلك النكرة في سياق النفي أو الشرط أو النهي ; كقوله : ما لكم من إله غيره [ 7 \ 59 ] ، وقوله : وإن أحد من المشركين الآية [ 9 \ 6 ] ، وقوله : ولا تطع منهم آثما الآية [ 76 \ 24 ] ، ويستأنس لهذا بقوله : وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 166 ] ، فإنه يدل في الجملة على أن تركهم ما خلق الله لهم من أزواجهم ، وتعديهم إلى غيره يستوجب الملام ، وإن كان أصل التوبيخ والتقريع على فاحشة اللواط ; لأن أول الكلام : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم [ 26 \ 165 - 166 ] ، فإنه وبخهم على أمرين ، أحدهما : إتيان الذكور . والثاني : ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم .

    وقد دلت الآيات المتقدمة على أن ما خلق لهم من أزواجهم ، هو الكائن من أنفسهم ، أي : من نوعهم وشكلهم ; كقوله : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا [ 16 \ 72 ] ، ، وقوله : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا الآية [ 30 \ 21 ] ، فيفيد أنه لم يجعل لهم أزواجا من غير أنفسهم . والعلم عند الله تعالى .
    [ ص: 417 ] قوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات بإنزال المطر ، ولا من الأرض بإنبات النبات . وأكد عجز معبوداتهم عن ذلك بأنهم لا يستطيعون ، أي : لا يملكون أن يرزقوا ، والاستطاعة منفية عنهم أصلا ; لأنهم جماد ليس فيه قابلية استطاعة شيء .

    ويفهم من الآية الكريمة : أنه لا يصح أن يعبد إلا من يرزق الخلق ; لأن أكلهم رزقه ، وعبادتهم غيره كفر ظاهر لكل عاقل . وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية الكريمة بينه - جل وعلا - في مواضع أخر ، كقوله : إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [ 29 \ 17 ] ، وقوله : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور [ 67 \ 21 ] ، وقوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ 51 \ 56 - 58 ] ، وقوله : قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم وقوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ 20 \ 132 ] ، وقوله : هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض الآية [ 35 \ 3 ] ، وقوله : قل من يرزقكم من السماء والأرض الآية [ 10 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    تنبيه .

    في قوله : شيئا [ 16 \ 73 ] ، في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من الإعراب :

    الأول : أن قوله : رزقا ، مصدر ، وأن : ، شيئا ، مفعول به لهذا المصدر ; أي : ويعبدون من دون الله ما لا يملك أن يرزقهم شيئا من الرزق . ونظير هذا الإعراب قوله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما الآية [ 90 \ 14 - 15 ] ، فقوله : يتيما مفعول به للمصدر الذي هو إطعام ، أي : أن يطعم يتيما ذا مقربة . ونظيره من كلام العرب قول المرار بن منقذ التميمي :
    بضرب بالسيوف رءوس قوم أزلنا هامهن عن المقيل


    فقوله : " رءوس قوم " مفعول به للمصدر المنكر الذي هو قوله " بضرب " ، وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله : [ ص: 418 ]
    بفعله المصدر الحق في العمل مضافا أو مجردا أو مع ال


    الوجه الثاني : أن قوله : شيئا ، بدل من قوله رزقا ، بناء على أن المراد بالرزق هو ما يرزقه الله عباده ; لا المعنى المصدري .

    الوجه الثالث : أن يكون قوله : شيئا ما ناب عن المطلق من قوله : يملك ، أي : لا يملك شيئا من الملك ، بمعنى لا يملك ملكا قليلا أن يرزقهم . قوله تعالى : فلا تضربوا لله الأمثال .

    نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة خلقه أن يضربوا له الأمثال ، أي : يجعلوا له أشباها ونظراء من خلقه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ! .

    وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : ليس كمثله شيء الآية [ 42 \ 11 ] ، وقوله : ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر الآية ، أظهر الأقوال فيها : أن المعنى أن الله إذا أراد الإتيان بها فهو قادر على أن يأتي بها في أسرع من لمح البصر ; لأنه يقول للشيء كن فيكون . ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [ 54 \ 50 ] .

    وقال بعض العلماء : المعنى هي قريب عنده تعالى كلمح البصر وإن كانت بعيدا عندكم ; كما قال تعالى : إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا [ 70 \ 6 ، 7 ] ، وقال : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] ، واختار أبو حيان في ( البحر المحيط ) : أن " أو " في قوله " أو هو أقرب " للإبهام على المخاطب ، وتبع في ذلك الزجاج ، قال : ونظيره : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون [ 37 \ 114 ] ، وقوله : أتاها أمرنا ليلا أو نهارا [ 10 \ 24 ] .
    قوله تعالى : شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أخرج بني آدم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، وجعل لهم الأسماع والأبصار والأفئدة ; لأجل أن يشكروا له نعمه . وقد قدمنا : أن " لعل " للتعليل . ولم يبين هنا هل شكروا أو لم يشكروا ; ولكنه بين في مواضع أخر : أن أكثرهم لم يشكروا ; كما قال تعالى : ولكن أكثر الناس لا يشكرون [ 2 \ 243 ] ، وقال : قل [ ص: 419 ] هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 67 \ 23 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    تنبيه .

    لم يأت السمع في القرآن مجموعا ، وإنما يأتي فيه بصيغة الإفراد دائما ، مع أنه يجمع ما يذكر معه كالأفئدة والأبصار .

    وأظهر الأقوال في نكتة إفراده دائما : أن أصله مصدر سمع سمعا ، والمصدر إذا جعل اسما ذكر وأفرد ; كما قال في الخلاصة :


    ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا
    قوله تعالى : ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن تسخيره الطير في جو السماء ما يمسكها إلا هو ، من آياته الدالة على قدرته ، واستحقاقه لأن يعبد وحده . وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير [ 67 \ 19 ] .

    تنبيه .

    لم يذكر علماء العربية الفعل ( بفتح فسكون ) من صيغ جموع التكسير . قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية : أن الفعل ( بفتح فسكون ) جمع تكسير لفاعل وصفا لكثرة وروده في اللغة جمعا له ; كقوله هنا : ألم يروا إلى الطير [ 16 \ 79 ] ، فالطير جمع طائر ، وكالصحب فإنه جمع صاحب . قال امرؤ القيس :


    وقوفا بها صحبي على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل


    فقوله " صحبي " ، أي : أصحابي . وكالركب فإنه جمع راكب ; قال تعالى : والركب أسفل منكم [ 8 \ 42 ] ، وقال ذو الرمة :


    أستحدث الركب عن أشياعهم خبرا أم راجع القلب من أطرابه طرب


    فالركب جمع راكب . وقد رد عليه ضمير الجماعة في قوله : " عن أشياعهم " ، [ ص: 420 ] وكالشرب فإنه جمع شارب . ومنه قول نابغة ذبيان :


    كأنه خارجا من جنب صفحته سفود شرب نسوه عند مفتأد


    فإنه رد على الشرب ضمير الجماعة في قوله : " نسوه . . " إلخ ، وكالسفر فإنه جمع سافر ; ومنه حديث : " أتموا فإنا قوم سفر " ، وقول الشنفرى :


    كأن وغاها حجرتيه وجاله أضاميم من سفر القبائل نزل


    وكالرجل جمع راجل ; ومنه قراءة الجمهور : وأجلب عليهم بخيلك ورجلك [ 17 \ 64 ] ، بسكون الجيم . وأما على قراءة حفص عن عاصم بكسر الجيم ، فالظاهر أن كسرة الجيم إتباع لكسرة اللام ، فمعناه معنى قراءة الجمهور . ونحو هذا كثير جدا في كلام العرب ، فلا نطيل به الكلام . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم الآية ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة منته على خلقه ; بأنه جعل لهم سرابيل تقيهم الحر ، أي : والبرد ; لأن ما يقي الحر من اللباس يقي البرد . والمراد بهذه السرابيل : القمصان ونحوها من ثياب القطن والكتان والصوف . وقد بين هذه النعمة الكبرى في غير هذا الموضع ; كقوله : يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا الآية [ 7 \ 26 ] ، وقوله : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] ، أي : وتلك الزينة هي ما خلق الله لهم من اللباس الحسن . وقوله هنا : وسرابيل تقيكم بأسكم [ 16 \ 81 ] ، المراد بها الدروع ونحوها ، مما يقي لابسه وقع السلاح ، ويسلمه من بأسه . .

    وقد بين أيضا هذه النعمة الكبرى ، واستحقاق من أنعم بها لأن يشكر له في غير هذا الموضع ; كقوله : وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون [ 21 \ 80 ] ، وإطلاق السرابيل على الدروع ونحوها معروف . ومنه قول كعب بن زهير :


    شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #175
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (174)

    سُورَةُ النَّحْلِ(20)
    صـ 421 إلى صـ 425






    قوله تعالى : يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها الآية ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يعرفون نعمة الله ; لأنهم يعلمون أنه هو الذي يرزقهم ويعافيهم ، ويدبر شؤونهم ، ثم ينكرون هذه النعمة ; فيعبدون معه غيره ، ويسوونه بما لا ينفع ولا يضر ، ولا يغني شيئا .

    وقد أوضح - جل وعلا - هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : قل من يرزقكم من [ ص: 421 ] السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] .

    فقوله : فسيقولون الله [ 10 \ 31 ] ، دليل على معرفتهم نعمته . وقوله : فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] ، دليل على إنكارهم لها . والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .

    وروي عن مجاهد : أن سبب نزول هذه الآية الكريمة : أن أعرابيا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله ، فقرأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا [ 16 \ 80 ] ، فقال الأعرابي : نعم ! قال : وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا الآية [ 16 \ 80 ] ، قال الأعرابي : نعم ! ثم قرأ عليه ، كل ذلك يقول الأعرابي : نعم ! حتى بلغ : كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون [ 16 \ 81 ] ، فولى الأعرابي ; فأنزل الله : يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها [ 16 \ 83 ] ، وعن السدي - رحمه الله - : يعرفون نعمة الله ، أي : نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم ينكرونها ، أي : يكذبونه وينكرون صدقه .

    وقد بين - جل وعلا - : أن بعثة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيهم من منن الله عليهم . كما قال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية [ 3 \ 164 ] ، وبين في موضع آخر : أنهم قابلوا هذه النعمة بالكفران ، وذلك في قوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار [ 14 \ 28 ] ، وقيل : يعرفون نعمة الله في الشدة ، ثم ينكرونها في الرخاء . وقد تقدمت الآيات الدالة على ذلك ، كقوله : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] ، ونحوها من الآيات إلى غير ذلك من الأقوال في الآية .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأكثرهم الكافرون [ 16 \ 83 ] ، قال بعض العلماء : معناه أنهم كلهم كافرون . أطلق الأكثر وأراد الكل . قاله القرطبي والشوكاني . وقال الشوكاني : أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم . أو أراد كفر الجحود ، ولم يكن كفر كلهم كذلك ، بل كان كفر بعضهم كفر جهل .
    قوله تعالى : ثم لا يؤذن للذين كفروا ; لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة متعلق الإذن في قوله : لا يؤذن [ 16 \ 84 ] ، ولكنه بين في ( المرسلات ) أن متعلق الإذن الاعتذار ، أي : لا يؤذن لهم في الاعتذار ، لأنهم ليس لهم عذر يصح قبوله ، وذلك في قوله : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون [ 77 \ 35 - 36 ] .

    [ ص: 422 ] فإن قيل : ما وجه الجمع بين نفي اعتذارهم المذكور هنا ، وبين ما جاء في القرآن من اعتذارهم ؟ ; كقوله تعالى عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله : ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، وقوله : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا [ 40 \ 74 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    فالجواب من أوجه :

    منها : أنهم يعتذرون حتى إذا قيل لهم : " اخسئوا فيها ولا تكلمون " [ 23 \ 108 ] ، انقطع نطقهم ولم يبق إلا الزفير والشهيق ; كما قال تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] .

    ومنها : أن نفي اعتذارهم يراد به اعتذار فيه فائدة . أما الاعتذار الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم ، يصدق عليه في لغة العرب : أنه ليس بشيء ، ولذا صرح تعالى بأن المنافقين بكم في قوله : صم بكم [ 2 \ 171 ] ، مع قوله عنهم :

    وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] ، أي : لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم . وقال عنهم أيضا : فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] ، فهذا الذي ذكره - جل وعلا - من فصاحتهم وحدة ألسنتهم ، مع تصريحه بأنهم بكم يدل على أن الكلام الذي لا فائدة فيه كلا شيء ، كما هو واضح . وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي :

    وإن كلام المرء في غير كنهه لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها .

    وقد بينا هذا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في مواضع منه . والترتيب بـ " ثم " [ 16 \ 84 ] في قوله في هذه الآية الكريمة : ثم لا يؤذن للذين كفروا [ 16 \ 84 ] ، على قوله : ويوم نبعث من كل أمة شهيدا [ 16 \ 84 ] ، لأجل الدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع من الاعتذار المشعر بالإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم بكفرهم .
    قوله تعالى : ولا هم يستعتبون ، اعلم أولا : أن استعتب تستعمل في اللغة بمعنى طلب العتبى ; أي : الرجوع إلى ما يرضي العاتب ويسره . وتستعمل أيضا في اللغة بمعنى أعتب : إذا أعطى العتبى ، أي : رجع إلى ما يحب العاتب ويرضى ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله : ولا هم يستعتبون [ 16 \ 84 ] ، وجهين من التفسير متقاربي المعنى .

    [ ص: 423 ] قال بعض أهل العلم : ولا هم يستعتبون ، أي : لا تطلب منهم العتبى ، بمعنى لا يكلفون أن يرضوا ربهم ; لأن الآخرة ليست بدار تكليف ، فلا يردون إلى الدنيا ليتوبوا .

    وقال بعض العلماء : ولا هم يستعتبون ، أي : يعتبون ، بمعنى يزال عنهم العتب ، ويعطون العتبى وهي الرضا ; لأن الله لا يرضى عن القوم الكافرين . وهذا المعنى كقوله تعالى في قراءة الجمهور : وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين [ 41 \ 24 ] ، أي : وإن يطلبوا العتبى - وهي الرضا عنهم لشدة جزعهم - فما هم من المعتبين ; بصيغة اسم المفعول ، أي : المعطين العتبى وهي الرضا عنهم ; لأن العرب تقول : أعتبه إذا رجع إلى ما يرضيه ويسره ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
    أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع


    أي : لا يرجع الدهر إلى مسرة من جزع ، ورضاه . وقول النابغة :


    فإن كنت مظلوما فعبد ظلمته وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب


    وأما قول بشر بن أبي خازم :


    غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصيلم


    يعني : أعتبناهم بالسيف ، أي : أرضيناهم بالقتل ; فهو من قبيل التهكم ، كقول عمرو بن معدي كرب :


    وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع


    لأن القتل ليس بإرضاء ، والضرب الوجيع ليس بتحية .

    وأما على قراءة من قرأ : وإن يستعتبوا [ 41 \ 24 ] ، بالبناء للمفعول فما هم من المعتبين [ 41 \ 24 ] ، بصيغة اسم الفاعل ، فالمعنى : أنهم لو طلبت منهم العتبى وردوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله وطاعة رسله ، " فما هم من المعتبين " أي : الراجعين إلى ما يرضي ربهم ، بل يرجعون إلى كفرهم الذي كانوا عليه أولا . وهذه القراءة كقوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [ 6 \ 28 ] .
    قوله تعالى : وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار إذا رأوا العذاب لا يخفف عنهم ، ولا ينظرون أي لا يمهلون ، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر . وبين أنهم يرون النار وأنها [ ص: 424 ] تراهم ، وأنها تكاد تتقطع من شدة الغيظ عليهم ; كقوله تعالى : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون [ 21 \ 39 - 40 ] ، وقوله : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا [ 18 \ 53 ] ، وقوله : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا [ 25 \ 12 ] ، وقوله : إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ [ 67 \ 7 ، 8 ] ، وقوله : ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا [ 2 \ 165 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المشركين يوم القيامة إذا رأوا معبوداتهم التي كانوا يشركونها بالله في عبادته قالوا لربهم : " ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك " [ 16 \ 86 ] وأن معبوداتهم تكذبهم في ذلك ، فيقولون لهم : كذبتم ! ما " كنتم إيانا تعبدون " [ 10 \ 28 ] .

    وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 5 - 6 ] ، وقوله : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 81 - 82 ] ، وقوله : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 29 \ 25 ] ، وقوله : وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم [ 28 \ 64 ] ، وقوله : فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون [ 10 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    فإن قيل : كيف كذبتهم آلهتهم ونفوا أنهم عبدوهم ، مع أن الواقع خلاف ما قالوا ، وأنهم كانوا يعبدونهم في دار الدنيا من دون الله ! فالجواب : أن تكذيبهم لهم منصب على زعمهم أنهم آلهة ، وأن عبادتهم حق ، وأنها تقربهم إلى الله زلفى . ولا شك أن كل ذلك من أعظم الكذب وأشنع الافتراء . ولذلك هم صادقون فيما ألقوا إليهم من القول ، ونطقوا فيه بأنهم كاذبون . ومراد الكفار بقولهم لربهم : " هؤلاء شركاؤنا " ، قيل ليحملوا شركاءهم تبعة ذنبهم .

    وقيل : ليكونوا [ ص: 425 ] شركاءهم في العذاب ، كما قال تعالى : ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار [ 7 \ 38 ] ، وقد نص تعالى على أنهم وما يعبدونه من دون الله في النار جميعا في قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم . . . الآية [ 21 \ 98 ] ، وأخرج من ذلك الملائكة وعيسى وعزيرا بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون . . . الآية [ 21 \ 101 ] ; لأنهم ما عبدوهم برضاهم . بل لو أطاعوهم لأخلصوا العبادة لله وحده - جل وعلا - .
    قوله تعالى : وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون ، إلقاؤهم إلى الله السلم : هو انقيادهم له ، وخضوعهم ; حيث لا ينفعهم ذلك كما تقدم في قوله : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة ; كقوله : بل هم اليوم مستسلمون [ 37 \ 26 ] ، وقوله : وعنت الوجوه للحي القيوم [ 20 \ 111 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقد قدمنا طرفا من ذلك في الكلام على قوله : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] .

    وقوله : وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 16 \ 87 ] ، أي : غاب عنهم واضمحل ما كانوا يفترونه . من أن شركاءهم تشفع لهم وتقربهم إلى الله زلفى ; كما قال تعالى : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله . . . الآية [ 10 \ 18 ] ، وكقوله : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، وضلال ذلك عنهم مذكور في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 \ 30 ] ، وقوله : فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 28 \ 75 ] ، وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن وفي اللغة بشواهدها .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #176
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (175)

    سُورَةُ النَّحْلِ(21)
    صـ 426 إلى صـ 430



    قوله تعالى : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ، اعلم أولا أن " صد " تستعمل في اللغة العربية استعمالين أحدهما : أن تستعمل متعدية إلى المفعول ، كقوله تعالى : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام . . . الآية [ 48 \ 25 ] ، ومضارع هذه المتعدية " يصد " بالضم على القياس ، ومصدرها " الصد " على القياس أيضا . والثاني : أن تستعمل " صد " لازمة غير متعدية إلى المفعول ، ومصدر هذه " الصدود " على القياس ، وفي مضارعها الكسر على القياس ، والضم على السماع ; وعليهما القراءتان السبعيتان في قوله : إذا قومك منه يصدون [ ص: 426 ] [ 43 \ 57 ] ، بالكسر والضم .

    فإذا عرفت ذلك : فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وصدوا عن سبيل الله [ 16 \ 88 ] ، محتمل ; لأن تكون " صد " متعدية ، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه ; على حد قوله في الخلاصة :


    وحذف فضلة أجز إن لم يضر كحذف ما سيق جوابا أو حصر


    ومحتمل لأن تكون " صد " لازمة غير متعدية إلى المفعول ، ولكن في الآية الكريمة ثلاث قرائن تدل على أن " صد " متعدية ، والمفعول محذوف ، أي : وصدوا الناس عن سبيل الله .

    الأولى : أنا لو قدرنا " صد " لازمة ، وأن معناها : صدودهم في أنفسهم عن الإسلام ; لكان ذلك تكرارا من غير فائدة مع قوله : الذين كفروا [ 16 \ 88 ] ، بل معنى الآية : كفروا في أنفسهم ، وصدوا غيرهم عن الدين فحملوه على الكفار أيضا .

    القرينة الثانية : قوله تعالى : زدناهم عذابا فوق العذاب [ 16 \ 88 ] ، فإن هذه الزيادة من العذاب لأجل إضلالهم غيرهم . والعذاب المزيد فوقه : هو عذابهم على كفرهم في أنفسهم ; بدليل قوله في المضلين الذين أضلوا غيرهم : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم . . . الآية [ 16 \ 25 ] ، وقوله : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم . . . الآية [ 29 \ 13 ] ، كما تقدم إيضاحه .

    القرينة الثالثة ، قوله : بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] ، فإنه يدل على أنهم كانوا يفسدون على غيرهم مع ضلالهم في أنفسهم ، وقوله : فوق العذاب [ 16 \ 88 ] ، أي : الذي استحقوه بضلالهم وكفرهم . وعن ابن مسعود : أن هذا العذاب المزيد : عقارب أنيابها كالنخل الطوال ، وحيات مثل أعناق الإبل ، وأفاعي كأنها البخاتي تضربهم . أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يوم القيامة يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ، يشهد عليهم بما أجابوا به رسولهم ، وأنه يأتي بنبينا - صلى الله عليه وسلم - شاهدا علينا . وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم [ ص: 427 ] الأرض . . . الآية [ 4 \ 41 ، 42 ] ، وكقوله : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم [ 5 \ 109 ] ، وكقوله : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اقرأ علي " ، قال : فقلت يا رسول الله ، أأقرأ عليك وعليك أنزل ؟ ! قال : " نعم ; إني أحب أن أسمعه من غيري " ، فقرأت " سورة النساء " ، حتى أتيت إلى هذه الآية : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] ، فقال : " حسبك الآن " ، فإذا عيناه تذرفان . اه .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ويوم نبعث [ 16 \ 89 ] ، منصوب بـ " اذكر " مقدرا . والشهيد في هذه الآية فعيل بمعنى فاعل ، أي : شاهدا عليهم من أنفسهم .
    قوله تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه نزل على رسوله هذا الكتاب العظيم تبيانا لكل شيء . وبين ذلك في غير هذا الموضع ، كقوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] ، على القول بأن المراد بالكتاب فيها القرآن . أما على القول بأنه اللوح المحفوظ . فلا بيان بالآية . وعلى كل حال فلا شك أن القرآن فيه بيان كل شيء . والسنة كلها تدخل في آية واحدة منه ; وهي قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .

    وقال السيوطي في " الإكليل " في استنباط التنزيل ، قال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ 16 \ 89 ] ، وقال : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " ستكون فتن " ، قيل : وما المخرج منها ؟ قال : " كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم " ، أخرجه الترمذي وغيره ، وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا خديج بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، قال : من أراد العلم فعليه بالقرآن ; فإن فيه خبر الأولين والآخرين . قال البيهقي : أراد به أصول العلم . وقال الحسن البصري : أنزل الله مائة وأربعة كتب ، أودع علومها أربعة : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان . ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان ، ثم أودع علوم القرآن : المفصل ، ثم أودع علوم المفصل : فاتحة الكتاب ; فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير الكتب المنزلة . أخرجه البيهقي في الشعب .

    [ ص: 428 ] وقال الإمام الشافعي - رضي الله عنه - : جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة ، وجميع شرح السنة شرح للقرآن .

    وقال بعض السلف : ما سمعت حديثا إلا التمست له آية من كتاب الله .

    وقال سعيد بن جبير : ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله . أخرجه ابن أبي حاتم .

    وقال ابن مسعود : إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله . أخرجه ابن أبي حاتم .

    وقال ابن مسعود أيضا : أنزل في القرآن كل علم ، وبين لنا فيه كل شيء ، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن . أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .

    وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة " .

    وقال الشافعي أيضا : جميع ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن .

    قلت : ويؤيد هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه " ، رواه بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط من حديث عائشة .

    وقال الشافعي أيضا : ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها ، فإن قيل : من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة ؟ قلنا : ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة ; لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وفرض علينا الأخذ بقوله .

    وقال الشافعي مرة بمكة : سلوني عما شئتم ، أخبركم عنه من كتاب الله . فقيل له : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ؟ فقال : " بسم الله الرحمن الرحيم " [ 1 \ 1 ] ، قال الله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة بن اليمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر ، وعمر " ، وحدثنا سفيان ، عن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب : أنه أمر بقتل المحرم الزنبور .

    [ ص: 429 ] وروى البخاري ، عن ابن مسعود ، قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات لخلق الله ، فقالت له امرأة في ذلك . فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله . فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ؟ ! قال : لئن قرأتيه لقد وجدتيها ! أما قرأت وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، ؟ قالت : بلى . قال : فإنه قد نهى عنه .

    وقال ابن برجان : ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء فهو في القرآن ، أو فيه أصله قرب أو بعد ، فهمه من فهم ، أو عمه عنه من عمه ، وكذا كل ما حكم أو قضى به .

    وقال غيره : ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى ; حتى إن بعضهم استنبط عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا وستين من قوله " في سورة المنافقين " : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها [ 63 \ 11 ] ; فإنها رأس ثلاث وستين سورة ، وعقبها " بالتغابن " ، ليظهر التغابن في فقده .

    وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين ، بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خلا ما استأثر الله به سبحانه ، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم ; مثل الخلفاء الأربعة ، ومثل ابن مسعود ، وابن عباس حتى قال : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله . ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ، ثم تقاصرت الهمم ، وفترت العزائم ، وتضاءل أهل العلم ، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه ; فنوعوا علومه ، وقامت كل طائفة بفن من فنونه .

    فاعتنى قوم بضبط لغاته ، وتحرير كلماته ، ومعرفة مخارج حروفه وعددها ، وعد كلماته وآياته ، وسوره وأجزائه ، وأنصافه وأرباعه ، وعدد سجداته ، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة ، والآيات المتماثلة . من غير تعرض لمعانيه ، ولا تدبر لما أودع فيه . فسموا القراء .

    واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال ، والحروف العاملة وغيرها . وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها ، وضروب الأفعال ، واللازم والمتعدي ، ورسوم خط الكلمات ، وجميع ما يتعلق به ; حتى إن بعضهم أعرب مشكله . وبعضهم أعربه كلمة كلمة .

    [ ص: 430 ] واعتنى المفسرون بألفاظه ، فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد ، ولفظا يدل على معنيين ، ولفظا يدل على أكثر ; فأجروا الأول : على حكمه ، وأوضحوا الخفي منه ، وخاضوا إلى ترجيح أحد محتمالات ذي المعنيين أو المعاني ، وأعمل كل منهم فكره ، وقال بما اقتضاه نظره .

    واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية ، والشواهد الأصلية والنظرية ; مثل قوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة ; فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده ، وبقائه وقدمه ، وقدرته وعلمه ، وتنزيهه عما لا يليق به ; وسموا هذا العلم بـ " ، أصول الدين " .

    وتأملت طائفة معاني خطابه ; فرأت منها ما يقتضي العموم ، ومنها ما يقتضي الخصوص ، إلى غير ذلك ; فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز ، وتكلموا في التخصيص والإضمار ، والنص والظاهر ، والمجمل والمحكم والمتشابه ، والأمر والنهي والنسخ ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة ، واستصحاب الحال والاستقراء ; وسموا هذا الفن " أصول الفقه " .

    وأحكمت طائفة صحيح النظر ، وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام ، وسائر الأحكام ، فأسسوا أصوله وفروعه ، وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا ; وسموه ب " علم الفروع " وب " ، الفقه أيضا ** " .

    وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة ، والأمم الخالية ، ونقلوا أخبارهم ، ودونوا آثارهم ووقائعهم . حتى ذكروا بدء الدنيا ، وأول الأشياء ; وسموا ذلك ب " التاريخ والقصص " .

    وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال ، والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال ، وتكاد تدكدك الجبال ; فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد ، والتحذير والتبشير ، وذكر الموت والمعاد ، والنشر والحشر ، والحساب والعقاب ، والجنة والنار ، فصولا من المواعظ ، وأصولا من الزواجر . فسموا بذلك " الخطباء والوعاظ " .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #177
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (176)

    سُورَةُ النَّحْلِ(22)
    صـ 431 إلى صـ 435


    واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير ; مثل ما ورد في قصة يوسف : من البقرات السمان ، وفي منامي صاحبي السجن ، وفي رؤية الشمس والقمر والنجوم ساجدات ، وسموه " تعبير الرؤيا " ; واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب ، فإن عز عليهم إخراجها [ ص: 431 ] منه ، فمن السنة التي هي شارحة الكتاب ، فإن عسر فمن الحكم والأمثال . ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم ، وعرف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله : وأمر بالعرف [ 7 \ 199 ] .

    وأخذ قوم مما في آيات المواريث من ذكر السهام وأربابها ، وغير ذلك " علم الفرائض " ، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث ، والربع والسدس والثمن " حساب الفرائض " ، ومسائل العول ; واستخرجوا منه أحكام الوصايا .

    ونظر قوم إلى ما فيه الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار ، والشمس والقمر ومنازله ، والنجوم والبروج ، وغير ذلك ; فاستخرجوا " علم المواقيت " .

    ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم ، وحسن السياق والمبادئ ، والمقاطيع والمخالص والتلوين في الخطاب ، والإطناب والإيجاز ، وغير ذلك ; فاستنبطوا منه " علم المعاني والبيان والبديع " .

    ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة ; فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق ، جعلوا لها أعلاما اصطلحوا عليها ، مثل الغناء والبقاء ، والحضور والخوف والهيبة ، والأنس والوحشة ، والقبض والبسط ، وما أشبه ذلك .

    هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه .

    وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل ، مثل : الطب ، والجدل ، والهيئة ، والهندسة والجبر ، والمقابلة والنجامة ، وغير ذلك .

    أما الطب : فمداره على حفظ نظام الصحة ، واستحكام القوة ; وذلك إنما يكون باعتدال المزاج تبعا للكيفيات المتضادة ، وقد جمع ذلك في آية واحدة وهي قوله : وكان بين ذلك قواما [ 25 \ 67 ] .

    وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاله ، وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله : شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس [ 16 \ 69 ] .

    ثم زاد على طب الأجساد بطب القلوب ، وشفاء الصدور .

    وأما الهيئة : ففي تضاعيف سوره من الآيات التي ذكر فيها من ملكوت السماوات والأرض ، وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات منه .

    [ ص: 432 ]

    وأما الهندسة : ففي قوله : انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب [ 77 \ 30 ، 31 ] ، فإن فيه قاعدة هندسية ، وهو أن الشكل المثلث لا ظل له .

    وأما الجدل : فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج ، والقول بالموجب ، والمعارضة ، وغير ذلك شيئا كثيرا ، ومناظرة إبراهيم أصل في ذلك عظيم .

    وأما الجبر والمقابلة : فقد قيل : إن أوائل السور ذكر عدد وأعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة ، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة ، وتاريخ مدة الدنيا ، وما مضى وما بقي ، مضروبا بعضها في بعض .

    وأما النجامة : ففي قوله : أو أثارة من علم [ 46 \ 4 ] ، فقد فسره ابن عباس بذلك .

    وفيه من أصول الصنائع ، وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها ، فمن الصنائع الخياطة في قوله : وطفقا يخصفان . . . الآية [ 7 \ 22 ، 20 \ 121 ] ، والحدادة في قوله تعالى : آتوني زبر الحديد [ 18 \ 96 ] ، وقوله : وألنا له الحديد الآية [ 34 \ 10 ] ، والبناء في آيات ، والنجارة ، أن اصنع الفلك [ 23 \ 27 ] ، والغزل : نقضت غزلها [ 16 \ 92 ] ، والنسج : كمثل العنكبوت اتخذت بيتا [ 29 \ 41 ] ، والفلاحة : أفرأيتم ما تحرثون [ 56 \ 63 ] ، في آيات أخر ، والصيد في آيات ، والغوص : ، والشياطين كل بناء وغواص [ 38 \ 37 ] ، وتستخرجون حلية [ 16 \ 14 ] ، والصياغة واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا . . . الآية [ 7 \ 148 ] ، والزجاجة : صرح ممرد من قوارير [ 37 \ 44 ] ، المصباح في زجاجة [ 24 \ 35 ] ، والفخارة فأوقد لي ياهامان على الطين [ 28 \ 38 ] ، والملاحة أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر [ 18 \ 79 ] ، والكتابة علم بالقلم [ 96 \ 4 ] ، في آيات أخر ، والخبز والطحن : ، أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه [ 12 \ 36 ] ، والطبخ ، بعجل حنيذ [ 11 \ 69 ] ، والغسل والقصارة ، وثيابك فطهر [ 74 \ 4 ] ، قال الحواريون [ 3 \ 52 ] [ 5 \ 112 ] [ 61 \ 14 ] ، وهم القصارون ، والجزارة إلا ما ذكيتم [ 5 \ 3 ] ، والبيع والشراء في آيات كثيرة ، والصبغ ، صبغة الله . . . الآية [ 2 \ 138 ] ، جدد بيض وحمر . . . الآية [ 35 \ 27 ] ، والحجارة ، وتنحتون من الجبال بيوتا [ 26 \ 149 ] ، والكيالة [ ص: 433 ] والوزن في آيات كثيرة ، والرمي : وما رميت إذ رميت [ 8 \ 17 ] ، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ 8 \ 60 ] .

    وفيه من أسماء الألات ، وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات ، وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] ، انتهى كلام المرسي ملخصا مع زيادات .

    قلت : قد اشتمل كتاب الله على كل شيء . أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل ، إلا وفي القرآن ما يدل عليها . وفيه علم عجائب المخلوقات ، وملكوت السماوات والأرض ، وما في الأفق الأعلى ، وما تحت الثرى ، وبدء الخلق ، وأسماء مشاهير الرسل والملائكة ، وعيون أخبار الأمم السالفة ; كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة ، وفي الولد الذي سماه عبد الحارث ، ورفع إدريس وإغراق قوم نوح ، وقصة عاد الأولى والثانية ، وثمود ، والناقة ، وقوم لوط ، وقوم شعيب الأولين والآخرين فإنه أرسل مرتين ، وقوم تبع ، ويونس ، وإلياس ، وأصحاب الرس ، وقصة موسى في ولادته وفي إلقائه في اليم ، وقتله القبطي ، ومسيره إلى مدين وتزوجه ابنة شعيب ، وكلامه تعالى بجانب الطور ، وبعثه إلى فرعون ، وخروجه وإغراق عدوه ، وقصة العجل ، والقوم الذين خرج بهم وأخذتهم الصعقة ، وقصة القتال وذبح البقرة ، وقصته في قتال الجبارين ، وقصته مع الخضر والقوم الذين ساروا في سرب من الأرض إلى الصين ، وقصة طالوت وداود مع جالوت وقتله ، وقصة سليمان وخبره مع ملكة سبإ وفتنته ، وقصة القوم الذين خرجوا فرارا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم ، وقصة إبراهيم في مجادلته قومه ، ومناظرته النمروذ ، ووضعه إسماعيل مع أمه بمكة ، وبنائه البيت ، وقصة الذبيح ، وقصة يوسف وما أبسطها ، وقصة مريم وولادتها عيسى وإرساله ورفعه ، وقصة زكريا وابنه يحيى ، وأيوب وذي الكفل ، وقصة ذي القرنين ومسيره إلى مطلع الشمس ومغربها وبنائه السد ، وقصة أصحاب الكهف والرقيم ، وقصة بختنصر ، وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة ، وقصة أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين ، وقصة مؤمن آل فرعون ، وقصة أصحاب الفيل ، وقصة الجبار الذي أراد أن يصعد إلى السماء .

    وفيه من شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة إبراهيم به ، وبشارة عيسى وبعثه وهجرته . ومن غزواته : غزوة بدر في ( سورة الأنفال ) ، وأحد في ( آل عمران ) ، وبدر الصغرى فيها ، والخندق في ( الأحزاب ) ، والنضير في ( الحشر ) ، والحديبية في ( الفتح ) ، وتبوك في [ ص: 434 ] ( براءة ) ، وحجة الوداع في ( المائدة ) ، ونكاحه زينب بنت جحش ، وتحريم سريته ، وتظاهر أزواجه عليه ، وقصة الإفك ، وقصة الإسراء ، وانشقاق القمر ، وسحر اليهود إياه .

    وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته ، وكيفية الموت ، وقبض الروح وما يفعل بها بعد صعودها إلى السماء ، وفتح الباب للمؤمنة وإلقاء الكافرة ، وعذاب القبر والسؤال فيه ، ومقر الأرواح ، وأشراط الساعة الكبرى العشرة ، وهي :

    نزول عيسى ، وخروج الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، والدابة ، والدخان ، ورفع القرآن ، وطلوع الشمس من مغربها ، وإغلاق باب التوبة ، والخسف .

    وأحوال البعث : من نفخة الصور ، والفزع ، والصعق ، والقيام ، والحشر والنشر ، وأهوال الموقف ، وشدة حر الشمس ، وظل العرش ، والصراط ، والميزان ، والحوض ، والحساب لقوم ، ونجاة آخرين منه ، وشهادة الأعضاء ، وإيتاء الكتب بالأيمان والشمائل وخلف الظهور ، والشفاعة ، والجنة وأبوابها ، وما فيها من الأشجار والثمار والأنهار ، والحلي والألوان ، والدرجات ، ورؤيته تعالى ، والنار وما فيها من الأودية ، وأنواع العقاب ، وألوان العذاب ، والزقوم والحميم ، إلى غير ذلك مما لو بسط جاء في مجلدات .

    وفي القرآن جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في حديث . وفيه من أسمائه مطلقا ألف اسم ، وفيه من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة .

    وفيه شعب الإيمان البضع والسبعون .

    وفيه شرائع الإسلام الثلاثمائة وخمس عشرة .

    وفيه أنواع الكبائر وكثير من الصغائر .

    وفيه تصديق كل حديث ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه جملة القول في ذلك . اه كلام السيوطي في ( الإكليل ) .

    وإنما أوردناه برمته مع طوله ; لما فيه من إيضاح : أن القرآن فيه بيان كل شيء . وإن كانت في الكلام المذكور أشياء جديرة بالانتقاد تركنا مناقشتها خوف الإطالة المملة ، مع كثرة الفائدة في الكلام المذكور في الجملة .

    وفي قوله تعالى : تبيانا لكل شيء [ 16 \ 89 ] ، وجهان من الإعراب :

    أحدهما : أنه مفعول من أجله . والثاني : أنه مصدر منكر واقع حالا ; على حد قوله في الخلاصة [ ص: 435 ]


    ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع


    تنبيه .

    أظهر القولين : أن التبيان مصدر ، ولم يسمع كسر تاء التفعال مصدرا إلا في التبيان والتلقاء . وقال بعض أهل العلم : التبيان اسم لا مصدر . قال أبو حيان في ( البحر ) : والظاهر أن " تبيانا " مصدر جاء على تفعال ، وإن كان باب المصادر يجيء على تفعال ( بالفتح ) كالترداد والتطواف . ونظير تبيان في كسر تائه : تلقاء ، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن . وقال ابن عطية : " تبيانا " اسم وليس بمصدر ; وهو قول أكثر النحاة . وروى ثعلب عن الكوفيين ، والمبرد عن البصريين : أنه مصدر ، ولم يجئ على تفعال من المصادر إلا ضربان :

    تبيان وتلقاء . اه والعلم عند الله تعالى .

    قوله تعالى : وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن هذا القرآن العظيم هدى ورحمة وبشرى للمسلمين ، ويفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة - أي : مفهوم مخالفتها - : أن غير المسلمين ليسوا كذلك . وهذا المفهوم من هذه الآية صرح به - جل وعلا - في مواضع أخر ; كقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى [ 41 \ 44 ] ، وقوله : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا [ 17 \ 82 ] ، وقوله - جل وعلا - : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [ 9 \ 124 - 125 ] ، وقوله : وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا [ 5 \ 64 ] ، في الموضعين .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #178
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (177)

    سُورَةُ النَّحْلِ(23)
    صـ 436 إلى صـ 440




    قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يأمر خلقه بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وأنه ينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي ; لأجل أن يتعظوا بأوامره ونواهيه ، فيمتثلوا أمره ، ويجتنبوا نهيه . وحذف مفعول " يأمر " ، " وينهى " ; لقصد التعميم .

    ومن الآيات التي أمر فيها بالعدل قوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا [ ص: 436 ] تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 \ 8 ] ، وقوله : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به [ 4 \ 58 ] .

    ومن الآيات التي أمر فيها بالإحسان قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [ 2 \ 195 ] ، وقوله : وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] ، وقوله : وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض [ 28 \ 77 ] ، وقوله : وقولوا للناس حسنا [ 2 \ 83 ] ، وقوله : ما على المحسنين من سبيل [ 9 \ 91 ] .

    ومن الآيات التي أمر فيها بإيتاء ذي القربى قوله تعالى : فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون [ 30 \ 38 ] ، وقوله : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا [ 17 \ 26 ] ، وقوله : وآتى المال على حبه ذوي القربى الآية [ 2 \ 177 ] ، وقوله : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة [ 90 \ 14 ، 15 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    ومن الآيات التي نهى فيها عن الفحشاء والمنكر والبغي قوله : ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن . . . الآية [ 6 \ 151 ] ، وقوله : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق . . . الآية [ 7 \ 33 ] ، وقوله : وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون [ 6 \ 120 ] ، والمنكر وإن لم يصرح باسمه في هذه الآيات ، فهو داخل فيها .

    ومن الآيات التي جمع فيها بين الأمر بالعدل والتفضل بالإحسان ، قوله : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به [ 16 \ 126 ] ، فهذا عدل ، ثم دعا إلى الإحسان بقوله : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] ، وقوله : ، وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 \ 40 ] ، فهذا عدل ** . ثم دعا إلى الإحسان بقوله : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ 42 \ 40 ] .

    وقوله : والجروح قصاص [ 5 \ 45 ] ، فهذا عدل . ثم دعا إلى الإحسان بقوله ، فمن تصدق به فهو كفارة له [ 5 \ 45 ] ، وقوله ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما [ ص: 437 ] عليهم من سبيل . . . الآية [ 42 \ 43 ] ، فهذا عدل . ثم دعا إلى الإحسان بقوله : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] ، وقوله : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ 4 \ 148 ] ، فهذا عدل . ثم دعا إلى الإحسان بقوله : إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    فإذا عرفت هذا ، فاعلم أن العدل في اللغة : القسط والإنصاف ، وعدم الجور . وأصله التوسط بين المرتبتين ; أي : الإفراط والتفريط . فمن جانب الإفراط والتفريط فقد عدل . والإحسان مصدر أحسن ، وهي تستعمل متعدية بالحرف نحو : أحسن إلى والديك ; ومنه قوله تعالى عن يوسف : وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن الآية [ 12 \ 100 ] ، وتستعمل متعدية بنفسها . كقولك : أحسن العامل عمله ، أي : أجاده وجاء به حسنا . والله - جل وعلا - يأمر بالإحسان بمعنييه المذكورين ، فهما داخلان في الآية الكريمة ; لأن الإحسان إلى عباد الله لوجه الله عمل أحسن فيه صاحبه . وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحسان في حديث جبريل بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه . فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ، وقد قدمنا إيضاح ذلك في ( سورة هود ) .

    فإذا عرفت هذا ، فاعلم أن أقوال المفسرين في الآية الكريمة راجعة في الجملة إلى ما ذكرنا ; كقول ابن عباس : العدل : لا إله إلا الله ، والإحسان : أداء الفرائض ; لأن عبادة الخالق دون المخلوق هي عين الإنصاف والقسط ، وتجنب التفريط والإفراط . ومن أدى فرائض الله على الوجه الأكمل فقد أحسن ; ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي حلف لا يزيد على الواجبات : " أفلح إن صدق " ، وكقول سفيان : العدل : استواء العلانية والسريرة . والإحسان : أن تكون السريرة أفضل من العلانية . وكقول علي - رضي الله عنه - : العدل : الإنصاف . والإحسان : التفضل . إلى غير ذلك من أقوال السلف . والعلم عند الله تعالى . وقوله ، يعظكم لعلكم تذكرون [ 16 \ 90 ] ، الوعظ : : الكلام الذي تلين له القلوب .

    تنبيه .

    فإن قيل : يكثر في القرآن إطلاق الوعظ على الأوامر والنواهي ; كقوله هنا : يعظكم لعلكم تذكرون [ 16 \ 90 ] ، مع أنه ما ذكر إلا الأمر والنهي في قوله : إن الله [ ص: 438 ] يأمر بالعدل ، إلى قوله : وينهى عن الفحشاء . . . الآية [ 16 \ 90 ] ، وكقوله في ( سورة البقرة ) بعد أن ذكر أحكام الطلاق والرجعة : ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر [ 2 \ 232 ] ، وقوله ( في الطلاق ) في نحو ذلك أيضا : ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، وقوله في النهي عن مثل قذف عائشة : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا . . . الآية [ 24 \ 17 ] ، مع أن المعروف عند الناس : أن الوعظ يكون بالترغيب والترهيب ونحو ذلك ، لا بالأمر والنهي .

    فالجواب : أن ضابط الوعظ : هو الكلام الذي تلين له القلوب ، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم ونواهيه ; فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله ، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله . وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه ، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه ; فحداهم حادي الخوف والطمع إلى الامتثال ، فلانت قلوبهم للطاعة خوفا وطمعا . والفحشاء في لغة العرب : الخصلة المتناهية في القبح . ومنه قيل لشديد البخل : فاحش ; كما في قول طرفة في معلقته :


    أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد


    والمنكر اسم مفعول أنكر ; وهو في الشرع : ما أنكره الشرع ونهى عنه ، وأوعد فاعله العقاب . والبغي : الظلم .

    وقد بين تعالى : أن الباغي يرجع ضرر بغيه على نفسه في قوله : ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم [ 10 \ 23 ] ، وقوله : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] ، وقوله : ذي القربى [ 16 \ 90 ] ، أي : صاحب القرابة من جهة الأب أو الأم ، أو هما معا ; لأن إيتاء ذي القربى صدقة وصلة رحم . والإيتاء : الإعطاء . وأحد المفعولين محذوف ; لأن المصدر أضيف إلى المفعول الأول : وحذف الثاني . والأصل وإيتاء صاحب القرابة ; كقوله : وآتى المال على حبه ذوي القربى . . . الآية [ 2 \ 177 ] ، قوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم أمر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة عباده أن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا . وظاهر الآية أنه شامل لجميع العهود فيما بين العبد وربه ، وفيما بينه وبين الناس . وكرر هذا في مواضع أخر ; كقوله ( في الأنعام ) : ، وبعهد [ ص: 439 ] الله أوفوا ذلكم وصاكم به . . . الآية [ 6 \ 152 ] ، وقوله في ( الإسراء ) : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [ 17 \ 34 ] ، وقد قدمنا هذا ( في الأنعام ) .

    وبين في مواضع أخر : أن من نقض العهد إنما يضر بذلك نفسه ، وأن من أوفى به يؤتيه الله الأجر العظيم على ذلك ; وذلك في قوله : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما [ 48 \ 10 ] ، وبين في مواضع أخر : أن نقض الميثاق يستوجب اللعن ; وذلك في قوله : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم . . . الآية [ 5 \ 13 ] .
    قوله تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق . بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن ما عنده من نعيم الجنة باق لا يفنى . وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] ، وقوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] ، وقوله : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ، أقسم - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه سيجزي الذين صبروا أجرهم - أي : جزاء عملهم - بأحسن ما كانوا يعملون .

    وبين في مواضع أخر : أنه جزاء بلا حساب ; كما في قوله : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ 39 \ 10 ] .

    تنبيه .

    استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة : أن فعل المباح حسن ; لأن قوله في هذه الآية : بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 96 ] ، صيغة تفضيل تدل على المشاركة ، والواجب أحسن من المندوب ، والمندوب أحسن من المباح ; فيجازون بالأحسن الذي هو الواجب والمندوب ، دون مشاركتهما في الحسن وهو المباح ; وعليه درج في مراقي السعود في قوله :


    ما ربنا لم ينه عنه حسن وغيره القبيح والمستهجن


    إلا أن الحسن ينقسم إلى حسن وأحسن ; ومن ذلك قوله تعالى لموسى : فخذها [ ص: 440 ] بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها . . . الآية [ 7 \ 145 ] ، فالجزاء المنصوص عليه في قوله : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به [ 16 \ 126 ] ، حسن . والصبر المذكور في قوله : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] ، أحسن ; وهكذا وقرأ هذا الحرف ابن كثير وعاصم وابن ذكوان بخلف عنه : " ولنجزين " بنون العظمة . وقرأه الباقون بالياء ، وهو الطريق الثاني لابن ذكوان .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #179
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (178)

    سُورَةُ النَّحْلِ(24)
    صـ 441 إلى صـ 445



    قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن كل عامل سواء كان ذكرا أو أنثى عمل عملا صالحا فإنه - جل وعلا - يقسم ليحيينه حياة طيبة ، وليجزينه أجره بأحسن ما كان يعمل .

    اعلم أولا : أن القرآن العظيم دل على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور :

    الأول : موافقته لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن الله يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .

    الثاني : أن يكون خالصا لله تعالى ; لأن الله - جل وعلا - يقول : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ 98 \ 5 ] ، قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ 39 \ 14 ، 15 ] .

    الثالث** : أن يكون مبنيا على أساس العقيدة الصحيحة ; لأن الله يقول : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن [ 16 \ 97 ] ، فقيد ذلك بالإيمان ، ومفهوم مخالفته أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح .

    وقد أوضح - جل وعلا - هذا المفهوم في آيات كثيرة ، كقوله في عمل غير المؤمن : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 16 ] ، وقوله : أعمالهم كسراب بقيعة الآية [ 24 \ 39 ] ، وقوله : أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [ 14 \ 18 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    واختلف العلماء في المراد بالحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة .

    فقال قوم : لا تطيب الحياة إلا في الجنة ، فهذه الحياة الطيبة في الجنة ; لأن الحياة [ ص: 441 ] الدنيا لا تخلو من المصائب والأكدار ، والأمراض والألام والأحزان ، ونحو ذلك . وقد قال تعالى : وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ 29 \ 64 ] ، والمراد بالحيوان : الحياة .

    وقال بعض العلماء : الحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة في الدنيا ، وذلك بأن يوفق الله عبده إلى ما يرضيه ، ويرزقه العافية والرزق الحلال ; كما قال تعالى : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار [ 2 \ 201 ] .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية : حياته في الدنيا حياة طيبة ; وتلك القرينة هي أننا لو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة : حياته في الجنة في قوله : فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] ، صار قوله : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] ، تكرارا معه ; لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم ، بخلاف ما لو قدرنا أنها في الحياة الدنيا ; فإنه يصير المعنى : فلنحيينه في الدنيا حياة طيبة ، ولنجزينه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل ، وهو واضح .

    وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن تؤيده السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - .

    قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية الكريمة : والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت . وقد روي عن ابن عباس وجماعة : أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب ، وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : أنه فسرها بالقناعة ، وكذا قال ابن عباس وعكرمة ، ووهب بن منبه - إلى أن قال - وقال الضحاك : هي الرزق الحلال ، والعبادة في الدنيا . وقال الضحاك : هي الرزق الحلال ، والعبادة في الدنيا . وقال الضحاك أيضا هي العمل بالطاعة والانشراح بها .

    والصحيح : أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله ; كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني شرحبيل بن شريك ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا ، وقنعه الله بما أتاه " ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري به . وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانئ . عن أبي علي الجنبي ، عن فضالة بن عبيد : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قد أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به " ، وقال الترمذي : هذا حديث صحيح .

    وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا همام ، عن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس بن [ ص: 442 ] مالك ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة . وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا " ، انفرد بإخراجه مسلم . اه من ابن كثير .

    وهذه الأحاديث ظاهرة في ترجيح القول : بأن الحياة الطيبة في الدنيا ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أفلح " يدل على ذلك ; لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة . وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يعطى بها في الدنيا " ، يدل على ذلك أيضا . وابن كثير إنما ساق الأحاديث المذكورة لينبه على أنها ترجح القول المذكور . والعلم عند الله تعالى .

    وقد تقرر في الأصول : أنه إذا دار الكلام بين التوكيد والتأسيس رجح حمله على التأسيس : وإليه أشار في مراقي السعود جامعا له مع نظائر يجب فيها تقديم الراجح من الاحتمالين بقوله :


    كذاك ما قابل ذا اعتلال من التأصل والاستقلال ومن تأسس عموم وبقا
    الإفراد والإطلاق مما ينتقى كذاك ترتيب لإيجاب العمل
    بما له الرجحان مما يحتمل


    ومعنى كلام صاحب المراقي : أنه يقدم محتمل اللفظ الراجح على المحتمل المرجوح ، كالتأصل ، فإنه يقدم على الزيادة : نحو : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] ، يحتمل كون الكاف زائدة .

    ويحتمل أنها غير زائدة . والمراد بالمثل الذات ; كقول العرب : مثلك لا يفعل هذا ، يعنون أنت لا ينبغي لك أن تفعل هذا ، فالمعنى : ليس كالله شيء . ونظيره من إطلاق المثل وإرادة الذات : وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله [ 46 \ 10 ] ، أي : على نفس القرآن لا شيء آخر مماثل له ، وقوله : كمن مثله في الظلمات [ 6 \ 122 ] ، أي : كمن هو في الظلمات . وكالاستقلال ، فإنه يقدم على الإضمار ; كقوله تعالى : أن يقتلوا أو يصلبوا الآية [ 5 \ 33 ] ، فكثير من العلماء يضمرون قيودا غير مذكورة فيقولون : أن يقتلوا إذا قتلوا ، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم إذا أخذوا المال ولم يقتلوا . . إلخ .

    فالمالكية يرجحون أن الإمام مخير بين المذكورات مطلقا ; لأن استقلال اللفظ أرجح من إضمار قيود غير مذكورة ; لأن الأصل عدمها حتى تثبت بدليل ; كما أشرنا إليه سابقا في ( المائدة ) وكذلك التأسيس يقدم على التأكيد وهو محل الشاهد ; كقوله : فبأي [ ص: 443 ] آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 59 ، 61 ، 63 ، 65 ، 67 ، 69 ، 71 ، 73 ، 75 ] ، في ( سورة الرحمن ) ، وقوله : ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 19 ، 24 ، 28 ، 34 ، 37 ، 40 ، 45 ، 47 ، 49 ] ، ( في المرسلات ) . قيل : تكرار اللفظ فيهما توكيد ، وكونه تأسيسا أرجح لما ذكرنا . فتحمل الآلاء في كل موضع على ما تقدم . قيل : لفظ ذلك التكذيب فلا يتكرر منها لفظ . وكذا يقال في ( سورة المرسلات ) فيحمل على المكذبين بما ذكر ، قيل كل لفظ إلخ . فإذا علمت ذلك فاعلم - أنا إن حملنا الحياة الطيبة في الآية على الحياة الدنيا كان ذلك تأسيسا . وإن حملناها على حياة الجنة تكرر ذلك مع قوله بعده : ولنجزينهم أجرهم الآية [ 16 \ 97 ] ; لأن حياة الجنة الطيبة هي أجرهم الذي يجزونه .

    وقال أبو حيان في ( البحر ) : والظاهر من قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] ، أن ذلك في الدنيا ; وهو قول الجمهور . ويدل عليه قوله : ولنجزينهم أجرهم [ 16 \ 97 ] ، يعني في الآخرة .
    قوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، أظهر القولين في هذه الآية الكريمة : أن الكلام على حذف الإرادة ، أي : فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله . . الآية . وليس المراد أنه إذا قرأ القرآن وفرغ من قراءته استعاذ بالله من الشيطان كما يفهم من ظاهر الآية ، وذهب إليه بعض أهل العلم . والدليل على ما ذكرنا تكرر حذف الإرادة في القرآن وفي كلام العرب لدلالة المقام عليها ; كقوله : ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية [ 5 \ 6 ] ، أي : أردتم القيام إليها كما هو ظاهر . وقوله : إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم الآية [ 58 \ 9 ] ، أي : إذ أردتم أن تتناجوا فلا تتناجوا بالإثم ; لأن النهي إنما هو عن أمر مستقبل يراد فعله ، ولا يصح النهي عن فعل مضى وانقضى كما هو واضح .

    وظاهر هذه الآية الكريمة : أن الاستعاذة من الشيطان الرجيم واجبة عند القراءة ; لأن صيغة افعل للوجوب كما تقرر في الأصول .

    وقال كثير من أهل العلم : إن الأمر في الآية للندب والاستحباب ، وحكى عليه الإجماع أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة ، وظاهر الآية أيضا : الأمر بالاستعاذة عند القراءة في الصلاة لعموم الآية . والعلم عند الله تعالى .
    [ ص: 444 ] قوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين المتوكلين على الله ، وأن سلطانه إنما هو على أتباعه الذين يتولونه ، والذين هم به مشركون .

    وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، وقوله : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 39 - 40 ] ، وقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا [ 17 \ 65 ] ، وقوله : وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك الآية [ 34 \ 21 ] ، وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 \ 22 ] .

    واختلف العلماء في معنى السلطان في هذه الآية .

    فقال أكثر أهل العلم : هو الحجة ، أي : ليس للشيطان عليهم حجة فيما يدعوهم إليه من عبادة الأوثان .

    وقال بعضهم : ليس له سلطان عليهم ، أي : تسلط وقدرة على أن يوقعهم في ذنب لا توبة منه . وقد قدمنا هذا ، والمراد : ب : الذين يتولونه [ 16 \ 100 ] ، الذين يطيعونه فيوالونه بالطاعة .

    وأظهر الأقوال في قوله : هم به مشركون [ 16 \ 100 ] ، أن الضمير عائد إلى الشيطان لا إلى الله . ومعنى كونهم مشركين به هو طاعتهم له في الكفر والمعاصي ; كما يدل عليه قوله تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين [ 36 \ 60 ] ، وقوله عن إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان [ 19 \ 44 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وأما سلطانه على الذين يتولونه فهو ما جعلوه له على أنفسهم من الطاعة والاتباع والموالاة ، بغير موجب يستوجب ذلك .

    تنبيه .

    فإنه قيل : أثبت الله للشيطان سلطانا على أوليائه في آيات ; كقوله هنا : إنما سلطانه [ ص: 445 ] على الذين يتولونه . . . الآية [ 16 \ 100 ] ، وقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، فالاستثناء يدل على أن له سلطانا على من اتبعه من الغاوين ; مع أنه نفى عنه السلطان عليهم في آيات أخر ; كقوله : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان الآية [ 34 \ 20 - 21 ] .

    وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 114 \ 22 ] .

    فالجواب هو : أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه ، وذلك من وجهين :

    الأول : أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه ، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة ، فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها ، غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان . وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن .

    الثاني : أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ، ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعاته ودخولهم في حزبه ، فلم يتسلط عليهم بقوة ; لأن الله يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ 4 \ 76 ] ، وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم .

    ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم - رحمه الله - ، وقد بينا هذا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #180
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,347

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (179)

    سُورَةُ النَّحْلِ(25)
    صـ 446 إلى صـ 450



    قوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه إذا بدل آية مكان آية ، بأن نسخ آية أو أنساها ، وأتى بخير منها أو مثلها أن الكفار يجعلون ذلك سببا للطعن في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ; بادعاء أنه كاذب على الله ، مفتر عليه . زعما منهم أن نسخ الآية بالآية يلزمه البداء ، وهو الرأي المجدد ، وأن ذلك مستحيل على الله . فيفهم عندهم من ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مفتر على الله ، زاعمين أنه لو كان من الله لأقره وأثبته ، ولم يطرأ له فيه رأي متجدد حتى ينسخه .

    والدليل على أن قوله : بدلنا آية مكان آية [ 16 \ 101 ] ، معناه : نسخنا آية وأنسيناها قوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها [ 2 \ 106 ] ، وقوله : سنقرئك فلا [ ص: 446 ] تنسى إلا ما شاء الله [ 87 \ 6 ، 7 ] ، أي : أن تنساه .

    والدليل على أنه إن نسخ آية أو أنساها ، لا بد أن يأتي ببدل خير منها أو مثلها قوله تعالى : نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] ، وقوله هنا : بدلنا آية مكان آية [ 16 \ 101 ] .

    وما زعمه المشركون واليهود : من أن النسخ مستحيل على الله ; لأنه يلزمه البداء ، وهو الرأي المتجدد ظاهر السقوط ، واضح البطلان لكل عاقل ; لأن النسخ لا يلزمه البداء البتة ، بل الله - جل وعلا - يشرع الحكم وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في الوقت المعين ، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة ; فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز - جل وعلا - ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم ، الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة . كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه ، وحدوث الغنى بعد الفقر وعكسه ، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء ; لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له ، على وفق ما سبق في العلم الأزلي كما هو واضح .

    وقد أشار - جل وعلا - إلى علمه بزوال المصلحة من المنسوخ ، وتمحضها في الناسخ بقوله هنا : والله أعلم بما ينزل [ 16 \ 101 ] ، وقوله : نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير [ 2 \ 106 ] ، وقوله : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى [ 87 \ 6 ، 7 ] ، فقوله : إنه يعلم الجهر وما يخفى [ 87 \ 7 ] ، بعد قوله : إلا ما شاء الله [ 87 \ 7 ] ، يدل على أنه أعلم بما ينزل . فهو عالم بمصلحة الإنسان ، ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي .
    مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة :

    المسألة الأولى : لا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ عقلا وشرعا ، ولا في وقوعه فعلا ، ومن ذكر عنه خلاف في ذلك كأبي مسلم الأصفهاني - فإنه إنما يعني أن النسخ تخصيص لزمن الحكم بالخطاب الجديد ; لأن ظاهر الخطاب الأول : استمرار الحكم في جميع الزمن . والخطاب الثاني دل على تخصيص الحكم الأول بالزمن الذي قبل النسخ ; فليس النسخ عنده رفعا للحكم الأول ، وقد أشار إليه في مراقي السعود بقوله في تعريف النسخ : [ ص: 447 ]
    رفع لحكم أو بيان الزمن بمحكم القرآن أو بالسنن


    وإنما خالف فيه اليهود وبعض المشركين ، زاعمين أنه يلزمه البداء كما بينا . ومن هنا قالت اليهود : إن شريعة موسى يستحيل نسخها .
    المسألة الثانية : لا يصح نسخ حكم شرعي إلا بوحي من كتاب أو سنة ; لأن الله - جل وعلا - يقول : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] ، وبه تعلم أن النسخ بمجرد العقل ممنوع ، وكذلك لا نسخ بالإجماع ; لأن الإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه ما دام حيا فالعبرة بقوله وفعله وتقريره - صلى الله عليه وسلم - ، ولا حجة معه في قول الأمة ; لأن اتباعه فرض على كل أحد ; ولذا لا بد في تعريف الإجماع من التقييد بكونه بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال صاحب المراقي في تعريف الإجماع :

    وهو الاتفاق من مجتهدي الأمة من بعد وفاة أحمد .

    وبعد وفاته ينقطع النسخ ; لأنه تشريع ، ولا تشريع البتة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، وإلى كون العقل والإجماع لا يصح النسخ بمجردهما - أشار في مراقي السعود أيضا بقوله في النسخ :


    فلم يكن بالعقل أو مجرد الإجماع بل ينمى إلى المستند


    وقوله : " بل ينمى إلى المستند " يعني أنه إذا وجد في كلام العلماء أن نصا منسوخ بالإجماع ، فإنهم إنما يعنون أنه منسوخ بالنص الذي هو مستند الإجماع ، لا بنفس الإجماع ; لما ذكرنا من منع النسخ به شرعا . وكذلك لا يجوز نسخ الوحي بالقياس على التحقيق ، وإليه أشار في المراقي بقوله :


    ومنه نسخ النص بالقياس هو الذي ارتضاه جل الناس


    أي : وهو الحق .
    المسألة الثالثة : اعلم أن ما يقوله بعض أهل الأصول من المالكية والشافعية وغيرهم : من جواز النسخ بلا بدل ، وعزاه غير واحد للجمهور ، وعليه درج في المراقي بقوله : [ ص: 448 ] وينسخ الخف بما له ثقل وقد يجيء عاريا من البدل .

    أنه باطل بلا شك . والعجب ممن قال به العلماء الأجلاء مع كثرتهم ، مع أنه مخالف مخالفة صريحة لقوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] ، فلا كلام البتة لأحد بعد كلام الله تعالى : ومن أصدق من الله قيلا [ 4 \ 122 ] ، ومن أصدق من الله حديثا [ 4 \ 87 ] ، أأنتم أعلم أم الله [ 2 \ 140 ] ، فقد ربط - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة بين النسخ ، وبين الإتيان ببدل المنسوخ على سبيل الشرط والجزاء . ومعلوم أن الصدق والكذب في الشرطية يتواردان على الربط ; فيلزم أنه كلما وقع النسخ وقع الإتيان بخير من المنسوخ أو مثله كما هو ظاهر .

    وما زعمه بعض أهل العلم من أن النسخ وقع في القرآن بلا بدل وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة [ 58 \ 12 ] ، فإنه نسخ بقوله : أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات الآية [ 8 \ 13 ] ، ولا بدل لهذا المنسوخ .

    فالجواب : أن له بدلا ، وهو أن وجوب تقديم الصدقة أمام المناجاة لما نسخ بقي استحباب الصدقة وندبها ، بدلا من الوجوب المنسوخ كما هو ظاهر .
    المسألة الرابعة : اعلم أنه يجوز نسخ الأخف بالأثقل ، والأثقل بالأخف . فمثال نسخ الأخف بالأثقل : نسخ التخيير بين الصوم والإطعام المنصوص عليه في قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين [ 2 \ 184 ] ، بأثقل منه ، وهو تعيين إيجاب الصوم في قوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، ونسخ حبس الزواني في البيوت المنصوص عليه بقوله : فأمسكوهن في البيوت الآية [ 4 \ 15 ] ، بأثقل منه وهو الجلد والرجم المنصوص على الأول منهما في قوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، وعلى الثاني منهما بآية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها ثابتا ، وهي قوله : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " ، ومثال نسخ الأثقل بالأخف : نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار المنصوص عليه في قوله : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 65 ] ، بأخف منه وهو مصابرة المسلم اثنين منهم المنصوص عليه في قوله : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين [ ص: 449 ] الآية [ 8 \ 66 ] ، وكنسخ قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [ 2 \ 284 ] ، بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، فإنه نسخ للأثقل بالأخف كما هو ظاهر . وكنسخ اعتداد المتوفى عنها بحول ، المنصوص عليه في قوله : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول الآية [ 2 \ 240 ] ، بأخف منه وهو الاعتداد بأربعة أشهر وعشر ، المنصوص عليه في قوله : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ 2 \ 234 ] .

    تنبيه .

    اعلم : أن في قوله - جل وعلا - : نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] إشكالا من جهتين :

    الأولى : أن يقال : إما أن يكون الأثقل خيرا من الأخف ; لأنه أكثر أجرا ، أو الأخف خيرا من الأثقل ; لأنه أسهل منه ، وأقرب إلى القدرة على الامتثال . وكون الأثقل خيرا يقتضي منع نسخه بالأخف ، كما أن كون الأخف خيرا يقتضي منع نسخه بالأثقل ; لأن الله صرح بأنه يأتي بما هو خير من المنسوخ أو مماثل له ، لا ما هو دونه . وقد عرفت : أن الواقع جواز نسخ كل منهما بالآخر .

    الجهة الثانية : من جهتي الإشكال في قوله أو مثلها [ 2 \ 106 ] ; لأنه يقال : ما الحكمة في نسخ المثل ليبدل منه مثله ؟ وأي مزية للمثل على المثل حتى ينسخ ويبدل منه ؟ .

    والجواب عن الإشكال الأول : هو أن الخيرية تارة تكون في الأثقل لكثرة الأجر ، وذلك فيما إذا كان الأجر كثيرا جدا والامتثال غير شديد الصعوبة ، كنسخ التخيير بين الإطعام والصوم بإيجاب الصوم ; فإن في الصوم أجرا كثيرا كما في الحديث القدسي : " إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " ، والصائمون من خيار الصابرين ; لأنهم صبروا لله عن شهوة بطونهم وفروجهم ; والله يقول : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ 39 \ 10 ] ، ومشقة الصوم عادية ليس فيها صعوبة شديدة تكون مظنة لعدم القدرة على الامتثال ، وإن عرض ما يقتضي ذلك كمرض أو سفر ; فالتسهيل برخصة الإفطار منصوص بقوله : " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ 2 \ 184 ] ، وتارة تكون الخيرية في الأخف ، وذلك فيما إذا كان الأثقل المنسوخ شديد الصعوبة بحيث يعسر فيه الامتثال ; فإن الأخف يكون خيرا منه ; لأن مظنة عدم الامتثال تعرض المكلف للوقوع فيما [ ص: 450 ] لا يرضي الله ، وذلك كقوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [ 2 \ 284 ] ، فلو لم تنسخ المحاسبة بخطرات القلوب لكان الامتثال صعبا جدا ، شاقا على النفوس ، لا يكاد يسلم من الإخلال به ، إلا من سلمه الله تعالى - فشك أن نسخ ذلك بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، خير للمكلف من بقاء ذلك الحكم الشاق ، وهكذا .

    والجواب عن الإشكال الثاني : هو أن قوله : أو مثلها ، يراد به مماثلة الناسخ والمنسوخ في حد ذاتهما ; فلا ينافي أن يكون الناسخ يستلزم فوائد خارجة عن ذاته يكون بها خيرا من المنسوخ ، فيكون باعتبار ذاته مماثلا للمنسوخ ، وباعتبار ما يستلزمه من الفوائد التي لا توجد في المنسوخ خيرا من المنسوخ .

    وإيضاحه : أن عامة المفسرين يمثلون لقوله : أو مثلها ، بنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام ; فإن هذا الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى ذاتهما متماثلان ; لأن كل واحد منهما جهة من الجهات ، وهي في حقيقة أنفسها متساوية ، فلا ينافي أن يكون الناسخ مشتملا على حكم خارجة عن ذاته تصيره خيرا من المنسوخ بذلك الاعتبار . فإن استقبال بيت الله الحرام تلزمه نتائج متعددة مشار لها في القرآن ليست موجودة في استقبال بيت المقدس ، منها : أنه يسقط به احتجاج كفار مكة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهم : تزعم أنك على ملة إبراهيم ولا تستقبل قبلتها ! وتسقط به حجة اليهود بقولهم : تعيب ديننا وتستقبل قبلتنا ، وقبلتنا من ديننا ! وتسقط به أيضا حجة علماء اليهود فإنهم عندهم في التوراة : أنه - صلى الله عليه وسلم - سوف يؤمر باستقبال بيت المقدس ، ثم يؤمر بالتحول عنه إلى استقبال بيت الله الحرام . فلو لم يؤمر بذلك لاحتجوا عليه بما عندهم في التوراة من أنه سيحول إلى بيت الله الحرام ، والفرض أنه لم يحول .

    وقد أشار تعالى إلى هذه الحكم التي هي إدحاض هذه الحجج الباطلة بقوله : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا [ 2 \ 150 ] ، ثم بين الحكمة بقوله : لئلا يكون للناس عليكم حجة الآية [ 2 \ 150 ] ، وإسقاط هذه الحجج من الدواعي التي دعته - صلى الله عليه وسلم - إلى حب التحويل إلى بيت الله الحرام المشار إليه في قوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية [ 2 \ 144 ] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •