الأم أولاً..

عبير النحاس

لم يستطع البائع - في متجر الملابس النسائية- أن يخفي دهشته مما سمعه مني, ثم علَّقَ قائلاً:
" لأول مرة أسمعُ أماً تقول لي و هي تبحث عن ملابس أنها هي الأهم".
حدث هذا بينما كنت أتجول مع ابنتاي في أحد المتاجر في شارع الحمراء بالعاصمة دمشق, و كنت وقتها أبحث عن ملابس تناسب عملاً يخصني, وكنت برفقة الصبيتين عندما بدأ البائع بعرض ملابس لهما من دوني.
لم تبد ابنتاي وقتها اهتماما بما عرضه عليهما؛ فغالبا ما كانتا تشتريان ملابسهما من المتاجر التي تعنى بملابس الشابات, وكانتا تعرفان سبب رغبتي في شراء تلك الملابس يومها و ضرورة أن يكون اختياري لها موفقاً ومدروساً, و لكن البائع الذي تعلَّم و اختبر ضعف الفتيات أمام الملابس وضعف قلب الأم عندما ترى الرغبة في عيون بناتها, و الذي اختبر أيضا شح الأمهات على أنفسهن مقابل كرمهن على بناتهن أدرك أن البيع لهن سيكون أسهل.
اضطررت وقتها لإظهار ضيقي مما يفعله, وطلبت منه بحزم أن يتوقف عن عرض قطع الملابس التي تناسب الصغيرات لأنني أنا فقط من سيشتري في هذا اليوم, ولأنني لن أفكر في شراء أي قطعة ملابس للفتاتين قبل أن أجد كل ما أبحث عنه لنفسي.
لم أستغرب دهشة البائع مما سمع لأنني بالفعل كنت من أولئك النسوة يوما, ولأن أغلب الأمهات في عالمنا من هذا النوع أيضا, ولأنني بعد تفكير وتجربة قررت أن أكون مختلفة.
وفي جلسة كنت أقدم فيها واجب العزاء عندما توفيت قريبتي سمعت من بناتها كلمات و أحاديث تحكي عن رغبات و أمنيات صغيرة لم تحققها والدتهن, وأنها تخلت عنها لأن حالتها المادية لم تكن لتسمح لها بتحقيق تلك الأمنيات وهي تربيهن وحدها بعد وفاة والدهن و قد قامت بتربيتهن تربية رائعة وواصلن تعليمهن الجامعي بتشجيع و دعم منها, و كن يذرفن و هن يسألن أنفسهن بأسى و بصوت مرتفع :
"لم لم نحقق لها ما تمنت عندما كبرنا".
فهمت من كلماتهن الحزينة أيضاً أن أمنيات والدتهن لم تكن لتتعدى بعض المصوغات الذهبية و بعض الملابس الغالية كمعطف مستورد و أشياء أخرى رغبت بامتلاكها في شبابها و تناستها في غمرة مسؤولياتها, ثم ماتت قبل أن تحققها و باتت بعد وفاتها تسبب أرقاً وألما للبنات.
معظم الآباء تنتهي حياتهم الشخصية و اهتمامهم بأنفسهم لحظة قدوم المولود الأول, و ينسى أولئك أنفسهم.. و رغباتهم.. و أحلامهم.. و طموحاتهم ليبدؤوا رحلة جديدة أساسها شخص آخر.
و غالباً ما يتنكر الأولاد لآبائهم الذين لا يمتلكون تلك الميزات التي تجعلهم يفخرون و يعتزون بهم, و قد نجد الكثير الكثير من شكاوى المراهقين من أهلهم الذين يضيقون عليهم و يعتبرونهم أساساً لحياتهم بعد أن نسوا أنفسهم, وقد نجد من يستحي من وجود أهله أمام رفاقه لأنه لا يستطيع أن يفخر بمظهرهم.. أو نجاحاتهم.. أو حتى شخصياتهم المحببة.
و من الطبيعي أن نرى ذلك الوالد أو تلك الوالدة التي نسيت نفسها ونذرت حياتها لأولادها وهي تطلب منهم التقدير المناسب لتضحياتها من أجلهم وتطلب منهم أيضا الجزاء المناسب؛ فمنها مثلا الزيارات الكثيرة بعد الاستقلال بعائلته, و منها المؤانسة و الاهتمام, و غيرها من الأمور التي يطلبها الآباء من أولادهم عندما يكبرون, و سنجد من الآباء من يتعفف أيضا ولكن ملامح الحسرة والندم لا تستطيع أن تختبئ بين تجاعيد وجوههم وحتى بعض العبارات اليائسة التي يطلقونها.
في الحقيقة أحب أولئك الآباء الذين يمتلكون حياتهم الخاصة..
وأحب بالتأكيد الأمهات اللواتي يحتفظن بصداقاتهن الحميمة..
وأحب أن أراهن يعتنين بمظهرهن و صحتهن..
وأحب أن أراهن يكثرن الاهتمام بثقافتهن و علومهن و أسرار التكنولوجيا الجديدة..
وأن يتابعن أهدافهن التي قررنها يوما لحياتهن ..
وأن يجدن لهن مكانا في هذا الكون..
أحبهن أيضاً أن يجعلن من أنفسهن محوراً لحياتهن, و أن لا يربطن سرورهن و سعادتهن باهتمام أولادهن بهن عندما يكبرن و تمتلئ رؤوسهن باللون الأبيض..
وأحبهن أن يعرفن أن لأولادهن حياتهم الخاصة و أن عدم استجدائهن للعواطف هو ما سيأتي لهن بالأولاد و الأحفاد شوقا وحبا وفخراً.
فلا تهملن أنفسكن.. و لا تنسين أحلامكن.. واسعين لسعادة يصنعها إنجاز وهدف و حلم تحققنه, و ليكن فخر أولادكن بإنجازاتكن هو سبب لزيادة علاقات الود و المحبة و الاتصال.