تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 15 من 28 الأولىالأولى ... 5678910111213141516171819202122232425 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 281 إلى 300 من 556

الموضوع: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

  1. #281
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (280)

    سُورَةُ طه
    صـ 47 إلى صـ 53




    [ ص: 47 ] ثم قال الرازي : فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه .

    قلت : وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها . لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه ، ولهذا جاء في الحديث " إن من البيان لسحرا " وسمي السحور سحورا لكونه يقع خفيا آخر الليل . والسحر : الرئة وهي محل الغذاء ، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه ، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة : أنتفخ سحره ؟ أي : أنتفخت رئته من الخوف ؟

    وقالت عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري . وقال تعالى : سحروا أعين الناس [ 7 116 ] أي : أخفوا عنهم عملهم ، انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

    هذا هو حاصل الأقسام الثمانية التي ذكر الفخر الرازي في تفسيره في سورة " البقرة " انقسام السحر إليها . ولأهل العلم فيه تقسيمات متعددة يرجع غالبها إلى هذه الأقسام المذكورة وقد قسمه الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي صاحب التآليف العديدة المفيدة في نظمه المسمى ( رشد الغافل ) وشرحه له ، الذي بين فيه أنواع علوم الشر لتتقى وتجتنب إلى أقسام متعددة :

    ( منها ) قسم يسمى ( بالهيمياء ) بكسر الهاء بعدها مثناة تحتية فميم فياء بعدها ألف التأنيث الممدودة ، على وزن كبرياء . قال : وهو ما تركب من خواص سماوية تضاف لأحوال الأفلاك ، يحصل لمن عمل له شيء من ذلك أمور معلومة عند السحرة ، وقد يبقى له إدراك ، وقد يسلبه بالكلية فتصير أحواله كحالات النائم من غير فرق ، حتى يتخيل مرور السنين الكثيرة في الزمن اليسير وحدوث الأولاد وانقضاء الأعمار ، وغير ذلك في ساعة ونحوها من الزمن اليسير . ومن لم يعمل له ذلك لا تجد شيئا مما ذكر . وهذا تخييل لا حقيقة له اه .

    ( ومنها ) نوع يسمى ( بالسيمياء ) بكسر السين المهملة وبقية حروفه كحروف ما قبله . قال : وهو عبارة عما تركب من خواص أرضية كدهن خاص ، أو مائعات خاصة يبقى معها إدراك ، وقد يسلب بالكلية إلى آخر ما تقدم في الهيمياء .

    ( ومنها ) : نوع هو رقى ضارة . قال : كرقى الجاهلية وأهل الهند ، وربما كانت كفرا . قال : ولهذا نهى مالك عن الرقى بالعجمية . وقال ابن زكريا في شرح ( النصيحة ) : ولا يقال لما يحدث ضررا رقى ، بل ذلك يقال له سحر .

    [ ص: 48 ] ( ومنها ) : قسم يسمى خصائص بعض الحقائق التي لها تسلط على النفوس . كالمشط ، والمشاقة وجف طلع الذكر من النخل ، وقصة جعل اليهودي الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر في سحره مشهورة . وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله تعالى .

    ومن أمثلة هذا النوع عند أهله : أن بعض أنواع الكلاب من شأنه إذا رمي بحجر أن يعضه ، فإذا رمي بسبع حجارة وعض كل واحدة منها وطرحت تلك الحجارة في ماء فمن شرب منه فإن السحرة يزعمون أن تظهر فيه آثار مخصوصة معروفة عندهم . قبحهم الله تعالى .

    ( ومنها ) : نوع يسمى ( بالطلاسم ) وهو عبارة عن نقش أسماء خاصة لها تعلق بالأفلاك والكواكب على زعم أهلها في جسم من المعادن أو غيرها ، تحدث بها خاصية ربطت في مجاري العادات ، ولا بد مع ذلك من نفس صالحة لهذه الأعمال . فإن بعض النفوس لا تجري الخاصة المذكورة على يده .

    ( ومنها ) : نوع يسمى ( بالعزائم ) وهم يزعمون أن لكل نوع من الملائكة أسماء أمروا بتعظيمها ، ومتى أقسم عليهم بها أطاعوا وأجابوا وفعلوا ما طلب منهم ا هـ ، ولا يخفى ما في هذا الزعم من الفساد .

    ( ومنها ) : نوع يسمونه الاستخدام للكواكب ، والجن . وأهل الاستخدمات يزعمون أن للكواكب إدراكات روحانية . فإذا قوبلت الكواكب ببخور خاص ولباس خاص على الذي يباشر البخور ، كانت روحانية فلك الكواكب مطيعة له ، متى ما أراد شيئا فعلته له على زعمهم لعنهم الله تعالى . وهذا النوع من سحر الكلدانيين المتقدم . وكذلك ملوك الجان يزعمون أنهم إذا عملوا لهم أشياء خاصة بكل ملك من ملوكهم أطاعوا وفعلوا لهم ما أرادوا . قال : وشروط هذه الأمور مستوعبة في كتبهم . وذكر من علوم الشر أنواعا كثيرة : كالخط ، والأشكال ، والموالد ، والقرعة ، والفأل ، وعلم الكتف ، والموسيقى ، والرعدي ، والكهانة ، وغير ذلك .

    والخط الرملي معروف . والأشكال جمع شكل ، ويسمى علمها علم الجداول وعلم الأوفاق ، وهي معروفة وهي من الباطل .

    والموالد جمع مولد ، وهي أن يدعي من معرفة النجم الذي كان طالعا عند ولادة الشخص أنه يكون سلطانا أو عالما ، أو غنيا أو فقيرا ، أو طويل العمر أو قصيره ، ونحو ذلك .

    [ ص: 49 ] والقرعة ما يسمونه قرعة الأنبياء ، وحاصلها جدول مرسوم في بيوته أسماء الأنبياء وأسماء الطيور . وبعد الجدول تراجم ، لكل اسم ترجمة خاصة به ، ويذكر فيها أمور من المنافع ، والمضار ، يقال للشخص غمض عينيك وضع أصبعك في الجدول . فإذا وضعها على اسم قرئت له ترجمته ليعتقد أنه يكون له ذلك المذكور منها . قال : وقد عدها العلماء من باب الاستقسام بالأزلام .

    ومراده بالفأل : الفأل المكتسب . كأن يريد إنسان التزوج أو السفر مثلا ، فيخرج ليسمع ما يفهم منه الإقدام أو الإحجام ، ويدخل فيه النظر في المصحف لذلك : ولا يخفى أن ذلك من نوع الاستقسام بالأزلام . أما ما يعرض من غير اكتساب كأن يسمع قائلا يقول : ما مفلح ، فليس من هذا القبيل كما جاءت به الأحاديث الصحيحة .

    وعلم الكتف : علم يزعم أهل الشر ، والضلال أن من علمه يكون إذا نظر في أكتاف الغنم اطلع على أمور من الغيب ، وربما زعم المشتغل به أن السلطان يموت في تاريخ كذا ، وأنه يطرأ رخص أو غلاء أو موت الأعيان كالعلماء ، والصالحين ، وقد يذكر شأن الكنوز أو الدفائن ، ونحو ذلك . والموسيقى معروفة ، وكلها من الباطل كما لا يخفى على من له إلمام بالشرع الكريم .

    والرعديات : علم يزعم أهله أن الرعد إذا كان في وقت كذا من السنة والشهر فهو علامة على أمور غيبية من جدب وخصب ، وكثرة الرواج في الأسواق وقلته ، وكثرة الموت وهلاك الماشية ، وانقراض الملك ونحو ذلك . والفرق بين العرافة والكهانة مع أنهما يشتركان في دعوى الاطلاع على الغيب : أن العرافة مختصة بالأمور الماضية ، والكهانة مختصة بالأمور المستقبلة ا ه منه .

    وعلوم الشر كثيرة ، وقصدنا بذكر ما ذكرنا منها التنبيه على خستها وقبحها شرعا ، وأن منها ما هو كفر بواح ، ومنها ما يؤدي إلى الكفر ، وأقل درجاتها التحريم الشديد . وقد دل بعض الأحاديث ، والآثار على أن العيافة ، والطرق ، والطيرة من السحر . وقد قدمنا معنى ذلك في " الأنعام " وعنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس رضي الله عنه : " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد " رواه أبو داود بإسناد صحيح . وللنسائي من حديث أبي هريرة " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئا وكل إليه " .
    [ ص: 50 ] المسألة الرابعة

    اختلف العلماء في السحر هل هو حقيقة أو هو تخييل لا حقيقة له . والتحقيق أن منه ما هو حقيقة كما قدمنا ، ومنه ما هو تخييل كما تقدم إيضاحه . وهو مفهوم من أقسام السحر المتقدمة في كلام الرازي ، وغيره .
    المسألة الخامسة

    اختلف العلماء فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال بعضهم : إنه يكفر بذلك ، وهو قول جمهور العلماء منهم مالك ، وأبو حنيفة وأصحاب أحمد ، وغيرهم . وعن أحمد ما يقتضي عدم كفره . وعن الشافعي أنه إذا تعلم السحر قيل له صف لنا سحرك . فإن وصف ما يستوجب الكفر مثل سحر أهل بابل من التقرب للكواكب ، وأنها تفعل ما يطلب منها فهو كافر ، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر ، وإلا فلا . وأقوال أهل العلم في ذلك كثيرة معروفة .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل . فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب ، والجن ، وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر فهو كفر بلا نزاع ، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة " البقرة " فإنه كفر بلا نزاع . كما دل عليه قوله تعالى : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ 2 102 ] ، وقوله تعالى : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ 2 102 ] ، وقوله : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [ 2 102 ] ، وقوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى [ 20 69 ] كما تقدم إيضاحه . وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها فهو حرام حرمة شديدة ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر . هذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى في هذه المسألة التي اختلف فيها العلماء .
    المسألة السادسة

    اعلم أن العلماء اختلفوا في الساحر هل يقتل بمجرد فعله للسحر واستعماله له أو لا ؟ قال ابن كثير في تفسيره : قال ابن هبيرة : وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله له ؟ فقال مالك وأحمد : نعم . وقال الشافعي ، وأبو حنيفة : لا . فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه [ ص: 51 ] يقتل عند مالك ، والشافعي وأحمد . وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك ، أو يقر بذلك في حق شخص معين . وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي فإنه قال : يقتل ، والحالة هذه قصاصا .

    وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك ، وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم : لا تقبل . وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى : تقبل التوبة .

    وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم . وقال مالك والشافعي وأحمد : لا يقتل . يعني لقصة لبيد بن الأعصم .

    واختلفوا في المسلمة الساحرة . فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ، ولكن تحبس . وقال الثلاثة : حكمها حكم الرجل . وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا أبو بكر المروزي قال : قرأ على أبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال : يقتل ساحر المسلمين ، ولا يقتل ساحر المشركين . لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها . وقد نقل القرطبي عن مالك أنه قال في الذمي : يقتل إن قتل بسحره . وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر : إحداهما أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل : والثانية أنه يقتل وإن أسلم .

    وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة ، وغيرهم ، لقوله تعالى : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ 2 102 ] لكن قال مالك : إذا ظهر عليه لم تقبل توبته . لأنه كالزنديق فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاء تائبا قبلناه . فإن قتل سحره قتل . قال الشافعي فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

    وقال النووي في شرح مسلم : وأما تعلمه وتعليمه فحرام ، فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر وإلا فلا . وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر واستتيب منه ، ولا يقتل عندنا ، فإن تاب قبلت توبته . وقال مالك : الساحر كافر يقتل بالسحر ، ولا يستتاب ، ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله : والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق ، لأن الساحر عنده كافر كما ذكرنا ، وعندنا ليس بكافر ، وعندنا تقبل توبة المنافق ، والزنديق . وقال القاضي عياض : وبقول مالك قال أحمد بن حنبل ، وهو مروي عن جماعة من الصحابة ، والتابعين . قال أصحابنا : فإذا قتل الساحر بسحره إنسانا واعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالبا لزمه القصاص . وإن قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لا يقتل فلا قصاص ، وتجب الدية في ماله [ ص: 52 ] لا على عاقلته . لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني . وقال أصحابنا : ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة ، وإنما يتصور باعتراف الساحر ، والله أعلم . انتهى كلام النووي .

    وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على قول البخاري : ( باب السحر ) وقول الله تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ 2 102 ] : وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر ، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها ، وهو التعبد للشياطين أو الكواكب . وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر من تعلمه أصلا .

    قال النووي . عمل السحر حرام ، وهو من الكبائر بالإجماع ، وقد عده النبي - صلى الله عليه وسلم - من السبع الموبقات ، ومنه ما يكون كفرا . ومنه ما لا يكون كفرا ، بل معصية كبيرة . فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا . وأما تعلمه وتعليمه فحرام ، إلى آخر كلام النووي الذي ذكرناه عنه آنفا . ثم إن ابن حجة لما نقله عنه قال : وفي المسألة اختلاف كبير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها ا ه .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق في هذه المسألة إن شاء الله تعالى أن السحر نوعان كما تقدم ؟ منه ما هو كفر ، ومنه ما لا يبلغ بصاحبه الكفر ، فإن كان الساحر استعمل السحر الذي هو كفر فلا شك في أنه يقتل كفرا ؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من بدل دينه فاقتلوه " .

    وأظهر القولين عندي في استتابته أنه يستتاب ، فإن تاب قبلت توبته . وقد بينت في كتابي ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " آل عمران " أن أظهر القولين دليلا أن الزنديق تقبل توبته ؟ لأن الله لم يأمر نبيه ، ولا أمته - صلى الله عليه وسلم - بالتنقيب عن قلوب الناس ؟ بل بالاكتفاء بالظاهر . وما يخفونه في سرائرهم أمره إلى الله تعالى . خلافا للإمام مالك وأصحابه القائلين بأن الساحر له حكم الزنديق . لأنه مستمر بالكفر ، والزنديق لا تقبل توبته عنده إلا إذا جاء تائبا قبل الاطلاع عليه . وأظهر القولين عندي : أن المرأة الساحرة حكمها حكم الرجل الساحر وأنها إن كفرت بسحرها قتلت كما يقتل الرجل . لأن لفظة " من " في قوله : " من بدل دينه فاقتلوه " تشمل الأنثى على أظهر القولين وأصحهما إن شاء الله تعالى . ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى الآية [ 4 124 ] . فأدخل الأنثى في لفظة " من " وقوله تعالى : يانساء النبي من يأت منكن الآية [ 4 124 ] ، وقوله : ومن يقنت منكن لله الآية [ 33 30 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وإلى هذه المسألة التي هي شمول لفظة " من " في الكتاب ، والسنة [ ص: 53 ] للأنثى أشار في مراقي السعود بقوله :


    وما شمول من للأنثى جنف وفي شيبه المسلمين اختلفوا


    وأما إن كان الساحر عمل السحر الذي لا يبلغ بصاحبه الكفر ، فهذا هو محل الخلاف بين العلماء . فالذين قالوا يقتل ولو لم يكفر بسحره قال أكثرهم : يقتل حدا ولو قتل إنسانا بسحره ، وانفرد الشافعي في هذه الصورة بأنه يقتل قصاصا لا حدا .

    وهذه حجج الفريقين ومناقشتها :

    أما الذين قالوا مطلقا إذا عمل بسحره ولو لم يقتل به أحدا فاستدلوا بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ، وبحديث جاء بذلك إلا أنه لم يصح . فمن الآثار الدالة على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب ( الجهاد في باب الجزية ) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان قال : سمعت عمرا قال : كنت جالسا مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فحدثهما بجالة سنة سبعين عام حج مصعب بن الزبير بأهل البصرة عند درج زمزم قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف ، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة : اقتلوا كل ساحر ، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس قال : فقتلنا في يوم واحد ثلاث سواحر وفرقنا بين المحارم منهم . ورواه أيضا أحمد ، وأبو داود . واعلم أن لفظة " اقتلوا كل ساحر " إلخ في هذا الأثر ساقطة في بعض روايات البخاري ، ثابتة في بعضها ، وهي ثابتة في رواية مسدد وأبي يعلى . قاله في الفتح .

    ومن الآثار الدالة على ذلك أيضا ما رواه مالك في الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلت جارية لها سحرتها ، وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقتلت . قال مالك : الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره هو مثل الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [ 2 102 ] فأرى أن يقتل ذلك إذا عمل ذلك من نفسه انتهى من الموطأ .

    ونحوه أخرجه عبد الرزاق . ومن الآثار الدالة على ذلك ما رواه البخاري في تاريخه الكبير : حدثنا إسحاق . حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن أبي عثمان : كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانا وأبان رأسه ، فجاء جندب الأزدي فقتله . حدثني عمرو بن محمد ، حدثنا هشيم عن خالد عن أبي عثمان عن جندب البجلي : أنه قتله . حدثنا موسى قال حدثنا عبد الواحد عن عاصم عن أبي عثمان : قتله جندب بن كعب .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #282
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (281)

    سُورَةُ طه
    صـ 54 إلى صـ 60




    وفي ( فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ) للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ، رحمه الله تعالى بعد أن أشار لكلام البخاري في [ ص: 54 ] التاريخ الذي ذكرنا ، ورواه البيهقي في الدلائل مطولا ، وفيه : فأمر به الوليد فسجن . فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة انتهى منه .

    فهذه آثار عن ثلاثة من الصحابة في قتل الساحر : وهم عمر وابنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنهم جميعا ، وجندب ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . ويعتضد ذلك بما رواه للترمذي ، والدارقطني عن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حد الساحر ضربه بالسيف " . وضعف الترمذي إسناد هذا الحديث وقال : الصحيح عن جندب موقوف ، وتضعيفه بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو يضعف في الحديث . وقال في ( فتح المجيد ) أيضا في الكلام على حديث جندب المذكور : روى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يضرب ضربة واحدة فيكون أمة وحده " ا ه منه .

    وقال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر تضعيفه بإسماعيل المذكور : قلت قد رواه الطبراني من وجه آخر ، عن الحسن عن جندب مرفوعا ا ه . وهذا يقويه كما ترى .

    فهذه الآثار التي لم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكرها على من عمل بها مع اعتضادها بالحديث المرفوع المذكور هي حجة من قال بقتله مطلقا . والآثار المذكورة والحديث فيهما الدلالة على أنه يقتل ولو لم يبلغ به سحره الكفر . لأن الساحر الذي قتله جندب رضي الله عنه كان سحره من نحو الشعوذة ، والأخذ بالعيون ، حتى إنه يخيل إليهم أنه أبان رأس الرجل ، والواقع بخلاف ذلك . وقول عمر " اقتلوا كل ساحر " يدل على ذلك لصيغة العموم . وممن قال بمقتضى هذه الآثار وهذا الحديث : مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد في أصح الروايتين ، وعمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وحفصة ، وجندب بن عبد الله ، وجندب بن كعب ، وقيس بن سعد ، وعمر بن عبد العزيز . وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن قدامة في ( المغني ) خلافا للشافعي ، وابن المنذر ومن وافقهما .

    واحتج من قال : بأنه إن كان سحره لم يبلغ به الكفر لا يقتل بحديث ابن مسعود المتفق عليه " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث . . . " الحديث ، وقد قدمناه مرارا . وليس السحر الذي لم يكفر صاحبه من الثلاث المذكورة . قال القرطبي منتصرا لهذا القول : وهذا صحيح ، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف ، والله أعلم .

    واحتجوا أيضا بأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها ، ولو وجب قتلها [ ص: 55 ] لما حل بيعها . قاله ابن المنذر ، وغيره . وما حاوله بعضهم من الجمع بين الأدلة المذكورة بحمل السحر على الذي يقتضي الكفر في قول من قال بالقتل ، وحمله على الذي لا يقتضي الكفر في قول من قال بعدم القتل لا يصح . لأن الآثار الواردة في قتله جاءت بقتل الساحر الذي سحره من نوع الشعوذة كساحر جندب الذي قتله ، وليس ذلك مما يقتضي الكفر المخرج من ملة الإسلام ، كما تقدم إيضاحه . فالجمع غير ممكن . وعليه فيجب الترجيح ، فبعضهم يرجح عدم القتل بأن دماء المسلمين حرام إلا بيقين . وبعضهم يرجح القتل بأن أدلته خاصة ، ولا يتعارض عام وخاص . لأن الخاص يقضي على العام عند أكثر أهل الأصول كما هو مقرر في محله .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : والأظهر عندي أن الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر ولم يقتل به إنسانا أنه لا يقتل . لدلالة النصوص القطعية ، والإجماع على عصمة دماء المسلمين عامة إلا بدليل واضح . وقتل الساحر الذي لم يكفر بسحره لم يثبت فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والتجرؤ على دم مسلم من غير دليل صحيح من كتاب أو سنة مرفوعة غير ظاهر عندي . والعلم عند الله تعالى ، مع أن القول بقتله مطلقا قوي جدا لفعل الصحابة له من غير نكير .
    المسألة السابعة

    اعلم أن الناس اختلفوا في تعلم السحر من غير عمل به . هل يجوز أو لا ؟ ، والتحقيق وهو الذي عليه الجمهور : هو أنه لا يجوز ، ومن أصرح الأدلة في ذلك تصريحه تعالى بأنه يضر ولا ينفع في قوله : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم [ 2 102 ] وإذا أثبت الله أن السحر ضار ونفى أنه نافع فكيف يجوز تعلم ما هو ضرر محض لا نفع فيه ؟ !

    وجزم الفخر الرازي في تفسيره في سورة " البقرة " بأنه جائز بل واجب . قال ما نصه :

    ( المسألة الخامسة ) في أن العلم بالسحر غير قبيح ، ولا محظور ، اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف ، وأيضا لعموم قوله تعالى : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 9 ] ، ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة ، والعلم بكون المعجز معجزا واجب ، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب ، فهذا [ ص: 56 ] يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا ، وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا . انتهى منه بلفظه .

    ولا يخفى سقوط هذا الكلام وعدم صحته . وقد تعقبه ابن كثير في تفسيره بعد أن نقله عنه بلفظه الذي ذكرنا بما نصه :

    وهذا الكلام فيه نظر من وجوه : أحدها قوله : " العلم بالسحر ليس بقبيح " إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا ، وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعا ففي هذه الآية الكريمة يعني قوله تعالى ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم تبشيع لعلم السحر . وفي السنن " من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد " ، وفي السنن " من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر " وقوله " ولا محظور ، اتفق المحققون على ذلك " كيف لا يكون محظورا مع ما ذكرنا من الآية ، والحديث ، واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم . وأين نصوصهم على ذلك ! !

    ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 9 ] فيه نظر . لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي ، ولما قلت إن هذا منها ! ثم ترقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف بل فاسد . لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .

    ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا . ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة ، والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز ، ويفرقون بينه وبين غيره ، ولم يكونوا يعلمون السحر ، ولا تعلموه ، ولا علموه ، والله أعلم . انتهى .

    ولا يخفى أن كلام ابن كثير هذا صواب ، وأن رده على الرازي واقع موقعه ، وأن تعلم السحر لا ينبغي أن يختلف في منعه . لقوله جل وعلا : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم [ 2 102 ] . وقول ابن كثير في كلامه المذكور : وفي الصحيح " من أتى عرافا أو كاهنا . . إلخ " إن كان يعني أن الحديث بذلك صحيح فلا مانع ، وإن كان يعني أنه في الصحيحين أو أحدهما فليس كذلك . وبذلك كله تعلم أن قول ابن حجر في ( فتح الباري ) : وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأمرين : إما لتمييز ما فيه كفر من غيره . وإما لإزالته عمن وقع فيه .

    فأما الأول : فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد ، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء [ ص: 57 ] بمجرده لا تستلزم منعا . كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان . لأن كيفية ما يعلمه الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل ، بخلاف تعاطيه ، والعمل به .

    وأما الثاني : فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا ، وإلا جاز للمعنى المذكور . ا ه خلاف التحقيق ، إذ ليس لأحد أن يبيح ما صرح الله بأنه يضر ، ولا ينفع ، مع أن تعلمه قد يكون ذريعة للعمل به ، والذريعة إلى الحرام يجب سدها كما قدمناه . قال في المراقي :


    سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم


    هذا هو الظاهر لنا . والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الثامنة

    اعلم أن العلماء اختلفوا في حل السحر عن المسحور . فأجازه بعضهم ، ومنعه بعضهم . وممن أجازه سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى . قال البخاري في صحيحه ( باب هل يستخرج السحر ) : وقال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته ، أيحل عنه ، أو ينشر ؟ قال : لا بأس به ، إنما يريدون به الإصلاح . فأما ما ينفع فلم ينه عنه ا ه . ومال إلى هذا المزني . وقال الشافعي : لا بأس بالنشرة . قاله القرطبي . وقال أيضا : قال ابن بطال : وفي كتاب وهب بن منبه : أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ، ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل . فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله تعالى ، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله انتهى منه .

    وممن أجاز النشرة وهي حل السحر عن المسحور : أبو جعفر الطبري ، وعامر الشعبي ، وغيرهما . وممن كره ذلك : الحسن . وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سحره لبيد بن الأعصم : هلا تنشرت ؟ فقال : " أما الله فقد شفاني وكرهت أن أثير على الناس شرا " .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه في هذه المسألة : أن استخراج السحر إن كان بالقرآن كالمعوذتين ، وآية الكرسي ونحو ذلك مما تجوز الرقيا به فلا مانع من ذلك . وإن كان بسحر أو بألفاظ عجمية ، أو بما لا يفهم معناه ، أو بنوع آخر مما لا يجوز فإنه ممنوع . وهذا واضح وهو الصواب إن شاء الله تعالى كما ترى .

    [ ص: 58 ] وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : ( تكميل ) قال ابن القيم : من أنفع الأدوية ، وأقوى ما يوجد من النشرة مقاومة السحر الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية : من الذكر ، والدعاء ، والقراءة . فالقلب إذا كان ممتلئا من الله ، معمورا بذكره ، وله ورد من الذكر ، والدعاء ، والتوجه ، لا يخل به كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له . قال : وسلطان تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة . ولهذا غالب ما يؤثر فيه النساء ، والصبيان ، والجهال . لأن الأرواح الخبيثة إنما تنشط على الأرواح ، تلقاها مستعدة لما يناسبها انتهى ملخصا . ويعكر عليه حديث الباب ، وجواز السحر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع عظيم مقامه ، وصدق توجهه ، وملازمة ورده ولكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب ، وإنما وقع به - صلى الله عليه وسلم - لبيان تجويز ذلك ، والله أعلم انتهى من فتح الباري .
    المسألة التاسعة

    اعلم أن العلماء اختلفوا في تحقيق القدر الذي يمكن أن يبلغه تأثير السحر في المسحور ، واعلم أن لهذه المسألة واسطة وطرفين : طرف لا خلاف في أن تأثير السحر يبلغه كالتفريق بين الرجل وامرأته ، وكالمرض الذي يصيب المسحور من السحر ونحو ذلك ، ودليل ذلك القرآن ، والسنة الصحيحة . أما القرآن فقوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ 2 102 ] فصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة بأن من تأثير السحر التفريق بين المرء وزوجه . وأما السنة فما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها بألفاظ متعددة متقاربة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ، ولا يأتيهن . فقال : " يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ قال : مطبوب ، قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف اليهودي كان منافقا ، قال : وفيم ؟ قال : في مشط ومشاطة ؟ قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت راعوفة فيبئر ذروان " قالت : فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - البئر حتى استخرجه ، فقال : " هذه البئر التي أربتها ، وكأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن نخلها رءوس الشياطين ، فاستخرج " قالت فقلت : أفلا أي : تنشرت ؟ فقال : " أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا " ا ه هذا لفظ البخاري في بعض رواياته لهذا الحديث . والقصة مشهورة صحيحة . ففي هذا الحديث الصحيح : أن تأثير السحر فيه - صلى الله عليه وسلم - سبب له [ ص: 59 ] المرض . بدليل قوله " أما الله فقد شفاني " وفي بعض الروايات الثابتة في صحيح البخاري ، وغيره بلفظ : فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال مطبوب . أي : مسحور . وهو تصريح بأن السحر سبب له وجعا . ونفي بعض الناس لهذه القصة مستدلا بأنها لا تجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم - ، لقوله تعالى عن الكفار منكرا عليهم . إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 47 ] ساقط ؛ لأن الروايات الصحيحة الثابتة لا يمكن ردها بمثل هذه الدعاوى . وسترى في آخر بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى إيضاح وجه ذلك . وطرف لا خلاف في أن تأثير السحر لا يمكن أن يبلغه كإحياء الموتى ، وفلق البحر ونحو ذلك .

    قال القرطبي في تفسيره : أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد ، والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر ، وقلب العصا ، وإحياء الموتى ، وإنطاق العجماء ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام . فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون لا يفعله الله عند إرادة الساحر . قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه انتهى كلام القرطبي .

    وأما الواسطة فهي محل خلاف بين العلماء ، وهي هل يجوز أن ينقلب بالسحر الإنسان حمارا مثلا ، والحمار إنسانا ؟ وهل يصح أن يطير الساحر في الهواء ، وأن يستدق حتى يدخل من كوة ضيقة . وينتصب على رأس قصبة ، ويجري على خيط مستدق ، ويمشي على الماء ، ويركب الكلب ونحو ذلك . فبعض الناس يجيز هذا . وجزم بجوازه الفخر الرازي في تفسيره ، وكذلك صاحب رشد الغافل ، وغيرهما . وبعضهم يمنع مثل هذا .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما بالنسبة إلى أن الله قادر على أن يفعل جميع ذلك ، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب وإن لم تكن هناك مناسبة عقلية بين السبب ، والمسبب كما قدمناه مستوفى في سورة " مريم " فلا مانع من ذلك ، والله جل وعلا يقول وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [ 2 102 ] . وأما بالنسبة إلى ثبوت وقوع مثل ذلك بالفعل فلم يقم عليه دليل مقنع . لأن غالب ما يستدل عليه به قائله حكايات لم تثبت عن عدول ، ويجوز أن يكون ما وقع منها من جنس الشعوذة ، والأخذ بالعيون ، لا قلب الحقيقة مثلا إلى حقيقة أخرى . وهذا هو الأظهر عندي ، والله تعالى أعلم .
    [ ص: 60 ] تنبيه

    اعلم أن ما وقع من تأثير السحر في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستلزم نقصا ، ولا محالا شرعيا حتى ترد بذلك الروايات الصحيحة . لأنه من نوع الأعراض البشرية ، كالأمراض المؤثرة في الأجسام ، ولم يؤثر البتة فيما يتعلق بالتبليغ . واستدلال من منع ذلك زاعما أنه محال في حقه - صلى الله عليه وسلم - بآية إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 47 ] مردود كما سنوضحه إن شاء الله في آخر هذا البحث .

    قال ابن حجر في الفتح : قال المازري : أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث ، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها . قالوا : وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل . وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع ، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ، ثم وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه شيء . قال المازري : هذا كله مردود . لأن الدليل قد قام على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن الله تعالى ، وعلى عصمته في التبليغ . والمعجزات شاهدات بتصديقه . فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل . وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ، ولا كانت الرسالة من أجلها ، فهو في ذلك عرضة لما يعتري البشر كالأمراض . فغير بعيد أن يخيل الله في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين . قال : وقد قال بعض الناس : إن المراد بالحديث : أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن وهذا كثير ما يقع تخيله للإنسان في المنام . فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #283
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (282)

    سُورَةُ طه
    صـ 61 إلى صـ 67




    قلت : وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ، ولفظه : " حتى كان يرى أنه يأتي النساء ، ولا يأتيهن " وفي رواية الحميدي " أنه يأتي أهله ، ولا يأتيهم " قال الداودي : " يرى " بضم أوله أي : يظن . وقال ابن التين : ضبطت " يرى " بفتح أوله . قلت : وهو من الرأي لا من الرؤية فيرجع إلى معنى الظن . وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق : سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة ، حتى أنكر بصره . وعنده في مرسل سعيد بن المسيب : حتى كاد ينكر بصره . قال عياض فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه ، لا على تمييزه ومعتقده . قلت : ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد : فقالت أخت لبيد بن الأعصم : إن يكن نبينا فسيخبر ، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله : قلت : فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح . وقد [ ص: 61 ] قال بعض العلماء : لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك ، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ، ولا يثبت . فلا يبقى على هذا للملحد حجة .

    وقال عياض : يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء ، فإذا دنا من المرأة فتر من ذلك كما هو شأن المعقود ، ويكون قوله في الرواية الأخرى " حتى كاد ينكر بصره " أي : صار كالذي أنكر بصره بحيث إنه إذا رأى الشيء يخيل إليه أنه على غير صفته . فإذا تأمله عرف حقيقته . ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به . وقال المهلب : صون النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده ، فقد مضى في الصحيح : أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته ، فأمكنه الله منه . فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض : من ضعف عن الكلام ، أو عجز عن بعض الفعل ، أو حدوث تخيل لا يستمر بل يزول . ويبطل الله كيد الشياطين .

    واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث : " أما أنا فقد شفاني الله " وفي الاستدلال به نظر . لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل : فكان يدور ، ولا يدري ما وجعه . وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد : مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأخذ عن النساء ، والطعام ، والشراب . فهبط عليه ملكان . الحديث انتهى من ( فتح الباري ) .

    وعلى كل حال فهو - صلى الله عليه وسلم - معصوم بالإجماع من كل ما يؤثر خللا في التبليغ ، والتشريع . وأما بالنسبة إلى الأعراض البشرية : كأنواع الأمراض ، والآلام ، ونحو ذلك فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يعتريهم من ذلك ما يعتري البشر . لأنهم بشر كما قال تعالى عنهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 11 ] ونحو ذلك من الآيات .

    وأما قوله تعالى : إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 47 ] فمعناه أنهم يزعمون أنه - صلى الله عليه وسلم - مسحور أو مطبوب ، قد خبله السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره . يقولون ذلك لينفروا الناس عنه . وقال مجاهد : " مسحورا " أي : مخدوعا . مثل قوله فأنى تسحرون [ 23 89 ] أي : من أين تخدعون . ومعنى هذا راجع إلى [ ص: 62 ] ما قبله . لأن المخدوع مغلوب في عقله . وقال أبو عبيدة مسحورا معناه أن له سحرا أي : رئة فهو لا يستغني عن الطعام ، والشراب ، فهو مثلكم وليس بملك . كقولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ 25 7 ] ، وقوله عن الكفار ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 33 - 34 ] ونحو ذلك من الآيات . ويقال لكل من أكل أو شرب من آدمي أو غيره : مسحور ومسحر . ومنه قول لبيد :


    فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر


    وقال امرؤ القيس :


    أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب


    أي : نغذى ونعلل .

    وإذا علمت أن أقوال العلماء في قوله " مسحورا " راجعة إلى دعواهم اختلال عقله بالسحر أو الخديعة ، أو كونه بشرا علمت أنه لا دليل في الآية على منع بعض التأثيرات العرضية التي لا تعلق لها بالتبليغ ، والتشريع كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .

    وقد أشرنا فيما تقدم لحكم ساحر أهل الذمة ، واختلاف العلماء في قتله ، واستدلال من قال بأنه لا يقتل بعدم قتله - صلى الله عليه وسلم - لبيد بن الأعصم الذي سحره . والقول بأنه قتله ضعيف ، ولم يثبت أنه قتله . وأظهر الأقوال عندنا أنه لا يكون أشد حرمة من ساحر المسلمين ، بل يقتل كما يقتل ساحر المسلمين . وأما عدم قتله - صلى الله عليه وسلم - لابن الأعصم فقد بينت الروايات الصحيحة أنه ترك قتله اتقاء إثارة فتنة ، فدل على أنه لولا ذلك لقتله . وقد ترك المنافقين لئلا يقول الناس : محمد يقتل أصحابه . فيكون في ذلك تنفير عن دين الإسلام مع اتفاق العلماء على قتل الزنديق وهو عبارة عن المنافق ، والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن سحرة فرعون لما عاينوا عصا موسى تبتلع جميع حبالهم وعصيهم خروا سجدا لله تعالى قائلين : آمنا بالله الذي هو رب هارون وموسى . فهداهم الله بذلك البرهان الإلهي ، هذه الهداية العظيمة . وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر . كقوله في " الأعراف " : وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون [ 7 117 ] ، [ ص: 63 ] وقوله في " الشعراء " : فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون [ 26 45 - 48 ] ، وقوله : فألقي يدل على قوة البرهان الذي عاينوه . كأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التي عاينوها . وذكر في قصتهم أنهم عاينوا منازلهم في الجنة في سجودهم . والظاهر أن ذلك من نوع الإسرائيليات ، وأطلق عليهم اسم السحرة في حال سجودهم لله مؤمنين به نظرا إلى حالهم الماضية . كقوله : وآتوا اليتامى أموالهم [ 4 2 ] فأطلق عليهم اسم اليتم بعد البلوغ نظرا إلى الحال الماضية كما هو معروف في محله .

    والظاهر أن تقديم هارون على موسى في هذه الآية لمراعاة فواصل الآيات .

    واعلم أن علم السحر مع خسته ، وأن الله صرح بأنه لا يضر ، ولا ينفع ، قد كان سببا لإيمان سحرة فرعون . لأنهم لمعرفتهم بالسحر عرفوا معجزة العصا خارجة عن طور السحر ، وأنها أمر إلهي فلم يداخلهم شك في ذلك . فكان ذلك سببا لإيمانهم الراسخ الذي لا يزعزعه الوعيد ، والتهديد . ولو كانوا غير عالمين بالسحر جدا ، لأمكن أن يظنوا أن مسألة العصا من جنس الشعوذة . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن سحرة فرعون لما آمنوا برب هارون وموسى قال لهم فرعون منكرا عليهم : آمنتم له أي : صدقتموه في أنه نبي مرسل من الله ، وآمنتم بالله قبل أن آذن لكم . يعني أنهم لم يكفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم ، لأنه يزعم أنهم لا يحق لهم أن يفعلوا شيئا إلا بعد إذنه هو لهم . وقال لهم أيضا : إن موسى هو كبيرهم . أي : كبير السحرة وأستاذهم الذي علمهم السحر . ثم هددهم مقسما على أنه يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ؛ يعني اليد اليمنى ، والرجل اليسرى مثلا . لأنه أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة . لأنه إن كان قطعهما من جهة واحدة يبقى عنده شق كامل صحيح ، بخلاف قطعهما من خلاف . فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد ، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم . وأنه يصلبهم في جذوع النخل ، وجذع النخلة هو أخشن جذع من جذوع الشجر ، والتصليب عليه أشد من التصليب على غيره من [ ص: 64 ] الجذوع كما هو معروف .

    وما ذكره جل وعلا عنه هنا أوضحه في غير هذا الموضع أيضا . كقوله في سورة " الشعراء " : قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين [ 26 49 ] . وذكر هذا أيضا في سورة " الأعراف " وزاد فيها التصريح بفاعل ، قال : وادعاء فرعون أن موسى ، والسحرة تمالئوا على أن يظهروا أنه غلبهم مكرا ليتعاونوا على إخراج فرعون وقومه من مصر . وذلك في قوله : قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين [ 7 123 - 124 ] " وقوله في " طه " : ولأصلبنكم في جذوع النخل يبين أن التصليب في جذوع النخل هو مراده بقوله في " الأعراف ، والشعراء " : ولأصلبنكم أجمعين [ 7 124 ، 26 49 ] . أي : في جذوع النخل ، وتعدية التصليب بـ " في " أسلوب عربي معروف ، ومنه قول سويد بن أبي كاهل :


    هم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعا


    ومعلوم عند علماء البلاغة : أن في مثل هذه الآية استعارة تبعية في معنى الحرف كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح كلامهم في ذلك ونحوه في سورة " القصص " . وقد أوضحنا في كتابنا المسمى ( منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ) . أن ما يسميه البلاغيون من أنواع المجاز مجازا كلها أساليب عربية نطقت بها العرب في لغتها . وقد بينا وجه عدم جواز المجاز في القرآن وما يترتب على ذلك من المحذور .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قال بعض أهل العلم : ولتعلمن أينا : يعني أنا ، أم رب موسى أشد عذابا وأبقى . واقتصر على هذا القرطبي . وعليه ففرعون يدعي أن عذابه أشد وأبقى من عذاب الله . وهذا كقوله : أنا ربكم الأعلى [ 79 24 ] ، وقوله : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 38 ] ، وقوله : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 29 ] . وقال بعضهم : ولتعلمن أينا أنا ، أم موسى أشد عذابا وأبقى . وعلى هذا فهو كالتهكم بموسى لاستضعافه له ، وأنه لا يقدر على أن يعذب من لم يطعه . كقوله : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين [ 43 52 ] . والله جل وعلا أعلم .

    [ ص: 65 ] واعلم أن العلماء اختلفوا : هل فعل بهم فرعون ما توعدهم به ، أو لم يفعله بهم ؟ فقال قوم : قتلهم وصلبهم . وقوم أنكروا ذلك ، وأظهرهما عندي : أنه لم يقتلهم ، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله تعالى . لأن الله يقول لموسى وهارون : أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ 28 35 ] ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا .

    قوله : لن نؤثرك أي : لن نختار اتباعك وكوننا من حزبك ، وسلامتنا من عذابك على ما جاءنا من البينات . كمعجزة العصا التي أتتنا وتيقنا صحتها . والواو في قوله والذي فطرنا عاطفة على " ما " من قوله : على ما جاءنا أي : لن نختارك على ما جاءنا من البينات ولا على والذي فطرنا أي : خلقنا وأبرزنا من العدم إلى الوجود . وقيل : هي واو القسم ، والمقسم عليه محذوف دل عليه ما قبله . أي : والذي فطرنا لا نؤثرك على ما جاءنا من البينات فاقض ما أي : اصنع ما أنت صانع . فلسنا راجعين عما نحن عليه إنما تقضي هذه الحياة الدنيا أي : إنما ينفذ أمرك فيها . فـ " هذه " منصوب على الظرف على الأصح . أي : وليس فيها شيء يهم لسرعة زوالها وانقضائها .

    وما ذكره جل وعلا عنهم في هذا الموضع : من ثباتهم على الإيمان ، وعدم مبالاتهم بتهديد فرعون ووعيده رغبة فيما عند الله قد ذكره في غير هذا الموضع . كقوله في " الشعراء " عنهم في القصة بعينها : قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون [ 26 \ 50 ] . وقوله في " الأعراف " : قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين [ 7 125 - 126 ] . وقوله : فاقض ما أنت قاض عائد الصلة محذوف ، أي : ما أنت قاضيه لأنه مخفوض بالوصف ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :


    كذاك حذف ما بوصف خفضا كأنت قاض بعد أمر من قضى


    ونظيره من كلام العرب قول سعد بن ناشب المازني :


    ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت يميني بإدراك الذي كنت طالبا


    [ ص: 66 ] أي : طالبه .
    قوله تعالى : إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون لعنه الله لما قال للسحرة ما قال لما آمنوا ، قالوا له : إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا [ 20 73 ] يعنون ذنوبهم السالفة كالكفر ، وغيره من المعاصي وما أكرهتنا عليه من السحر أي : ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر . وهذا الذي ذكره عنهم هنا أشار له في غير هذا الموضع . كقوله تعالى في " الشعراء " عنهم : إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين [ 26 50 - 51 ] وقوله عنهم في " الأعراف " : ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين [ 7 126 ] . وفي آية طه " هذا سؤال معروف ، وهو أن يقال : قولهم وما أكرهتنا عليه من السحر [ 20 73 ] يدل على أنه أكرههم عليه ، مع أنه دلت آيات أخر على أنهم فعلوه طائعين غير مكرهين ، كقوله في " طه " : فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى [ 20 62 - 63 ] . فقولهم : فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا [ 20 64 ] صريح في أنهم غير مكرهين . وكذلك قوله عنهم في " الشعراء " : قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين [ 26 41 ] وقوله في " الأعراف " : قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين [ 7 113 - 114 ] فتلك الآيات تدل على أنهم غير مكرهين .

    وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة :

    ( منها ) : أنه أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم ، فلما أكرهوا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين ، فإكراههم بالنسبة إلى أول الأمر ، وطوعهم بالنسبة إلى آخر الأمر ، فانفكت الجهة وبذلك ينتفي التعارض ، ويدل لهذا قوله : وابعث في المدائن حاشرين [ 26 36 ] وقوله : وأرسل في المدائن حاشرين [ 7 111 ] .

    ( ومنها ) : أنه كان يكرههم على تعليم أولادهم السحر في حال صغرهم ، وأن ذلك هو مرادهم بإكراههم على السحر . ولا ينافي ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا من السحر بعد تعلمهم وكبرهم طائعين .

    [ ص: 67 ] ( ومنها ) : أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائما : ففعل فوجدوه قرب عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر الساحر ! لأن الساحر إذا نام بطل سحره . فأبى إلا أن يعارضوه ، وألزمهم بذلك . فلما لم يجدوا بدا من ذلك فعلوه طائعين . وأظهرها عندي الأول ، والعلم عند الله تعالى .

    وقوله : في هذه الآية الكريمة خطايانا جمع خطيئة ، وهي الذنب العظيم . كالكفر ونحوه . والفعيلة تجمع على فعائل ، والهمزة في فعائل مبدلة من الياء في فعيلة ، ومثلها الألف ، والواو ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :


    والمد زيد ثالثا في الواحد همزا يرى في مثل كالقلائد

    فأصل خطايا " خطائي " بياء مكسورة ، وهي ياء خطيئة ، وهمزة بعدها هي لام الكلمة . ثم أبدلت الياء همزة على حد الإبدال في صحائف فصارت خطائئ بهمزتين ، ثم أبدلت الثانية ياء للزوم إبدال الهمزة المتطرفة بعد الهمزة المكسورة ياء ، فصارت خطائي ، ثم فتحت الهمزة الأولى تخفيفا فصار خطاءي ، ثم أبدلت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار خطاءا بألفين بينهما همزة ، والهمزة تشبه الألف ، فاجتمع شبه ثلاثة ألفات ، فأبدلت الهمزة ياء فصار خطايا بعد خمسة أعمال ، وإلى ما ذكرنا أشار في الخلاصة بقوله :


    وافتح ورد الهمز يا فيما أعل لاما وفي مثل هراوة جعل
    واوا . . . إلخ .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #284
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (283)

    سُورَةُ طه
    صـ 68 إلى صـ 74





    وقوله في هذه الآية الكريمة : والله خير وأبقى ظاهره المتبادر منه : أن المعنى خير من فرعون وأبقى منه . لأنه باق لا يزول ملكه ، ولا يذل ، ولا يموت ، ولا يعزل . كما أوضحنا هذا المعنى في سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : وله الدين واصبا [ 16 52 ] . أي : بخلاف فرعون ، وغيره من ملوك الدنيا فإنه لا يبقى ، بل يموت أو يعزل ، أو يذل بعد العز . وأكثر المفسرين على أن المعنى : أن ثوابه خير مما وعدهم فرعون في قوله : قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين [ 7 113 - 114 ] . وأبقى : أي : أدوم . لأن ما وعدهم به فرعون زائل ، وثواب الله باق . كما قال تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 96 ] وقال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ 87 16 ] . وقال بعض العلماء : وأبقى أي : أبقى عذابا من عذابك ، وأدوم منه . وعليه فهو رد لقول فرعون ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى [ ص: 68 ] ومعنى أبقى أكثر بقاء .
    قوله تعالى : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا .

    ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : إنه أي : الأمر والشأن من يأت ربه يوم القيامة في حال كونه مجرما أي : مرتكبا الجريمة في الدنيا حتى مات على ذلك كالكافر عياذا بالله تعالى فإن له عند الله جهنم يعذب فيها فـ لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة فيها راحة .

    وهذا الذي ذكره هنا أوضحه في غير هذا الموضع : كقوله : والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 30 36 ] وقوله تعالى : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ [ 14 15 - 17 ] وقوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [ 4 56 ] وقوله تعالى : ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا [ 87 11 - 13 ] وقوله تعالى : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون [ 43 77 ] إلى غير ذلك من الآيات . ونظير ذلك من كلام العرب قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة :


    ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم

    قوله تعالى : ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : " أن " ومن يأته يوم القيامة في حال كونه مؤمنا قد عمل الصالحات أي : في الدنيا حتى مات على ذلك فأولئك لهم عند الله الدرجات العلا والعلا : جمع عليا وهي تأنيث الأعلى . وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع . كقوله تعالى : وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 17 21 ] وقوله : ولكل درجات مما عملوا [ 6 132 ] ونحو ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة . أنه أوحى إلى نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة [ ص: 69 ] والسلام : أن يسري بعباده ، وهم بنو إسرائيل فيخرجهم من قبضة فرعون ليلا ، وأن يضرب لهم طريقا في البحر يبسا ، أي : يابسا لا ماء فيه ، ولا بلل ، وأنه لا يخاف دركا من فرعون وراءه أن يناله بسوء . ولا يخشى من البحر أمامه أن يغرق قومه . وقد أوضح هذه القصة في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " الشعراء " : وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم [ 26 52 - 63 ] .

    فقوله في " الشعراء " : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق [ 26 63 ] أي : فضربه فانفلق يوضح معنى قوله : فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا [ 20 77 ] وقوله : قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين [ 26 61 - 62 ] يوضح معنى قوله : لا تخاف دركا ولا تخشى وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله في " الدخان " : فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون [ 44 22 - 24 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقد قدمنا طرفا من ذلك في سورة " البقرة " ، والقصة معروفة واضحة من القرآن العظيم . وقرأ نافع ، وابن كثير " أن اسر " بهمزة وصل وكسر نون أن لالتقاء الساكنين ، والباقون قرءوا أن أسر بهمزة قطع مفتوحة مع إسكان نون " أن " وقد قدمنا في سورة " هود " أن أسرى وسرى لغتان وبينا شواهد ذلك العربية . وقرأ حمزة لا تخف بسكون الفاء بدون ألف بين الخاء ، والفاء ، وهو مجزوم لأنه جزاء الطلب ، أي : فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف . وقد قدمنا أن نحو ذلك من الجزم بشرط محذوف تدل عليه صيغة الطلب ، أي : أن تضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف . وعلى قراءة الجمهور " لا تخاف " بالرفع ، فلا إشكال في قوله ولا تخشى لأنه فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الألف ، معطوف على فعل مضارع مرفوع هو قوله : لا تخاف .

    وأما على قراءة حمزة " لا تخف " بالجزم ففي قوله ولا تخشى إشكال معروف ، وهو أنه معطوف على مضارع مجزوم ، وذلك يقتضي جزمه ، ولو جزم لحذفت [ ص: 70 ] الألف من تخشى على حد قوله في الخلاصة :


    واحذف جازما ثلاثهن تقض حكما لازما


    والألف لم تحذف فوقع الإشكال بسبب ذلك .

    وأجيب عنه من ثلاثة أوجه :

    الأول : أن ولا تخشى مستأنف خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : وأنت لا تخشى ، أي : ومن شأنك أنك آمن لا تخشى .

    والثاني : أن الفعل مجزوم ، والألف ليست هي الألف التي في موضع لام الكلمة ، ولكنها زيدت للإطلاق من أجل الفاصلة ، كقوله : فأضلونا السبيل [ 33 67 ] وقوله : وتظنون بالله الظنون [ 33 10 ] .

    والثالث : أن إشباع الحركة بحرف مد يناسبها أسلوب معروف من أساليب اللغة العربية ، كقول عبد يغوث بن وقاص الحارثي :


    وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا


    وقول الراجز :


    إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق


    وقول الآخر :


    قلت وقد خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجال


    وقول عنترة في معلقته :


    ينباع من ذفري غضوب جسرة زيافة مثل الفنيق المكدم


    فالأصل في البيت الأول : كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت . والأصل في الثاني ، ولا ترضها ، ولكن الفتحة أشبعت . والأصل في الثالث على الكلكال يعني الصدر ، ولكن الفتحة أشبعت . والأصل في الرابع ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته على التحقيق ، ولكن الفتحة أشبعت ، وإشباع الفتحة بألف في هذه الأبيات وأمثالها مما لم نذكره ليس لضرورة للشعر لتصريح علماء العربية بأنه أسلوب عربي معروف . ويؤيد ذلك أنه مسموع في النثر ، كقولهم في النثر : كلكال ، وخاتام ، وداناق ، يعنون كلكلا ، وخاتما ، ودانقا . وقد أوضحنا هذه المسألة ، وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا [ ص: 71 ] ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " البلد " في الكلام على قوله : لا أقسم بهذا البلد [ 90 1 ] مع قوله : وهذا البلد الأمين [ 95 3 ] وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية فاضرب لهم طريقا : فاجعل لهم طريقا ، من قولهم : ضرب له في ماله سهما ، وضرب اللبن عمله ا هـ . والتحقيق أن يبسا صفة مشبهة جاءت على فعل بفتحتين كبطل وحسن . وقال الزمخشري : اليبس مصدر وصف به . يقال : يبس يبسا ويبسا ، ونحوهما العدم ، والعدم ، ومن ثم وصف به المؤنث فقيل : شاتنا يبس ، وناقتنا يبس . إذا جف لبنها .

    وقوله : لا تخاف دركا الدرك : اسم مصدر بمعنى الإدراك ، أي : لا يدرك فرعون وجنوده ، ولا يلحقونك من ورائك ، ولا تخشى من البحر أمامك . وعلى قراءة الجمهور لا تخاف فالجملة حال من الضمير في قوله فاضرب أي : فاضرب لهم طريقا في حال كونك غير خائف دركا ، ولا خاش . وقد تقرر في علم النحو أن الفعل المضارع المنفي بلا إذا كانت جملته حالية وجب الربط فيها بالضمير وامتنع بالواو . كقوله هنا : فاضرب لهم طريقا أي : في حال كونك لا تخاف دركا ، وقوله ما لي لا أرى الهدهد [ 27 20 ] وقوله : وما لنا لا نؤمن بالله [ 5 84 ] ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :


    ولو أن قوما لارتفاع قبيلة دخلوا السماء دخلتها لا أحجب


    يعني دخلتها في حال كوني غير محجوب ، وبذلك تعلم أن قوله في الخلاصة :


    وذات بدء بمضارع ثبت حوت ضميرا ومن الواو خلت


    في مفهومه تفصيل كما هو معلوم في علم النحو .
    قوله تعالى : فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم .

    التحقيق أن أتبع واتبع بمعنى واحد . فقوله : فـ أتبعهم أي : اتبعهم ، ونظيره قوله تعالى : فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 10 ] وقوله : فأتبعه الشيطان الآية [ 7 \ 175 ] . والمعنى : أن موسى لما أسرى ببني إسرائيل ليلا أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم [ 20 \ 78 ] أي : البحر ما غشيهم أي : أغرق الله فرعون وجنوده في البحر فهلكوا عن آخرهم . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن فرعون أتبع بني إسرائيل هو وجنوده ، وأن الله أغرقهم في البحر أوضحه في غير هذا [ ص: 72 ] الموضع . وقد بين تعالى أنهم اتبعوهم في أول النهار عند إشراق الشمس ، فمن الآيات الدالة على اتباعه لهم قوله تعالى في " الشعراء " : وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون [ 26 \ 52 ] يعني سيتبعكم فرعون وجنوده . ثم بين كيفية اتباعه لهم فقال فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين [ 26 \ 53 - 62 ] .

    وقوله في هذه الآية : فأتبعوهم مشرقين أي : أول النهار عند إشراق الشمس . ومن الآيات الدالة على ذلك أيضا قوله تعالى في " يونس " : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا [ 10 \ 90 ] وقوله في " الدخان " : فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون [ 44 \ 23 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إتباعه لهم . وأما غرقه هو وجميع قومه المشار إليه بقوله هنا : فغشيهم من اليم ما غشيهم فقد أوضحه تعالى في مواضع متعددة من كتابه العزيز . كقوله في " الشعراء " : فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 63 - 67 ] وقوله في " الأعراف " : فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم [ 136 ] وقوله في " الزخرف " : فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين [ 43 \ 55 ] وقوله في " البقرة " : وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون [ 2 \ 50 ] وقوله في " يونس " : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [ 10 \ 90 ] وقوله في " الدخان " : واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون [ 44 \ 24 ] إلى غير ذلك من الآيات . والتعبير بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله فغشيهم من اليم ما غشيهم [ 20 \ 78 ] يدل على تعظيم الأمر وتفخيم شأنه ، ونظيره في القرآن قوله : إذ يغشى السدرة ما يغشى [ 53 \ 16 ] وقوله : والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى [ 53 \ 53 - 54 ] وقوله : فأوحى إلى عبده ما أوحى [ 53 \ 10 ] . واليم : البحر . والمعنى : فأصابهم من البحر ما أصابهم وهو الغرق ، والهلاك المستأصل .
    [ ص: 73 ] قوله تعالى : وأضل فرعون قومه وما هدى .

    يعني أن فرعون أضل قومه عن طريق الحق وما هداهم إليها . وهذه الآية الكريمة بين الله فيها كذب فرعون في قوله : قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد [ 40 29 ] ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود [ 11 96 - 98 ] والنكتة البلاغية في حذف المفعول في قوله وما هدى ولم يقل وما هداهم ، هي مراعاة فواصل الآيات ، ونظيره في القرآن قوله تعالى : ما ودعك ربك وما قلى [ 93 3 ] .
    قوله تعالى : يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : امتنانه على بني إسرائيل بإنجائه إياهم من عدوهم فرعون ، وأنه واعدهم جانب الطور الأيمن ، وأنه نزل عليهم المن ، والسلوى ، وقال لهم : كلوا من طيبات ما رزقناكم . ولا تطغوا فيغضب عليكم ربكم . وما ذكره هنا أوضحه في غير هذا الموضع . كقوله في امتنانه عليهم بإنجائهم من عدوهم فرعون في " سورة البقرة " : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 2 49 ] وقوله في " الأعراف " : وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 7 141 ] وقوله في " الدخان " : ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين [ 44 30 - 31 ] وقوله في سورة " إبراهيم " : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 14 6 ] وقوله في " الشعراء " كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ 26 59 ] وقوله في " الدخان " كذلك وأورثناها قوما آخرين [ 44 28 ] وقوله في " الأعراف " : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها [ 7 137 ] وقوله في " القصص " : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة إلى قوله يحذرون [ 28 6 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    [ ص: 74 ] وقوله هنا : وواعدناكم جانب الطور الأيمن [ 20 80 ] الأظهر أن ذلك الوعد هو المذكور في قوله : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر الآية [ 7 142 ] وقوله : وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة الآية [ 2 51 ] وقوله : ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا [ 20 86 ] وهو الوعد بإنزال التوراة . وقيل فيه غير ذلك .

    وقوله هنا : ونزلنا عليكم المن والسلوى قد أوضح امتنانه عليهم بذلك في غير هذا الموضع . كقوله في " البقرة " : وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى [ 2 57 ] وقوله في " الأعراف " وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى [ 7 160 ] وأكثر العلماء على أن المن : الترنجبين ، وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى ثم يتجمد ، وهو يشبه العسل الأبيض . والسلوى : طائر يشبه السمانى . وقيل هو السمانى . وهذا قول الجمهور في المن ، والسلوى . وقيل : السلوى العسل . وأنكر بعضهم إطلاق السلوى على العسل . والتحقيق : أن " السلوى " يطلق على العسل لغة . ومنه قول خالد بن زهير الهذلي :


    وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها

    يعني ألذ من العسل إذا ما نستخرجها . لأن النشور : استخراج العسل . قال مؤرج بن عمر السدوسي : إطلاق السلوى على العسل لغة كنانة . سمي به لأنه يسلي . قاله القرطبي . إلا أن أكثر العلماء على أن ذلك ليس هو المراد في الآية . واختلفوا في السلوى . هل هو جمع أو مفرد ؟ فقال بعضهم : هو جمع ، واحده سلواة ، وأنشد الخليل لذلك قول الشاعر :


    وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض السلواة من بلل القطر


    ويروى هذا البيت :


    كما انتفض العصفور بلله القطر


    وعليه فلا شاهد في البيت . وقال الكسائي : السلوى مفرد وجمعه سلاوى . وقال الأخفش : هو جمع لا واحد له من لفظه . مثل الخير والشر ، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته . كما قالوا : دفلى وسمانى وشكاعى في الواحد والجمع . والدفلى كذكرى : شجر أخضر مر حسن المنظر ، يكون في الأودية . والشكاعى كحبارى وقد تفتح : نوع من دقيق النبات صغير أخضر ، دقيق العيدان يتداوى به . والسمانى : طائر معروف .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #285
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (284)

    سُورَةُ طه
    صـ 75 إلى صـ 81




    قال مقيده - عفا الله عنه - : والأظهر عندي في المن : أنه اسم جامع لما يمن الله به على عبده من غير كد ، ولا تعب ، فيدخل فيه الترنجبين الذي من الله به على بني إسرائيل في التيه . ويشمل غير ذلك مما يماثله . ويدل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيحين : " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " .

    والأظهر عندي في السلوى : أنه طائر ، سواء قلنا إنه السمانى ، أو طائر يشبهه ، لإطباق جمهور العلماء من السلف ، والخلف على ذلك . مع أن السلوى ، يطلق لغة على العسل ، كما بينا .

    وقوله في آية " طه " هذه : كلوا من طيبات ما رزقناكم [ 20 81 ] أي : من المن ، والسلوى ، والأمر فيه للإباحة ، والامتنان .

    وقد ذكر ذلك أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله في " البقرة " وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 2 57 ] وقوله في " الأعراف " : وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 7 160 ] وقوله : كلوا في هذه الآيات مقول قول محذوف ، أي : وقلنا لهم كلوا ، والضمير المجرور في قوله : ولا تطغوا فيه راجع إلى الموصول الذي هو " ما " أي : كلوا من طيبات الذي رزقناكم ولا تطغوا فيه أي : فيما رزقناكم . ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم ، وهو أن يتعدوا حدود الله فيه بأن يكفروا نعمته به ، ويشغلهم اللهو والنعيم عن القيام بشكر نعمه ، وأن ينفقوا رزقه الذي أنعم عليهم به في المعاصي ، أو يستعينوا به على المعصية ، أو يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيه ، ونحو ذلك .

    وبين أن ذلك يسبب لهم أن يحل عليهم غضبه جل وعلا ، لأن الفاء في قوله فيحل سببية ، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها ، لأنه بعد النهي وهو طلب محض ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :


    وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وسترها حتم نصب


    وقرأ هذا الحرف الكسائي " فيحل " بضم الحاء ( ومن يحلل ) بضم اللام . والباقون قرءوا يحل بكسر الحاء و يحلل بكسر اللام . وعلى قراءة الكسائي ( فيحل ) بالضم أي : ينزل بكم غضبي . وعلى قراءة الجمهور فهو من حل يحل بالكسر : [ ص: 76 ] إذا وجب ، ومنه حل دينه إذا وجب أداؤه . ومنه ثم محلها إلى البيت العتيق [ 22 33 ] . وقوله : فقد هوى أي : هلك وصار إلى الهاوية ، وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك ، ومنه قول الشاعر :


    هوى من رأس مرقبة ففتت تحتها كبده


    ويقولون : هوت أمه ، أي : سقط سقوطا لا نهوض بعده . ومنه قول كعب بن سعد الغنوي :


    هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يود الليل حين يئوب


    ونحو هذا هو أحد التفسيرات في قوله تعالى : فأمه هاوية وعن شفي بن ماتع الأصبحي قال : إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه . قال الله تعالى : سأرهقه صعودا [ 74 17 ] وإن في جهنم قصرا يقال له هوى ، يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله ، قال الله تعالى : ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى قال القرطبي ، وابن كثير ، والله تعالى أعلم .

    واعلم أن الغضب صفة وصف الله بها نفسه إذا انتهكت حرماته ، تظهر آثارها في المغضوب عليهم . نعوذ بالله من غضبه جل وعلا . ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت فنصدق ربنا في كل ما وصف به نفسه ، ولا نكذب بشيء من ذلك ، مع تنزيهنا التام له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا . كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة " الأعراف " وقرأ حمزة ، والكسائي في هذه الآية قد أنجيتكم من عدوكم وواعدتكم بتاء المتكلم فيهما . وقرأه الباقون " وواعدناكم وأنجيناكم " بالنون الدالة على العظمة ، فصيغة الجمع في قراءة الجمهور للتعظيم . وقرأ أبو عمرو ( ووعدناكم ) بلا ألف بعد الواو الثانية بصيغة الفعل المجرد ، من الوعد لا من المواعدة مع نون التعظيم .
    قوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى .

    ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه غفار أي : كثير المغفرة لمن تاب إليه من معاصيه وكفره ، وآمن به وعمل صالحا ثم اهتدى . وقد أوضح هذا المعنى في مواضع متعددة من كتابه ، كقوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف الآية [ 8 38 ] . وقوله في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة : أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 74 ] [ ص: 77 ] وقوله تعالى : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له الآية [ 39 53 - 54 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا معنى التوبة ، والعمل الصالح .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : ثم اهتدى أي : استقام وثبت على ما ذكر من التوبة ، والإيمان ، والعمل الصالح ولم ينكث . ونظير ذلك قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [ 41 30 ] وفي الحديث : " قل آمنت بالله ثم استقم " . وقال تعالى : فاستقم كما أمرت الآية [ 11 112 ] .
    قوله تعالى : وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى .

    أشار جل وعلا في هذه الآية الكريمة إلى قصة مواعدته موسى أربعين ليلة وذهابه إلى الميقات ، واستعجاله إليه قبل قومه . وذلك أنه لما واعده ربه وجعل له الميقات المذكور ، وأوصى أخاه هارون أن يخلفه في قومه ، استعجل إلى الميقات فقال له ربه وما أعجلك عن قومك .

    الآية ، وهذه القصة التي أجملها هنا أشار لها في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك [ 7 142 ] .

    وفي هذه الآية سؤال معروف : وهو أن جواب موسى ليس مطابقا للسؤال الذي سأله ربه ، لأن السؤال عن السبب الذي أعجله عن قومه ، والجواب لم يأت مطابقا لذلك . لأنه أجاب بقوله : هم أولاء على أثري وعجلت إليك .

    وأجيب عن ذلك بأجوبة :

    ( منها ) : أن قوله : هم أولاء على أثري يعني هم قريب وما تقدمتهم إلا بيسير يغتفر مثله ، فكأني لم أتقدمهم ولم أعجل عنهم لقرب ما بيني وبينهم .

    ( ومنها ) : أن الله جل وعلا لما خاطبه بقوله وما أعجلك عن قومك داخله من الهيبة ، والإجلال ، والتعظيم لله جل وعلا ما أذهله عن الجواب المطابق . والله أعلم .

    [ ص: 78 ] وقوله هم أولاء المد فيه لغة الحجازيين . ورجحها ابن مالك في الخلاصة بقوله :

    والمد أولى .

    ولغة التميميين " أولا " بالقصر ، ويجوز دخول اللام على لغة التميميين في البعد ، ومنه قول الشاعر :


    أولالكا قومي لم يكونوا أشابة وهل يعظ الضليل إلا أولالكا


    وأما على لغة الحجازيين بالمد فلا يجوز دخول اللام عليها .
    قوله تعالى : قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري .

    الظاهر أن الفتنة المذكورة هي عبادتهم العجل . فهي فتنة إضلال . كقوله : إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء [ 7 155 ] . وهذه الفتنة بعبادة العجل جاءت مبينة في آيات متعددة . كقوله : وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون [ 2 51 ] ونحو ذلك من الآيات .

    قوله هنا : وأضلهم السامري أوضح كيفية إضلاله لهم في غير هذا الموضع . كقوله : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار إلى قوله اتخذوه وكانوا ظالمين [ 7 148 ] أي : اتخذوه إلها وقد صنعه السامري لهم من حلي القبط فأضلهم بعبادته . وقوله هنا فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي [ 20 88 ] والسامري : قيل اسمه هارون ، وقيل اسمه موسى بن ظفر ، وعن ابن عباس : أنه من قوم كانوا يعبدون البقر . وقيل : كان رجلا من القبط . وكان جارا لموسى آمن به وخرج معه . وقيل : كان عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام . قال سعيد بن جبير : كان من أهل كرمان . والفتنة أصلها في اللغة : وضع الذهب في النار ليتبين أهو خالص أم زائف . وقد أطلقت في القرآن إطلاقات متعددة :

    ( منها ) : الوضع في النار ، كقوله يوم هم على النار يفتنون [ 51 13 ] أي : يحرقون بها ، وقوله إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات الآية [ 85 10 ] . أي : أحرقوهم بنار الأخدود .

    [ ص: 79 ] ( ومنها ) : الاختبار وهو الأغلب في استعمال الفتنة . كقوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة الآية [ 64 15 ] وقوله وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 16 - 17 ] .

    ( ومنها ) : نتيجة الاختبار إذا كانت سيئة . ومن هنا أطلقت الفتنة على الشرك ، كقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 8 39 ] وقوله هنا فإنا قد فتنا قومك الآية [ 20 85 ] .

    ( ومنها ) : الحجة ، كقوله ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 23 ] أي : لم تكن حجتهم .

    وقوله تعالى في هذه الآية : وأضلهم السامري أسند إضلالهم إليه ، لأنه هو الذي تسبب فيه بصياغته لهم العجل من حلي القبط ورميه عليه التراب الذي مسه حافر الفرس التي جاء عليها جبريل ، فجعله الله بسبب ذلك عجلا جسدا له خوار ، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة : فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار وقال في " الأعراف " واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار [ 7 148 ] . والخوار : صوت البقر . قال بعض العلماء : جعل الله بقدرته ذلك الحلي المصوغ جسدا من لحم ودم ، وهذا هو ظاهر قوله عجلا جسدا .

    وقال بعض العلماء : لم تكن تلك الصورة لحما ، ولا دما ، ولكن إذا دخلت فيها الريح صوتت كخوار العجل . والأول أقرب لظاهر الآية ، والله تعالى قادر على أن يجعل الجماد لحما ودما ، كما جعل آدم لحما ودما وكان طينا .
    قوله تعالى : فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن موسى رجع إلى قومه بعد مجيئه للميقات في حال كونه في ذلك الرجوع غضبان أسفا على قومه من أجل عبادتهم العجل .

    وقوله أسفا أي : شديد الغضب . فالأسف هنا : شدة الغضب ، وعلى هذا فقوله غضبان أسفا أي : غضبان شديد الغضب . ومن إطلاق الأسف على الغضب في القرآن قوله تعالى في " الزخرف " فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين [ 43 55 ] أي : فلما أغضبونا بتماديهم في الكفر مع توالي الآيات عليهم انتقمنا منهم . وقال بعض العلماء : الأسف هنا الحزن ، والجزع . أي : رجع موسى في حال كونه غضبان [ ص: 80 ] حزينا جزعا لكفر قومه بعبادتهم للعجل . وقيل : أسفا أي : مغتاظا . وقائل هذا يقول : الفرق بين الغضب ، والغيظ : أن الله وصف نفسه بالغضب ، ولم يجز وصفه بالغيظ . حكاه الفخر الرازي . ولا يخفى عدم اتجاهه في تفسير هذه الآية ، لأنه راجع إلى القول الأول ، ولا حاجة في ذلك إلى التفصيل المذكور .

    وقوله غضبان أسفا حالان . وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحدا . كما أشار له في الخلاصة بقوله :


    والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد

    وما ذكره جل وعلا في آية " طه " هذه من كون موسى رجع إلى قومه غضبان أسفا ذكره في غير هذا الموضع ، وذكر أشياء من آثار غضبه المذكور ، كقوله في " الأعراف " : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي [ 7 150 ] . وقد بين تعالى أن من آثار غضب موسى إلقاءه الألواح التي فيها التوراة ، وأخذه برأس أخيه يجره إليه ، كما قال في " الأعراف " : وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه [ 7 150 ] وقال في " طه " مشيرا لأخذه برأس أخيه : قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي [ الآية 94 ] . وهذه الآيات فيها الدلالة على أن الخبر ليس كالعيان ، لأن الله لما أخبر موسى بكفر قومه بعبادتهم العجل كما بينه في قوله : قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري [ 20 85 ] وهذا خبر من الله يقين لا شك فيه لم يلق الألواح ، ولكنه لما عاين قومه حول العجل يعبدونه أثرت فيه معاينة ذلك أثرا لم يؤثره فيه الخبر اليقين بذلك ، فألقى الألواح حتى تكسرت ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما أصابه من شدة الغضب من انتهاك حرمات الله تعالى .

    وقال ابن كثير في تفسيره في سورة " الأعراف " : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر ، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح " .
    قوله تعالى : قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا .

    [ ص: 81 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما رجع إلى قومه ، ووجدهم قد عبدوا العجل من بعده قال لهم : ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا .

    وأظهر الأقوال عندي في المراد بهذا الوعد الحسن : أنه وعدهم أن ينزل على نبيهم كتابا فيه كل ما يحتاجون إليه من خير الدنيا ، والآخرة . وهذا الوعد الحسن المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى : وواعدناكم جانب الطور الأيمن الآية [ 20 80 ] وفيه أقوال غير ذلك .

    وقوله : أفطال عليكم العهد الاستفهام فيه للإنكار ، يعني لم يطل العهد . كما يقال في المثل : ( وما بالعهد من قدم ) . لأن طول العهد مظنة النسيان ، والعهد قريب لم يطل فكيف نسيتم ؟

    وقوله : أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم قال بعض العلماء : " أم " هنا هي المنقطعة ، والمعنى : بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ، ومعنى إرادتهم حلول الغضب : أنهم فعلوا ما يستوجب غضب ربهم بإرادتهم . فكأنهم أرادوا الغضب لما أرادوا سببه ، وهو الكفر بعبادة العجل .

    وقوله : فأخلفتم موعدي كانوا وعدوه أن يتبعوه لما تقدمهم إلى الميقات ، وأن يثبتوا على طاعة الله تعالى . فعبدوا العجل وعكفوا عليه ولم يتبعوا موسى . فأخلفوا موعده بالكفر وعدم الذهاب في أثره ، قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا قرأه نافع وعاصم " بملكنا " بفتح الميم . وقرأه حمزة ، والكسائي " بملكنا " بضم الميم ، وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو " بملكنا " بكسر الميم . والمعنى على جميع القراءات : ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا ، فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك . وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم ، ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة السامري وكيده . وهو اعتذار بارد ساقط كما ترى ! ولقد صدق من قال :


    إذا كان وجه العذر ليس ببين فإن اطراح العذر خير من العذر




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #286
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (285)

    سُورَةُ طه
    صـ 82 إلى صـ 88




    وأما على قول من قال : إن الذين قالوا لموسى : ما أخلفنا موعدك بملكنا هم الذين لم يعبدوا العجل . لأنهم وعدوه أن يتبعوه ، ولما وقع ما وقع من عبادة أكثرهم للعجل تأخروا عن اتباع موسى بسبب ذلك ، ولم يتجرءوا على مفارقتهم خوفا من الفرقة [ ص: 82 ] فالعذر له وجه في الجملة ، كما يشير إليه قوله تعالى في القصة في هذه السورة الكريمة قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي [ 20 92 ] .

    والمصدر في قوله بملكنا مضاف إلى فاعله ومفعوله محذوف ، أي : بملكنا أمرنا . وقال القرطبي : كأنه قال بملكنا الصواب بل أخطأنا . فهو اعتراف منهم بالخطأ . وقال الزمخشري : أفطال عليكم العهد : الزمان ، يريد مدة مفارقته لهم .
    تنبيه

    كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ " لم " إذا تقدمتها همزة استفهام . كقوله هنا : ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا فيه وجهان معروفان عند العلماء :

    الأول : أن مضارعته تنقلب ماضوية ، ونفيه ينقلب إثباتا . فيصير قوله : ألم يعدكم بمعنى وعدكم ، وقوله : ألم نشرح بمعنى شرحنا ، وقوله : ألم نجعل له عينين جعلنا له عينين . وهكذا . ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر ، لأن " لم " حرف قلب تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي كما هو معروف . ووجه انقلاب النفي إثباتا أن الهمزة إنكارية ، فهي مضمنة معنى النفي ، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في " لم " فينفيه ، ونفي النفي إثبات فيؤول إلى معنى الإثبات .

    الوجه الثاني : أن الاستفهام في ذلك التقرير ، وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول " بلى " وعليه فالمراد من قوله ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا حملهم على أن يقروا بذلك فيقولوا بلى هكذا . ونظير هذا من كلام العرب قول جرير :


    ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح


    فإذا عرفت أن قوله هنا فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا إلى قوله بملكنا قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد الآية [ 20 86 ] فاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا ، وكذلك بعض فعله ، ولكنه بينه في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " في القصة بعينها : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم [ 7 150 ] [ ص: 83 ] وبين بعض ما فعل بقوله في " الأعراف " : وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه [ 7 150 ] وقد أشار إلى ذلك هنا في " طه " في قوله : قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي [ 20 94 ] .
    قوله تعالى : ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي .

    قرأ هذا الحرف أبو عمرو وشعبة عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي حملنا بفتح الحاء ، والميم المخففة مبينا للفاعل مجردا . وقرأه نافع ، وابن كثير ، وابن عامر وحفص عن عاصم " حملنا " بضم الحاء وكسر الميم المشددة مبنيا للمفعول . و " نا " على القراءة الأولى فاعل " حمل " وعلى الثانية نائب فاعل " حمل " بالتضعيف . والأوزار في قوله أوزارا قال بعض العلماء : معناها الأثقال . وقال بعض العلماء : معناها الآثام . ووجه القول الأول أنها أحمال من حلي القبط الذي استعاروه منهم . ووجه الثاني أنها آثام وتبعات . لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب ، وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي ، ولأن الغنائم لم تكن تحل لهم . والتعليل الأخير أقوى .

    وقوله : من زينة القوم المراد بالزينة الحلي ، كما يوضحه قوله تعالى : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم [ 7 148 ] أي : ألقيناها وطرحناها في النار التي أوقدها السامري في الحفرة ، وأمرنا أن نطرح الحلي فيها . وأظهر الأقوال عندي في ذلك : هو أنهم جعلوا جميع الحلي في النار ليذوب فيصير قطعة واحدة . لأن ذلك أسهل لحفظه حتى يرى نبي الله موسى فيه رأيه . والسامري يريد تدبير خطة لم يطلعوا عليها . وذلك أنه لما جاء جبريل ليذهب بموسى إلى الميقات وكان على فرس ، أخذ السامري ترابا مسه حافر تلك الفرس ، ويزعمون في القصة أنه عاين موضع أثرها ينبت فيه النبات ، فتفرس أن الله جعل فيها خاصية الحياة ، فأخذ تلك القبضة من التراب واحتفظ بها ، فلما أرادوا أن يطرحوا الحلي في النار ليجعلوه قطعة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب وجعلوه فيها ، ألقى السامري عليه تلك القبضة من التراب المذكورة ، وقال له : كن عجلا جسدا له خوار . فجعله الله عجلا جسدا له خوار . فقال لهم : هذا العجل هو إلاهكم وإله موسى ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن موسى : قال فما خطبك ياسامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي [ 20 59 ] .

    [ ص: 84 ] وقوله في هذه الآية : ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم هو من بقية اعتذارهم الفاسد البارد ، وهو يدل على أن ذلك الاعتذار من الذين عبدوا العجل لا من غيرهم ، ولا يبعد معه احتمال أنه من غيرهم . لأنه ليس فيه ما يعين كون الاعتذار منهم تعينا غير محتمل . ومعلوم أن هذا العذر عذر لا وجه له على كل حال .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : فنسي أي : نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في محل آخر . قاله ابن عباس في حديث الفتون . وهو قول مجاهد . وعن ابن عباس أيضا من طريق عكرمة فنسي أي : نسي أن يذكركم به . وعن ابن عباس أيضا فنسي أي : السامري ما كان عليه من الإسلام ، وصار كافرا بادعاء ألوهية العجل وعبادته .
    قوله تعالى : أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا .

    بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة سخافة عقول الذين عبدوا العجل ، وكيف عبدوا ما لا يقدر على رد الجواب لمن سأله ، ولا يملك نفعا لمن عبده ، ولا ضرا لمن عصاه . وهذا يدل على أن المعبود لا يمكن أن يكون عاجزا عن النفع ، والضرر ورد الجواب . وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " في القصة بعينها : ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين [ 7 148 ] ولا شك أن من اتخذ من لا يكلمه ، ولا يهديه سبيلا إلها أنه من أظلم الظالمين . ونظير ذلك قوله تعالى عن إبراهيم : ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [ 19 42 ] وقوله تعالى عنه أيضا : قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون [ 26 72 ] وقوله تعالى : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها [ 7 195 ] وقوله تعالى : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 5 - 6 ] وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ 35 13 ] . وقد قدمنا [ ص: 85 ] الكلام مستوفى في همزة الاستفهام التي بعدها أداة عطف كالفاء ، والواو ، كقوله هنا : أفلا يرون فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقرأ هذا الحرف جماهير القراء ألا يرجع بالرفع لأن " أن " مخففة من الثقيلة . والدليل على أنها مخففة من الثقيلة تصريحه تعالى بالثقيلة في قوله في المسألة بعينها في " الأعراف " : ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم الآية [ 7 148 ] ورأى في آية " طه ، والأعراف " علمية على التحقيق ، لأنهم يعلمون علما يقينا أن ذلك العجل المصوغ من الحلي لا ينفع ، ولا يضر ، ولا يتكلم .

    واعلم أن المقرر في علم النحو أن : " أن " لها ثلاث حالات : الأولى أن تكون مخففة من الثقيلة قولا واحدا . ولا يحتمل أن تكون " أن " المصدرية الناصبة للفعل المضارع . وضابط هذه : أن تكون بعد فعل العلم وما جرى مجراه من الأفعال الدالة على اليقين . كقوله تعالى : أن سيكون منكم مرضى [ 73 \ 20 ] ، وقوله : ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم الآية [ 72 \ 28 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وقول الشاعر :


    واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا


    وقول الآخر :


    في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل


    وإذا جاء بعد هذه المخففة من الثقيلة فعل مضارع فإنه يرفع ، ولا ينصب كقوله :


    علموا أن يؤملون فجادوا قبل أن يسألوا بأعظم سؤل


    و " أن " هذه المخففة من الثقيلة يكون اسمها مستكنا غالبا ، والأغلب أن يكون ضمير الشأن . وقيل لا يكون إلا ضمير الشأن ، وخبرها الجملة التي بعدها ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :


    وإن تخفف أن فاسمها استكن والخبر اجعل جملة من بعد أن


    وما سمع في شعر العرب من بروز اسمها في حال كونه غير ضمير الشأن فمن ضرورة الشعر . كقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب :


    لقد علم الضيف والمرملون إذا اغبر أفق وهبت شمالا
    بأنك ربيع وغيث مربع وأنك هناك تكون الثمالا


    وقول الآخر :


    فلو أنك في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديق


    [ ص: 86 ] الحالة الثانية أن تكون محتملة لكونها المصدرية الناصبة للمضارع . ومحتملة لأن تكون هي المخففة من الثقيلة .

    وإن جاء بعدها فعل مضارع جاز نصبه للاحتمال الأول ، ورفعه للاحتمال الثاني ، وعليه القراءتان السبعيتان في قوله وحسبوا ألا تكون فتنة [ 5 ] ، بنصب " تكون " ورفعه ، وضابط " أن " هذه أن تكون بعد فعل يقتضي الظن ونحوه من أفعال الرجحان . وإذا لم يفصل بينها وبين الفعل فاصل فالنصب أرجح ، ولذا اتفق القراء على النصب في قوله تعالى أحسب الناس أن يتركوا الآية [ 29 \ 2 ] وقيل : إن " أن " الواقعة بعد الشك ليس فيها إلا النصب . نقله الصبان في حاشيته عن أبي حيان بواسطة نقل السيوطي .

    الحالة الثالثة : أن تكون " أن " ليست بعد ما يقتضي اليقين ، ولا الظن ولم يجر مجراهما ، فهي المصدرية الناصبة للفعل المضارع قولا واحدا . وإلى الحالات الثلاث المذكورة أشار بقوله في الخلاصة :


    وبلن انصبه وكي كذا بأن لا بعد علم والتي من بعد ظن
    فانصب بها والرفع صحح واعتقد تخفيفها من أن فهو مطرد


    تنبيه

    قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة : وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلها . لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطا بشروط كثيرة ، ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط ، ولكن حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط انتهى كلامه .

    وما ذكره مقرر في الأصول . فكل ما توقف على شرطين فصاعدا لا يحصل إلا بحصول جميع الشروط . فلو قلت لعبدك : إن صام زيد وصلى وحج فأعطه دينارا . لم يجز له إعطاؤه الدينار إلا بالشروط الثلاثة . ومحل هذا ما لم يكن تعليق الشروط على سبيل البدل فإنه يكفي فيه واحد . فلو قلت لعبدك : إن صام زيد أو صلى فأعطه درهما . فإنه يستوجب إعطاء الدرهم بأحد الأمرين . وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود في مبحث المخصصات المتصلة بقوله :


    وإن تعلق على شرطين شيء فبالحصول للشرطين وما على البدل قد تعلقا
    فبحصول واحد تحققا



    وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : وقد تقدم في حديث الفتون عن [ ص: 87 ] الحسن البصري : أن هذا العجل اسمه يهموت . وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة : أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل ، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير ، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر : أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب . يعني هل يصلي فيه أم لا ؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما : انظروا إلى أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( يعني الحسين رضي الله عنه ) وهم يسألون عن دم البعوضة انتهى منه .
    قوله تعالى : ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى .

    بين جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين : أن بني إسرائيل لما فتنهم السامري وأضلهم بعبادة العجل ، نصحهم نبي الله هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وبين لهم أن عبادتهم العجل فتنة فتنوا بها . أي : كفر وضلال ارتكبوه بذلك ، وبين لهم أن ربهم الرحمن خالق كل شيء جل وعلا ، وأن عجلا مصطنعا من حلي لا يعبده إلا مفتون ضال كافر . وأمرهم باتباعه في توحيد الله تعالى ، والوفاء بموعد موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام وأن يطيعوه في ذلك . فصارحوه بالتمرد ، والعصيان ، والديمومة على الكفر حتى يرجع موسى . وهذا يدل على أنه بلغ معهم غاية جهده وطاقته ، وأنهم استضعفوه وتمردوا عليه ولم يطيعوه .

    وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله في " الأعراف " : قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين [ 7 \ 150 ] ، . فقوله عنهم في خطابهم له لن نبرح عليه عاكفين يدل على استضعافهم له وتمردهم عليه المصرح به في " الأعراف " كما بينا . وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات الكريمات ما نصه : وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي : ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية ؟ واعلم حرس الله مدته : أنه اجتمع جماعة من رجال فيكثرون من ذكر الله تعالى وذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم ، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه ، ويحضرون شيئا يأكلونه . هل الحضور معهم جائز أم لا ؟ أفتونا مأجورين . وهذا القول الذي يذكرونه :

    يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل

    [ ص: 88 ]
    واعمل لنفسك صالحا ما دام ينفعك العمل أما الشباب فقد مضى
    ومشيب رأسك قد نزل


    وفي مثل هذا ونحوه الجواب يرحمك الله : مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة ، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وأما الرقص ، والتواجد : فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار ، قاموا يرقصون حواليه ، ويتواجدون ، فهو دين الكفار وعبادة العجل . وأما القضيب : فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى . وإنما كان يجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطير من الوقار . فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من حضور المساجد ، وغيرها . ولا يحل لأحد أن يؤمن بالله ، واليوم الآخر أن يحضر معهم ، ولا أن يعينهم على باطلهم . هذا مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق انتهى منه بلفظه .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد قدمنا في سورة " مريم " ما يدل على أن بعض الصوفية على الحق . ولا شك أن منهم من هو على الطريق المستقيم من العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وبذلك عالجوا أمراض قلوبهم وحرسوها ، وراقبوها وعرفوا أحوالها ، وتكلموا على أحوال القلوب كلاما مفصلا كما هو معلوم ، كعبد الرحمن بن عطية ، أو ابن أحمد بن عطية ، أو ابن عسكر أعني أبا سليمان الداراني ، وكعون بن عبد الله الذي كان يقال له حكم الأمة ، وأضرابهما ، وكسهل بن عبد الله التستري ، أبي طالب المكي ، وأبي عثمان النيسابوري ، ويحيى بن معاذ الرازي ، والجنيد بن محمد ، ومن سار على منوالهم ، لأنهم عالجوا أمراض أنفسهم بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يحيدون عن العمل بالكتاب ، والسنة ظاهرا وباطنا ، ولم تظهر منهم أشياء تخالف الشرع . فالحكم بالضلال على جميع الصوفية لا ينبغي ، ولا يصح على إطلاقه ، والميزان الفارق بين الحق ، والباطل في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . فمن كان منهم متبعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله ، وهديه وسمته ، كمن ذكرنا وأمثالهم ، فإنهم من جملة العلماء العاملين ، ولا يجوز الحكم عليهم بالضلال . وأما من كان على خلاف ذلك فهو الضال .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #287
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ




    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (286)

    سُورَةُ طه
    صـ 89 إلى صـ 95



    نعم ، صار المعروف في الآونة الأخيرة ، وأزمنة كثيرة قبلها بالاستقراء ، أن عامة الذين يدعون التصوف في أقطار الدنيا إلا من شاء الله منهم دجاجلة يتظاهرون بالدين ليضلوا العوام الجهلة وضعاف العقول من طلبة العلم ، ليتخذوا بذلك أتباعا وخدما ، [ ص: 89 ] وأموالا وجاها ، وهم بمعزل عن مذهب الصوفية الحق ، لا يعملون بكتاب الله ، ولا بسنة نبيه ، واستعمارهم لأفكار ضعاف العقول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين . فيجب التباعد عنهم ، والاعتصام من ضلالتهم بكتاب الله وسنة نبيه ، ولو ظهر على أيديهم بعض الخوارق ، ولقد صدق من قال :


    إذا رأيت رجلا يطير وفوق ماء البحر قد يسير
    ولم يقف عند حدود الشرع فإنه مستدرج أو بدعي


    والقول الفصل في ذلك هو قوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا [ 4 \ 123 ] ، فمن كان عمله مخالفا للشرع كمتصوفة آخر الزمان فهو الضال . ومن كان عمله موافقا لما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام فهو المهتدي . نرجو الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المؤمنين ، وألا يزيغنا ، ولا يضلنا عن العمل بكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - التي هي محجة بيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك .
    قوله تعالى : قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني .

    قال بعض أهل العلم : " لا " في قوله : ألا تتبعني زائدة للتوكيد . واستدل من قال ذلك بقوله تعالى في " الأعراف " : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، قال لأن المراد : ما منعك أن تسجد إذ أمرتك . بدليل قوله في القصة بعينها في سورة " ص " : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي الآية [ 38 ] . فحذف لفظة " لا " في " ص " مع ثبوتها في " الأعراف " ، والمعنى واحد . فدل ذلك على أنها مزيدة للتوكيد .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد عرف في اللغة العربية أن زيادة لفظة " لا " في الكلام الذي فيه معنى الجحد لتوكيده مطردة . كقوله هنا : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أي : ما منعك أن تتبعني ، وقوله : ما منعك أن تسجد بدليل قوله في " ص " : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي الآية ، وقوله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله الآية [ 57 \ 29 ] . أي : ليعلم أهل الكتاب ، وقوله فلا وربك لا يؤمنون [ 4 \ 65 ] ، أي فوربك لا يؤمنون ، وقوله : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة [ 41 ] ، [ ص: 90 ] أي : والسيئة ، وقوله : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ 21 \ 95 ] ، على أحد القولين ، وقوله : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] ، على أحد القولين ، وقوله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا الآية [ 6 \ 151 ] على أحد الأقوال فيها .

    ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس :


    فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر


    يعني فوأبيك . وقول أبي النجم :


    فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا


    يعني أن تسخر ، وقول الآخر :


    ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر


    يعني وعمر . وقول الآخر :


    وتلحينني في اللهو ألا أحبه وللهو داع دائب غير غافل


    يعني أن أحبه ، و " لا " مزيدة في جميع الأبيات لتوكيد الجحد فيها . وقال الفراء : إنها لا تزاد إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد كالأمثلة المتقدمة . والمراد بالجحد النفي وما يشبه كالمنع في قوله : ما منعك [ 20 \ 89 ] ، ونحو ذلك . والذي يظهر لنا ، والله تعالى أعلم . أن زيادة لفظة " لا " لتوكيد الكلام وتقويته أسلوب من أساليب اللغة العربية ، وهو في الكلام الذي فيه معنى الجحد أغلب مع أن ذلك مسموع في غيره . وأنشد الأصمعي لزيادة " لا " قول ساعدة الهذلي :


    أفعنك لا برق كأن وميضه غاب تسنمه ضرام مثقب


    ويروى " أفمنك " بدل " أفعنك " و " تشيمه " بدل " تسنمه " يعني أعنك برق بـ " لا " زائدة للتوكيد ، والكلام ليس فيه معنى الجهد . ونظيره قول الآخر :


    تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع


    يعني كاد يتقطع . وأنشد الجوهري لزيادة " لا " قول العجاج :


    في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح جشر


    والحور الهلكة . يعني في بئر هلكة ، ولا زائدة للتوكيد . قاله أبو عبيدة ، وغيره . [ ص: 91 ] والكلام ليس فيه معنى الجحد . وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " البلد " .
    قوله تعالى : أفعصيت أمري .

    الظاهر أن أمره المذكور في هذه الآية هو المذكور في قوله تعالى : وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين [ 7 \ 142 ] .

    وهذه الآية الكريمة تدل على اقتضاء الأمر للوجوب . لأنه أطلق اسم المعصية على عدم امتثال الأمر ، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة : كقوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] ، وقوله : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] ، فجعل أمره وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - مانعا من الاختيار ، موجبا للامتثال . وقوله تعالى : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، فوبخه هذا التوبيخ الشديد على عدم امتثال الأمر المدلول عليه بصيغة افعل في قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 20 \ 116 ] ، . وجماهير الأصوليين على أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب للأدلة التي ذكرنا ، وغيرها مما هو مماثل لها . وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله :


    وافعل لدى الأكثر للوجوب وقيل للندب أو المطلوب


    . . إلخ .
    قوله تعالى : قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن هارون قاله لأخيه موسى ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي وذلك يدل على أنه لشدة غضبه أراد أن يمسك برأسه ولحيته . وقد بين تعالى في " الأعراف " أنه أخذ برأسه يجره إليه . وذلك في قوله : وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن [ 7 \ 150 ] ، . وقوله : ولم ترقب قولي [ 20 \ 94 ] ، من بقية كلام هارون . أي : خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ، وأن تقول لي لم ترقب قولي أي : لم تعمل بوصيتي وتمتثل أمري .
    [ ص: 92 ] تنبيه

    هذه الآية الكريمة بضميمة آية " الأنعام " إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية ، فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها . وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى : ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون الآية [ 6 \ 84 ] . ثم إنه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 ] ، فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم ، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك أمر لنا . لأن أمر القدوة أمر لأتباعه كما بينا إيضاحه بالأدلة القرآنية في هذا الكتاب المبارك في سورة " المائدة " وقد قدمنا هناك : أنه ثبت في صحيح البخاري : أن مجاهدا سأل ابن عباس : من أين أخذت السجدة في " ص " قال : أو ما تقرأ ومن ذريته داود [ 6 \ 84 ] ، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 ] ، فسجدها داود فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم في سورة " الأنعام " ، وعلمت أن أمره أمر لنا . لأن لنا فيه الأسوة الحسنة ، وعلمت أن هارون كان موفرا شعر لحيته بدليل قوله لأخيه : لا تأخذ بلحيتي لأنه لو كان حالقا لما أراد أخوه الأخذ بلحيته تبين لك من ذلك بإيضاح : أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن العظيم ، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم . والعجب من الذين مضخت ضمائرهم ، واضمحل ذوقهم ، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية ، وشرف الرجولة ، إلى خنوثة الأنوثة ، ويمثلون بوجوههم بحلق أذقانهم ، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر ، والأنثى وهو اللحية . وقد كان - صلى الله عليه وسلم - كث اللحية ، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة . والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر ، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها : ليس فيهم حالق . نرجو الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقا ، ويرزقنا اتباعه ، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه .

    أما الأحاديث النبوية الدالة على إعفاء اللحية ، فلسنا بحاجة إلى ذكرها لشهرتها بين الناس ، وكثرة الرسائل المؤلفة في ذلك . وقصدنا هنا أن نبين دليل ذلك من القرآن . وإنما قال هارون لأخيه قال ياابن أم لأن قرابة الأم أشد عطفا وحنانا من قرابة الأب .

    وأصله يا ابن أمي بالإضافة إلى ياء المتكلم ، ويطرد حذف الياء وإبدالها ألفا وحذف الألف المبدلة منها كما هنا ، وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله :


    وفتح أو كسر وحذف اليا استمر في يا بن أم يا بن عم لا مفر

    [ ص: 93 ] وأما ثبوت ياء المتكلم فيقول حرملة بن المنذر :


    يا ابن أمي ويا شقيقي نفسي أنت خليتني لدهر شديد


    فلغة قليلة . وقال بعضهم : هو لضرورة الشعر . وقوله " يا ابن أم " قرأه ابن عامر وشعبة عن عاصم وحمزة ، والكسائي بكسر الميم . وقرأه الباقون بفتحها . وكذلك قوله في " الأعراف " : قال ابن أم إن القوم [ 7 \ 150 ] .
    قوله تعالى : إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما .

    بين جل وعلا في هذه الآية : أن العجل الذي صنعه السامري من حلي القبط لا يمكن أن يكون إلاها ؟ وذلك لأنه حصر الإله أي : المعبود بحق بـ إنما التي هي أداة حصر على التحقيق في خالق السماوات ، والأرض . الذي لا إله إلا هو . أي : لا معبود بالحق إلا هو وحده جل وعلا ، وهو الذي وسع كل شيء علما . وقوله علما تمييز محول عن الفاعل ، أي : وسع علمه كل شيء .

    وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة : من أنه تعالى هو الإله المعبود بحق دون غيره ، وأنه وسع كل شيء علما ذكره في آيات كثيرة من كتابه تعالى . كقوله تعالى : الله لا إله إلا هو الآية [ 3 \ 2 ] ، وقوله : فاعلم أنه لا إله إلا الله الآية [ 47 \ 19 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في إحاطة علمه بكل شيء : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] ، وقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ 6 \ 59 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
    قوله تعالى : كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق .

    الكاف في قوله كذلك في محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : نقص عليك من أنباء ما سبق قصصا مثل ذلك القصص الحسن الحق الذي قصصنا عليك عن موسى وهارون ، وعن موسى وقومه ، والسامري . والظاهر أن " من " في قوله من أنباء ما قد سبق للتبعيض ، ويفهم من ذلك أن بعضهم لم يقصص عليه خبره ويدل لهذا [ ص: 94 ] المفهوم قوله تعالى في سورة " النساء " : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك [ 4 \ 164 ] ، وقوله في سورة " المؤمن " : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك [ 40 \ 78 ] ، قوله في سورة " إبراهيم " ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات [ 14 \ 9 ] ، . والأنباء : جمع نبأ وهو الخبر الذي له شأن .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه قص على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أخبار الماضين . أي : ليبين بذلك صدق نبوته ، لأنه أمي لا يكتب ، ولا يقرأ الكتب ، ولم يتعلم أخبار الأمم وقصصهم . فلولا أن الله أوحى إليه ذلك لما علمه . بينه أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله في " آل عمران " : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون [ 3 \ 44 ] ، أي : فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما كان لك علم به . وقوله تعالى في سورة " هود " تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين [ 11 \ 49 ] ، وقوله في " هود " أيضا : وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك الآية [ 11 \ 120 ] . وقوله تعالى في سورة " يوسف " : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون [ 12 \ 102 ] ، وقوله في " يوسف " أيضا : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] ، وقوله في " القصص " : وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر [ 28 \ 44 ] ، وقوله فيها : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا [ 28 \ 46 ] ، وقوله : وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا [ 28 \ 45 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . يعني لم تكن حاضرا يا نبي الله لتلك الوقائع ، فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما علمته . وقوله من أنباء ما قد سبق أي : أخبار ما مضى من أحوال الأمم ، والرسل .
    قوله تعالى : وقد آتيناك من لدنا ذكرا .

    أي : أعطيناك من عندنا ذكرا وهو هذا القرآن العظيم ، وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله . كقوله : وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون [ 21 \ 50 ] ، وقوله تعالى : ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم [ 3 \ 58 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 95 ] ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون [ 21 \ 2 ] ، وقوله : وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون [ 15 \ 6 ] ، وقوله تعالى : ص والقرآن ذي الذكر [ 38 ] ، وقوله تعالى : وإنه لذكر لك ولقومك الآية [ 43 \ 44 ] وقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة : ثم في تسمية القرآن بالذكر وجوه :

    أحدها : أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم .

    وثانيها : أنه يذكر أنواع آلاء الله ونعمائه تعالى . ففيه التذكير ، والمواعظ .

    وثالثها : أنه فيه الذكر ، والشرف لك ولقومك على ما قال : وإنه لذكر لك ولقومك [ 43 \ 44 ] ، .

    واعلم أن الله تعالى سمى كل كتبه ذكرا فقال : فاسألوا أهل الذكر [ 21 \ 7 ] ، ا ه المراد من كلام الرازي .

    ويدل للوجه الثاني في كلامه قوله تعالى :

    كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] ، وقوله تعالى : وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا . [ 20 \ 113 ] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #288
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (287)

    سُورَةُ طه
    صـ 96 إلى صـ 102




    وقوله تعالى : من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من أعرض عن هذا الذكر الذي هو القرآن العظيم ، أي : صد وأدبر عنه ، ولم يعمل بما فيه من الحلال ، والحرام ، والآداب ، والمكارم ، ولم يعتقد ما فيه من العقائد ويعتبر بما فيه من القصص ، والأمثال ، ونحو ذلك فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : يريد بالوزر العقوبة الثقيلة الباهظة . سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها ، بالحمل الذي يفدح الحامل وينقض ظهره ، ويلقي عليه بوزره . أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد دلت آيات كثيرة من كتاب الله : على أن المجرمين يأتون يوم القيامة يحملون أوزارهم . أي : أثقال ذنوبهم على ظهورهم . كقوله في [ ص: 96 ] سورة " الأنعام " : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون [ 6 \ 31 ] ، وقوله في " النحل " : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون [ 16 \ 25 ] ، وقوله في " العنكبوت " : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 29 \ 13 ] ، وقوله في " فاطر " : ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 \ 18 ] ، .

    وبهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تعلم أن معنى قوله تعالى : فإنه يحمل يوم القيامة وزرا [ 20 \ 100 ] ، وقوله : وساء لهم يوم القيامة حملا [ 20 \ 101 ] ، أن المراد بذلك الوزر المحمول أثقال ذنوبهم وكفرهم يأتون يوم القيامة يحملونها : سواء قلنا إن أعمالهم السيئة تتجسم في أقبح صورة وأنتنها ، أو غير ذلك كما تقدم إيضاحه . والعلم عند الله . وقد قدمنا عمل " ساء " التي بمعنى بئس مرارا . فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

    وقوله تعالى : خالدين فيه . قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : خالدين فيه يريد مقيمين فيه ، أي : في جزائه ، وجزاؤه جهنم .

    تنبيه

    إفراد الضمير في قوله : أعرض وقوله : فإنه وقوله : يحمل باعتبار لفظ " من " وأما جمع خالدين وضمير لهم يوم القيامة فباعتبار معنى من . كقوله : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها [ 20 \ 101 ] ، وقوله : ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا الآية [ 72 \ 23 ] .

    وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : اللام في " لهم " ما هي ؟ وبم تتعلق ؟ قلت : هي للبيان كما في هيت لك . [ 12 \ 23 ] .
    قوله تعالى : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنهم يسألونه عن الجبال ، وأمره أن يقول لهم : [ ص: 97 ] إن ربه ينسفها نسفا ، وذلك بأن يقلعها من أصولها ، ثم يجعلها كالرمل المتهايل الذي يسيل ، وكالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا .

    واعلم أنه جل وعلا بين الأحوال التي تصير إليها الجبال يوم القيامة في آيات من كتابه . فبين أنه ينزعها من أماكنها ويحملها فيدكها دكا . وذلك في قوله : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة [ 69 \ 13 - 14 ] ، .

    ثم بين أنه يسيرها في الهواء بين السماء والأرض . وذلك في قوله ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون [ 27 \ 87 - 88 ] ، وقوله : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة الآية [ 18 \ 47 ] وقوله : وإذا الجبال سيرت [ 81 \ 3 ] ، وقوله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، وقوله تعالى : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 9 - 10 ] ، .

    ثم بين أنه يفتتها ويدقها كقوله وبست الجبال بسا أي : فتتت حتى صارت كالبسيسة ، وهي دقيق ملتوت بسمن أو نحوه على القول بذلك ، وقوله : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة [ 69 \ 14 ] ، .

    ثم بين أنه يصيرها كالرمل المتهايل ، وكالعهن المنفوش ؟ وذلك في قوله : يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا [ 73 \ 14 ] ، وقوله تعالى : يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن [ 70 \ 9 ] ، في " المعارج ، والقارعة " . والعهن : الصوف المصبوغ . ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :


    كأن فتات العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم


    ثم بين أنها تصير كالهباء المنبث في قوله : وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا [ 56 \ 5 - 6 ] ، ثم بين أنها تصير سرابا ، وذلك في قوله : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، وقد بين في موضع آخر : أن السراب لا شيء . وذلك قوله تعالى : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] ، وبين أنه ينسفها نسفا في قوله هنا : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [ 20 \ 105 ] ، .
    تنبيه

    [ ص: 98 ] جرت العادة في القرآن : أن الله إذا قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : يسألونك قال له قل بغير فاء . كقوله : ويسألونك عن الروح قل الروح الآية [ 17 \ 85 ] وقوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير الآية [ 2 \ 219 ] وقوله : يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير الآية [ 2 \ 215 ] وقوله يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات الآية [ 5 \ 4 ] وقوله : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير [ 2 \ 217 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، أما في آية " طه " هذه فقال فيها : فقل ينسفها [ 20 \ 105 ] بالفاء . وقد أجاب القرطبي عن هذا في تفسير هذه الآية بما نصه : ويسألونك عن الجبال أي : عن حال الجبال يوم القيامة ، فقل . جاء هذا بفاء ، وكل سؤال في القرآن " قل " بغير فاء إلا هذا ؛ لأن المعنى : إن سألوك عن الجبال فقل ، فتضمن الكلام معنى الشرط ، وقد علم الله أنهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال . وتلك أسئلة تقدمت ، سألوا عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء الجواب عقب السؤال . فلذلك كان بغير فاء . وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد فتفهمه انتهى منه . وما ذكره يحتاج إلى دليل ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا .

    الضمير في قوله : فيذرها فيه وجهان معروفان عند العلماء :

    أحدهما : أنه راجع إلى الأرض وإن لم يجر لها ذكر . ونظير هذا القول في هذه الآية قوله تعالى : ما ترك على ظهرها من دابة [ 35 \ 45 ] ، وقوله : ما ترك عليها من دابة [ 16 \ 16 ] ، فالضمير فيهما راجع إلى الأرض ولم يجر لها ذكر . وقد بينا شواهد ذلك من العربية ، والقرآن بإيضاح في سورة " النحل " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

    والثاني : أنه راجع إلى منابت الجبال التي هي مراكزها ومقارها لأنها مفهومة من ذكر الجبال . والمعنى : فيذر مواضعها التي كانت مستقرة فيها من الأرض قاعا صفصفا . والقاع : المستوي من الأرض . وقيل : مستنقع الماء . والصفصف : المستوي الأملس [ ص: 99 ] الذي لا نبات فيه ، ولا بناء ، فإنه على صف واحد في استوائه . وأنشد لذلك سيبويه قول الأعشى :


    وكم دون بيتك من صفصف ودكداك رمل وأعقادها


    ومنه قول الآخر :


    وملمومة شهباء لو قذفوا بها شماريخ من رضوى إذا عاد صفصفا


    وقوله : لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ 20 \ 107 ] ، أي : لا اعوجاج فيها ، ولا أمت . والأمت : النتوء اليسير . أي : ليس فيها اعوجاج ، ولا ارتفاع بعضها على بعض ، بل هي مستوية ، ومن إطلاق الأمت بالمعنى المذكور قول لبيد :


    فاجرمزت ثم سارت وهي لاهية في كافر ما به أمت ، ولا شرف


    وقول الآخر :


    فأبصرت لمحة من رأس عكرشة في كافر ما به أمت ولا عوج


    والكافر في البيتين : قيل الليل . وقيل المطر ، لأنه يمنع العين من رؤية الارتفاع ، والانحدار في الأرض .

    وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : قد فرقوا بين العوج ، والعوج فقالوا . العوج بالكسر في المعاني ، والعوج بالفتح في الأعيان . والأرض عين ، فكيف صح فيها المكسور العين ؟

    قلت اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء ، والملاسة ، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون . وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها ، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة ، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط ، ثم استطلعت رأي المهندس فيها ، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر ، ولكن بالقياس الهندسي ، فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك ، اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير ، والهندسة ، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه : عوج بالكسر ، والأمت : النتوء اليسير ، يقال : مد حبله حتى ما فيه أمت . انتهى منه . وقد قدمنا في أول سورة الكهف ما يغني عن هذا الكلام الذي ذكره ، والعلم عند الله تعالى .
    [ ص: 100 ] قوله تعالى : يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا .

    قوله يومئذ أي : يوم إذ نسفت الجبال يتبعون الداعي . والداعي : هو الملك الذي يدعوهم إلى الحضور للحساب . قال بعض أهل العلم : يناديهم أيتها العظام النخرة ، والأوصال المتفرقة ، واللحوم المتمزقة ، قومي إلى ربك للحساب ، والجزاء ، فيسمعون الصوت ويتبعونه . ومعنى لا عوج له : أي : لا يحيدون عنه ، ولا يميلون يمينا ، ولا شمالا . وقيل : لا عوج لدعاء الملك عن أحد ، أي : لا يعدل بدعائه عن أحد ، بل يدعوهم جميعا . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من اتباعهم للداعي للحساب ، وعدم عدولهم عنه بينه في غير هذا الموضع ، وزاد أنهم يسرعون إليه كقوله تعالى فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 6 - 8 ] ، والإهطاع : الإسراع : وقوله تعالى : واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج [ 50 \ 41 - 42 ] ، وقوله تعالى : يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده الآية [ 17 \ 52 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وخشعت الأصوات للرحمن أي : خفضت وخفتت ، وسكنت هيبة لله ، وإجلالا وخوفا فلا تسمع في ذلك اليوم صوتا عاليا ، بل لا تسمع إلا همسا أي : صوتا خفيا خافتا من شدة الخوف . أو إلا همسا أي : إلا صوت خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر ، والهمس يطلق في اللغة على الخفاء ، فيشمل خفض الصوت وصوت الأقدام . كصوت أخفاف الإبل في الأرض التي فيها يابس النبات ، ومنه قول الراجز :


    وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا


    وما ذكره جل وعلا هنا أشار له في غير هذا الموضع ، كقوله : رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ 78 \ 37 ] .

    وقوله هنا : يومئذ لا تنفع الشفاعة الآية ، قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في " مريم " ، وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
    [ ص: 101 ] قوله تعالى : وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما .

    قوله : عنت أي : ذلت وخضعت . تقول العرب : عنا يعنو عنوا وعناء : إذ ذل وخضع ، وخشع . ومنه قيل للأسير عان لذله وخضوعه لمن أسره . ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :


    مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد


    وقوله أيضا :


    وعنا له وجهي وخلقي كله في الساجدين لوجهه مشكورا


    واعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية الكريمة ، فقال بعضهم : المراد بالوجوه التي ذلت وخشعت للحي القيوم : وجوه العصاة خاصة وذلك يوم القيامة : وأسند الذل ، والخشوع لوجوههم ، لأن الوجه تظهر فيه آثار الذل ، والخشوع . ومما يدل على هذا المعنى من الآيات القرآنية قوله تعالى : فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا الآية [ 67 \ 27 ] وقوله : ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة [ 75 \ 24 ] ، وقوله تعالى : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية [ 88 \ 2 - 4 ] ، ، وعلى هذا القول انتصر الزمخشري واستدل له ببعض الآيات المذكورة .

    وقال بعض العلماء وعنت الوجوه : أي : ذلت وخضعت وجوه المؤمنين لله في دار الدنيا ، وذلك بالسجود ، والركوع . وظاهر القرآن يدل على أن المراد الذل والخضوع لله يوم القيامة ، لأن السياق في يوم القيامة ، وكل الخلائق تظهر عليهم في ذلك اليوم علامات الذل ، والخضوع لله جل وعلا .

    وقوله في هذه الآية : وقد خاب من حمل ظلما قال بعض العلماء : أي : خسر من حمل شركا . وتدل لهذا القول الآيات القرآنية الدالة على تسمية الشرك ظلما . كقوله : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] ، وقوله : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] ، وقوله : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] ، وقوله : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية [ 6 \ 82 ] إلى غير ذلك من الآيات ، والأظهر أن الظلم في قوله : وقد خاب من حمل ظلما [ 20 \ 111 ] ، يعم الشرك ، وغيره من المعاصي . وخيبة كل ظالم بقدر ما حل من الظلم ، والعلم عند الله تعالى .

    [ ص: 102 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : للحي القيوم الحي : المتصف بالحياة الذي لا يموت أبدا . والقيوم صيغة مبالغة . لأنه جل وعلا هو القائم بتدبير شئون جميع الخلق . وهو القائم على كل نفس بما كسبت . وقيل : القيوم الدائم الذي لا يزول .
    قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن بربه فإنه لا يخاف ظلما ، ولا هضما . وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع . كقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] ، وقوله : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 60 \ 44 ] ، وقوله تعالى : ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، كما قدمنا ذلك .

    وفرق بعض أهل العلم بين الظلم ، والهضم بأن الظلم المنع من الحق كله . والهضم : النقص والمنع من بعض الحق . فكل هضم ظلم ، ولا ينعكس . ومن إطلاق الهضم على ما ذكر قول المتوكل الليثي :


    إن الأذلة واللئام لمعشر مولاهم المنهضم المظلوم


    فالمنهضم : اسم مفعول تهضمه إذا اهتضمه في بعض حقوقه وظلمه فيها .

    وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير بربه فلا يخاف [ 20 \ 111 ] ، بضم الفاء وبألف بعد الخاء مرفوعا ، ولا نافية . أي : فهو لا يخاف ، أو فإنه لا يخاف . وقرأه ابن كثير " فلا يخف " بالجزم من غير ألف بعد الخاء . وعليه فـ " لا " ناهية جازمة المضارع . وقول القرطبي في تفسيره : إنه على قراءة ابن كثير مجزوم . لأنه جواب لقوله ومن يعمل غلط منه . لأن الفاء في قوله فلا يخاف مانعة من ذلك . والتحقيق هو ما ذكرنا من أن " لا " ناهية على قراءة ابن كثير ، والجملة الطلبية جزاء الشرط ، فيلزم اقترانها بالفاء . لأنها لا تصلح فعلا للشرط كما قدمناه مرارا .
    قوله تعالى : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد .

    الآية ، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #289
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (288)

    سُورَةُ طه
    صـ 103 إلى صـ 109




    قوله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما

    .

    [ ص: 103 ] كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه - صلى الله عليه وسلم - من شدة حرصه على حفظ القرآن . فأرشده الله في هذه الآية إلى ما ينبغي . فنهاه عن العجلة بقراءة القرآن مع جبريل ، بل أمره أن ينصت لقراءة جبريل حتى ينتهي ، ثم يقرؤه هو بعد ذلك ، فإن الله ييسر له حفظه . وهذا المعنى المشار إليه في هذه الآية أوضحه الله في غير هذا الموضع . كقوله في " القيامة " : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 16 - 19 ] ، وقال البخاري في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا أبو عوانة قال : حدثنا موسى بن أبي عائشة قال : حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة ، وكان مما يحرك شفتيه ، فقال ابن عباس : فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما . وقال سعيد : أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما ، فحرك شفتيه . فأنزل الله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 16 - 17 ] ، قال : جمعه لك في صدرك ، ونقرؤه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه [ 75 \ 18 ] ، قال : فاستمع له وأنصت ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 19 ] ، ثم علينا أن نقرأه . فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع . فإذا انطلق جبريل قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه ا ه .
    قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما .

    قوله : ولقد عهدنا إلى آدم أي : أوصيناه ألا يقرب تلك الشجرة . وهذا العهد إلى آدم الذي أجمله هنا بينه في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " البقرة " : وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ 2 \ 35 ] ، فقوله : ولا تقربا هذه الشجرة هو عهده إلى آدم المذكور هنا .

    وقوله في " الأعراف " : ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ 7 \ 19 ] ، .

    وقوله تعالى : فنسي فيه للعلماء وجهان معروفان : أحدهما : أن المراد بالنسيان الترك ، فلا ينافي كون الترك عمدا . والعرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدا ، ومنه قوله تعالى : قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] ، فالمراد في هذه الآية : الترك قصدا . وكقوله تعالى : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] ، [ ص: 104 ] وقوله تعالى : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون [ 32 \ 14 ] ، وقوله تعالى : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون [ 59 \ 19 ] ، وقوله تعالى : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 45 \ 34 ] . وعلى هذا فمعنى قوله : فنسي أي : ترك الوفاء بالعهد ، وخالف ما أمره الله به من ترك الأكل من تلك الشجرة ، لأن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده .

    والوجه الثاني : هو أن المراد بالنسيان في الآية : النسيان الذي هو ضد الذكر ، لأن إبليس لما أقسم له بالله أنه له ناصح فيما دعاه إليه من الأكل من الشجرة التي نهاه ربه عنها غره وخدعه بذلك ، حتى أنساه العهد المذكور . كما يشير إليه قوله تعالى : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ 7 \ 21 - 22 ] ، . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي رواه عنه ابن أبي حاتم ا ه . ولقد قال بعض الشعراء :


    وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب


    أما على القول الأول فلا إشكال في قوله : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] ، وأما على الثاني ففيه إشكال معروف . لأن الناسي معذور فكيف يقال فيه وعصى آدم ربه فغوى .

    وأظهر أوجه الجواب عندي عن ذلك : أن آدم لم يكن معذورا بالنسيان . وقد بينت في كتابي ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) الأدلة الدالة على أن العذر بالنسيان والخطأ والإكراه من خصائص هذه الأمة . كقوله هنا فنسي مع قوله وعصى فأسند إليه النسيان ، والعصيان ، فدل على أنه غير معذور بالنسيان . ومما يدل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، قال الله نعم قد فعلت . فلو كان ذلك معفوا عن جميع الأمم لما كان لذكره على سبيل الامتنان وتعظيم المنة عظيم موقع . ويستأنس لذلك بقوله : كما حملته على الذين من قبلنا [ 2 \ 286 ] ، ويؤيد ذلك حديث : " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان وما استكرهوا عليه " . فقوله " تجاوز لي عن أمتي " يدل على الاختصاص بأمته . وليس مفهوم لقب . لأن مناط [ ص: 105 ] التجاوز عن ذلك هو ما خصه الله به من التفضيل على غيره من الرسل .

    والحديث المذكور وإن أعله الإمام أحمد ، وابن أبي حاتم فله شواهد ثابتة في الكتاب ، والسنة . ولم يزل علماء الأمة قديما وحديثا يتلقونه بالقبول . ومن الأدلة على ذلك حديث طارق بن شهاب المشهور في الذي دخل النار في ذباب قربه مع أنه مكره وصاحبه الذي امتنع من تقريب شيء للصنم ولو ذبابا قتلوه . فدل ذلك على أن الذي قربه مكره . لأنه لو لم يقرب لقتلوه كما قتلوا صاحبه ، ومع هذا دخل النار فلم يكن إكراهه عذرا . ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى عن أصحاب الكهف : إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا [ 18 \ 20 ] ، فقوله : يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم دليل على الإكراه ، وقوله : ولن تفلحوا إذا أبدا دليل على عدم العذر بذلك الإكراه . كما أوضحنا ذلك في غير هذا الموضع .

    واعلم أن في شرعنا ما يدل على نوع من التكليف بذلك في الجملة ، كقوله تعالى : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة الآية [ 4 \ 92 ] . فتحرير الرقبة هنا كفارة لذلك القتل خطأ . والكفارة تشعر بوجود الذنب في الجملة . كما يشير إلى ذلك قوله في كفارة القتل خطأ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما [ 4 \ 92 ] ، فجعل صوم الشهرين بدلا من العتق عند العجز عنه . وقوله بعد ذلك توبة من الله يدل على أن هناك مؤاخذة في الجملة بذلك الخطأ ، مع قوله : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به [ 33 \ 5 ] ، وما قدمنا من حديث مسلم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، قال الله نعم قد فعلت ، فالمؤاخذة التي هي الإثم مرفوعة ، والكفارة المذكورة . قال بعض أهل العلم : هي بسبب التقصير في التحفظ ، والحذر من وقوع الخطأ ، والنسيان ، والله جل وعلا أعلم .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 122 ] ، هو ونحوه من الآيات مستند من قال من أهل الأصول بعدم عصمة الأنبياء من الصغائر التي لا تتعلق بالتبليغ . لأنهم يتداركونها بالتوبة ، والإنابة إلى الله حتى تصير كأنها لم تكن .

    واعلم أن جميع العلماء أجمعوا على عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في كل ما يتعلق بالتبليغ . واختلفوا في عصمتهم من الصغائر التي لا تعلق لها بالتبليغ اختلافا مشهورا معروفا في الأصول . ولا شك أنهم صلوات الله عليهم وسلامه إن وقع [ ص: 106 ] منهم بعض الشيء فإنهم يتداركونه بصدق الإنابة إلى الله حتى يبلغوا بذلك درجة أعلا من درجة من لم يقع منه ذلك . كما قال هنا : وعصى آدم ربه فغوى ثم أتبع ذلك بقوله : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 122 ] ، .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولم نجد له عزما [ 20 \ 115 ] ، يدل على أن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس من الرسل الذين قال الله فيهم فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ 46 \ 35 ] ، وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : هم جميع الرسل . وعن ابن عباس ، وقتادة ولم نجد له عزما أي : لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة ومواظبة على التزام الأمر .

    وأقوال العلماء راجعة إلى هذا ، والوجود في قوله : ولم نجد قال أبو حيان في البحر : يجوز أن يكون بمعنى العلم ، ومفعولاه له عزما وأن يكون نقيض العدم . كأنه قال : وعند مناله عزما ا ه منه . والأول أظهر ، والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى . أي : أبى أن يسجد . فذكر عنه هنا الإباء ولم يذكر عنه هنا الاستكبار . وذكر عنه الإباء أيضا في " الحجر " في قوله : إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين [ 15 \ 31 ] ، . وقوله في آية " الحجر " هذه أبى أن يكون مع الساجدين يبين معمول " أبى " المحذوف في آية " طه " هذه التي هي قوله إلا إبليس أبى [ 20 \ 116 ] ، أي : أبى أن يكون مع الساجدين ، كما صرح به في " الحجر " وكما أشار إلى ذلك في " الأعراف " في قوله : إلا إبليس لم يكن من الساجدين [ 7 \ 11 ] ، وذكر عنه في سورة " ص " الاستكبار وحده في قوله : إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين [ 38 ] ، وذكر عنه الإباء ، والاستكبار معا في سورة " البقرة " في قوله : إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 ] ، . وقد بينا في سورة " البقرة " سبب استكباره في زعمه وأدلة بطلان شبهته في زعمه المذكور . وقد بينها في سورة " الكهف " كلام العلماء فيه هل أصله ملك من الملائكة أو لا ؟

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فسجدوا إلا إبليس صرح في غير هذا الموضع أن السجود المذكور سجده الملائكة كلهم أجمعون لا بعضهم ، وذلك في قوله [ ص: 107 ] فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس . [ 38 - 74 ] .
    قوله تعالى : فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى .

    قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن هذا عدو لك ولزوجك قد قدمنا الآيات الموضحة له في " الكهف " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : فتشقى أي : فتتعب في طلب المعيشة بالكد ، والاكتساب . لأنه لا يحصل لقمة العيش في الدنيا بعد الخروج من الجنة حتى يحرث الأرض ، ثم يزرعها ، ثم يقوم على الزرع حتى يدرك ، ثم يدرسه ، ثم ينقيه ، ثم يطحنه ، ثم يعجنه ، ثم يخبزه . فهذا شقاؤه المذكور .

    والدليل على أن المراد بالشقاء في هذه الآية : التعب في اكتساب المعيشة قوله تعالى بعده : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ 20 \ 118 - 119 ] ، يعني احذر من عدوك أن يخرجك من دار الراحة التي يضمن لك فيها الشبع ، والري ، والكسوة ، والسكن . قال الزمخشري : وهذه الأربعة هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان ، فذكره استجماعها له في الجنة ، وأنه مكفي لا يحتاج إلى كفاية كاف ، ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا . وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع ، والعري ، والظمأ ، والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها ، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها ا ه .

    فقوله في هذه الآية الكريمة : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى [ 20 \ 118 ] ، قرينة واضحة على أن الشقاء المحذر منه تعب الدنيا في كد المعيشة ليدفع به الجوع ، والظمأ ، والعري ، والضحاء . والجوع معروف ، والظمأ : العطش . والعري بالضم : خلاف اللبس .

    وقوله : ولا تضحى أي : لا تصير بارزا للشمس ، ليس لك ما تستكن فيه من حرها . تقول العرب : ضحي يضحى ، كرضي يرضى . وضحى يضحى كسعى يسعى إذا كان بارزا لحر الشمس ليس له ما يكنه منه . ومن هذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة :


    رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فينحصر


    وقول الآخر :


    ضحيت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة قالصا


    [ ص: 108 ] وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا نافعا وشعبة عن عاصم وأنك لا تظمأ بفتح همزة " أن " ، والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها معطوف على المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : إن لك ألا تجوع أي : وإن لك أنك لا تظمأ فيها ولا تضحى . ويجوز في المصدر المعطوف المذكور النصب ، والرفع ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :


    وجائز رفعك معطوفا على منصوب إن بعد أن تستكملا


    وإيضاح تقدير المصدرين المذكورين : إن لك عدم الجوع فيها ، وعدم الظمأ .
    تنبيه

    أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب نفقة الزوجة على زوجها لأن الله لما قال إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة [ 20 \ 117 ] ، بخطاب شامل لآدم وحواء ، ثم خص آدم بالشقاء دونها في قوله فتشقى دل ذلك على أنه هو المكلف بالكد عليها وتحصيل لوازم الحياة الضرورية لها : من مطعم ، ومشرب ، وملبس ، ومسكن .

    قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيا يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج ، فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج . فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية . وأعلمنا في هذه الآية : أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة : الطعام ، والشراب ، والكسوة ، والمسكن . فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها ، فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور . فأما هذه الأربعة فلا بد منها . لأن بها إقامة المهجة ا ه منه .

    وذكر في قصة آدم : أنه لما أهبط إلى الأرض أهبط إليه ثور أحمر وحبات من الجنة ، فكان يحرث على ذلك الثور ويمسح العرق عن جبينه وذلك من الشقاء المذكور في الآية .

    والظاهر أن الذي في هذه الآية الكريمة من البديع المعنوي في اصطلاح البلاغيين ، هو ما يسمى " مراعاة النظير " ، ويسمى " التناسب ، والائتلاف . والتوفيق ، والتلفيق " . فهذه كلها أسماء لهذا النوع من البديع المعنوي . وضابطه : أنه جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد . كقوله تعالى : الشمس والقمر بحسبان [ 55 \ 5 ] ، فإن الشمس ، والقمر متناسبان [ ص: 109 ] لا بالتضاد . وكقول البحتري يصف الإبل الأنضاء المهازيل ، أو الرماح :


    كالقسي المعطفات بل الأسهم مبرية بل الأوتار


    وبين الأسهم ، والقسي المعطفات ، والأوتار مناسبة في الرقة وإن كان بعضها أرق من بعض ، وهي مناسبة لا بالتضاد . وكقول ابن رشيق :


    أصح وأقوى ما سمعناه في الندى من الخبر المأثور منذ قديم
    أحاديث ترويها السيول عن الحيا عن البحر عن كف الأمير تميم


    فقد ناسب بين الصحة ، والقوة ، والسماع ، والخبر المأثور ، والأحاديث ، والرواية ، وكذا ناسب بين السيل ، والحيا وهو المطر ، والبحر وكف الأمير تميم ، وكقول أسيد بن عنقاء الفزاري :


    كأن الثريا علقت في جبينه وفي خده الشعرى وفي وجهه البدر


    فقد ناسب بين الثريا ، والشعرى ، والبدر ، كما ناسب بين الجبين ، والوجنة ، والوجه . وأمثلة هذا النوع كثيرة معروفة في فن البلاغة .

    وإذا علمت هذا فاعلم أنه جل وعلا ناسب في هذه الآية الكريمة في قوله إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى بين نفي الجوع المتضمن لنفي الحرارة الباطنية ، والألم الباطني الوجداني ، وبين نفي العري المتضمن لنفي الألم الظاهري من أذى الحر ، والبرد ، وهي مناسبة لا بالتضاد . كما أنه تعالى ناسب في قوله وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى بين نفي الظمأ المتضمن لنفي الألم الباطني الوجداني الذي يسببه الظمأ . وبين نفي الضحى المتضمن لنفي الألم الظاهري الذي يسببه حر الشمس ونحوه كما هو واضح .

    بما ذكرنا تعلم أن قول من قال : إن في هذه الآية المذكورة ما يسمى قطع النظير عن النظير ، وأن الغرض من قطع النظير عن النظير المزعوم تحقيق تعداد هذه النعم وتكثيرها . لأنه لو قرن النظير بنظيره لأوهم أن المعدودات نعمة واحدة ، ولهذا قطع الظمأ عن الجوع ، والضحو عن الكسوة ، مع ما بين ذلك من التناسب . وقالوا : ومن قطع النظير عن النظير المذكور قول امرئ القيس :


    كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
    ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل لخيل كري كرة بعد إجفال



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #290
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (289)

    سُورَةُ طه
    صـ 110 إلى صـ 116





    فقطع ركوب الجواد من قوله " لخيل كري كرة " وقطع " تبطن الكاعب " عن [ ص: 110 ] شرب " الزق الروي " مع التناسب في ذلك . وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها . كله كلام لا حاجة له لظهور المناسبة بين المذكورات في الآية كما أوضحنا ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى .

    الوسوسة ، والوسواس : الصوت الخفي . ويقال لهمس الصائد ، والكلاب ، وصوت الحلي : وسواس . والوسوس بكسر الواو الأولى مصدر ، وبفتحها الاسم ، وهو أيضا من أسماء الشيطان ، كما في قوله تعالى : من شر الوسواس الخناس [ 114 \ 4 ] ، ويقال لحديث النفس : وسواس ووسوسة . ومن إطلاق الوسواس على صوت الحلي قول الأعشى :


    تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل


    ومن إطلاقه على همس الصائد قول ذي الرمة :


    فبات يشئزه ثأد ويسهره تذؤب الريح والوسواس والهضب


    وقول رؤبة :


    وسوس يدعو مخلصا رب الفلق سرا وقد أون تأوين العقق
    في الزرب لو يمضع شربا ما بصق


    وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة فوسوس إليه الشيطان [ 20 \ 120 ] ، أي : كلمه كلاما خفيا فسمعه منه آدم وفهمه .

    والدليل على أن الوسوسة المذكورة في هذه الآية الكريمة كلام من إبليس سمعه آدم وفهمه أنه فسر الوسوسة في هذه الآية بأنها قول ، وذلك في قوله فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد [ 20 \ 120 ] ، . فالقول المذكور هو الوسوسة المذكورة . وقد أوضح هذا في سورة " الأعراف " وبين أنه وسوس إلى حواء أيضا مع آدم ، وذلك في قوله : فوسوس لهما الشيطان إلى قوله وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ 7 \ 21 ] ، لأن تصريحه تعالى في آية " الأعراف " هذه بأن إبليس قاسمهما أي : حلف لهما على أنه ناصح لهما فيما ادعاه من الكذب دليل واضح على أن الوسوسة المذكورة كلام مسموع . واعلم أن في وسوسة الشيطان إلى آدم إشكالا [ ص: 111 ] معروفا ، وهو أن يقال : إبليس قد أخرج من الجنة صاغرا مذموما مدحورا ، فكيف أمكنه الرجوع إلى الجنة حتى وسوس لآدم ؟ ، والمفسرون يذكرون في ذلك قصة الحية ، وأنه دخل فيها فأدخلته الجنة ، والملائكة الموكلون بها لا يشعرون بذلك . وكل ذلك من الإسرائيليات . والواقع أنه لا إشكال في ذلك ، لإمكان أن يقف إبليس خارج الجنة قريبا من طرفها بحيث يسمع آدم كلامه وهو في الجنة ، وإمكان أن يدخله الله إياها لامتحان آدم وزوجه ، لا لكرامة إبليس . فلا محال عقلا في شيء من ذلك . والقرآن قد جاء بأن إبليس كلم آدم ، وحلف له حتى غره وزوجه بذلك .

    وقوله في هذه الآية الكريمة على شجرة الخلد أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود . لأن من أكل منها يكون في زعمه الكاذب خالدا لا يموت ، ولا يزول ، وكذلك يكون له في زعمه ملك لا يبلى أي : لا يفنى ، ولا ينقطع . وقد قدمنا أن قوله هنا وملك لا يبلى يدل لمعنى قراءة من قرأ إلا أن تكونا ملكين [ 7 \ 20 ] بكسر اللام . وقوله أو تكونا من الخالدين [ 7 \ 20 ] ، هو معنى قوله في " طه " : هل أدلك على شجرة الخلد [ 20 \ 120 ] ، .

    والحاصل أن إبليس لعنه الله كان من جملة ما وسوس به إلى آدم وحواء : أنهما إن أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها نالا الخلود ، والملك ، وصارا ملكين ، وحلف لهما أنه ناصح لهما في ذلك ، يريد لهما الخلود ، والبقاء ، والملك فدلاهما بغرور . وفي القصة : أن آدم لما سمعه يحلف بالله اعتقد من شدة تعظيمه لله أنه لا يمكن أن يحلف به أحد على الكذب ، فأنساه ذلك العهد بالنهي عن الشجرة .
    تنبيه

    في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، وهو أن يقال : كيف عدى فعل الوسوسة في " طه " بإلى في قوله فوسوس إليه الشيطان مع أنه عداه في " الأعراف " باللام في قوله فوسوس لهما الشيطان [ 7 \ 20 ] ، . وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة .

    أحدها : أن حروف الجر يخلف بعضها بعضا . فاللام تأتي بمعنى إلى كعكس ذلك .

    قال الجوهري في صحاحه : وقوله تعالى : فوسوس إليه الشيطان يريد إليهما ، ولكن العرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل ا ه . وتبعه ابن منظور في اللسان . ومن الأجوبة عن ذلك : إرادة التضمين ، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية : [ ص: 112 ] فإن قلت كيف عدى " وسوس " تارة باللام في قوله فوسوس لهما الشيطان وأخرى بإلى ؟ قلت : وسوسة الشيطان كولولة الثكلى ، ووعوعة الذئب ، ووقوقة الدجاجة ، في أنها حكايات للأصوات ، وحكمها حكم صوت وأجرس . ومنه وسوس المبرسم وهو موسوس بالكسر ، والفتح لحن . وأنشد ابن الأعرابي :


    وسوس يدعو مخلصا رب الفلق . . . . . .


    فإذا قلت : وسوس له . فمعناه لأجله . كقوله :


    أجرس لها يا ابن أبي كباش فما لها الليلة من إنفاش
    غير السرى وسائق نجاش


    ومعنى فوسوس إليه أنهى إليه الوسوسة . كقوله : حدث إليه وأسر إليه ا ه منه . وهذا الذي أشرنا إليه هو معنى الخلاف المشهور بين البصريين ، والكوفيين في تعاقب حروف الجر ، وإتيان بعضها مكان بعض هل هو بالنظر إلى التضمين ، أو لأن الحروف يأتي بعضها بمعنى بعض ؟ وسنذكر مثالا واحدا من ذلك يتضح به المقصود . فقوله تعالى مثلا : ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا الآية [ 21 \ 77 ] على القول بالتضمين . فالحرف الذي هو " من " وارد في معناه لكن " نصر " هنا مضمنة معنى الإنجاء ، والتخليص ، أي : أنجيناه وخلصناه من الذين كذبوا بآياتنا . والإنجاء مثلا يتعدى بمن . وعلى القول الثاني فـ " نصر " وارد في معناه ، لكن " من " بمعنى على ، أي : نصرناه على القوم الذين كذبوا الآية ، وهكذا في كل ما يشاكله .

    وقد قدمنا في سورة " الكهف " أن اختلاف العلماء في تعيين الشجرة التي نهى الله آدم عن الأكل منها اختلاف لا طائل تحته ، لعدم الدليل على تعيينها ، وعدم الفائدة في معرفة عينها .

    وبعضهم يقول : هي السنبلة . وبعضهم يقول : هي شجرة الكرم . وبعضهم يقول : هي شجرة التين ، إلى غير ذلك من الأقوال .
    قوله تعالى : فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى .

    الفاء في قوله فأكلا تدل على أن سبب أكلهما هو وسوسة الشيطان المذكورة قبله في قوله : فوسوس إليه الشيطان أي : فأكلا منها بسبب تلك الوسوسة . وكذلك الفاء في قوله : فبدت لهما سوآتهما تدل على أن سبب ذلك هو أكلهما من الشجرة [ ص: 113 ] المذكورة ، فكانت وسوسة الشيطان سببا للأكل من تلك الشجرة . وكان الأكل منها سببا لبدو سوءاتهما . وقد تقرر في الأصول في مسلك ( الإيماء ، والتنبيه ) : أن الفاء تدل على التعليل كقولهم : سها فسجد ، أي : لعلة سهوه . سرق فقطعت يده ، أي : لعلة سرقته . كما قدمناه مرارا . وكذلك قوله هنا : فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها [ 20 \ 120 - 121 ] ، أي : بسبب تلك الوسوسة فبدت لهما سوءاتهما ، أي : بسبب ذلك الأكل ، ففي الآية ذكر السبب وما دلت عليه الفاء هنا كما بينا من أن وسوسة الشيطان هي سبب ما وقع من آدم وحواء جاء مبينا في مواضع من كتاب الله ، كقوله تعالى : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه [ 2 \ 36 ] ، فصرح بأن الشيطان هو الذي أزلهما . وفي القراءة الأخرى " فأزالهما " وأنه هو الذي أخرجهما مما كانا فيه ، أي : من نعيم الجنة ، وقوله تعالى : يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة الآية [ 7 \ 27 ] وقوله : فدلاهما بغرور [ 7 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وما ذكره جل وعلا في آية " طه " هذه من ترتب بدو سوءاتهما على أكلهما من تلك الشجرة أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله في " الأعراف " : فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما [ 7 \ 22 ] ، وقوله فيها أيضا : كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما [ 7 \ 27 ] .

    وقد دلت الآيات المذكورة على أن آدم وحواء كانا في ستر من الله يستر به سوءاتهما ، وأنهما لما أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عنهما انكشف ذلك الستر بسبب تلك الزلة . فبدت سوءاتهما أي : عوراتهما . وسميت العورة سوءة لأن انكشافها يسوء صاحبها ، وصارا يحاولان ستر العورة بورق شجر الجنة ، كما قال هنا : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة [ 20 \ 121 ] ، وقال في " الأعراف " : فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة [ 7 \ 27 ] ، .

    وقوله وطفقا أي : شرعا . فهي من أفعال الشروع ، ولا يكون خبر أفعال الشروع إلا فعلا مضارعا غير مقترن بـ " أن " وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله :


    . . . . . وترك أن مع ذي الشروع وجبا كأنشأ السائق يحدو وطفق
    وكذا جعلت وأخذت وعلق


    [ ص: 114 ] فمعنى قوله وطفقا يخصفان أي : شرعا يلزقان عليهما من ورق الجنة بعضه ببعض ليسترا به عوراتهما . والعرب تقول : خصف النعل يخصفها : إذا خرزها : وخصف الورق على بدنه : إذا ألزقها وأطبقها عليه ورقة ورقة . وكثير من المفسرين يقولون : إن ورق الجنة التي طفق آدم وحواء يخصفان عليهما منه إنه ورق التين . والله تعالى أعلم .

    واعلم أن الستر الذي كان على آدم وحواء ، وانكشف عنهما لما ذاقا الشجرة اختلف العلماء في تعيينه ، فقالت جماعة من أهل العلم : كان عليهما لباس من جنس الظفر . فلما أكلا من الشجرة أزاله الله عنهما إلا ما أبقى على رءوس الأصابع . وقال بعض أهل العلم : كان لباسهما نورا يستر الله به سوءاتهما . وقيل : لباس من ياقوت ، إلى غير ذلك من الأقوال . وهو من الاختلاف الذي لا طائل تحته ، ولا دليل على الواقع فيه كما قدمنا كثيرا من أمثلة ذلك في سورة " الكهف " . وغاية ما دل عليه القرآن : أنهما كان عليهما لباس يسترهما الله به . فلما أكلا من الشجرة نزع عنهما فبدت لهما سوءاتهما . ويمكن أن يكون اللباس المذكور الظفر أو النور ، أو لباس التقوى ، أو غير ذلك من الأقوال المذكورة فيه .

    وأسند جل وعلا إبداء ما ووري عنهما من سوءاتهما إلى الشيطان قوله : ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما [ 7 \ 20 ] ، كما أسند له نزع اللباس عنهما في قوله تعالى : كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما [ 7 \ 27 ] ، لأنه هو المتسبب في ذلك بوسوسته وتزيينه كما قدمناه قريبا . وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، وهو أن يقال : كيف جعل سبب الزلة في هذه الآية وهو وسوسة الشيطان مختصا بآدم دون حواء قوله : فوسوس إليه الشيطان مع أنه ذكر أن تلك الوسوسة سببت الزلة لهما معا كما أوضحناه .

    والجواب ظاهر ، وهو أنه بين في " الأعراف " أنه وسوس لحواء أيضا مع آدم في القصة بعينها في قوله : فوسوس لهما الشيطان [ 7 \ 20 ] ، فبينت آية " الأعراف " ما لم تبينه آية " طه " كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
    مسألة

    أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة : وجوب ستر العورة ، لأن قوله : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة يدل على قبح انكشاف العورة ، وأنه ينبغي بذل [ ص: 115 ] الجهد في سترها . قال القرطبي في تفسيره في سورة " الأعراف " ما نصه : وفي الآية دليل على قبح كشف العورة ، وأن الله أوجب عليهما الستر ، ولذلك ابتدرا إلى سترها ، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة كما قيل لهما حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة [ 7 \ 19 ] . وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي : أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستقر بذلك . لأنه سترة ظاهرة ، عليه التستر بها كما فعل آدم في الجنة . والله أعلم . انتهى كلام القرطبي .

    ووجوب ستر العورة في الصلاة مجمع عليه بين المسلمين . وقد دلت عليه نصوص من الكتاب ، والسنة ، كقوله تعالى : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] وكبعثه - صلى الله عليه وسلم - من ينادي عام حج أبي بكر بالناس عام تسع : " ألا يحج بعد هذا العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان " . وكذلك لا خلاف بين العلماء في منع كشف العورة أمام الناس . وسيأتي بعض ما يتعلق بهذا إن شاء الله في سورة " النور " .

    فإن قيل : لم جمع السوءات في قوله سوآتهما مع أنهما سوأتان فقط ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه :

    الوجه الأول : أن آدم وحواء كل واحد منهما له سوءتان : القبل ، والدبر ، فهي أربع ، فكل منهما يرى قبل نفسه وقبل الآخر ، ودبره . وعلى هذا فلا إشكال في الجمع .

    الوجه الثاني : أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزآه جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع ، والتثنية ، والإفراد ، وأفصحها الجمع ، فالإفراد ، فالتثنية على الأصح ، سواء كانت الإضافة لفظا أو معنى . ومثال اللفظ : شويت رءوس الكبشين أو رأسهما ، أو رأسيهما . ومثال المعنى : قطعت من الكبشين الرءوس ، أو الرأس ، أو الرأسين . فإن فرق المثنى المضاف إليه فالمختار في المضاف الإفراد ، نحو : على لسان داود وعيسى ابن مريم .

    ومثال جمع المثنى المضاف المذكور الذي هو الأفصح قوله تعالى فقد صغت قلوبكما [ 66 \ 4 ] ، وقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، ومثال الإفراد قول الشاعر :


    حمامة بطن الواديين ترنمي سقاك من الغر الغوادي مطيرها


    ومثال التثنية قول الراجز :


    ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين


    [ ص: 116 ] والضمائر الراجعة إلى المضاف المذكور المجموع لفظا وهو مثنى معنى يجوز فيها الجمع نظرا إلى اللفظ ، والتثنية نظرا إلى المعنى ، فمن الأول قوله :


    خليلي لا تهلك نفوسكما أسى فإن لهما فيما به دهيت أسى


    ومن الثاني قوله :


    قلوبكما يغشاهما الأمن عادة إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر


    الوجه الثالث : ما ذهب إليه مالك بن أنس من أن أقل الجمع اثنان . قال في مراقي السعود :


    أقل معنى الجمع في المشتهر الاثنان في رأي الإمام الحميري


    وأما إن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه ، أي : كانا غير جزأيه فالقياس الجمع وفاقا للفراء ، كقولك : ما أخرجكما من بيوتكما ، وإذا أويتما إلى مضاجعكما ، وضرباه بأسيافهما ، وسألتا عن إنفاقهما على أزواجهما ، ونحو ذلك .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #291
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (290)

    سُورَةُ طه
    صـ 117 إلى صـ 123


    قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى .

    المعصية خلاف الطاعة . فقوله وعصى آدم ربه فغوى أي : لم يطعه في اجتناب ما نهاه عنه من قربان تلك الشجرة .

    وقوله : فغوى الغي : الضلال ، وهو الذهاب عن طريق الصواب . فمعنى الآية : لم يطع آدم ربه فأخطأ طريق الصواب بسبب عدم الطاعة ، وهذا العصيان ، والغي بين الله جل وعلا في غير موضع من كتابه أن المراد به : أن الله أباح له أن يأكل هو وامرأته من الجنة رغدا حيث شاءا ، ونهاهما أن يقربا شجرة معينة من شجرها . فلم يزل الشيطان يوسوس لهما ويحلف لهما بالله إنه لهما لناصح ، وإنهما إن أكلا منها نالا الخلود والملك الذي لا يبلى . فخدعهما بذلك كما نص الله على ذلك في قوله : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ 7 \ 21 ] ، فأكلا منها . وكان بعض أهل العلم يقول : من خادعنا بالله خدعنا . وهو مروي عن عمر . وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود ، والترمذي ، والحاكم : " المؤمن غر كريم ، والفاجر خب لئيم " . وأنشد لذلك نفطويه :


    إن الكريم إذا تشاء خدعته وترى اللئيم مجربا لا يخدع


    [ ص: 117 ] فآدم عليه الصلاة والسلام ما صدرت منه الزلة إلا بسبب غرور إبليس له . وقد قدمنا قول بعض أهل العلم : إنآدم من شدة تعظيمه لله اعتقد أنه لا يمكن أن يحلف به أحد وهو كاذب فأنساه حلف إبليس بالله العهد بالنهي عن الشجرة . وقول بعض أهل العلم : إن معنى قوله فغوى أي : فسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا .

    قالوا : والغي . الفساد ، خلاف الظاهر وإن حكاه النقاش واختاره القشيري واستحسنه القرطبي .

    وكذلك قول من قال فغوى أي : بشم من كثرة الأكل . والبشم : التخمة ، فهو قول باطل . وقال فيه الزمخشري في الكشاف : وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا فيقول في فني وبقي ، فنا وبقا ، وهم بنو طيئ تفسير خبيث ، ا ه منه . وما أشار إليه الزمخشري من لغة طيئ معروف . فهم يقولون للجارية : جاراة ، وللناصية ناصاة ، ويقولون في بقي بقى كرمى . ومن هذه اللغة قول الشاعر :


    لعمرك لا أخشى التصعلك ما بقى على الأرض قيسي يسوق الأباعرا


    وهذه اللغة التي ذكرها الزمخشري لا حاجة لها في التفسير الباطل المذكور ، لأن العرب تقول : غوى الفصيل كرضي وكرمى : إذا بشم من اللبن .

    وقوله تعالى في هذه الآية : وعصى آدم يدل على أن معنى " غوى " ضل عن طريق الصواب كما ذكرنا . وقد قدمنا أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن هي حجة من قال بأن الأنبياء غير معصومين من الصغائر . وعصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مبحث أصولي لعلماء الأصول فيه كلام كثير واختلاف معروف ، وسنذكر هنا طرفا من كلام أهل الأصول في ذلك . قال ابن الحاجب في مختصره في الأصول :
    مسألة

    الأكثر على أنه لا يمتنع عقلا على الأنبياء معصية . وخالف الروافض ، وخالف المعتزلة إلا في الصغائر . ومعتمدهم التقبيح العقلي . والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام . لدلالة المعجزة على الصدق . وجوزه القاضي غلطا وقال : دلت على الصدق اعتقادا . وأما غيره من المعاصي فالإجماع على عصمتهم من الكبائر ، والصغائر الخسيسة . والأكثر على جواز غيرهما ا ه منه بلفظه .

    وحاصل كلامه : عصمتهم من الكبائر ، ومن صغائر الخسة دون غيرها من الصغائر .

    [ ص: 118 ] وقال العلامة العلوي الشنقيطي في ( نشر البنود شرح مراقي السعود ) في الكلام على قوله :


    والأنبياء عصموا مما نهوا عنه ولم يكن لهم تفكه بجائز بل ذاك للتشريع
    أو نية الزلفى من الرفيع


    ما نصه : فقد أجمع أهل الملل ، والشرائع كلها على وجوب عصمتهم من تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه . كدعوى الرسالة ، وما يبلغونه عن الله تعالى للخلائق . وصدور الكذب عنهم فيما ذكر سهوا أو نسيانا منعه الأكثرون وما سوى الكذب في التبليغ . فإن كان كفرا فقد أجمعت الأمة على عصمتهم منه قبل النبوة وبعدها ، وإن كان غيره فالجمهور على عصمتهم من الكبائر عمدا . ومخالف الجمهور الحشوية .

    واختلف أهل الحق : هل المانع لوقوع الكبائر منهم عمدا العقل أو السمع ؟ وأما المعتزلة فالعقل ، وإن كان سهوا فالمختار العصمة منها . وأما الصغائر عمدا أو سهوا فقد جوزها الجمهور عقلا . لكنها لا تقع منهم غير صغائر الخسة فلا يجوز وقوعها منهم لا عمدا ، ولا سهوا انتهى منه .

    وحاصل كلامه : عصمتهم من الكذب فيما يبلغونه عن الله ومن الكفر ، والكبائر وصغائر الخسة . وأن الجمهور على جواز وقوع الصغائر الأخرى منهم عقلا . غير أن ذلك لم يقع فعلا . وقال أبو حيان في البحر في سورة " البقرة " وفي المنتخب للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصه : منعت الأمة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إلا الفضيلية من الخوارج قالوا : وقد وقع منهم ذنوب ، والذنب عندهم كفر . وأجاز الإمامية إظهار الكفر منهم على سبيل التقية . واجتمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ ، فلا يجوز عمدا ، ولا سهوا . ومن الناس من جوز ذلك سهوا . وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمدا . واختلفوا في السهو . وأما أفعالهم فقالت الحشوية : يجوز وقوع الكبائر منهم على جهة العمد . وقال أكثر المعتزلة : بجواز الصغائر عمدا إلا في القول كالكذب . وقال الجبائي : يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل . وقيل : يمتنعان عليهم إلا على جهة السهو ، والخطأ ، وهم مأخوذون بذلك وإن كان موضوعا عن أمتهم . وقالت الرافضة يمتنع ذلك على كل جهة .

    واختلف في وقت العصمة . فقالت الرافضة : من وقت مولدهم . وقال كثير من المعتزلة : من وقت النبوة . والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتة لا الكبيرة ، ولا الصغيرة . لأنهم لو صدر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة [ ص: 119 ] لعظيم شرفهم وذلك محال ، ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة ، ولئلا يجب زجرهم وإيذاؤهم ، ولئلا يقتدى بهم في ذلك . ولئلا يكونوا مستحقين للعقاب ، ولئلا يفعلوا ضد ما أمروا به لأنهم مصطفون ، ولأن إبليس استثناهم في الإغواء . انتهى ما لخصناه من ( المنتخب ) ، والقول في الدلائل لهذه المذاهب . وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين . انتهى كلام أبي حيان .

    وحاصل كلام الأصوليين في هذه المسألة : عصمتهم من الكفر وفي كل ما يتعلق بالتبليغ ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة وتطفيف حبة ، وأن أكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر غير صغائر الخسة منهم . ولكن جماعة كثيرة من متأخري الأصوليين اختاروا أن ذلك وإن جاز عقلا لم يقع فعلا ، وقالوا : إنما جاء في الكتاب والسنة من ذلك أن ما فعلوه بتأويل أو نسيانا أو سهوا ، أو نحو ذلك .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يقع منهم ما يزري بمراتبهم العلية ، ومناصبهم السامية . ولا يستوجب خطأ منهم ، ولا نقصا فيهم صلوات الله وسلامه عليهم ، ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب لأنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة ، والإخلاص ، وصدق الإنابة إلى الله حتى ينالوا بذلك أعلى درجاتهم فتكون بذلك درجاتهم أعلى من درجة من لم يرتكب شيئا من ذلك . ومما يوضح هذا قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 121 ] ، . فانظر أي أثر يبقى للعصيان والغي بعد توبة الله عليه ، واجتبائه أي : اصطفائه إياه ، وهدايته له ، ولا شك أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب تلك الزلة . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى .

    الاجتباء : الاصطفاء ، والاختيار . أي : ثم بعد ما صدر من آدم بمهلة اصطفاه ربه واختاره فتاب عليه وهداه إلى ما يرضيه . ولم يبين هنا السبب لذلك ، ولكنه بين في غير هذا الموضع أنه تلقى من ربه كلمات فكانت سبب توبة ربه عليه ، وذلك في قوله : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [ 2 \ 37 ] ، أي : بسبب تلك الكلمات كما تدل عليه الفاء . وقد قدمنا في سورة " البقرة " : أن الكلمات المذكورة هي المذكورة في سورة " الأعراف " في قوله تعالى : قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [ 7 \ 23 ] ، [ ص: 120 ] وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
    قوله تعالى : قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو

    .

    الظاهر أن ألف الاثنين في قوله اهبطا راجعة إلى آدم وحواء المذكورين في قوله فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما [ 20 \ 121 ] ، خلافا لمن زعم أنها راجعة إلى إبليس وآدم ، وأمره إياهما بالهبوط من الجنة المذكور في آية " طه " هذه جاء مبينا في غير هذا الموضع . كقوله في سورة " البقرة " : وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ 2 \ 36 ] ، وقوله فيها أيضا : قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 38 ] ، وقوله في " الأعراف " : قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ 7 \ 24 ] ، . وفي هذه الآيات سؤال معروف ، وهو أن يقال : كيف جيء بصيغة الجمع في قوله اهبطوا [ 2 \ 36 ، 7 24 ] ، في " البقرة " و " الأعراف " وبصيغة التثنية في " طه " في قوله : اهبطا مع أنه أتبع صيغة التثنية في " طه " بصيغة الجمع في قوله فإما يأتينكم مني هدى وأظهر الأجوبة عندي عن ذلك : أن التثنية باعتبار آدم وحواء فقط ، والجمع باعتبارهما مع ذريتهما . خلافا لمن زعم أن التثنية باعتبار آدم وإبليس ، والجمع باعتبار ذريتهما معهما ، وخلافا لمن زعم أن الجمع في قوله : اهبطوا مراد به آدم وحواء وإبليس ، والحية . والدليل على أن الحية ليست مرادة في ذلك هو أنها لا تدخل في قوله فإما يأتينكم مني هدى لأنها غير مكلفة .

    واعلم أن المفسرين يذكرون قصة الحية ، وأنها كانت ذات قوائم أربع كالبختية من أحسن دابة خلقها الله ، وأن إبليس دخل في فمها فأدخلته الجنة ، فوسوس لآدم وحواء بعد أن عرض نفسه على كثير من الدواب فلم يدخله إلا الحية . فأهبط هو إلى الأرض ولعنت هي وردت قوائمها في جوفها ، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم ، ولذلك أمروا بقتلها . وبهذه المناسبة ذكر القرطبي في تفسيره في سورة " البقرة " جملا من أحكام قتل الحيات . فذكر عن ساكنة بنت الجعد أنها روت عن سري بنت نبهان الغنوية أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بقتل الحيات صغيرها وكبيرها ، وأسودها وأبيضها ، ويرغب في ذلك . ثم ذكر عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود حديثا فيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بقتل حية فسبقتهم إلى جحرها . فأمرهم أن يضرموا عليها [ ص: 121 ] نارا . وذكر عن علماء المالكية أنهم خصصوا بذلك النهي عن الإحراق بالنار ، وعن أن يعذب أحد بعذاب الله . ثم ذكر عن إبراهيم النخعي : أنه كره أن تحرق العقرب بالنار ، وقال : هو مثلة . وأجاب عن ذلك بأنه يحتمل أنه لم يبلغه الخبر المذكور . ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود الثابت في الصحيحين قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار ، وقد أنزلت عليه والمرسلات عرفا [ 77 ] ، فنحن نأخذها من فيه رطبة ، إذ خرجت علينا حية فقال " اقتلوها " ، فابتدرناها لنقتلها ، فسبقتنا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وقاها الله شركم كما وقاكم شرها " فلم يضرم نارا ، ولا احتال في قتلها ، وأجاب هو عن ذلك ، بأنه يحتمل أنه لم يجد نارا في ذلك الوقت ، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك ، مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحية . ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات من الإرشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات عام في جميع أنواعها إن كانت غير حيات البيوت ، ثم ذكر فيما خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود : " اقتلوا الحيات كلهن ، فمن خاف ثأرهن فليس مني " ثم ذكر أن حيات البيوت لا تقتل حتى تؤذن ثلاثة أيام . لحديث : " إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام " ثم ذكر أن بعض العلماء خص ذلك بالمدينة دون غيرها لحديث : " إن بالمدينة جنا قد أسلموا " . قالوا : ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أو لا . قاله ابن نافع ثم ذكر عن مالك النهي عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد . ثم قال : وهو الصحيح . لأن الله عز وجل قال : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن الآية [ 46 \ 29 ] . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن وفيه سألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة " وسيأتي بكماله في سورة " الجن " إن شاء الله تعالى . وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يخرج عليه وينذر ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

    ( ثم قال ) : روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة : أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته ، قال : فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت ، فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلي أن اجلس فجلست ، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت نعم . قال : كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس ، قال : فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوما [ ص: 122 ] فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خذ عليك سلاحك فإنني أخشى عليك قريظة " فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة ، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة . فقالت له : اكفف عليك رمحك ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني ، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه ، فما يدري أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى . قال : فجئنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله يحييه لنا : فقال : " استغفروا لأخيكم ثم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان " . وفي طريق أخرى فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لهذه البيوت عوامر ، فإذا رأيتم شيئا منهم فحرجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر وقال لهم : اذهبوا فادفنوا صاحبكم " . ثم قال : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله الفتى كان مسلما ، وأن الجن قتلته به قصاصا . لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض ، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة إذ لم يكن عنده علم من ذلك ، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا ، فهذا قتل خطأ ، ولا قصاص فيه . فالأولى أن يقال : إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدوا وانتقاما . وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه ، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده ، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ، ولا يرون أحدا :


    قد قتلنا سيد الخز رج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين
    فلم نخط فؤاده


    وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :

    " إن بالمدينة جنا قد أسلموا " ليبين طريقا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم ، ويتسلط به على قتل الكافر منهم . وروي من وجوه : أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلت جانا . فأريت في المنام أن قائلا يقول لها : لقد قتلت مسلما . فقالت : لو كان مسلما لم يدخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال : ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك . فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله . وفي رواية : ما دخل عليك إلا وأنت مستترة . فتصدقت وأعتقت رقابا . وقال الربيع بن بدر : الجان من الحيات التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها هي التي تمشي ، ولا تلتوي . وعن علقمة نحوه . ثم ذكر صفة إنذار حيات البيوت فقال : قال مالك : أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام . وقاله عيسى بن دينار : [ ص: 123 ] وإن ظهر في اليوم مرارا ، ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرات في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام . وقيل : يكفي ثلاث مرار . لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فليؤذنه ثلاثا " ، وقوله " حرجوا عليه ثلاثا " ولأن ثلاثا للعدد المؤنث ، فظهر أن المراد ثلاث مرات . وقول مالك أولى لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ثلاثة أيام " وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات ، ويحمل ثلاثا على إرادة ليالي الأيام الثلاث ، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ ، فإنها تغلب فيها التأنيث . قال مالك : ويكفي في الإنذار أن يقول : أحرج عليك بالله ، واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ، ولا تؤذونا . وذكر ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال : إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا : أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام ، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام ، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه . ثم قال : وقد حكى ابن حبيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقال : " أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان عليه السلام ألا تؤذونا ، ولا تظهرن علينا " انتهى كلام القرطبي ملخصا قريبا من لفظه .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق في هذه المسألة أن ما لم يكن من الحيات في البيوت فإنه يقتل كالحيات التي توجد في الفيافي ، وأن حيات البيوت لا تقتل إلا بعد الإنذار . وأظهر القولين عندي عموم الإنذار في المدينة ، وغيرها ، وأنه لا بد من الإنذار ثلاثة أيام ، ولا تكفي ثلاث مرات في يوم أو يومين ، كما تقدمت أدلة ذلك في كلام القرطبي . وأن الأبتر وذا الطفيتين يقتلان في البيوت بلا إنذار . لما ثبت في بعض روايات مسلم بلفظ : فقال أبو لبابة : إنه قد نهي عنهن ( يريد عوامر البيوت ) وأمر بقتل الأبتر وذي الطفيتين . وفي رواية في صحيح البخاري عن أبي لبابة : " لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين ، فإنه يسقط الولد ، ويذهب البصر فاقتلوه " .

    والدليل على قتل الحيات وإنذار حيات البيوت ثابت في الصحيحين ، وغيرهما .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #292
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (291)

    سُورَةُ طه
    صـ 124 إلى صـ 130







    قال البخاري في صحيحه : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا هشام بن يوسف ، حدثنا معمر عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب على المنبر يقول : " اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين ، والأبتر . فإنهما يطمسان البصر ، ويستسقطان الحبل " قال عبد الله : فبينا أنا أطارد حية لأقتلها فناداني أبو لبابة : لا تقتلها . فقلت إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بقتل الحيات ؟ فقال : إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت ، وهي العوامر . وقال عبد الرزاق عن معمر : فرآني أبو لبابة أو زيد بن [ ص: 124 ] الخطاب ، وتابعه يونس ، وابن عيينة وإسحاق الكلبي ، والزبيدي ، وقال صالح ، وابن أبي حفصة ، وابن مجمع ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر : فرآني أبو لبابة وزيد بن الخطاب ا ه من صحيح البخاري رحمه الله تعالى . وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : وحدثني عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا سفيان بن أبي عيينة عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " اقتلوا الحيات وذا الطفيتين ، والأبتر ، فإنهما يستسقطان الحبل ويلتمسان البصر " قال : فكان ابن عمر يقتل كل حية وجدها . فأبصره أبو لبابة بن عبد المنذر ، أو زيد بن الخطاب وهو يطارد حية فقال : إنه قد نهى عن ذوات البيوت . ثم ذكره من طرق متعددة . وفي كلها التصريح بالنهي عن قتل جنان البيوت يعني إلا بعد الإنذار ثلاثا . وعن مالك : يقتل ما وجد منها بالمساجد . وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث " وذا الطفيتين " هو بضم الطاء المهملة وإسكان الفاء بعدها ياء . وأصل الطفية خوصة المقل وهو شجر الدوم . وقيل : المقل ثمر شجر الدوم . وجمعها طفى بضم ففتح على القياس . والمراد بالطفيتين في الحديث : خطان أبيضان . وقيل : أسودان على ظهر الحية المذكورة ، يشبهان في صورتها خوص المقل المذكور . والأبتر : قصير الذنب من الحيات : وقال النضر بن شميل : هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب ، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها . وقال الداودي : هو الأفعى التي تكون قدر شبر أو أكثر قليلا وقوله في هذا الحديث : " يستسقطان الحبل " معناه أن المرأة الحامل إذا نظرت إليهما وخافت أسقطت جنينها غالبا . وقد ذكر مسلم عن الزهري ما يدل على أن إسقاط الحبل المذكور خاصية فيهما من سمهما . والأظهر في معنى " يلتمسان البصر " أن الله جعل فيهما من شدة سمهما خاصية يخطفان بها البصر ، ويطمسانه بها بمجرد نظرهما إليه . والقول : بأن معناه أنهما يقصدان البصر باللسع ، والنهش ضعيف . والعلم عند الله تعالى .

    وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه : " اقتلوا الحيات " يدل على وجوب قتلها . لما قدمنا من أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تدل على الوجوب .

    والجمهور على أن الأمر بذلك القتل المذكور للندب ، والاستحباب ، والله تعالى أعلم .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بعضكم لبعض عدو [ 20 \ 123 ] ، على ما ذكرنا أنه الأظهر . فالمعنى : أن بعض بني آدم عدو لبعضهم . كما قال تعالى : أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض [ 6 \ 65 ] ، ونحوها من الآيات . وعلى أن المراد [ ص: 125 ] بقوله اهبطا آدم وإبليس ، فالمعنى أن إبليس وذريته أعداء لآدم وذريته . كما قال تعالى : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو [ 18 \ 50 ] ، ونحوها من الآيات .

    والظاهر أن ما ذكره القرطبي : من إحراق الحية بالنار لم يثبت ، وأنه لا ينبغي أن يعذب بعذاب الله ، فلا ينبغي أن تقتل بالنار ، والله أعلم .

    فإن قيل : الحديث المذكور يدل على أن ذا الطفيتين غير الأبتر لعطفه عليه في الحديث ، ورواية البخاري التي قدمنا عن أبي لبابة : " لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين " يقتضي أنهما واحد ؟ فالجواب : أن ابن حجر في الفتح أجاب عن هذا . بأن الرواية المذكورة ظاهرها اتحادهما ، ولكنها لا تنفي المغايرة ا ه . والظاهر أن مراده بأنها لا تنفي المغايرة : أن الأبتر وإن كان ذا طفيتين فلا ينافي وجود ذي طفيتين غير الأبتر . والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى

    .

    الظاهر أن الخطاب لبني آدم . أي : فإن يأتكم مني هدى أي : رسول أرسله إليكم ، وكتاب يأتي به رسول ، فمن اتبع منكم هداي أي : من آمن برسلي وصدق بكتبي ، وامتثل ما أمرت به ، واجتنب ما نهيت عنه على ألسنة رسلي . فإنه لا يضل في الدنيا ، أي : لا يزيغ عن طريق الحق لاستمساكه بالعروة الوثقى ، ولا يشقى في الآخرة لأنه كان في الدنيا عاملا بما يستوجب السعادة من طاعة الله تعالى وطاعة رسله . وهذا المعنى المذكور هنا ذكر في غير هذا الموضع . كقوله في " البقرة " : فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ الآية 38 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وفي هذه الآيات دليل على أن الله بعد أن أخرج أبوينا من الجنة لا يرد إليهما أحدا منا إلا بعد الابتلاء ، والامتحان بالتكاليف من الأوامر ، والنواهي ، ثم يطيع الله فيما ابتلاه به . كما تقدمت الإشارة إليه في سورة " البقرة " .
    قوله تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا

    .

    قد قدمنا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها الآية [ 13 \ 57 ] الآيات الموضحة نتائج الإعراض عن ذكر الله تعالى الوخيمة . فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقد قدمنا هناك أن منها المعيشة الضنك . واعلم [ ص: 126 ] أن الضنك في اللغة : الضيق . ومنه قول عنترة :


    إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل


    وقوله أيضا :


    إن المنية لو تمثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل


    وأصل الضنك مصدر وصف به ، فيستوي فيه المذكر ، والمؤنث ، والمفرد ، والجمع . وبه تعلم أن معنى قوله معيشة ضنكا أي : عيشا ضيقا ، والعياذ بالله تعالى .

    واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيق على أقوال متقاربة ، لا يكذب بعضها بعضا . وقد قدمنا مرارا : أن الأولى في مثل ذلك شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة . ومن الأقوال في ذلك : أن معنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم ، والقناعة ، والتوكل على الله ، والرضا بقسمته فصاحبه ينفق مما رزقه الله بسماح وسهولة ، فيعيش عيشا هنيئا . ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 16 \ 97 ] وقوله تعالى : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى الآية [ 11 \ 3 ] كما تقدم إيضاح ذلك كله .

    وأما المعرض عن الدين فإنه يستولي عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق ، فعيشه ضنك ، وحاله مظلمة . ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة ، والمسكنة بسبب كفره ، كما قال تعالى : وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله الآيات [ 2 \ 61 ] . وذلك من العيش الضنك بسبب الإعراض عن ذكر الله . وبين في مواضع أخر أنهم لو تركوا الإعراض عن ذكر الله فأطاعوه تعالى أن عيشهم يصير واسعا رغدا لا ضنكا ، كقوله تعالى : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم الآية [ 5 \ 66 ] وقوله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض الآية [ 7 \ 96 ] وكقوله تعالى عن نوح : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا [ 71 \ 10 - 12 ] ، وقوله تعالى عن هود : ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم الآية [ 11 \ 52 ] [ ص: 127 ] وقوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه الآية [ 72 \ 16 - 17 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وعن الحسن أن المعيشة الضنك : هي طعام الضريع ، والزقوم يوم القيامة وذلك مذكور في آيات من كتاب الله تعالى ، كقوله : ليس لهم طعام إلا من ضريع الآية [ 88 \ 6 ] وقوله : إن شجرة الزقوم طعام الأثيم الآية [ 44 \ 43 - 44 ] ونحو ذلك من الآيات . وعن عكرمة ، والضحاك ومالك بن دينار : المعيشة الضنك : الكسب الحرام ، والعمل السيئ . وعن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة : المعيشة الضنك : عذاب القبر وضغطته . وقد أشار تعالى إلى فتنة القبر وعذابه في قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء [ 14 \ 27 ] ، .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة : أن المعيشة الضنك في الآية : عذاب القبر . وبعض طرقه بإسناد جيد كما قاله ابن كثير في تفسير هذه الآية . ولا ينافي ذلك شمول المعيشة الضنك لمعيشته في الدنيا . وطعام الضريع ، والزقوم . فتكون معيشته ضنكا في الدنيا ، والبرزخ ، والآخرة ، والعياذ بالله تعالى .
    قوله تعالى : ونحشره يوم القيامة أعمى .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من أعرض عن ذكره يحشره يوم القيامة في حال كونه أعمى . قال مجاهد ، وأبو صالح ، والسدي : أعمى أي : لا حجة له . وقال عكرمة : عمي عليه كل شيء إلا جهنم . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول . وقد ذكرنا أمثلة متعددة لذلك . فإذا علمت ذلك فاعلم أن في هذه الآية الكريمة قرينة دالة على خلاف قول مجاهد وأبي صالح ، وعكرمة . وأن المراد بقوله أعمى أي : أعمى البصر لا يرى شيئا . والقرينة المذكورة هي قوله تعالى : قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا [ 20 \ 125 ] ، فصرح بأن عماه هو العمى المقابل للبصر وهو بصر العين ، لأن الكافر كان في الدنيا أعمى القلب كما دلت على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله ، وقد زاد جل وعلا في سورة " بني إسرائيل " أنه مع ذلك العمى يحشر أصم أبكم أيضا ، وذلك في قوله تعالى : [ ص: 128 ] ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] .
    تنبيه

    في آية " طه " هذه وآية " الإسراء " المذكورتين إشكال معروف . وهو أن يقال : إنهما قد دلتا على أن الكافر يحشر يوم القيامة أعمى ، وزادت آية " الإسراء " أنه يحشر أبكم أصم أيضا ، مع أنه دلت آيات من كتاب الله على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويسمعون ويتكلمون . كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 \ 38 ] وقوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها الآية [ 18 \ 53 ] وقوله تعالى : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا الآية [ 32 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد ذكرنا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) الجواب عن هذا الإشكال من ثلاثة أوجه :

    الوجه الأول : واستظهره أبو حيان أن المراد بما ذكر من العمى ، والصمم ، والبكم حقيقته . ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها ، وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع . الوجه الثاني : أنهم لا يرون شيئا يسرهم ، ولا يسمعون كذلك ، ولا ينطقون بحجة ، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ، ولا ينطقون بالحق ، ولا يسمعونه . وأخرج ذلك ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي أيضا عن الحسن كما ذكره الألوسي ، وغيره . وعلى هذا القول فقد نزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به . كما أوضحنا في غير هذا الموضع . ومن المعلوم أن العرب تطلق لا شيء على ما لا نفع فيه . ألا ترى أن الله يقول في المنافقين : صم بكم عمي الآية [ 2 \ 18 ] مع أنه يقول فيهم : فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] ، ويقول فيهم : وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] ، أي : لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم . ويقول فيهم : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [ 2 \ 20 ] ، وما ذلك إلا لأن الكلام ونحوه الذي لا فائدة فيه كلا شيء : فيصدق على صاحبه أنه أعمى وأصم وأبكم ، ومن ذلك قول قعنب بن أم صاحب :


    صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا


    [ ص: 129 ] وقول الآخر :


    أصم عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد
    وقول الآخر :


    قل ما بدا لك من زور ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء
    ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب من إطلاق الصمم على السماع الذي لا فائدة فيه . وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه ، والرؤية التي لا فائدة فيها .

    الوجه الثالث : أن الله إذا قال لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 108 ] وقع بهم ذلك العمى ، والصمم ، والبكم من شدة الكرب ، واليأس من الفرج ، قال تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] ، وعلى هذا القول تكون الأحوال الخمسة مقدرة ، أعني قوله في " طه " : ونحشره يوم القيامة أعمى [ 20 \ 125 ] ، وقوله فيها : لم حشرتني أعمى وقوله في " الإسراء : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما [ 17 \ 97 ] ، وأظهرها عندي الأول ، والله تعالى أعلم .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] من النسيان بمعنى الترك عمدا كما قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله : فنسي ولم نجد له عزما . [ 20 \ 115 ] .
    قوله تعالى : وكذلك نجزي من أسرف .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يجازي المسرفين ذلك الجزاء المذكور . وقد دل مسلك الإيماء والتنبيه على أن ذلك الجزاء لعلة إسرافهم على أنفسهم في الطغيان والمعاصي ، وبين في غير هذا الموضع أن جزاء الإسراف النار ، وذلك في قوله تعالى : وأن المسرفين هم أصحاب النار [ 40 \ 43 ] ، وبين في موضع آخر أن محل ذلك إذا لم ينيبوا إلى الله ويتوبوا إليه ، وذلك في قوله : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إلى قوله : وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب الآية [ 39 \ 52 - 54 ] .
    قوله تعالى : ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

    [ ص: 130 ] ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن عذاب الآخرة أشد وأبقى . أي : أشد ألما وأدوم من عذاب الدنيا ، ومن المعيشة الضنك التي هي عذاب القبر . وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع . كقوله تعالى : ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق [ 13 ] ، وقوله تعالى ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون [ 41 \ 16 ] ، وقوله تعالى : ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون [ 68 \ 33 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : أفلم يهد لهم . تقدم بعض الآيات الموضحة له في سورة " مريم " وسيأتي له بعد هذا إن شاء الله زيادة إيضاح .
    قوله تعالى : وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى .

    أظهر الأقوال عندي في معنى هذه الآية الكريمة أن الكفار اقترحوا - على عادتهم في التعنت - آية على النبوة كالعصا واليد من آيات موسى ، وكناقة صالح ، واقتراحهم لذلك بحرف التحضيض الدال على شدة الحض في طلب ذلك في قوله : لولا يأتينا [ 20 \ 138 ] ، أي : هلا يأتينا محمد بآية : كناقة صالح ، وعصا موسى ، أي : نطلب ذلك منه بحض وحث . فأجابهم الله بقوله : أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى [ 20 \ 133 ] وهي هذا القرآن العظيم ؛ لأنه آية هي أعظم الآيات وأدلها على الإعجاز . وإنما عبر عن هذا القرآن العظيم بأنه بينة ما في الصحف الأولى ؛ لأن القرآن برهان قاطع على صحة جميع الكتب المنزلة من الله تعالى ، فهو بينة واضحة على صدقها وصحتها : كما قال تعالى : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه [ 5 \ 48 ] وقال تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ 27 ] وقال تعالى : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [ 3 \ 93 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية على هذا التفسير الذي هو الأظهر أوضحه - جل وعلا - في سورة " العنكبوت " في قوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون [ 29





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #293
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (292)

    سُورَةُ طه
    صـ 131 إلى صـ 137





    - 51 ] فقوله في " العنكبوت " : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [ 29 \ 51 ] هو معنى قوله في " طه " : [ ص: 131 ] أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى كما أوضحنا . والعلم عند الله تعالى . ويزيد ذلك إيضاحا الحديث المتفق عليه : " ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما آمن البشر على مثله ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " وفي الآية أقوال أخر غير ما ذكرنا .
    قوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى .

    قد قدمنا في سورة " النساء " أن آية " طه " هذه تشير إلى معناها آية " القصص " التي هي قوله تعالى : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] ، وأن تلك الحجة التي يحتجون بها لو لم يأتهم نذير هي المذكورة في قوله تعالى : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .
    قوله تعالى : قل كل متربص فتربصوا .

    أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة : أن يقول للكفار الذين يقترحون عليه الآيات عنادا وتعنتا : كل منا ومنكم متربص ، أي : منتظر ما يحل بالآخر من الدوائر ، كالموت ، والغلبة . وقد أوضح في غير هذا الموضع أن ما ينتظره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والمسلمون كله خير ، بعكس ما ينتظره ويتربص الكفار . كقوله تعالى : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون [ 9 \ 52 ] ، وقوله : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء الآية [ 9 \ 98 ] إلى غير ذلك من الآيات . والتربص : الانتظار .
    قوله تعالى : فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار سيعلمون في ثاني حال من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى . أي : وفق لطريق الصواب ، والديمومة على ذلك . وأمر نبيه أن يقول ذلك للكفار . والمعنى : سيتضح لكم أنا مهتدون ، وأنا على صراط مستقيم ، وأنكم على ضلال وباطل . وهذا يظهر لهم يوم القيامة إذا عاينوا الحقيقة ، ويظهر لهم في الدنيا لما يرونه من نصر الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - .

    [ ص: 132 ] وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه في غير هذا الموضع . كقوله : وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا [ 25 \ 42 ] ، وقوله : سيعلمون غدا من الكذاب الأشر [ 54 \ 26 ] وقوله : ولتعلمن نبأه بعد حين [ 38 \ 88 ] إلى غير ذلك من الآيات . والصراط في لغة العرب : الطريق الواضح . والسوي : المستقيم ، وهو الذي لا اعوجاج فيه . ومنه قول جرير :

    أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم و " من " في قوله من أصحاب قال بعض العلماء : هي موصولة مفعول به لـ " تعلمون " . وقال بعضهم : هي استفهامية معلقة لفعل العلم ، كما قدمنا إيضاحه في " مريم " ، والعلم عند الله تعالى .
    [ ص: 133 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ .

    قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " النَّحْلِ " فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا .
    قوله تعالى : وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار أخفوا النجوى فيما بينهم ، قائلين : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو إلا بشر مثلهم ، فكيف يكون رسولا إليهم ؟ والنجوى : الإسرار بالكلام وإخفاؤه عن الناس . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من دعواهم أن بشرا مثلهم لا يمكن أن يكون رسولا ، وتكذيب الله لهم في ذلك جاء في آيات كثيرة ، وقد قدمنا كثيرا من ذلك ، كقوله : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] وقوله : فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله الآية [ 64 \ 6 ] وقوله : أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر [ 54 \ 24 ] وقوله : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ 33 - 34 ] وقوله تعالى : مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق الآية [ 25 \ 7 ] وقوله تعالى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا الآية [ 14 \ 10 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، كما تقدم إيضاح ذلك .

    وقد رد الله عليهم هذه الدعوى الكاذبة التي هي منع إرسال البشر ، كقوله هنا في هذه السورة الكريمة : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 21 \ 7 ] ، وقوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية الآية [ 13 \ 38 ] وقوله تعالى : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام [ ص: 134 ] ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] وقوله هنا : وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين [ 21 \ 8 ] إلى غير ذلك من الآيات . وجملة هل هذا إلا بشر مثلكم قيل : بدل من " النجوى " . أي : أسروا النجوى التي هي هذا الحديث الخفي الذي هو قولهم : هل هذا إلا بشر مثلكم . وصدر به الزمخشري ، وقيل : مفعول به للنجوى . لأنها بمعنى القول الخفي . أي : قالوا في خفية : هل هذا إلا بشر مثلكم . وقيل : معمول قول محذوف ، أي : قالوا هل هذا إلا بشر مثلكم ، وهو أظهرها ؛ لاطراد حذف القول مع بقاء مقوله . وفي قوله : الذين ظلموا أوجه كثيرة من الإعراب معروفة ، وأظهرها عندي أنها بدل من الواو في قوله : وأسروا بدل بعض من كل ، وقد تقرر في الأصول : أن بدل البعض من الكل من المخصصات المتصلة ، كقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، . فقوله من بدل من " الناس " : بدل بعض من كل ، وهي مخصصة لوجوب الحج بأنه لا يجب إلا على من استطاع إليه سبيلا . كما قدمنا هذا في سورة " المائدة " .
    قوله تعالى : أفتأتون السحر وأنتم تبصرون .

    إعراب هذه الجملة جار مجرى إعراب الجملة التي قبلها ، التي هي هل هذا إلا بشر مثلكم والمعنى أنهم زعموا أن ما جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - سحر ، وبناء على ذلك الزعم الباطل أنكروا على أنفسهم إتيان السحر وهم يبصرون . يعنون بذلك تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : لا يمكن أن نصدقك ونتبعك ، ونحن نبصر أن ما جئت به سحر . وقد بين - جل وعلا - في غير هذا الموضع أنهم ادعوا أن ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - سحر ، كقوله عن بعضهم : إن هذا إلا سحر يؤثر [ 74 \ 24 ] ، وقوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون [ 51 \ 52 ] . وقد رد الله عليهم دعواهم أن القرآن سحر بقوله هنا : قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم [ 21 \ 4 ] يعني أن الذي يعلم القول في السماء والأرض الذي هو السميع العليم ، المحيط علمه بكل شيء ، هو الذي أنزل هذا القرآن العظيم ، وكون من أنزله هو العالم بكل شيء يدل على كمال صدقه في الأخبار وعدله في الأحكام ، وسلامته من جميع العيوب ، والنقائص ، وأنه ليس بسحر . وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 \ 6 ] وقوله تعالى : [ ص: 135 ] لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا [ 4 \ 166 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقرأ هذا الحرف حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم قال ربي يعلم القول بألف بعد القاف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي ، وقرأه الباقون قل بضم القاف وإسكان اللام بصيغة الأمر .
    قوله تعالى : بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر .

    الظاهر أن الإضراب في قوله هنا : بل قالوا أضغاث أحلام [ 21 \ 5 ] إلخ ، إضراب انتقالي لا إبطالي ، لأنهم قالوا ذلك كله ، وقال بعض العلماء :

    كل هذه الأقوال المختلفة التي حكاها الله عنهم صدرت من طائفة متفقة لا يثبتون على قول ، بل تارة يقولون هو ساحر ، وتارة شاعر ، وهكذا ؛ لأن المبطل لا يثبت على قول واحد . وقال بعض أهل العلم : كل واحد من تلك الأقوال قالته طائفة ، كما قدمنا الإشارة إلى هذا في سورة " الحجر " في الكلام على قوله تعالى : الذين جعلوا القرآن عضين [ 15 \ 91 ] ، وقد رد الله عليهم هذه الدعاوى الباطلة في آيات من كتابه ، كرده دعواهم أنه شاعر أو كاهن في قوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين [ 69 \ 41 - 47 ] ، وقوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين [ 36 ] ، وقوله في رد دعواهم أنه افتراه : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ 10 \ 37 - 38 ] وقوله تعالى : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ 11 \ 13 ] ، وقوله تعالى : ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 12 \ 111 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وكقوله في رد دعواهم أنه كاهن أو مجنون : فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون [ 52 \ 29 ] ، وقوله تعالى : وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] وقوله تعالى : قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد [ ص: 136 ] [ 34 \ 46 ] وقوله : أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون [ 23 ] إلى غير ذلك من الآيات المبينة إبطال كل ما ادعوه في النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن .

    وقوله أضغاث أحلام [ 21 \ 5 ] أي : أخلاط كالأحلام المختلفة التي يراها النائم ولا حقيقة لها ، كما قال الشاعر :


    أحاديث طسم أو سراب بفدفد ترقرق للساري وأضغاث حالم
    وعن اليزيدي : الأضغاث ما لم يكن له تأويل .
    قوله تعالى : فليأتنا بآية كما أرسل الأولون .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار اقترحوا على نبينا أن يأتيهم بآية كآيات الرسل قبله ؛ نحو ناقة صالح ، وعصى موسى ، وريح سليمان ، وإحياء عيسى للأموات ، وإبرائه الأكمه والأبرص ، ونحو ذلك . وإيضاح وجه التشبيه في قوله : كما أرسل الأولون هو أنه في معنى : كما أتى الأولون بالآيات ؛ لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات . فقولك أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالمعجزة . وقد بين تعالى أن الآيات التي اقترحوها لو جاءتهم ما آمنوا ، وأنها لو جاءتهم وتمادوا على كفرهم أهلكهم الله بعذاب مستأصل ، كما أهلك قوم صالح لما عقروا الناقة . كقوله تعالى : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها الآية [ 17 \ 59 ] وكقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] . وأشار إلى ذلك هنا في قوله : ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون [ 21 \ 6 ] يعني أن الأمم الذين اقترحوا الآيات من قبلهم وجاءتهم رسلهم بما اقترحوا لم يؤمنوا ، بل تمادوا فأهلكهم الله ، وأنتم أشد منهم عتوا وعنادا . فلو جاءكم ما اقترحتم ما آمنتم ، فهلكتم كما هلكوا . وقال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية [ 10 \ 96 - 97 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وبين أنهم جاءتهم آية هي أعظم الآيات ، فيستحق من لم يكتف بها التقريع والتوبيخ ، وذلك في قوله : وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن الآية [ 29

    - 51 ] . وقد ذكرنا أن هذا المعنى يشير إليه قوله : وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في [ ص: 137 ] الصحف الأولى [ 20 \ 133 ] وقوله : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا إلى قوله : وما كانوا خالدين [ 21 \ 8 ] ، قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
    قوله تعالى : ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين .

    بين - جل وعلا - في هذه الآيات أنه أرسل الرسل إلى الأمم فكذبوهم ، وأنه وعد الرسل بأن لهم النصر والعاقبة الحسنة ، وأنه صدق رسله ذلك الوعد فأنجاهم . وأنجى معهم ما شاء أن ينجيه . والمراد به من آمن بهم من أممهم ، وأهلك المسرفين وهم الكفار المكذبون الرسل ، وقد أوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه ، كقوله تعالى : حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين [ 12 \ 110 ] وقوله : فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام [ 14 \ 47 ] وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [ 14 \ 13 - 14 ] وقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] وقوله تعالى : ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا الآية [ 11 \ 58 ] وقوله تعالى : فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا الآية [ 11 \ 66 ] وقوله : ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا [ 11 \ 94 ] إلى غير ذلك من الآيات . والظاهر أن " صدق " تتعدى بنفسها وبالحرف ، تقول : صدقته الوعد ، وصدقته في الوعد ، كقوله هنا : ثم صدقناهم الوعد [ 21 \ 9 ] وقوله : ولقد صدقكم الله وعده [ 3 \ 152 ] فقول الزمخشري : " صدقناهم الوعد كقوله : واختار موسى قومه سبعين رجلا " - لا حاجة إليه ، والله أعلم . والإسراف : مجاوزة الحد في المعاصي كالكفر ، ولذلك يكثر في القرآن إطلاق المسرفين على الكفار .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #294
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ




    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (293)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

    صـ 138 إلى صـ 144



    قوله تعالى : وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين .

    " وكم " هنا للإخبار بعدد كثير ، وهي في محل نصب ؛ لأنها مفعول " قصمنا " أي : قصمنا كثيرا من القرى التي كانت ظالمة ، وأنشأنا بعدها قوما آخرين . وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبينا في مواضع كثيرة من كتاب الله . كقوله تعالى : وكم أهلكنا من [ ص: 138 ] القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا [ 17 \ 17 ] وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها الآية [ 22 \ 45 ] وقوله : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا [ 65 \ 8 - 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : وكم قصمنا أصل القصم : أفظع الكسر ؛ لأنه الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء ، بخلاف الفصم - بالفاء - فهو كسر لا يبين تلاؤم الأجزاء بالكلية . والمراد بالقصم في الآية : الإهلاك الشديد .
    قوله تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين .

    قد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " الحجر " فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وكذلك قوله : بل نقذف بالحق على الباطل الآية [ 21 \ 18 ] . قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " بني إسرائيل " ، وكذلك الآيات التي بعد هذا ، قد قدمنا في مواضع متعددة ما يبينها من كتاب الله .

    قوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار - لعنهم الله - قالوا عليه : إنه اتخذ ولدا . وقد بينا ذلك فيما مضى بيانا شافيا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك . سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . وبين هنا بطلان ما ادعوه على ربهم من اتخاذ الأولاد - وهم في زعمهم الملائكة - بحرف الإضراب الإبطالي الذي هو " بل " مبينا أنهم عباده المكرمون ، والعبد لا يمكن أن يكون ولدا لسيده . ثم أثنى على ملائكته بأنهم عباد مكرمون ، لا يسبقون ربهم بالقول ، أي : لا يقولون إلا ما أمرهم أن يقولوه لشدة طاعتهم له وهم بأمره يعملون . وما أشار إليه في هذه الآية الكريمة من أن الملائكة عبيده وملكه ، والعبد لا يمكن أن يكون ولدا لسيده ، أشار له في غير هذا الموضع ؛ كقوله في " البقرة " : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون [ 2 \ 116 ] وقوله في " النساء " : إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [ 4 \ 171 ] أي : والمالك لكل شيء لا يمكن أن يكون له ولد ؛ لأن الملك ينافي الولدية ، ولا يمكن أن يوجد شيء سواه إلا [ ص: 139 ] وهو ملك له - جل وعلا - .

    وما ذكره في هذه الآية الكريمة من الثناء الحسن على ملائكته - عليهم صلوات الله وسلامه - بينه في غير هذا الموضع . كقوله تعالى . عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] وقوله تعالى : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 - 12 ] وقوله تعالى : وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون [ 21 \ 19 - 20 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    مسألة

    أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن أن الأب إذا ملك ابنه عتق عليه بالملك . ووجه ذلك واضح ؛ لأن الكفار زعموا أن الملائكة بنات الله . فنفى الله تلك الدعوى بأنهم عباده وملكه ، فدل ذلك على منافاة الملك للولدية ، وأنهما لا يصح اجتماعهما ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين .

    الضمير في قوله : منهم عائد إلى الملائكة المذكورين في قوله : بل عباد مكرمون [ 21 \ 26 ] والمعنى أنهم مع كرامتهم على الله لو ادعى أحد منهم أن له الحق في صرف شيء من حقوق الله الخاصة به إليه لكان مشركا ، وكان جزاؤه جهنم . ومعلوم أن التعليق يصح فيما لا يمكن ولا يقع ، فقوله : قل إن كان للرحمن ولد الآية [ 43 \ 81 ] وقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] والمراد بذلك تعظيم أمر الشرك . وهذا الفرض والتقدير الذي ذكره - جل وعلا - هنا في شأن الملائكة ذكره أيضا في شأن الرسل ، على الجميع صلوات الله وسلامه ، قال تعالى : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ 39 \ 65 ] ولما ذكر - جل وعلا - من ذكر من الأنبياء في سورة " الأنعام " في قوله : ومن ذريته داود [ 6 \ 84 ] إلى آخر من ذكر منهم ، قال بعد ذلك : ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [ 6 \ 88 ] .

    [ ص: 140 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم الآية [ 21 \ 29 ] دليل قاطع على أن حقوق الله الخالصة له من جميع أنواع العبادة لا يجوز أن يصرف شيء منها لأحد ولو ملكا مقربا ، أو نبيا مرسلا . ومما يوضح ذلك قوله تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 79 - 80 ] وقوله تعالى مخاطبا لسيد الخلق - صلوات الله وسلامه عليه - : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [ 3 \ 64 ] .
    قوله تعالى : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا .

    قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير " أولم ير " بواو بعد الهمزة ، وقرأه ابن كثير " ألم ير الذين كفروا " بدون واو ، وكذلك هو في مصحف مكة . والاستفهام لتوبيخ الكفار وتقريعهم ، حيث يشاهدون غرائب صنع الله وعجائبه ، ومع هذا يعبدون من دونه ما لا ينفع من عبده ، ولا يضر من عصاه ، ولا يقدر على شيء .

    وقوله : كانتا التثنية باعتبار النوعين اللذين هما نوع السماء ونوع الأرض ، كقوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا [ 35 \ 41 ] ونظيره قول عمر بن شيبة :


    ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعا
    والرتق مصدر رتقه رتقا : إذا سده . ومنه الرتقاء ، وهي التي انسد فرجها ، ولكن المصدر وصف به هنا ، ولذا أفرده ولم يقل كانتا رتقين . والفتق : الفصل بين الشيئين المتصلين ، فهو ضد الرتق ، ومنه قول الشاعر :


    يهون عليهم إذا يغضبو ن سخط العداة وإرغامها
    ورتق الفتوق وفتق الرتوق ونقض الأمور وإبرامها
    واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالرتق والفتق في هذه الآية على خمسة أقوال ، بعضها في غاية السقوط ، وواحد منها تدل له قرائن من القرآن العظيم :

    [ ص: 141 ] الأول أن معنى كانتا رتقا أي : كانت السماوات والأرض متلاصقة بعضها مع بعض ، ففتقها الله وفصل بين السماوات والأرض ، فرفع السماء إلى مكانها ، وأقر الأرض في مكانها ، وفصل بينهما بالهواء الذي بينهما كما ترى .

    القول الثاني : أن السماوات السبع كانت رتقا ، أي : متلاصقة بعضها ببعض ، ففتقها الله وجعلها سبع سماوات ، كل اثنتين منها بينهما فصل ، والأرضون كذلك كانت رتقا ففتقها ، وجعلها سبعا بعضها منفصل عن بعض .

    القول الثالث : أن معنى كانتا رتقا أن السماء كانت لا ينزل منها مطر ، والأرض كانت لا ينبت فيها نبات ، ففتق الله السماء بالمطر ، والأرض بالنبات .

    القول الرابع : كانتا رتقا أي : في ظلمة لا يرى من شدتها شيء ، ففتقهما الله بالنور . وهذا القول في الحقيقة يرجع إلى القول الأول والثاني .

    الخامس : - وهو أبعدها لظهور سقوطه - أن الرتق يراد به العدم ، والفتق يراد به الإيجاد ، أي : كانتا عدما فأوجدناهما . وهذا القول كما ترى .

    فإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه الآية ، فاعلم أن القول الثالث منها - وهو كونهما كانتا رتقا بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر ، والأرض لا تنبت شيئا ، ففتق الله السماء بالمطر ، والأرض بالنبات - قد دلت عليه قرائن من كتاب الله تعالى :

    الأولى : أن قوله تعالى : أولم ير الذين كفروا أن [ 21 ] يدل على أنهم رأوا ذلك ؛ لأن الأظهر في " رأى " أنها بصرية ، والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر ، والأرض ميتة هامدة لا نبات فيها ، فيشاهدون بأبصارهم إنزال الله المطر وإنباته به أنواع النبات .

    القرينة الثانية : أنه أتبع ذلك بقوله : وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون [ 21 ] . والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله ، أي : وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء ، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض - كل شيء حي .

    القرينة الثالثة : أن هذا المعنى جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله ؛ كقوله تعالى : والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع [ 86 \ 12 ] لأن المراد بالرجع نزول المطر منها تارة بعد أخرى ، والمراد بالصدع انشقاق الأرض عن النبات ، وكقوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا الآية [ ص: 142 ] [ 80 \ 24 - 26 ] .

    واختار هذا القول ابن جرير ، وابن عطية ، وغيرهما ؛ للقرائن التي ذكرنا . ويؤيد ذلك كثرة ورود الاستدلال بإنزال المطر ، وإنبات النبات في القرآن العظيم على كمال قدرة الله تعالى ، وعظم منته على خلقه ، وقدرته على البعث . والذين قالوا : إن المراد بالرتق والفتق أنهما كانتا متلاصقتين ، ففتقهما الله وفصل بعضهما عن بعض - قالوا في قوله : أولم ير أنها من " رأى " العلمية لا البصرية ، وقالوا : وجه تقريرهم بذلك أنه جاء في القرآن ، وما جاء في القرآن فهو أمر قطعي لا سبيل للشك فيه . والعلم عند الله تعالى .

    وأقرب الأقوال في ذلك هو ما ذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه ، وقد قال فيه الفخر الرازي في تفسيره : ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك : وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا .

    فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ؛ لأن المطر لا ينزل من السماوات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا .

    قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وبرمة أعشار . ا هـ منه .
    قوله تعالى : وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون .

    الظاهر أن " جعل " هنا بمعنى خلق ؛ لأنها متعدية لمفعول واحد . ويدل لذلك قوله تعالى في سورة " النور " : والله خلق كل دابة من ماء [ 24 \ 45 ] .

    واختلف العلماء في معنى خلق كل شيء من الماء . قال بعض العلماء : الماء الذي خلق منه كل شيء هو النطفة ؛ لأن الله خلق جميع الحيوانات التي تولد عن طريق التناسل من النطف ، وعلى هذا فهو من العام المخصوص .

    وقال بعض العلماء : هو الماء المعروف ؛ لأن الحيوانات إما مخلوقة منه مباشرة كبعض الحيوانات التي تتخلق من الماء ، وإما غير مباشرة ؛ لأن النطف من الأغذية ، والأغذية كلها ناشئة عن الماء ، وذلك في الحبوب والثمار ونحوها ظاهر ، وكذلك هو في اللحوم ، والألبان ، والأسمان ونحوها ؛ لأنه كله ناشئ بسبب الماء .

    وقال بعض أهل العلم : معنى خلقه كل حيوان من ماء أنه كأنما خلقه من الماء [ ص: 143 ] لفرط احتياجه إليه ، وقلة صبره عنه ، كقوله : خلق الإنسان من عجل [ 21 \ 37 ] إلى غير ذلك من الأقوال . وقد قدمنا المعاني الأربعة التي تأتي لها لفظة " جعل " وما جاء منها في القرآن وما لم يجئ فيه في سورة " النحل " .

    وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : لقائل أن يقول : كيف قال : وخلقنا من الماء كل حيوان ؟ وقد قال : والجان خلقناه من قبل من نار السموم [ 15 \ 27 ] وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور ، وقال تعالى في حق عيسى - عليه السلام - : وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني [ 5 \ 110 ] وقال في حق آدم : خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] .

    والجواب : اللفظ وإن كان عاما إلا أن القرينة المخصصة قائمة ، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهدا محسوسا ؛ ليكون أقرب إلى المقصود . وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة ، والجن ، وآدم ، وقصة عيسى عليهم السلام ؛ لأن الكفار لم يروا شيئا من ذلك . ا هـ منه .

    ثم قال الرازي أيضا : اختلف المفسرون ، فقال بعضهم : المراد من قوله : كل شيء حي الحيوان فقط . وقال آخرون : بل يدخل فيه النبات ، والشجر ؛ لأنه من الماء صار ناميا ، وصار فيه الرطوبة ، والخضرة ، والنور ، والثمر . وهذا القول أليق بالمعنى المقصود ، كأنه تعالى قال : ففتقنا السماء لإنزال المطر ، وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حيا . حجة القول الأول : أن النبات لا يسمى حيا . قلنا : لا نسلم ، والدليل عليه قوله تعالى : كيف يحيي الأرض بعد موتها [ 30 \ 50 ] انتهى منه أيضا .
    قوله تعالى : وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون .

    قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " النحل " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
    قوله تعالى : وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون .

    تضمنت هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :

    الأولى : أن الله - جل وعلا - جعل السماء سقفا ، أي : لأنها للأرض كالسقف للبيت .

    الثانية : أنه جعل ذلك السقف محفوظا .

    [ ص: 144 ] الثالثة : أن الكفار معرضون عما فيها - أي السماء - من الآيات ، لا يتعظون به ، ولا يتذكرون . وقد أوضح هذه المسائل الثلاث في غير هذا الموضع

    أما كونه جعلها سقفا فقد ذكره في سورة " الطور " أنه مرفوع ، وذلك في قوله : والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع [ 52 - 5 ] .

    وأما كون ذلك السقف محفوظا فقد بينه في مواضع من كتابه ، فبين أنه محفوظ من السقوط في قوله : ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه [ 22 \ 65 ] وقوله : ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره [ 30 \ 25 ] وقوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا [ 35 \ 41 ] وقوله : وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم [ 2 \ 255 ] وقوله : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين [ 23 \ 17 ] على قول من قال : وما كنا عن الخلق غافلين . إذ لو كنا نغفل لسقطت عليهم السماء فأهلكتهم . وبين أنه محفوظ من التشقق والتفطر ، لا يحتاج إلى ترميم ولا إصلاح كسائر السقوف إذا طال زمنها ، كقوله تعالى : فارجع البصر هل ترى من فطور [ 67 \ 3 ] وقوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ 50 \ 6 ] أي : ليس فيها من شقوق ، ولا صدوع ، وبين أن ذلك السقف المذكور محفوظ من كل شيطان رجيم ، كقوله : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] وقد بينا الآيات الدالة على حفظها من جميع الشياطين في سورة " الحجر " . وأما كون الكفار معرضين عما فيها من الآيات فقد بينه في مواضع من كتابه ، كقوله تعالى : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] وقوله : وإن يروا آية يعرضوا الآية [ 54 \ 2 ] وقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية [ 10 \ 96 - 97 ] وقوله : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #295
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (294)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 145 إلى صـ 151




    قوله تعالى : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت .

    قال بعض أهل العلم : كان المشركون ينكرون نبوته - صلى الله عليه وسلم - ويقولون : هو شاعر يتربص به ريب المنون ، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان ، فقال الله تعالى : قد مات [ ص: 145 ] الأنبياء من قبلك ، وتولى دينه بالنصر والحياطة ، فهكذا نحفظ دينك وشرعك .

    وقال بعض أهل العلم : لما نعى جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه قال : " فمن لأمتي " ؟ فنزلت وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد [ 21 \ 34 ] والأول أظهر ؛ لأن السورة مكية ، ومعنى الآية أن الله لم يجعل لبشر قبل نبيه الخلد أي : دوام البقاء في الدنيا ، بل كلهم يموت .

    وقوله : أفإن مت فهم الخالدون استفهام إنكاري معناه النفي . والمعنى : أنك إن مت فهم لن يخلدوا بعدك ، بل سيموتون ، ولذلك أتبعه بقوله : كل نفس ذائقة الموت [ 3 \ 185 ] وما أشار إليه - جل وعلا - في هذه الآية من أنه - صلى الله عليه وسلم - سيموت ، وأنهم سيموتون ، وأن الموت ستذوقه كل نفس أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : إنك ميت وإنهم ميتون [ 39 \ 3 ] وكقوله : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 52 \ 26 - 27 ] وقوله في سورة " آل عمران " : كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [ 3 \ 185 ] وقوله في سورة " العنكبوت " : ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون [ 29 \ 56 - 57 ] وقوله تعالى في سورة " النساء " : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة [ 4 \ 78 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا في سورة " الكهف " استدلال بعض أهل العلم بهذه الآية الكريمة على موت الخضر عليه السلام . وقال بعض أهل العلم في قوله : فهم الخالدون هو استفهام حذفت أداته . أي : أفهم الخالدون . وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز ، وهو قياسي عند الأخفش مع " أم " ، ودونها ذكر الجواب أم لا ، فمن أمثلته دون " أم " ودون ذكر الجواب قول الكميت :


    طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب
    يعني : أو ذو الشيب يلعب . وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد :


    رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
    يعني : أهم هم على التحقيق . ومن أمثلته دون " أم " مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :


    ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصى والتراب


    [ ص: 146 ] يعني : أتحبها على الصحيح . وهو مع " أم " كثير جدا ، وأنشد له سيبويه قول الأسود بن يعفر التميمي :


    لعمرك ما أدري وإن كنت داريا شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر


    يعني : أشعيث بن سهم ، ومنه قول بن أبي ربيعة المخزومي :


    بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان

    فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان
    يعني : أبسبع . وقول الأخطل :


    كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
    يعني : أكذبتك عينك . كما نص سيبويه في كتابه على جواز ذلك في بيت الأخطل هذا ، وإن خالف في ذلك الخليل قائلا : إن " كذبتك " صيغة خبرية ليس فيها استفهام محذوف ، وإن " أم " بمعنى بل . ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى " الرجوع " . وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " آل عمران " وذكرنا أن قوله تعالى في آية " الأنبياء " هذه فهم الخالدون من أمثلة ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أفإن مت قرأه نافع وحفص ، عن عاصم وحمزة ، والكسائي " مت " بكسر الميم ، والباقون بضم الميم ، وقد أوضحنا في سورة " مريم " وجه كسر الميم . وقوله في هذه الآية الكريمة : أفإن مت فهم الخالدون يفهم منه أنه لا ينبغي للإنسان أن يفرح بموت أحد لأجل أمر دنيوي يناله بسبب موته ؛ لأنه هو ليس مخلدا بعده .

    وروي عن الشافعي أنه أنشد هذين البيتين مستشهدا بهما :


    تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد

    فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
    ونظير هذا قول الآخر :

    فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
    قوله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون .

    [ ص: 147 ] المعنى : ونختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا ، ومما يجب فيه الشكر من النعم ، وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر ، وقوله : فتنة مصدر مؤكد لـ ونبلوكم من غير لفظه .

    وما ذكره - جل وعلا - من أنه يبتلي خلقه أي : يختبرهم بالشر والخير - قد بينه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون [ 7 \ 168 ] وقوله تعالى : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ 6 \ 42 - 45 ] وقوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 94 - 95 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله تعالى في هذه الآيات الكريمة : ونبلوكم بالشر والخير يدل على أن " بلا يبلو " تستعمل في الاختبار بالنعم وبالمصائب والبلايا . وقال بعض العلماء : أكثر ما يستعمل في الشر " بلا يبلو " ، وفي الخير " أبلى يبلي " . وقد جمع اللغتين في الخير قول زهير بن أبي سلمى :


    جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
    وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : ونبلوكم بالشر والخير قال : أي نبتليكم بالشر والخير فتنة بالشدة ، والرخاء ، والصحة ، والسقم ، والغنى ، والفقر ، والحلال ، والحرام ، والطاعة ، والمعصية ، والهدى ، والضلال .
    قوله تعالى : وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يتخذونه إلا هزوا ، أي مستهزأ به مستخفا به . والهزؤ : السخرية ، فهو مصدر وصف به . ويقولون : أهذا الذي يذكر آلهتكم أي : يعيبها وينفي أنها تشفع لكم وتقربكم إلى الله زلفى ، [ ص: 148 ] ويقول : إنها لا تنفع من عبدها ، ولا تضر من لم يعبدها ، وهم مع هذا كله كافرون بذكر الرحمن ، فالخطاب في قوله : وإذا رآك للنبي - صلى الله عليه وسلم - و " إن " في قوله : إن يتخذونك نافية . والاستفهام في قوله أهذا الذي يذكر آلهتكم قال فيه أبو حيان في البحر : إنه للإنكار والتعجيب . والذي يظهر لي أنهم يريدون بالاستفهام المذكور التحقير بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما تدل عليه قرينة قوله : إن يتخذونك إلا هزوا . وقد تقرر في فن المعاني أن من الأغراض التي تؤدى بالاستفهام التحقير . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : إن جواب " إذا " هو القول المحذوف ، وتقديره : وإذا رآك الذين كفروا يقولون أهذا الذي يذكر آلهتكم . وقال : إن جملة إن يتخذونك إلا هزوا جملة معترضة بين إذا وجوابها . واختار أبو حيان في البحر أن جواب " إذا " هو جملة إن يتخذونك وقال : إن جواب إذا بجملة مصدرة بـ " إن " أو " ما " النافيتين لا يحتاج إلى الاقتران بالفاء . وقوله : يذكر آلهتكم أي : يعيبها . ومن إطلاق الذكر بمعنى العيب قوله تعالى : قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم [ 21 \ 60 ] أي : يعيبهم ، وقول عنترة :


    لا تذكري مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
    أي لا تعيبي مهري ، قاله القرطبي .

    وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : الذكر يكون بخير وبخلافه ، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد ، كقولك للرجل : سمعت فلانا يذكرك ، فإذا كان الذاكر صديقا فهو ثناء ، وإن كان عدوا فذم ، ومنه قوله تعالى : سمعنا فتى يذكرهم [ 21 \ 60 ] وقوله : أهذا الذي يذكر آلهتكم [ 21 \ 36 ] انتهى محل الغرض منه . والجملة في قوله : وهم بذكر الرحمن هم كافرون حالية . وقال بعض أهل العلم : معنى كفرهم بذكر الرحمن هو الموضح في قوله تعالى : وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا [ 25 \ 60 ] وقولهم : ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب . وقد بين ابن جرير الطبري وغيره أن إنكارهم لمعرفتهم الرحمن تجاهل منهم ومعاندة مع أنهم يعرفون أن الرحمن من أسماء الله تعالى . قال : وقال بعض شعراء الجاهلية الجهلاء :


    ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قطع الرحمن ربي يمينها
    وقال سلامة بن جندل الطهوي :

    [ ص: 149 ]
    عجلتم علينا عجلتينا عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
    وفي هذه الآية الكريمة دلالة واضحة على سخافة عقول الكفار ؛ لأنهم عاكفون على ذكر أصنام لا تنفع ولا تضر ، ويسوءهم أن تذكر بسوء ، أو يقال : إنها لا تشفع ، ولا تقرب إلى الله . وأما ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية فهم به كافرون لا يصدقون به ، فهم أحق بأن يتخذوا هزؤا من النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي اتخذوه هزؤا ، فإنه محق وهم مبطلون . فإذا عرفت معنى هذه الآية الكريمة فاعلم أن هذا المعنى الذي دلت عليه جاء أيضا مبينا في سورة " الفرقان " في قوله تعالى : وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا [ 25 \ 41 - 42 ] فتحقيرهم - لعنهم الله - له - صلى الله عليه وسلم - المذكور في قوله في " الأنبياء " في قوله : أهذا الذي يذكر آلهتكم [ 21 \ 36 ] هو المذكور في قوله في " الفرقان " : أهذا الذي بعث الله رسولا [ 25 \ 41 ] وذكره لآلهتهم بالسوء المذكور في " الأنبياء " في قوله : يذكر آلهتكم هو المذكور في " الفرقان " في قوله : إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها [ 20 \ 42 ] أي : لما يبين من معائبها ، وعدم فائدتها ، وعظم ضرر عبادتها .
    قوله تعالى : خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون .

    قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر بعض العلماء في الآية قولا ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول . فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : من عجل فيه للعلماء قولان معروفان ، وفي نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة أحدهما . أما القول الذي دلت القرينة المذكورة على عدم صحته فهو قول من قال : العجل : الطين ، وهي لغة حميرية كما قال شاعرهم :


    البيع في الصخرة الصماء منبته والنخل ينبت بين الماء والعجل
    يعني : بين الماء والطين . وعلى هذا القول فمعنى الآية : خلق الإنسان من طين ، كقوله تعالى : أأسجد لمن خلقت طينا [ 17 \ 61 ] وقوله : وبدأ خلق الإنسان من طين [ 32 \ 7 ] والقرينة المذكورة الدالة على أن المراد بالعجل في الآية ليس الطين قوله بعده : فلا تستعجلون وقوله : ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [ ص: 150 ] [ 21 \ 38 ] فهذا يدل على أن المراد بالعجل هو العجلة التي هي خلاف التأني ، والتثبت . والعرب تقول : خلق من كذا . يعنون بذلك المبالغة في الإنصاف . كقولهم : خلق فلان من كرم ، وخلقت فلانة من الجمال . ومن هذا المعنى قوله تعالى : الله الذي خلقكم من ضعف [ 30 \ 54 ] على الأظهر . ويوضح هذا المعنى قوله تعالى : ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا [ 17 \ 11 ] أي : ومن عجلته دعاؤه على نفسه أو ولده بالشر . قال بعض العلماء : كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار ، ويقولون : متى هذا الوعد . فنزل قوله : خلق الإنسان من عجل للزجر عن ذلك . كأنه يقول لهم : ليس ببدع منكم أن تستعجلوا ، فإنكم مجبولون على ذلك ، وهو طبعكم وسجيتكم . ثم وعدهم بأنه سيريهم آياته ، ونهاهم أن يستعجلوا بقوله : سأريكم آياتي فلا تستعجلون [ 21 \ 37 ] كما قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] وقال بعض أهل العلم : المراد بالإنسان في قوله : خلق الإنسان من عجل آدم . وعن سعيد بن جبير ، والسدي : لما دخل الروح في عيني آدم نظر في ثمار الجنة ، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام ، فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه ؛ عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك قوله : خلق الإنسان من عجل . وعن مجاهد ، والكلبي ، وغيرهما : خلق آدم يوم الجمعة في آخر النهار ، فلما أحيا الله رأسه استعجل وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس .

    والظاهر أن هذه الأقوال ونحوها من الإسرائيليات . وأظهر الأقوال أن معنى الآية أن جنس الإنسان من طبعه العجل وعدم التأني كما بينا ، والعلم عند الله تعالى .

    وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم ، واستعجلت ذلك فقال الله تعالى : خلق الإنسان من عجل لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، وينظر ثم لا يؤخر . ولهذا قال : سأريكم آياتي أي : نقمي وحكمي ، واقتداري على من عصاني فلا تستعجلون . انتهى منه .
    قوله تعالى : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون .

    جواب " لو " في هذه الآية محذوف ، وقد قدمنا أدلة ذلك وشواهده من العربية [ ص: 151 ] في سورة " البقرة " ، وأشرنا إليه في سورة " إبراهيم " وسورة " يوسف " . ومعنى الآية الكريمة : لو يعلم الكفار الوقت الذي يسألون عنه بقولهم : متى هذا الوعد ؟ وهو وقت صعب شديد ، تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام . فلا يقدرون على منعها ودفعها عن أنفسهم ، ولا يجدون ناصرا ينصرهم ؛ لما كانوا بتلك الصفة من الكفر ، والاستهزاء ، والاستعجال ، ولكن جهلهم بذلك هو الذي هونه عليهم . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من المعاني جاء مبينا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى .

    أما إحاطة النار بهم في ذلك اليوم فقد جاءت موضحة في آيات متعددة ، كقوله تعالى : إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا [ 18 \ 29 ] وقوله تعالى : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش الآية [ 7 \ 41 ] وقوله تعالى : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون [ 39 \ 16 ] وقوله تعالى : سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار [ 14 \ 50 ] وقوله تعالى : تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [ 23 \ 104 ] إلى غير ذلك من الآيات . نرجو الله الكريم العظيم أن يعيذنا منها ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل ، إنه قريب مجيب . وما تضمنته من كونهم في ذلك اليوم ليس لهم ناصر ولا قوة يدفعون بها عن أنفسهم ، جاء مبينا في مواضع أخر . كقوله تعالى : فما له من قوة ولا ناصر [ 86 \ 10 ] وقوله تعالى : ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون [ 37 \ 25 - 26 ] والآيات في ذلك كثيرة .

    وما أشارت إليه هذه الآية من أن الذي هون عليهم ذلك اليوم العظيم حتى استعجلوه واستهزءوا بمن يخوفهم منه إنما هو جهلهم به جاء مبينا أيضا في مواضع أخر . كقوله تعالى : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق [ 42 ] 18 ، وقوله تعالى : قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون [ 10 \ 50 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لو يعلم قال بعض أهل العلم : هو فعل متعد ، والظاهر أنها عرفانية ، فهي تتعدى إلى مفعول واحد ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :


    لعلم عرفان وظن تهمة تعدية لواحد ملتزمة



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #296
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (295)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 152 إلى صـ 158





    وعلى هذا فالمفعول هذا قوله : حين أي : لو يعرفون حين وقوع العذاب بهم وما فيه من الفظائع لما استخفوا به واستعجلوه . وعلى هذا فالحين مفعول به لا مفعول فيه ؛ لأن العلم الذي هو بمعنى المعرفة واقع على نفس الحين المذكور . وقال بعض أهل العلم : فعل العلم في هذه الآية منزل منزلة اللازم ، فليس واقعا على مفعول . وعليه فالمعنى : لو كان لهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين . وعلى هذا فالآية كقوله تعالى : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 \ 9 ] والمعنى : لا يستوي من عنده علم ومن لا علم عنده . وقد تقرر في فن المعاني أنه إذا كان الغرض إثبات الفعل لفاعله في الكلام المثبت ، أو نفيه عنه في الكلام المنفي مع قطع النظر عن اعتبار تعلق الفعل بمن وقع عليه ، فإنه يجري مجرى اللازم ، كقوله : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 \ 9 ] لأنه يراد منه أن من ثبتت له صفة العلم لا يستوي هو ومن انتفت عنه ، ولم يعتبر هنا وقوع العلم على معلومات من اتصف بذلك العلم . وعلى هذا القول فقوله : حين لا يكفون منصوب بمضمر . أي : حين لا يكفون عن وجههم النار يعلمون أنهم كانوا على الباطل . والأول هو الأظهر . واستظهر أبو حيان أن مفعول " يعلم " محذوف ، وأنه هو العامل في الظرف الذي هو " حين " ، والتقدير : لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي استعجلوه حين لا يكفون لما كفروا واستعجلوا واستهزءوا .

    واعلم أنه لا إشكال في قوله تعالى : خلق الإنسان من عجل مع قوله فلا تستعجلون فلا يقال : كيف يقول : إن الإنسان خلق من العجل وجبل عليه ، ثم ينهاه عما خلق منه وجبل عليه ؛ لأنه تكليف بمحال ! ؟ لأنا نقول : نعم هو جبل على العجل ، ولكن في استطاعته أن يلزم نفسه بالتأني . كما أنه جبل على حب الشهوات مع أنه في استطاعته أن يلزم نفسه بالكف عنها . كما قال تعالى : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى . [ 79 \ 40 - 41 ] .
    قوله تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون .

    في هذه الآية الكريمة تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن إخوانه من الرسل الكرام - صلوات الله وسلامه عليهم - استهزأ بهم الكفار ، كما استهزءوا به - صلى الله عليه وسلم - يعني : فاصبر كما صبروا ، ولك [ ص: 153 ] العاقبة الحميدة ، والنصر النهائي كما كان لهم . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من ذلك جاء موضحا في مواضع من كتاب الله . كقوله تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك [ 41 \ 43 ] وقوله تعالى : وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك [ 11 \ 120 ] وقوله تعالى : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين [ 6 ] وقوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير [ 35 \ 25 - 26 ] وقوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور [ 35 \ 4 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : فحاق بالذين سخروا منهم أي : أحاط بهم . ومادة حاق يائية العين ، بدليل قوله في المضارع : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] ولا تستعمل هذه المادة إلا في إحاطة المكروه خاصة . فلا تقول : حاق به الخير بمعنى أحاط به . والأظهر في معنى الآية أن المراد : وحاق بهم العذاب الذي كانوا يكذبون به في الدنيا ويستهزئون به ، وعلى هذا اقتصر ابن كثير . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : فحاق أي : أحاط ودار بالذين كفروا و سخروا منهم وهزئوا بهم ( ما كانوا به يستهزئون ) [ 21 \ 41 ] أي جزاء استهزائهم . والأول أظهر ، والعلم عند الله تعالى . والآية تدل على أن السخرية من الاستهزاء وهو معروف .
    قوله تعالى : قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن .

    أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة أن يقول للمعرضين عن ذكر ربهم : من يكلؤكم أي : من هو الذي يحفظكم ويحرسكم بالليل في حال نومكم والنهار في حال تصرفكم في أموركم . والكلاءة بالكسر : الحفظ والحراسة . يقال : اذهب في كلاءة الله . أي : في حفظه ، واكتلأت منهم : احترست . ومنه قول ابن هرمة :


    إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها
    وقول كعب بن زهير :


    أنخت بعيري واكتلأت بعينه وآمرت نفسي أي أمري أفعل
    [ ص: 154 ] و " من " في قوله من الرحمن فيها للعلماء وجهان معروفان : أحدهما وعليه اقتصر ابن كثير : أن " من " هي التي بمعنى بدل . وعليه فقوله من الرحمن أي : بدل الرحمن ، يعني غيره . وأنشد ابن كثير لذلك قول الراجز :


    جارية لم تلبس المرققا

    ولم تذق من البقول الفستقا
    أي لم تذق بدل البقول الفستق . وعلى هذا القول فالآية كقوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة [ 9 \ 38 ] أي : بدلها . ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :


    أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ظلما ويكتب للأمير أفيلا
    يعني : أخذوا في الزكاة المخاض بدل الفصيل . والوجه الثاني : أن المعنى من يكلؤكم أي : يحفظكم من الرحمن أي : من عذابه وبأسه . وهذا هو الأظهر عندي . ونظيره من القرآن قوله تعالى : فمن ينصرني من الله إن عصيته [ 11 \ 63 ] أي : من ينصرني منه فيدفع عني عذابه . والاستفهام في قوله تعالى : من يكلؤكم قال أبو حيان في البحر : هو استفهام تقريع وتوبيخ ، وهو عندي يحتمل الإنكار والتقرير . فوجه كونه إنكاريا أن المعنى : لا كالئ لكم يحفظكم من عذاب الله ألبتة إلا الله تعالى ، أي : فكيف تعبدون غيره . ووجه كونه تقريريا أنهم إذا قيل لهم : من يكلؤكم ؟ اضطروا إلى أن يقروا بأن الذي يكلؤهم هو الله ؛ لأنهم يعلمون أنه لا نافع ولا ضار إلا هو تعالى ، ولذلك يخلصون له الدعاء عند الشدائد والكروب ، ولا يدعون معه غيره ، كما قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " الإسراء " وغيرها . فإذا أقروا بذلك توجه إليهم التوبيخ والتقريع ، كيف يصرفون حقوق الذي يحفظهم بالليل والنهار إلى ما لا ينفع ، ولا يضر . وهذا المعنى الذي أشارت إليه هذه الآية الكريمة : أنه لا أحد يمنع أحدا من عذاب الله ، ولا يحفظه ولا يحرسه من الله ، وأن الحافظ لكل شيء هو الله وحده - جاء مبينا في مواضع أخر ؛ كقوله تعالى : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ 13 \ 11 ] على أظهر التفسيرات ، وقوله تعالى : قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا الآية [ 48 \ 11 ] وقوله تعالى : قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا [ 33 \ 17 ] وقوله تعالى : قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح [ ص: 155 ] ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [ 5 \ 17 ] وقوله تعالى : وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون [ 33 \ 88 ] إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون .

    قوله في هذه الآية الكريمة : أم هي المنقطعة ، وهي بمعنى بل والهمزة ، فقد اشتملت على معنى الإضراب والإنكار ، والمعنى : ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعز حتى لا ينالهم عذابنا . ثم بين أن آلهتهم التي يزعمون لا تستطيع نفع أنفسها ، فكيف تنفع غيرها بقوله : لا يستطيعون نصر أنفسهم [ 21 \ 43 ] وقوله : من دوننا فيه وجهان : أحدهما أنه متعلق آلهة أي : ألهم آلهة من دوننا أي : سوانا تمنعهم مما نريد أن نفعله بهم من العذاب كلا ليس الأمر كذلك . الوجه الثاني : أنه متعلق بـ تمنعهم لقول العرب : منعت دونه ، أي : كففت أذاه . والأظهر عندي الأول ، ونحوه كثير في القرآن كقوله : ومن يقل منهم إني إله من دونه الآية [ 21 \ 29 ] وقوله : واتخذوا من دونه آلهة الآية [ 25 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الآلهة التي اتخذوها لا تستطيع نصر أنفسها ، فكيف تنفع غيرها - جاء مبينا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون [ 7 \ 191 - 195 ] وقوله تعالى : والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون [ 7 \ 197 ] وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم الآية [ 35 \ 13 - 14 ] وقوله تعالى : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة الآية [ 46 \ 5 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن تلك الآلهة المعبودة من دون الله ليس فيها نفع ألبتة .

    [ ص: 156 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : ولا هم منا يصحبون أي : يجارون ، أي : ليس لتلك الآلهة مجير يجيرهم منا ؛ لأن الله يجير ولا يجار عليه كما صرح بذلك في سورة قد أفلح المؤمنون [ 23 \ 88 ] في قوله : قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون [ 23 \ 88 ] والعرب تقول : أنا جار لك وصاحب من فلان ، أي : مجير لك منه . ومنه قول الشاعر :


    ينادي بأعلى صوته متعوذا ليصحب منا والرماح دواني
    يعني : ليجار ويغاث منا . وأغلب أقوال العلماء في الآية راجعة إلى ما ذكرنا ، كقول بعضهم : يصحبون يمنعون ، وقول بعضهم : ينصرون ، وقول بعضهم : ولا هم منا يصحبون أي : لا يصحبهم الله بخير ، ولا يجعل الرحمة صاحبا لهم . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر .

    الظاهر أن الإضراب بل في هذه الآية الكريمة انتقالي ، والإشارة في قوله : هؤلاء راجعة إلى المخاطبين من قبل في قوله : قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن الآية ، وهم كفار قريش ، ومن اتخذ آلهة من دون الله .

    والمعنى أنه متع هؤلاء الكفار وآباءهم قبلهم بما رزقهم من نعيم الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة ، فحملهم ذلك على الطغيان ، واللجاج في الكفر .

    وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه تعالى يمهل الكفار ويملي لهم في النعمة ، وأن ذلك يزيدهم كفرا وضلالا - جاء موضحا في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى ، كقوله : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] وقوله تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 7 \ 182 - 183 ] وقوله تعالى : قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا [ 25 \ 18 ] وقوله تعالى : بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون [ 43 \ 29 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعمر يطلق على مدة العيش .
    قوله تعالى : أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون .

    [ ص: 157 ] في معنى إتيان الله الأرض ينقصها من أطرافها في هذه الآية الكريمة أقوال معروفة للعلماء ، وبعضها تدل له قرينة قرآنية :

    قال بعض العلماء : نقصها من أطرافها : موت العلماء ، وجاء في ذلك حديث مرفوع عن أبي هريرة ، وبعد هذا القول عن ظاهر القرآن بحسب دلالة السياق ظاهر كما ترى .

    وقال بعض أهل العلم : نقصها من أطرافها خرابها عند موت أهلها .

    وقال بعض أهل العلم : نقصها من أطرافها هو نقص الأنفس ، والثمرات ، إلى غير ذلك من الأقوال ، وأما القول الذي دلت عليه القرينة القرآنية فهو أن معنى ننقصها من أطرافها أي : ننقص أرض الكفر ودار الحرب ، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها ، وردها دار إسلام . والقرينة الدالة على هذا المعنى هي قوله بعده : أفهم الغالبون [ 21 \ 44 ] والاستفهام لإنكار غلبتهم . وقيل : لتقريرهم بأنهم مغلوبون لا غالبون ، فقوله : أفهم الغالبون دليل على أن نقص الأرض من أطرافها سبب لغلبة المسلمين للكفار ، وذلك إنما يحصل بالمعنى المذكور . ومما يدل لهذا الوجه قوله تعالى : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله [ 13 \ 31 ] على قول من قال : إن المراد بالقارعة التي تصيبهم سرايا النبي - صلى الله عليه وسلم - تفتح أطراف بلادهم ، أو تحل أنت يا نبي الله قريبا من دارهم . وممن يروى عنه هذا القول : ابن عباس ، وأبو سعيد ، وعكرمة ، ومجاهد ، وغيرهم . وهذا المعنى الذي ذكر الله هنا ذكره في آخر سورة " الرعد " أيضا في قوله : أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب [ 13 \ 41 ] وقال ابن كثير في تفسير آية " الأنبياء " هذه : إن أحسن ما فسر به قوله تعالى : أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها هو قوله تعالى : ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون [ 46 \ 27 ] .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ما ذكره ابن كثير صواب ، واستقراء القرآن العظيم يدل عليه ، وعليه فالمعنى : أفلا يرى كفار مكة ومن سار سيرهم في تكذيبك يا نبي الله والكفر بما جئت به أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أي : بإهلاك الذين كذبوا الرسل كما أهلكنا قوم صالح وقوم لوط ، وهم يمرون بديارهم . وكما [ ص: 158 ] أهلكنا قوم هود ، وجعلنا سبأ أحاديث ومزقناهم كل ممزق ، كل ذلك بسبب تكذيب الرسل والكفر بما جاءوا به . وهذا هو معنى قوله : ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى [ 46 \ 27 ] كقوم صالح وقوم لوط وقوم هود وسبأ ، فاحذروا من تكذيب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لئلا ننزل بكم مثل ما أنزلنا بهم . وهذا الوجه لا ينافي قوله بعده : أفهم الغالبون والمعنى أن الغلبة لحزب الله القادر على كل شيء ، الذي أهلك ما حولكم من القرى بسبب تكذيبهم رسلهم ، وأنتم لستم بأقوى منهم ، ولا أكثر أموالا ولا أولادا ، كما قال تعالى : أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم الآية [ 44 \ 37 ] . وقال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 40 \ 82 ] وقال تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها الآية [ 30 \ 90 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وإنذار الذين كذبوه - صلى الله عليه وسلم - بما وقع لمن كذب من قبله من الرسل كثير جدا في القرآن . وبه تعلم اتجاه ما استحسنه ابن كثير من تفسير آية " الأنبياء " هذه بآية " الأحقاف " المذكورة كما بينا .

    وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : أي فائدة في قوله : نأتي الأرض ؟ قلت : فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين ، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين ، وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها . ا هـ منه . والله - جل وعلا - أعلم .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #297
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (296)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 159 إلى صـ 165




    قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يضع الموازين القسط ليوم القيامة ، فتوزن أعمالهم وزنا في غاية العدالة والإنصاف ، فلا يظلم الله أحدا شيئا ، وأن عمله من الخير والشر وإن كان في غاية القلة والدقة كمثقال حبة من خردل ، فإن الله يأتي به ؛ لأنه لا يخفى عليه شيء ، وكفى به - جل وعلا - حاسبا ؛ لإحاطة علمه بكل شيء .

    وبين في غير هذا الموضع أن الموازين عند ذلك الوزن منها ما يخف ، ومنها ما يثقل ، وأن من خفت موازينه هلك ، ومن ثقلت موازينه نجا ، كقوله تعالى : والوزن يومئذ [ ص: 159 ] الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون [ 7 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون [ 23 \ 101 - 103 ] وقوله تعالى : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية [ 101 \ 6 - 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وما ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن موازين يوم القيامة موازين قسط ذكره في " الأعراف " في قوله : والوزن يومئذ الحق [ 7 \ 8 ] لأن الحق عدل وقسط ، وما ذكره فيها من أنه لا تظلم نفس شيئا بينه في مواضع أخر كثيرة ، كقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] وقوله تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] وقوله تعالى : ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة " الكهف " .

    وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من كون العمل ، وإن كان مثقال ذرة من خير أو شر أتى به - جل وعلا - أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله عن لقمان مقررا له : يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير [ 31 \ 16 ] وقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : ونضع الموازين جمع ميزان . وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص ؛ لقوله : فمن ثقلت موازينه [ 23 \ 102 ] وقوله : ومن خفت موازينه [ 23 ] فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله ، كما قال الشاعر :


    ملك تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزان
    والقاعدة المقررة في الأصول : أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه . وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه . وقد قدمنا في آخر سورة " الكهف " [ ص: 160 ] كلام العلماء في كيفية وزن الأعمال ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

    وقوله في هذه الآية : القسط أي العدل ، وهو مصدر وصف به ، ولذا لزم إفراده ، كما قال في الخلاصة :


    ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا
    كما قدمناه مرارا . ومعلوم أن النعت بالمصدر يقول فيه بعض العلماء : إنه المبالغة . وبعضهم يقول : هو بنية المضاف المحذوف ، فعلى الأول كأنه بالغ في عدالة الموازين حتى سماها القسط الذي هو العدل . وعلى الثاني فالمعنى : الموازين ذوات القسط .

    واللام في قوله : ليوم القيامة فيها أوجه معروفة عند العلماء :

    ( منها ) : أنها للتوقيت ، أي الدلالة على الوقت ، كقول العرب : جئت لخمس ليال بقين من الشهر ، ومنه قول نابغة ذبيان :


    توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
    ومنها : أنها لام " كي " ، أي : نضع الموازين القسط لأجل يوم القيامة ، أي : لحساب الناس فيه حسابا في غاية العدالة ، والإنصاف .

    ( ومنها ) : أنها بمعنى في ، أي : نضع الموازين القسط في يوم القيامة .

    والكوفيون يقولون : إن اللام تأتي بمعنى في ، ويقولون : إن من ذلك قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة [ 21 \ 47 ] أي : في يوم القيامة ، وقوله تعالى : لا يجليها لوقتها إلا هو [ 7 \ 187 ] أي : في وقتها . ووافقهم في ذلك ابن قتيبة من المتقدمين ، وابن مالك من المتأخرين ، وأنشد مستشهدا لذلك قول مسكين الدارمي :


    أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم كما قد مضى من قبل عاد وتبع
    يعني مضوا في سبيلهم . وقول الآخر :


    وكل أب وابن وإن عمرا معا مقيمين مفقود لوقت وفاقد
    أي في وقت .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فلا تظلم نفس شيئا يجوز أن يكون شيئا هو المفعول الثاني لـ تظلم ويجوز أن يكون ما ناب عن المطلق . أي : شيئا من الظلم لا قليلا ، ولا كثيرا .

    ومثقال الشيء : وزنه . والخردل : حب في غاية الصغر ، [ ص: 161 ] والدقة . وبعض أهل العلم يقول : هو زريعة الجرجير . وأنث الضمير في قوله بها هو راجع إلى المضاف الذي هو مثقال وهو مذكر لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه الذي هو حبة من خردل على حد قوله في الخلاصة :


    وربما أكسب ثان أولا تأنيثا إن كان لحذف مؤهلا
    ونظير ذلك من كلام العرب قول عنترة في معلقته :


    جادت عليه كل عين ثرة فتركن كل قرارة كالدرهم
    وقول الراجز :


    طول الليالي أسرعت في نقضي نقضن كلي ونقضن بعضي
    وقول الأعشى :


    وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم


    وقول الآخر :


    مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
    فقد أنث في البيت الأول لفظة " كل " لإضافتها إلى " عين " . وأنث في البيت الثاني لفظة " طول " لإضافتها إلى " الليالي " وأنث في البيت الثالث الصدر لإضافته إلى " القناة " وأنث في البيت الرابع " مر " لإضافته إلى " الرياح " . والمضافات المذكورة لو حذفت لبقي الكلام مستقيما ، كما قال في الخلاصة : .

    . . . . . . . . . إن كان لحذف مؤهلا

    وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعا وإن كان مثقال حبة بنصب مثقال على أنه خبر كان أي : وإن كان العمل الذي يراد وزنه مثقال حبة من خردل .

    وقرأ نافع وحده وإن كان مثقال بالرفع ، فاعل كان على أنها تامة . كقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة .
    قوله تعالى : وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن هذا القرآن العظيم ذكر مبارك أي : كثير البركات والخيرات ؛ لأن فيه خير الدنيا والآخرة . ثم وبخ من ينكرونه منكرا عليهم بقوله : أفأنتم له منكرون . وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن هذا [ ص: 162 ] القرآن مبارك بينه في مواضع متعددة من كتابه ، كقوله تعالى في " الأنعام " : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [ 6 \ 155 ] وقوله فيها أيضا : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه [ 6 \ 92 ] وقوله تعالى في " ص " : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] إلى غير ذلك من الآيات ، فنرجو الله تعالى القريب المجيب أن تغمرنا بركات هذا الكتاب العظيم المبارك بتوفيق الله تعالى لنا لتدبر آياته ، والعمل بما فيها من الحلال والحرام ، والأوامر والنواهي ، والمكارم والآداب ، امتثالا واجتنابا ، إنه قريب مجيب .
    قوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل .

    قد قدمنا ما يوضح هذه الآيات إلى آخر القصة من القرآن في سورة " مريم " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
    قوله تعالى : قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لما أفحم قومه الكفرة بالبراهين والحجج القاطعة لجئوا إلى استعمال القوة ، فقالوا : حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين [ 21 \ 68 ] أي : بقتلكم عدوها إبراهيم شر قتلة ، وهي الإحراق بالنار .

    ولم يذكر هنا أنهم أرادوا قتله بغير التحريق ، ولكنه تعالى ذكر في سورة " العنكبوت " أنهم قالوا اقتلوه أو حرقوه [ 29 \ 24 ] وذلك في قوله : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه [ 29 \ 24 ] .

    وقد جرت العادة بأن المبطل إذا أفحم بالدليل لجأ إلى ما عنده من القوة ليستعملها ضد الحق .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن كنتم فاعلين أي : إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا ، فاختاروا له أفظع قتلة ، وهي الإحراق بالنار ، وإلا فقد فرطتم في نصرها .
    قوله تعالى : قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين .

    في الكلام حذف دل المقام عليه ، وتقديره : قالوا حرقوه فرموه في النار ، فلما فعلوا [ ص: 163 ] ذلك قلنا يانار كوني بردا وسلاما وقد بين في " الصافات " أنهم لما أرادوا أن يلقوه في النار بنوا له بنيانا ليلقوه فيه .

    وفي القصة أنهم ألقوه من ذلك البنيان العالي بالمنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس ( يعنون الأكراد ) وأن الله خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، قال تعالى : قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم [ 37 \ 97 ] والمفسرون يذكرون من شدة هذه النار وارتفاع لهبها ، وكثرة حطبها شيئا عظيما هائلا . وذكروا عن نبي الله إبراهيم أنهم لما كتفوه مجردا ورموه إلى النار ، قال له جبريل : هل لك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا ، وأما الله فنعما ، قال : لم لا تسأله ؟ قال : علمه بحالي كاف عن سؤالي .

    وما ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أنه أمر النار بأمره الكوني القدري أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم يدل على أنه أنجاه من تلك النار ؛ لأن قوله تعالى : كوني بردا [ 21 ] يدل على سلامته من حرها ، وقوله : وسلاما يدل على سلامته من شر بردها الذي انقلبت الحرارة إليه ، وإنجاؤه إياه منها الذي دل عليه أمره الكوني القدري هنا جاء مصرحا به في " العنكبوت " في قوله تعالى : فأنجاه الله من النار [ 29 \ 24 ] وأشار إلى ذلك هنا بقوله : ونجيناه ولوطا [ 21 \ 71 ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين [ 21 \ 70 ] يوضحه ما قبله . فالكيد الذي أرادوه به : إحراقه بالنار نصرا منهم لآلهتهم في زعمهم ، وجعله تعالى إياهم الأخسرين أي الذين هم أكثر خسرانا لبطلان كيدهم وسلامته من نارهم .

    وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضا في سورة " الصافات " في قوله : فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين [ 37 \ 98 ] وكونهم الأسفلين واضح ؛ لعلوه عليهم وسلامته من شرهم . وكونهم الأخسرين لأنهم خسروا الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين . وفي القصة أن الله سلط عليهم خلقا من أضعف خلقه فأهلكهم وهو البعوض . وفيها أيضا أن كل الدواب تطفئ عن إبراهيم النار ، إلا الوزغ فإنه ينفخ النار عليه . وقد قدمنا الأحاديث الواردة بالأمر بقتل الأوزاغ في سورة " الأنعام " .

    وعن أبي العالية : لو لم يقل الله : وسلاما لكان بردها أشد عليه من حرها ، ولو لم يقل : على إبراهيم لكان بردها باقيا إلى الأبد . وعن علي ، وابن عباس - رضي الله [ ص: 164 ] عنهم - لو لم يقل : وسلاما لمات إبراهيم من بردها . وعن السدي : لم تبق في ذلك اليوم نار إلا طفئت . وعن كعب وقتادة : لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه . وعن المنهال بن عمرو : قال إبراهيم : ما كنت أياما قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار . وعن شعيب الحماني أنه ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة . وعن ابن جريج : ألقي فيها وهو ابن ست وعشرين . وعن الكلبي : بردت نيران الأرض جميعا ، فما أنضجت ذلك اليوم كراعا . وذكروا في القصة أن نمروذ أشرف على النار من الصرح ، فرأى إبراهيم جالسا على السرير يؤنسه ملك الظل ، فقال : نعم الرب ربك ، لأقربن له أربعة آلاف بقرة ، وكف عنه . وكل هذا من الإسرائيليات . والمفسرون يذكرون كثيرا منها في هذه القصة وغيرها من قصص الأنبياء .

    وقال البخاري في صحيحه : حدثنا أحمد بن يونس ، أراه قال : حدثنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس " حسبنا الله ونعم الوكيل " قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [ 3 \ 173 ] حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا إسرائيل عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس قال : كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار : " حسبي الله ونعم الوكيل " انتهى .
    قوله تعالى : ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين .

    الضمير في قوله : ونجيناه عائد إلى إبراهيم ، قال أبو حيان في البحر المحيط : وضمن قوله : ونجيناه معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض . ولذلك تعدى " نجيناه " بإلى . ويحتمل أن يكون " إلى " متعلقا بمحذوف ، أي : منتهيا إلى الأرض ، فيكون في موضع الحال ، ولا تضمين في ونجيناه على هذا . والأرض التي خرجا منها : هي كوثى من أرض العراق ، والأرض التي خرجا إليها هي أرض الشام . ا هـ منه . وهذه الآية الكريمة تشير إلى هجرة إبراهيم ومعه لوط من أرض العراق إلى الشام فرارا بدينهما .

    وقد أشار تعالى إلى ذلك في غير هذا الموضع ، كقوله في " العنكبوت " : فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي [ 29 \ 26 ] وقوله في " الصافات : " وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ 37 \ 99 ] على أظهر القولين ؛ لأنه فار إلى ربه بدينه من الكفار . وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين : هذه [ ص: 165 ] الآية أصل في الهجرة والعزلة ، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام ، وذلك حين خلصه الله من النار قال : إني ذاهب إلى ربي أي : مهاجر من بلد قومي ومولدي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه سيهدين فيما نويت إلى الصواب . وما أشار إليه - جل وعلا - من أنه بارك للعالمين في الأرض المذكورة التي هي الشام على قول الجمهور في هذه الآية بقوله : إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين [ 21 \ 71 ] بينه في غير الموضع . كقوله : ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها [ 21 \ 81 ] وقوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله [ 17 ] ومعنى كونه ( بارك فيها ) . هو ما جعل فيها من الخصب ، والأشجار ، والأنهار ، والثمار . كما قال تعالى : لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [ 7 \ 96 ] ومن ذلك أنه بعث أكثر الأنبياء منها .

    وقال بعض أهل العلم : ومن ذلك أن كل ماء عذب أصل منبعه من تحت الصخرة التي عند بيت المقدس . وجاء في ذلك حديث مرفوع ، والظاهر أنه لا يصح . وفي قوله تعالى : إلى الأرض التي باركنا فيها أقوال أخر تركناها لضعفها في نظرنا .

    وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الفرار بالدين من دار الكفر إلى بلد يتمكن فيه الفار بدينه من إقامة دينه - واجب . وهذا النوع من الهجرة وجوبه باق بلا خلاف بين العلماء في ذلك .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #298
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (297)
    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 166 إلى صـ 172




    قوله تعالى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه وهب لإبراهيم ابنه إسحاق ، وابن ابنه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وأنه جعل الجميع صالحين . وقد أوضح البشارة بهما في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [ 11 \ 71 ] وقوله : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [ 37 \ 112 ] وقد أشار تعالى في سورة " مريم " إلى أنه لما هجر الوطن والأقارب عوضه الله من ذلك قرة العين بالذرية الصالحة ، وذلك في قوله : فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا [ 19 \ 49 ] .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : نافلة قال فيه ابن كثير : قال عطاء ومجاهد : نافلة : عطية . وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحكم بن عتيبة : النافلة : ولد الولد ، يعني أن [ ص: 166 ] يعقوب ولد إسحاق .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أصل النافلة في اللغة : الزيادة على الأصل ، ومنه النوافل في العبادات ؛ لأنها زيادات على الأصل الذي هو الفرض ، وولد الولد زيادة على الأصل الذي هو ولد الصلب ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي :


    فإن تك أنثى من معد كريمة علينا فقد أعطيت نافلة الفضل
    أي أعطيت الفضل عليها ، والزيادة في الكرامة علينا ، كما هو التحقيق في معنى بيت أبي ذؤيب هذا ، وكما شرحه به أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري في شرحه لأشعار الهذليين . وبه تعلم أن إيراد صاحب اللسان بيت أبي ذؤيب المذكور مستشهدا به لأن النافلة الغنيمة - غير صواب ، بل هو غلط . مع أن الأنفال التي هي الغنائم راجعة في المعنى إلى معنى الزيادة ؛ لأنها زيادة تكريم أكرم الله بها هذا النبي الكريم فأحلها له ولأمته . أو لأن الأموال المغنومة أموال أخذوها زيادة على أموالهم الأصلية بلا ثمن .

    وقوله : نافلة فيه وجهان من الإعراب ، فعلى قول من قال : النافلة العطية فهو ما ناب عن المطلق من " وهبنا " أي : وهبنا له إسحاق ويعقوب هبة . وعليه النافلة مصدر جاء بصيغة اسم الفاعل كالعاقبة والعافية . وعلى أن النافلة بمعنى الزيادة فهو حال من " يعقوب " أي : وهبنا له يعقوب في حال كونه زيادة على إسحاق .
    قوله تعالى : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين .

    الضمير في قوله : جعلناهم يشمل كل المذكورين إبراهيم ، ولوطا ، وإسحاق ، ويعقوب ، كما جزم به أبو حيان في البحر المحيط ، وهو الظاهر .

    وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الله جعل إسحاق ويعقوب من الأئمة ، أي جعلهم رؤساء في الدين يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات . وقوله بأمرنا أي : بما أنزلنا عليهم من الوحي ، والأمر ، والنهي ، أو يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم ، بإرشاد الخلق ودعائهم إلى التوحيد .

    وهذه الآية الكريمة تبين أن طلب إبراهيم الإمامة لذريته المذكور في سورة " البقرة " أجابه فيه بالنسبة إلى بعض ذريته دون بعضها ، وضابط ذلك أن الظالمين من ذريته لا ينالون الإمامة بخلاف غيرهم كإسحاق ويعقوب ، فإنهم ينالونها كما صرح به تعالى [ ص: 167 ] في قوله هنا : وجعلناهم أئمة [ 21 ] وطلب إبراهيم هو المذكور في قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] فقوله : ومن ذريتي أي : واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم في الخير . فأجابه الله بقوله : لا ينال عهدي الظالمين أي : لا ينال الظالمين عهدي بالإمامة ، على الأصوب . ومفهوم قوله : الظالمين أن غيرهم يناله عهده بالإمامة كما صرح به هنا . وهذا التفصيل المذكور في ذرية إبراهيم أشار له تعالى في " الصافات " بقوله : ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ 37 \ 113 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأوحينا إليهم فعل الخيرات [ 21 ] أي : أن يفعلوا الطاعات ، ويأمروا الناس بفعلها . وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من جملة الخيرات ، فهو من عطف الخاص على العام . وقد قدمنا مرارا النكتة البلاغية المسوغة للإطناب في عطف الخاص على العام ، وعكسه في القرآن ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

    وقوله : وكانوا لنا عابدين أي : مطيعين باجتناب النواهي وامتثال الأوامر بإخلاص ، فهم يفعلون ما يأمرون الناس به ، ويجتنبون ما ينهونهم عنه كما قال نبي الله شعيب : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [ 11 \ 88 ] .

    وقوله : أئمة معلوم أنه جمع إمام ، والإمام : هو المقتدى به ، ويطلق في الخير كما هنا ، وفي الشر كما في قوله : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار [ 28 \ 41 ] وما ظنه الزمخشري من الإشكال في هذه الآية ليس بواقع كما نبه عليه أبو حيان . والعلم عند الله تعالى .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وإقام الصلاة لم تعوض هنا تاء عن العين الساقطة بالاعتلال على القاعدة التصريفية المشهورة ؛ لأن عدم تعويضها عنه جائز كما هنا ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :


    . . . . . . . . . . وألف الإفعال واستفعال أزل لذا الإعلال ، والتا الزم عوض
    وحذفها بالنقل ربما عرض
    وقد أشار في أبنية المصادر إلى أن تعويض التاء المذكورة من العين هو الغالب بقوله :


    واستعذ استعاذة ثم أقم إقامة وغالبا ذا التا لزم
    وما ذكره من أن التاء المذكورة عوض عن العين أجود من قول من قال : إن العين [ ص: 168 ] باقية وهي الألف الباقية ، وأن التاء عوض عن ألف الإفعال .
    قوله تعالى : ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين .

    قوله : ولوطا [ 21 ] منصوب بفعل مضمر وجوبا يفسره آتيناه كما قال في الخلاصة :

    فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهرا قال القرطبي في تفسير هذه الآية : الحكم : النبوة . والعلم : المعرفة بأمر الدين ، وما يقع به الحكم بين الخصوم . وقيل : علما : فهما . وقال الزمخشري : حكما : حكمة ، وهو ما يجب فعله ، أو فصلا بين الخصوم ، وقيل : هو النبوة .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : أصل الحكم في اللغة : المنع كما هو معروف . فمعنى الآيات أن الله آتاه من النبوة والعلم ما يمنع أقواله وأفعاله من أن يعتريها الخلل . والقرية التي كانت تعمل الخبائث هي سدوم وأعمالها ، والخبائث التي كانت تعملها جاءت موضحة في آيات من كتاب الله :

    منها : اللواط ، وأنهم هم أول من فعله من الناس ، كما قال تعالى : أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين [ 7 \ 80 ] وقال : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 165 - 166 ] ومن الخبائث المذكورة إتيانهم المنكر في ناديهم ، وقطعهم الطريق ، كما قال تعالى : أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر الآية [ 29 \ 29 ] . ومن أعظم خبائثهم : تكذيب نبي الله لوط ، وتهديدهم له بالإخراج من الوطن كما قال تعالى عنهم : قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين [ 26 \ 167 ] وقال تعالى : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [ 27 \ 56 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد بين الله في مواضع متعددة من كتابه أنه أهلكهم فقلب بهم بلدهم ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل ، كما قال تعالى : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل [ 15 ] والآيات بنحو ذلك كثيرة . والخبائث : جمع خبيثة ، وهي الفعلة السيئة ، كالكفر واللواط ، وما جرى مجرى ذلك .

    [ ص: 169 ] وقوله : قوم سوء أي : أصحاب عمل سيئ ، ولهم عند الله جزاء يسوءهم ، وقوله : فاسقين أي : خارجين عن طاعة الله . وقوله : وأدخلناه يعني لوطا في رحمتنا شامل لنجاته من عذابهم الذي أصابهم ، وشامل لإدخاله إياه في رحمته التي هي الجنة ، كما في الحديث الصحيح : " تحاجت النار والجنة " . الحديث . وفيه : " فقال للجنة : أنت رحمتي أرحم بها من أشاء من عبادي " .
    قوله تعالى : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين .

    قوله : ونوحا منصوب بـ " اذكر " مقدرا ، أي : واذكر نوحا حين نادى من قبل ، أي : من قبل إبراهيم ومن ذكر معه . ونداء نوح هذا المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين [ 37 - 77 ] وقد أوضح الله هذا النداء بقوله : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ 71 \ 26 - 27 ] وقوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر [ 54 \ 9 - 11 ] والمراد بالكرب العظيم في الآية : الغرق بالطوفان الذي تتلاطم أمواجه كأنها الجبال العظام ، كما قال تعالى : وهي تجري بهم في موج كالجبال [ 11 \ 42 ] وقال تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة الآية [ 29 \ 15 ] إلى غير ذلك من الآيات . والكرب : هو أقصى الغم ، والأخذ بالنفس .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فنجيناه وأهله يعني إلا من سبق عليه القول من أهله بالهلاك مع الكفرة الهالكين ، كما قال تعالى : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول [ 11 \ 40 ] ومن سبق عليه القول منهم : ابنه المذكور في قوله : وحال بينهما الموج فكان من المغرقين [ 11 \ 43 ] وامرأته المذكورة في قوله : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح إلى قوله : ادخلا النار مع الداخلين . [ 66 \ 10 ] .
    قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما .

    [ ص: 170 ] قوله تعالى : وداود [ 21 \ 78 ] منصوب بـ " اذكر " مقدرا . وقيل : معطوف قوله : ونوحا إذ نادى من قبل [ 21 ] أي : واذكر نوحا إذا نادى من قبل وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية

    وقوله : إذ بدل من " داود وسليمان " بدل اشتمال كما أوضحنا في سورة " مريم " وذكرنا بعض المناقشة فيه ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول . وذكرنا في هذا الكتاب مسائل كثيرة من ذلك . فإذا علمت ذلك فاعلم أن جماعة من العلماء قالوا : إن حكم داود وسليمان في الحرث المذكور في هذه الآية كان بوحي ، إلا أن ما أوحي إلى سليمان كان ناسخا لما أوحي إلى داود .

    وفي الآية قرينتان على أن حكمهما كان باجتهاد لا بوحي ، وأن سليمان أصاب فاستحق الثناء باجتهاده وإصابته ، وأن داود لم يصب فاستحق الثناء باجتهاده ، ولم يستوجب لوما ولا ذما بعدم إصابته . كما أثنى على سليمان بالإصابة في قوله : ففهمناها سليمان [ 21 \ 79 ] وأثنى عليهما في قوله : وكلا آتينا حكما وعلما [ 21 \ 78 ] فدل قوله : إذ يحكمان على أنهما حكما فيها معا كل منهما بحكم مخالف لحكم الآخر ، ولو كان وحيا لما ساغ الخلاف . ثم قال : ففهمناها سليمان فدل ذلك على أنه لم يفهمها داود ، ولو كان حكمه فيها بوحي لكان مفهما إياها كما ترى . فقوله : إذ يحكمان مع قوله : ففهمناها سليمان قرينة على أن الحكم لم يكن بوحي بل باجتهاد ، وأصاب فيه سليمان دون داود بتفهيم الله إياه ذلك .

    والقرينة الثانية هي أن قوله تعالى : ففهمناها يدل على أنه فهمه إياها من نصوص ما كان عندهم من الشرع . لا أنه أنزل عليه فيها وحيا جديدا ناسخا ؛ لأن قوله تعالى : ففهمناها أليق بالأول من الثاني كما ترى .
    مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

    المسألة الأولى :

    اعلم أن هذا الذي ذكرنا أن القرينة تدل عليه في هذه الآية من أنهما حكما فيها باجتهاد ، وأن سليمان أصاب في اجتهاده - جاءت السنة الصحيحة بوقوع مثله منهما في غير هذه المسألة . فدل ذلك على إمكانه في هذه المسألة ، وقد دلت القرينة القرآنية على [ ص: 171 ] وقوعه ، قال البخاري في صحيحه ( باب إذا ادعت المرأة ابنا ) حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كانت امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت لصاحبتها : إنما ذهب بابنك . فقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك . فتحاكمتا إلى داود عليه السلام ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام ، فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما . فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله هو ابنها . فقضى به للصغرى . قال أبو هريرة : والله إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ ، وما كنا نقول إلا المدية " انتهى من صحيح البخاري . وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثني شبابة ، حدثني ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما . فقالت هذه لصاحبتها : إنما ذهب بابنك أنت . وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينكما ، فقالت الصغرى : لا ، يرحمك الله " انتهى منه فهذا الحديث الصحيح يدل دلالة واضحة على أنهما قضيا معا بالاجتهاد في شأن الولد المذكور ، وأن سليمان أصاب في ذلك ، إذ لو كان قضاء داود بوحي لما جاز نقضه بحال . وقضاء سليمان واضح أنه ليس بوحي ؛ لأنه أوهم المرأتين أنه يشقه بالسكين ؛ ليعرف أمه بالشفقة عليه ، ويعرف الكاذبة برضاها بشقه لتشاركها أمه في المصيبة فعرف الحق بذلك . وهذا شبيه جدا بما دلت عليه الآية حسبما ذكرنا وبينا دلالة القرينة القرآنية عليه . ومما يشبه ذلك من قضائهما القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان - عليه السلام - من تاريخه ، من طريق الحسن بن سفيان ، عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم ، وعن سعيد بن بشر ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، فذكر قصة مطولة ، ملخصها أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم ، فامتنعت على كل منهم ، فاتفقوا فيما بينهم عليها . فشهدوا عند داود - عليه السلام - أنها مكنت من نفسها كلبا لها ، قد عودته ذلك منها ، فأمر برجمها ، فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله ، فانتصب حاكما وتزيا أربعة منهم بزي أولئك وآخر بزي المرأة ، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلبا ، فقال سليمان : فرقوا بينهم . فسأل أولهم : ما كان لون الكلب ؟ فقال : أسود ، فعزله . واستدعى الآخر فسأله عن لونه ؟ فقال : أحمر . وقال [ ص: 172 ] الآخر : أغبش . وقال الآخر : أبيض ، فأمر عند ذلك بقتلهم ، فحكي ذلك لداود عليه السلام ، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب فاختلفوا عليه ، فأمر بقتلهم . انتهى بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة . وكل هذا مما يدل على صحة ما فسرنا به الآية ؛ لدلالة القرينة القرآنية عليه . وممن فسرها بذلك الحسن البصري كما ذكره البخاري وغيره عنه . قال البخاري رحمه الله في صحيحه ، باب متى يستوجب الرجل القضاء : وقال الحسن : أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ، ولا يخشوا الناس ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا [ 2 \ 41 ] إلى أن قال - وقرأ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ 21 \ 78 - 79 ] فحمد سليمان ولم يلم داود . ولولا ما ذكره الله من أمر هذين لرأيت أن القضاة هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعلمه ، وعذر هذا باجتهاده . انتهى محل الغرض منه . وبه تعلم أن الحسن يرى أن معنى الآية الكريمة كما ذكرنا ، ويزيد هذا إيضاحا ما قدمناه في سورة " بني إسرائيل " من الحديث المتفق عليه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة - رضي الله عنهما - إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر كما قدمنا إيضاحه .
    المسألة الثانية :

    اعلم أن الاجتهاد في الأحكام في الشرع دلت عليه أدلة من الكتاب والسنة ، منها هذا الذي ذكرنا هنا . وقد قدمنا في سورة بني " إسرائيل " طرفا من ذلك ، ووعدنا بذكره مستوفى في هذه السورة الكريمة وسورة الحشر ، وهذا أوان الوفاء بذلك الوعد في هذه السورة الكريمة . وقد علمت مما مر في سورة " بني إسرائيل " أنا ذكرنا طرفا من الأدلة على الاجتهاد فبينا إجماع العلماء على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بالإلحاق بنفي الفارق الذي يسميه الشافعي القياس في معنى الأصل ، وهو تنقيح المناط . وأوضحنا أنه لا ينكره إلا مكابر ، وبينا الإجماع أيضا على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بتحقيق المناط ، وأنه لا ينكره إلا مكابر ، وذكرنا أمثلة له في الكتاب والسنة ، وذكرنا أحاديث دالة على الاجتهاد ، منها الحديث المتفق عليه المتقدم ، ومنها حديث معاذ حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ، وقد وعدنا بأن نذكر طرقه هنا إلى آخر ما ذكرنا هناك .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #299
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (298)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 173 إلى صـ 179




    اعلم أن جميع روايات هذا الحديث المذكورة في المسند والسنن كلها من طريق شعبة ، عن أبي عون ، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة ، عن أناس من أصحاب معاذ ، عن معاذ ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    أما الرواية المتصلة الصحيحة التي ذكرنا سابقا عن ابن قدامة في ( روضة الناظر ) أن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، فهذا الإسناد وإن كان متصلا ورجاله معروفون بالثقة ، فإني لم أقف على من خرج هذا الحديث من هذه الطريق ، إلا ما ذكره العلامة ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) عن أبي بكر الخطيب بلفظ : وقد قيل إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ . ا هـ منه . ولفظة " قيل " صيغة تمريض كما هو معروف ، وإلا ما ذكره ابن كثير في تاريخه ، فإنه لما ذكره فيه حديث معاذ المذكور باللفظ الذي ذكرنا بالإسناد الذي أخرجه به الإمام أحمد قال : وأخرجه أبو داود ، والترمذي من حديث شعبة به . وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده عندي بمتصل . ثم قال ابن كثير : وقد رواه ابن ماجه من وجه آخر عنه ، إلا أنه من طريق محمد بن سعيد بن حسان وهو المصلوب أحد الكذابين ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن ، عن معاذ به نحوه .

    واعلم أن النسخة الموجودة بأيدينا من تاريخ ابن كثير التي هي من الطبعة الأولى سنة ( 1351 ) فيها تحريف مطبعي في الكلام الذي ذكرنا ؛ ففيها محمد بن سعد بن حسان ، والصواب محمد بن سعيد لا سعد . وفيها : عن عياذ بن بشر ، والصواب عن عبادة بن نسي .

    وما ذكره ابن كثير من إخراج ابن ماجه لحديث معاذ المذكور من طريق محمد بن سعيد المصلوب ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن وهو ابن غنم ، عن معاذ - لم أره في سنن ابن ماجه ، والذي في سنن ابن ماجه بالإسناد المذكور من حديث معاذ غير المتن المذكور ، وهذا لفظه : حدثنا الحسن بن حماد سجادة ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن محمد بن سعيد بن حسان ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن بن غنم ، حدثنا معاذ بن جبل ، قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ، قال : " لا تقضين ، ولا تفصلن إلا بما تعلم ، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه أو تكتب إلي فيه " ا هـ منه . وما أدري أوهم الحافظ بن كثير فيما ذكر ؟ أو هو يعتقد أن معنى " تبينه " في الحديث أي : تعلمه باجتهادك في استخراجه من المنصوص ، فيرجع إلى معنى الحديث المذكور ؟ وعلى كل حال [ ص: 174 ] فالرواية المذكورة من طريق عبادة بن نسي ، عن ابن غنم ، عن معاذ ، فيها كذاب وهو محمد بن سعيد المذكور الذي قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة وصلبه . وقال أحمد بن صالح : وضع أربعة آلاف حديث . فإذا علمت بهذا انحصار طرق الحديث المذكور الذي فيه أن معاذا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه إن لم يجد المسألة في كتاب الله ، ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتهد فيها رأيه ، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في الطريقتين المذكورتين - علمت وجه تضعيف الحديث ممن ضعفه ، وأنه يقول : طريق عبادة بن نسي ، عن ابن غنم لم تسندوها ثابتة من وجه صحيح إليه ، والطريق الأخرى التي في المسند ، والسنن فيها الحارث بن أخي المغيرة وهو مجهول ، والرواة فيها أيضا عن معاذ مجاهيل - فمن أين قلتم بصحتها ؟ وقد قدمنا أن ابن كثير قال في مقدمة تفسيره : إن الطريقة المذكورة في المسند ، والسنن بإسناد جيد . وقلنا : لعله يرى أن الحارث المذكور ثقة ، وقد وثقه ابن حبان ، وأن أصحاب معاذ لا يعرف فيهم كذاب ، ولا متهم .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ويؤيد ما ذكرنا عن مراد ابن كثير بجودة الإسناد المذكور ما قاله العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين ، قال فيه : وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله ، فقال شعبة : حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو ، عن أناس من أصحاب معاذ : أن رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن قال : " كيف تصنع إن عرض لك قضاء " ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله . قال : " فإن لم يكن في كتاب الله " ؟ قال : فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال " فإن لم يكن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ؟ قال : أجتهد رأيي ، لا آلو . فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدري ثم قال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضي رسول الله " . فهذا حديث إن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ ، فلا يضره ذلك ؛ لأنه يدل على شهرة الحديث ، وأن الذي حدث له الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ ، لا واحد منهم ، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم ولو سمي ، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم ، والدين ، والفضل ، والصدق بالمحل الذي لا يخفى ، ولا يعرف في أصحابه متهم ، ولا كذاب ، ولا مجروح ، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم ، ولا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك ، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث ؟ وقال بعض أئمة الحديث : إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به . قال أبو بكر الخطيب : وقد قيل : إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، وهذا إسناد متصل ، ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل [ ص: 175 ] العلم قد نقلوه واحتجوا به . فوقفنا بذلك على صحته عندهم ، كما وقفنا بذلك على صحة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا وصية لوارث " ، وقوله في البحر : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " ، وقوله : " إذا اختلف المتبايعان في الثمن ، والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع " ، وقوله : " الدية على العاقلة " . وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها . فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له . انتهى منه . وحديث عمرو بن العاص وأبي هريرة الثابت في الصحيحين شاهد له كما قدمنا ، وله شواهد غير ذلك ستراها إن شاء الله تعالى .
    المسألة الثالثة :

    اعلم أن الاجتهاد الذي دلت عليه نصوص الشرع أنواع متعددة :

    ( منها ) : الاجتهاد في تحقيق المناط ، وقد قدمنا كثيرا من أمثلته في " الإسراء " .

    ( ومنها ) : الاجتهاد في تنقيح المناط ، ومن أنواعه : السبر ، والتقسيم ، والإلحاق بنفي الفارق .

    واعلم أن الاجتهاد بإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به قسمان :

    الأول : الإلحاق بنفي الفارق ، وهو قسم من تنقيح المناط كما ذكرناه آنفا . ويسمى عند الشافعي القياس في معنى الأصل ، وهو بعينه مفهوم الموافقة ، ويسمى أيضا القياس الجلي .

    والثاني من نوعي الإلحاق : هو القياس المعروف بهذا الاسم في اصطلاح أهل الأصول .

    أما القسم الأول الذي هو الإلحاق بنفي الفارق فلا يحتاج فيه إلى وصف جامع بين الأصل والفرع وهو العلة . بل يقال فيه : لم يوجد بين هذا المنطوق به وهذا المسكوت عنه فرق فيه يؤثر في الحكم ألبتة ، فهو مثله في الحكم ، وأقسامه أربعة ، لأن المسكوت عنه إما أن يكون مساويا للمنطق به في الحكم ، أو أولى به منه ، وفي كل منهما إما أن يكون نفي الفارق بينهما مقطوعا به أو مظنونا . فالمجموع أربعة :

    ( الأول منها ) : أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به مع القطع بنفي [ ص: 176 ] الفارق ، كقوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] فالضرب المسكوت عنه أولى بالحكم الذي هو التحريم من التأفيف المنطوق به مع القطع بنفي الفارق ، وكقوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] فشهادة أربعة عدول المسكوت عنها أولى بالحكم وهو القبول من المنطوق به ، وهو شهادة العدلين مع القطع بنفي الفارق .

    ( والثاني منها ) : أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به أيضا ، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعيا ، بل مظنونا ظنا قويا مزاحما لليقين . ومثاله نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التضحية بالعوراء . فالتضحية بالعمياء المسكوت عنها أولى بالحكم وهو المنع من التضحية بالعوراء المنطوق بها ، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعيا بل مظنونا ظنا قويا ؛ لأن علة النهي عن التضحية بالعوراء كونها ناقصة ذاتا وثمنا وقيمة ، وهذا هو الظاهر ، وعليه فالعمياء أنقص منها ذاتا وقيمة . وهناك احتمال آخر : هو الذي منع من القطع بنفي الفارق ، وهو احتمال أن تكون علة النهي عن التضحية بالعوراء أن العور مظنة الهزال ؛ لأن العوراء ناقصة البصر ، وناقصة البصر تكون ناقصة الرعي ؛ لأنها لا ترى إلا ما يقابل عينا واحدة ، ونقص الرعي مظنة للهزال . وعلى هذا الوجه فالعمياء ليست كالعوراء ؛ لأن العمياء يختار لها أحسن العلف ، فيكون ذلك مظنة لسمنها .

    ( والثالث منها ) : أن يكون المسكوت عنه مساويا للمنطوق به في الحكم مع القطع بنفي الفارق ؛ كقوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية [ 4 \ 10 ] . فإحراق أموال اليتامى وإغراقها المسكوت عنه مساو للأكل المنطوق به في الحكم الذي هو التحريم ، والوعيد بعذاب النار مع القطع بنفي الفارق . ( والرابع منها ) : أن يكون المسكوت عنه مساويا للمنطوق به في الحكم أيضا ، إلا أن نفي الفارق بينهما مظنون ظنا قويا مزاحما لليقين ، ومثاله الحديث الصحيح " من أعتق شركا له في عبد . . " الحديث المتقدم في " الإسراء ، والكهف " ، فإن المسكوت عنه وهو عتق بعض الأمة مساو للمنطوق به وهو عتق بعض العبد في الحكم الذي هو سراية العتق المبينة في الحديث المتقدم مرارا . إلا أن نفي الفارق بينهما مظنون ظنا قويا ؛ لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا يناط بهما حكم من أحكام العتق . كما قدمناه مستوفى في سورة " مريم " وهناك احتمال آخر هو الذي منع من القطع بنفي الفارق ، وهو احتمال أن يكون الشارع نص على سراية العتق في خصوص العبد الذكر ، مخصصا له بذلك الحكم دون الأنثى ؛ لأن عتق الذكر يترتب عليه من الآثار الشرعية ما لا يترتب على عتق [ ص: 177 ] الأنثى ، كالجهاد ، والإمامة ، والقضاء ، ونحو ذلك من المناصب المختصة بالذكور دون الإناث . وقد أكثرنا من أمثلة هذا النوع الذي هو الإلحاق بنفي الفارق في سورة " بني إسرائيل " .

    ( وأما النوع الثاني من أنواع الإلحاق ) : فهو القياس المعروف في الأصول ، وهو المعروف بقياس التمثيل . وسنعرفه هنا لغة واصطلاحا ، ونذكر أقسامه ، وما ذكره بعض أهل العلم من أمثلته في القرآن :

    اعلم أن القياس في اللغة : التقدير والتسوية . يقال : قاس الثوب بالذراع ، وقاس الجرح بالميل ( بالكسر ) وهو المرود ، إذا قدر عمقه به ؛ ولهذا سمي الميل مقياسا ، ومن هذا المعنى قول البعيث بن بشر يصف جراحة أو شجة :


    إذا قاسها الآسي النطاسي أدبرت غثيثتها وازداد وهيا هزومها
    فقوله : " قاسها " يعني قدر عمقها بالميل .

    والآسي : الطبيب ، والنطاسي ( بكسر النون وفتحها ) : الماهر بالطب ، والغثيثة ( بثاءين مثلثتين ) : مدة الجرح وقيحه ، وما فيه من لحم ميت ، والوهي : التخرق والتشقق ، والهزوم : غمز الشيء باليد فيصير فيه حفرة كما يقع في الورم الشديد .

    وتعريف القياس المذكور في اصطلاح أهل الأصول كثرت فيه عبارات الأصوليين مع مناقشات معروفة في تعريفاتهم له . واختار غير واحد منهم تعريفه بأنه حمل معلوم على معلوم ، أي : إلحاقه به في حكمه لمساواته له في علة الحكم . وهذا التعريف إنما يشمل القياس الصحيح دون الفاسد . والتعريف الشامل للفاسد هو أن تزيد على تعريف الصحيح لفظة عند الحامل ، فتقول : هو إلحاق معلوم في حكمه لمساواته له في علة الحكم عند الحامل ، فيدخل الفاسد في الحد مع الصحيح ، كما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله معرفا للقياس :


    يحمل معلوم على ما قد علم للاستوا في علة الحكم وسم
    وإن ترد شموله لما فسد فزد لدى الحامل والزيد أسد
    ومعلوم أن أركان القياس المذكور أربعة : وهي الأصل المقيس عليه ، والفرع المقيس ، والعلة الجامعة بينهما ، وحكم الأصل المقيس عليه .

    فلو قسنا النبيذ على الخمر ، فالأصل : الخمر ، والفرع : النبيذ ، والعلة : الإسكار ، [ ص: 178 ] وحكم الأصل الذي هو الخمر : التحريم . وشروط هذه الأركان الأربعة والبحث فيها مستوفى في أصول الفقه ، فلا نطيل به الكلام هنا .

    واعلم أن القياس المذكور ينقسم بالنظر إلى الجامع بين الفرع والأصل إلى ثلاثة أقسام :

    الأول : قياس العلة .

    والثاني : قياس الدلالة .

    والثالث : قياس الشبه .

    أما قياس العلة فضابطه أن يكون الجمع بين الفرع والأصل بنفس علة الحكم ، فالجمع بين النبيذ والخمر بنفس العلة التي هي الإسكار ، والقصد مطلق التمثيل ؛ لأنا قد قدمنا أن قياس النبيذ على الخمر لا يصح ؛ لوجود النص على أن كل مسكر خمر ، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام " . والقياس لا يصح مع التنصيص على أن حكم الفرع المذكور كحكم الأصل ، إلا أن المثال يصح بالتقدير والفرض ، ومطلق الاحتمال كما تقدم . وكالجمع بين البر والذرة بنفس العلة التي هي الكيل مثلا عند من يقول بذلك ، وإلى هذا أشار في المراقي بقوله :


    وما بذات علة قد جمعا فيه فقيس علة قد سمعا
    وأما قياس الدلالة فضابطه أن يكون الجمع فيه بدليل العلة لا بنفس العلة ، كأن يجمع بين الفرع والأصل بملزوم العلة أو أثرها أو حكمها . فمثال الجمع بملزوم العلة أن يقال : النبيذ حرام كالخمر بجامع الشدة المطربة ، وهي ملزوم للإسكار ، بمعنى أنها يلزم من وجود الإسكار . ومثال الجمع بأثر العلة أن يقال : القتل بالمثقل يوجب القصاص كالقتل بمحدد ، بجامع الإثم وهو أثر العلة وهي للقتل العمد العدوان . ومثال الجمع بحكم العلة أن يقال : تقطع الجماعة بالواحد كما يقتلون به ، بجامع وجوب الدية عليهم في ذلك حيث كان غير عمد ، وهو حكم العلة التي هي القطع منهم في الصورة الأولى ، والقتل منهم في الثانية . وإلى تعريف قياس الدلالة المذكور أشار في مراقي السعود بقوله :


    جامع ذي الدلالة الذي لزم فأثر فحكمها كما رسم
    وقوله : " الذي لزم " بالبناء للفاعل يعني اللازم ، وتعبيره هنا باللازم تبعا لغيره غلط منه وممن تبعه هو ؛ لأن وجود اللازم لا يكون دليلا على وجود الملزوم بإطباق [ ص: 179 ] العقلاء ؛ لاحتمال كون اللازم أعم من الملزوم ، ووجود الأعم لا يقتضي وجود الأخص كما هو معروف . ولذا أجمع النظار على أن استثناء عين التالي في الشرط المتصل لا ينتج عين المقدم ؛ لأن وجود اللازم لا يقتضي وجود الملزوم ، والصواب ما مثلنا به من الجمع بملزوم العلة ؛ لأن الملزوم هو الذي يقتضي وجوده وجود اللازم كما هو معروف ، فالشدة المطربة والإسكار متلازمان ، ودلالة الشدة المطربة على الإسكار إنما هي من حيث إنها ملزوم له لا لازم ، لما عرفت من أن وجود اللازم لا يقتضي وجود الملزوم ، واقتضاؤه له هنا إنما هو للملازمة بين الطرفين ؛ لأن كلا منهما لازم للآخر وملزوم له للملازمة بينهما من الطرفين .

    وأما قياس الشبه فقد اختلفت فيه عبارات أهل الأصول ، فعرف بعضهم الشبه بأنه منزلة بين المناسب والطرد ، وعرفه بعضهم بأنه المناسب بالتبع بالذات . ومعنى هذا كمعنى تعريف من عرفه بأنه المستلزم للمناسب .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : عبارات أهل الأصول في الشبه الذي هو المسلك السادس من مسالك العلة عند المالكية والشافعية كلها تدور حول شيء واحد ، وهو أن الوصف الجامع في قياس الشبه يشبه المناسب من وجهه ، ويشبه الوصف الطردي من جهة أخرى .

    وقد قدمنا في سورة " مريم " أن المناسب هو الوصف الذي تتضمن إناطة الحكم به مصلحة من جلب نفع أو دفع ضر ، والطردي هو ما ليس كذلك ، إما في جميع الأحكام وإما في بعضها ، ولا خلاف بين أهل الأصول في أن ما يسمى بغلبة الأشباه لا يخرج عن قياس الشبه ؛ لأن بعضهم يقول : إنه داخل فيه ، وهو الظاهر ، وبعضهم يقول : هو بعينه لا شيء آخر . وغلبة الأشياء هو إلحاق فرع متردد بين أصلين بأكثرهما شبها به ، كالعبد فإنه متردد بين أصلين لشبهه بكل واحد منهما ، فهو يشبه المال لكونه يباع ويشترى ويوهب ويورث إلى غير ذلك من أحوال المال ، ويشبه الحر من حيث إنه إنسان ينكح ويطلق ويثاب ويعاقب ، وتلزمه أوامر الشرع ونواهيه . وأكثر أهل العلم يقولون : إن شبهه بالمال أكثر من شبهه بالحر ؛ لأنه يشبه المال في الحكم والصفة معا أكثر مما يشبه الحر فيهما .

    فمن شبهه بالمال في الحكم : كونه يباع ويشترى ويورث ، ويوهب ويعار ، ويدفع في الصداق والخلع ، ويرهن ، إلى غير ذلك من التصرفات المالية .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #300
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (299)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 180 إلى صـ 186




    ومن شبهه بالمال في الصفة : كونه تتفاوت قيمته بحسب تفاوت أوصافه جودة [ ص: 180 ] ورداءة كسائر الأموال . فلو قتل إنسان عبدا لآخر لزمته قيمته نظرا إلى أن شبهه بالمال أغلب . وقال بعض أهل العلم : تلزمه ديته كالحر زعما منه أن شبهه بالحر أغلب ، فإن قيل : بأي طريق يكون هذا النوع الذي هو غلبة الأشباه من الشبه ؛ لأنكم قررتم أنه مرتبة بين المناسب والطردي ، فما وجه كونه مرتبة بين المناسب والطردي ؟ فالجواب أن إيضاح ذلك فيه أن أوصافه المشابهة للمال ككونه يباع ويشترى . . إلخ طردية بالنسبة إلى لزوم الدية ؛ لأن كونه كالمال ليس صالحا لأن يناط به لزوم ديته إذا قتل ، وكذلك أوصافه المشابهة للحر ككونه مخاطبا يثاب ويعاقب إلخ . فهي طردية بالنسبة إلى لزوم القيمة ؛ لأن كونه كالحر ليس صالحا لأن يناط به لزوم القيمة ، فهو من هذه الحيثية يشبه الطردي كما ترى ، أما ترتب القيمة على أوصافه المشابهة لأوصاف المال فهو مناسب كما ترى ، وكذلك ترتب الدية على أوصافه المشابهة لأوصاف الحر مناسب ، وبهذين الاعتبارين يتضح كونه مرتبة بين المناسب والطردي .

    ومن أمثلة أنواع الشبه غير غلبة الأشباه : الشبه الذي الوصف الجامع فيه لا يناسب لذاته ، ولكنه يستلزم المناسب لذاته ، وقد شهد الشرع بتأثير جنسه القريب في جنس الحكم القريب ، كقولك في الخل : مائع لا تبنى القنطرة على جنسه ، فلا يرفع به الحدث ولا حكم الخبث - قياسا على الدهن . فقولك : " لا تبنى القنطرة على جنسه " ليس مناسبا في ذاته ؛ لأن بناء القنطرة على المائع في حد ذاته وصف طردي إلا أنه مستلزم للمناسب ، لأن العادة المطردة أن القنطرة لا تبنى على المائع القليل ، بل على الكثير كالأنهار ، والقلة مناسبة لعدم مشروعية المتصف بها من المائعات للطهارة العامة ، فإن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود ، أما تكليف الجميع بما لا يجده إلا البعض فبعيد من القواعد ، فصار قولك : " لا تبنى القنطرة على جنسه " ليس بمناسب ، وهو مستلزم للمناسب . وقد شهد الشرع بتأثير جنس القلة ، والتعذر في عدم مشروعية الطهارة ، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة فإنه يسقط الأمر بالطهارة به وينتقل إلى التيمم .

    وأما الشبه الصوري فقد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين [ 16 \ 66 ] وقد قدمنا في أول سورة " براءة " كلام ابن العربي الذي قال فيه : ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس النسبة عند عدم النص ، ورأوا أن قصة " براءة " شبيهة بقصة " الأنفال " فألحقوها بها ، فإذا كان القياس [ ص: 181 ] يدخل في تأليف القرآن ، فما ظنك بسائر الأحكام ؟ وإلى الشبه المذكور أشار في مراقي السعود بقوله :


    والشبه المستلزم المناسبا مثل الوضو يستلزم التقربا
    مع اعتبار جنسه القريب في مثله للحكم لا الغريب
    صلاحه لم يدر دون الشرع ولم ينط مناسب بالسمع
    وحيثما أمكن قيس العلة فتركه بالاتفاق أثبت
    إلا ففي قبوله تردد غلبة الأشباه هو الأجود
    في الحكم والصفة ثم الحكم فصفة فقط لدى ذي العلم
    وابن علية يرى للصوري كالقيس للخيل على الحمير
    واعلم أن قياس الطرد يصدق بأمرين ؛ لأن الطرد يطلق إطلاقين : يطلق على الوصف الطردي الذي لا يصلح لإناطة حكم به لخلوه من الفائدة . كما لو ظن بعض القائلين بنقض الوضوء بلحم الجزور أن علة النقض به الحرارة ، فألحق به لحم الظبي قائلا : إنه ينقض الوضوء قياسا على لحم الجزور بجامع الحرارة ، فهذا القياس باطل ; لأن الوصف الجامع فيه طردي . ومثله كل ما كان الوصف الجامع فيه طرديا وهو أحد الأمرين للذين يطلق عليهما قياس الطرد .

    والأمر الثاني : منهما هو القياس الذي الوصف الجامع فيه مستنبطا بالمسلك الثامن المعروف ( بالطرد ) وهو الدوري الوجودي ، وإيضاحه أنه مقارنة الحكم للوصف في جميع صوره غير الصورة التي فيها النزاع في الوجود فقط دون العدم . والاختلاف في إفادته العلة معروف في الأصول .

    واعلم أن القياس وما يتعلق به موضح في فن أصول الفقه ، والأدلة التي تدل على أن الوصف المعين علة للحكم المعين هي المعروفة بمسالك العلة ، وهي عشرة عند من يعد منها إلغاء الفارق ، وتسعة عند من لا يعده منها ، وهي : النص ، والإجماع ، والإيماء ، والسبر ، والتقسيم ، والمناسبة ، والشبه ، والدوران ، والطرد ، وتنقيح المناط ، وإلغاء الفارق . والتحقيق أنه نوع من تنقيح المناط كما قدمنا .

    وقد نظمها بعضهم بقوله :


    مسالك علة رتب فنص فإجماع فإيماء فسبر
    مناسبة كذا مشبه فيتلو له الدوران طرد يستمر
    فتنقيح المناط فألغ فرقا وتلك لمن أراد الحصر عشر
    [ ص: 182 ] ومحل إيضاحها فن أصول الفقه ، وقد أوضحناها في غير هذا المحل .

    وأما القوادح في الدليل من قياس وغيره فهي معروفة في فن الأصول ، وقد نظمها باختصار الشيخ عمر الفاسي بقوله :


    القدح بالنقض وبالكسر معا تخلف العكس وبالقلب اسمعا
    وعدم التأثير بالوصف وفي أصل وفرع ثم حكم فاقتفي
    والمنع والفرق وبالتقسيم وباختلاف الضابط المعلوم
    وفقد الانضباط والظهور والخدش في تناسب المذكور
    وكون ذاك الحكم لا يفضي إلى مقصود ذي الشرع العزيز فاقبلا
    والخدش في الوضع والاعتبار والقول بالموجب ذو اعتبار
    وابدأ باستفسار في الإجمال أو الغرابة بلا إشكال
    وإنما لم نوضح هنا المسالك والقوادح ؛ لأن ذلك يفضي إلى الإطالة المملة ، مع أن الجميع موضح في أصول الفقه ، وقد أوضحناه في غير هذا الموضع ، وقصدنا هنا التنبيه عليه في الجملة من غير تفصيل . فإذا علمت ذلك فاعلم أن العلامة ابن القيم تعالى شفى الغليل بما لا مزيد عليه في هذه المسائل في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين ، وسنذكر هنا إن شاء الله جملا وافية مفيدة من كلامه في هذا الموضوع الذي نحن بصدده . قال في كلامه على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في رسالته المشهورة إلى أبي موسى : ( ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ، ولا سنة ، قايس بين الأمور عند ذلك ، واعرف الأمثال ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله ، وأشبهها بالحق ) ما نصه :

    هذا أحد ما اعتمد عليه القياسيون في الشريعة ، قالوا : هذا كتاب عمر إلى أبي موسى ولم ينكره أحد من الصحابة ، بل كانوا متفقين على القول بالقياس وهو أحد أصول الشريعة ، ولا يستغني عنه فقيه . وقد أرشد الله تعالى عباده إليه في غير موضع من كتابه ، فقاس النشأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان ، وجعل النشأة الأولى أصلا والثانية فرعا عليها ، وقاس حياة الأموات على حياة الأرض بعد موتها بالنبات ، وقاس الخلق الجديد الذي أنكره أعداؤه على خلق السماوات والأرض ، وجعله من قياس الأولى ، كما جعل قياس النشأة الثانية على الأولى من قياس الأولى ، وقاس الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم ، وضرب الأمثال وصرفها في الأنواع المختلفة ، وكلها أقيسة عقلية ينبه بها [ ص: 183 ] عباده على أن حكم الشيء حكم مثله ، فإن الأمثال كلها قياسات يعلم منها حكم الممثل من الممثل به . وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره ، والتسوية بينهما في الحكم ، وقال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] بالقياس في ضرب الأمثال من خاصة العقل ، وقد ركز الله في فطر الناس وعقولهم التسوية بين المتماثلين وإنكار التفريق بينهما ، والفرق بين المختلفين وإنكار الجمع بينهما ، قالوا : ومدار الاستدلال جمعية على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين ، فإنه إما استدلال بمعين على معين ، أو بمعين على عام ، أو بعام على معين ، أو بعام على عام ، فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال . فالاستدلال بالمعين على المعين هو الاستدلال بالملزوم على لازمه بكل ملزوم دليل على لازمه ، فإن كان التلازم من الجانبين كان كل منهما دليلا على الآخر ومدلولا له . وهذا النوع ثلاثة أقسام : أحدها : الاستدلال بالمؤثر على الأثر ، والثاني : الاستدلال بالأثر على المؤثر . والثالث : الاستدلال بأحد الأثرين على الآخر . فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق . والثاني : كالاستدلال بالحريق على النار . والثالث : كالاستدلال بالحريق على الدخان . ومدار ذلك كله على التلازم ، والتسوية بين المتماثلين هو الاستدلال بثبوت أحد الأثرين على الآخر ، وقياس الفرق هو استدلال بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر ، أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه ، فلو جاز التفريق بين المتماثلين لانسدت طريق الاستدلال ، وغلقت أبوابه .

    قالوا : وأما الاستدلال بالمعين على العام فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين ، إذ لو جاز الفرق لما كان هذا المعين دليلا على الأمر العام المشترك بين الأفراد . ومن هذا أدلة القرآن بتعذيب المعينين الذين عذبهم على تكذيب رسله وعصيان أمره ، على أن هذا الحكم عام شامل على من سلك سبيلهم ، واتصف بصفتهم ، وهو سبحانه قد نبه عباده على نفس هذا الاستدلال ، وتعدية هذا الخصوص إلى العموم ، كما قال تعالى عقب إخباره عن عقوبات الأمم المكذبة لرسلهم وما حل بهم : أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر [ 54 \ 43 ] فهذا محض تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة ، وإلا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ولا تمت الحجة . ومثل هذا قوله تعالى عقيب إخباره عن عقوبة قوم هود حين رأوا العارض في السماء : هذا عارض ممطرنا [ 46 \ 24 ] فقال تعالى : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم [ ص: 184 ] تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين [ 46 \ 24 ] ثم قال : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [ 46 \ 26 ] فتأمل قوله : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه تجد المعنى أن حكمكم كحكمهم ، وأنا إذا كنا قد أهلكناهم بمعصية رسولنا ولم يدفع عنهم ما مكنوا فيه من أسباب العيش فأنتم كذلك تسوية بين المتماثلين ، وأن هذا محض عدل الله بين عباده . ومن ذلك قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله . وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالمسير في الأرض سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب ، أو السير المعنوي بالتفكير والاعتبار ، أو كان اللفظ يعمهما ، وهو الصواب ؛ فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين ما حل بأولئك ؛ ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حل بالمكذبين ، ولولا أن حكم النظير حكم نظيره حتى تعبر العقول منه إليه لما حصل الاعتبار ، وقد نفى الله سبحانه عن حكمه وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم ، فقال تعالى : أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون [ 68 \ 35 - 36 ] وأخبر أن هذا حكم باطل في الفطر والعقول ، لا تليق نسبته إلى سبحانه . وقال تعالى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ 45 \ 21 ] وقال تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] أفلا تراه كيف ذكر العقول ، ونبه الفطر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره ، وعدم التسوية بين الشيء ومخالفه في الحكم . وكل هذا من الميزان الذي أنزله الله مع كتابه ، وجعله قرينه ووزيره ، فقال تعالى : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان [ 42 \ 17 ] وقال : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [ 57 \ 25 ] وقال تعالى : الرحمن علم القرآن [ 55 \ 1 - 2 ] فهذا الكتاب ، ثم قال : والسماء رفعها ووضع الميزان [ 55 \ 7 ] والميزان يراد به العدل ، والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده . والقياس الصحيح هو الميزان ، فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به ؛ فإنه [ ص: 185 ] يدل على العدل ، وهو اسم مدح واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان ، بخلاف اسم القياس ، فإنه ينقسم إلى حق وباطل ، وممدوح ومذموم ؛ ولهذا لم يجئ في القرآن مدحه ولا ذمه ، ولا الأمر به ، ولا النهي عنه ، فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد ، فالصحيح هو الميزان الذي أنزله الله مع كتابه ، والفاسد ما يضاده كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية ، وقاس الذين قاسوا الميتة على المذكى في جواز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح - هذا بسبب من الآدميين وهذا بفعل الله - ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس ، وأنه ليس من الدين ، وتجد في كلامهم استعماله ، والاستدلال به ، وهذا حق وهذا حق ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى .
    والأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة : قياس علة ، وقياس دلالة ، وقياس شبه ، وقد وردت كلها في القرآن . فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع ، منها قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [ 3 \ 59 ] فأخبر تعالى أن عيسى نظير آدم في التكوين ، بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات ، وهو مجيئها طوعا لمشيئته وتكوينه ، فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يقر بوجود آدم من غير أب ولا أم ووجود حواء من غير أم ، فآدم وعيسى نظيران يجمعهما الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به .

    ومنها قوله تعالى : قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين [ 3 \ 137 ] أي : قد كان من قبلكم أمم أمثالكم ، فانظروا إلى عواقبهم السيئة ، واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله ، وهم الأصل وأنتم الفرع ، والعلة الجامعة : التكذيب ، والحكم : الهلاك .

    ومنها قوله تعالى : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين [ 6 \ 6 ] فذكر سبحانه إهلاك من قبلنا من القرون ، وبين أن ذلك كان لمعنى القياس وهو ذنوبهم ، فهم الأصل ونحن الفرع ، والذنوب العلة الجامعة ، والحكم : الهلاك . فهذا محض قياس العلة ، وقد أكده سبحانه بضرب من الأولى ، [ ص: 186 ] وهو أن من قبلنا كانوا أقوى منا فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حل بهم . ومنه قوله تعالى : كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون [ 9 ] وقد اختلف في محل هذا الكاف وما يتعلق به ، فقيل : هو رفع خبر مبتدأ محذوف ، أي : أنتم كالذين من قبلكم . وقيل : نصب بفعل محذوف تقديره : فعلتم كفعل الذين من قبلكم . والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل ، وقيل : التشبيه في العذاب . ثم قيل : العامل محذوف ، أي : لعنهم وعذبهم كما لعن [ الذين ] من قبلهم . وقيل بل العامل ما تقدم ، أي : وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم ، ولعنهم كلعنهم ، ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم .

    والمقصود أنه سبحانه ألحقهم بهم في الوعيد ، وسوى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال ، وكونهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا فرق غير مؤثر ، فعلق الحكم بالوصف الجامع المؤثر ، وألغى الوصف الفارق ، ثم نبه على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء ، فقال : فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا [ 9 ] فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع ، وقوله : أولئك حبطت أعمالهم هو الحكم ، والذين من قبلهم الأصل ، والمخاطبون الفرع .

    قال عبد الرزاق في تفسيره : أنا معمر عن الحسن في قوله : فاستمتعوا بخلاقهم قال بدينهم ، ويروى عن أبي هريرة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •