حكم الصلاة مع الإخلال بالاتصال والاصطفاف.. (مع إضافات جديدة)
فهد بن يحيى العماري
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد كثر الجدل والتساؤل حول مسألة التباعد بين الصفوف في الصلوات في المساجد، ولما صدرت الفتوى بإغلاق المساجد احترازاً من انتشار وباء كورونا، ثم أُذن في بعض الدول بالصلاة في المساجد في شهر رمضان، وقد انتشر مقطع للصلاة في مسجد في إحدى الدول على صفة التباعد بداية انتشار المرض، وكانت المصلحة في التباعد بين الصفوف أو التباعد بين المأمومين في الصف بناء على ما قررته اللجان الصحية.
وعليه وبناء على ما تقدم كان السؤال حول مشروعية الصلاة بهذه الصفة من التباعد بنوعيه: في التباعد بين الصفوف، وفي التباعد بين المأمومين؟
فاستعنت بالله في تحرير جواب مختصر، لهذه النازلة، وقد ذكرت بعض الأدلة والأقوال مختصرة، لتسهل قراءتها، ولا يملّها الملول في زمن الخلاصة والسرعة والاختصار، مذكّرًا بها نفسي وإخواني، وهي إحدى الرسائل المحررة في نوازل: (وباء كورونا)، وأصلها رسائل عبر برنامج التواصل (الواتس)، وسميتها:
"حكم الصلاة مع الإخلال بالاتصال والاصطفاف"
سائلاً الله التوفيق والسداد والهدى والرشاد لأنفسنا وأمتنا، وأن يحيينا جميعًا على العلم النافع والعمل الصالح، وأن يمتّعنا متاعًا حسناً، وأن يرفع البلاء والداء.
رحمكم الله: هذه المسألة مبنية على عدة مسائل:
المسألة الأولى: حكم المُصافة والاعتدال وهي محل خلاف بين العلماء رحمهم الله:
القول الأول: سنة، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
وأدلتهم باختصار: ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة) متفق عليه، ولرواية: (فإن إقامة الصف من حسن الصلاة) متفق عليه، والتمام والحسن أمر زائد عن الواجب، والإنكار قد يكون على ترك سنة.
وقد يقال عن الأول: بأن لفظ التمام يراد به الوجوب تارة، كحديث: (لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل) رواه أبوداود، وتارة يراد به الاستحباب، كحديث: (إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تم ركوعه وذلك أدناه وإذا سجد فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه) رواه أبوداود وقال مرسل، وصححه الألباني، وحملوا تسبيح الثلاث على أدنى الكمال الاستحباب، والوجوب واحدة، على خلاف في المسألة مشهور.
القول الثاني: واجب، واختاره البخاري وابن العربي وابن رجب.
أدلتهم باختصار ما يلي: ما ورد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم)متفق عليه، ولا يكون الوعد على مستحب، ولما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه قدم المدينة، فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله؟ قال: (ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف)رواه البخاري، وقد ضرب عمر قدم عثمان النهدي لإقامة الصف رواه الخطابي بسنده وصححه، وورد عن سويد قال: (كان بلال يضرب أقدامنا في الصلاة ويسوي مناكبنا) ذكره الخطابي وبوب البخاري: باب إثم من لم يتم الصفوف، (وكان عمر رضي الله عنه يوكل رجالاً بإقامة الصفوف فلا يكبر حتى يخبر أن الصفوف قد استوت) رواه الترمذي وورد عن علي وعثمان نحوه.: قال ابن حجر: (أخذ البخاري الوجوب من القرائن)، وقال ابن رجب في فتح الباري: (وأما استدلال البخاري به على إثم من لم يتم الصف ففيه نظر؛ فإن هذا إنما يدل على أن هذا مما ينكر، وقد ينكر المحرم والمكروه وكان الاستدلال بحديث: "لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" على الإثم أظهر).
فرع: على القول بالوجوب هل تبطل الصلاة؟ محل خلاف بين العلماء رحمهم الله:
القول الأول: صحة الصلاة، وحكي اتفاق الفقهاء على ذلك.
القول الثاني: بطلانها، وهو احتمال عند الحنابلة حكاه ابن مفلح وهو مذهب ابن حزم.
الراجح: الأول؛ لأن الأصل الصحة، ولأن الوجوب هنا شيء منفك عن ذات الصلاة.
قال ابن حجر رحمه الله: "ومع القول بأن التَّسوية واجبة، فصلاة من خالف ولم يسوّ صحيحة ثم استدلَّ على ذلك بحديث أنسٍ رضي الله عنه حين قدِمَ المدينة، فقيل له: ما أنكرتَ منا منذ يوم عهدتَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟ قال: "ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا تقيمون الصُّفوف)، ومع هذا الإنكار؛ فإنَّ أنسًا رضي الله عنه لَم يأمرهم بالإعادة.
المسألة الثانية: اشتراط اتصال الصفوف داخل المسجد فقد حكى الآمدي الاجماع على عدم اشتراط الاتصال داخل المسجد، وذهب بعض الحنفية إلى أن ذلك يمنع إذا كان المسجد كبيراً جداً، ومعناه المسافات بين الصفوف بعيدة جداً، ومقتضاه أن المسافات القريبة جائزة اتفاقاً، وجوز ابن تيمية الصلاة خارج المسجد من غير اتصال للحاجة.
المسألة الثالثة: صلاة المنفرد خلف الصف محل خلاف بين العلماء رحمهم الله:
القول الأول: تصح، وهو مذهب جمهور الفقهاء، ويحملون حديث علي الآتي على أن النفي نفي كمال وليس نفي صحة، واستدل الجمهور بعدم فسادها بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكرة حين كبَّر وحده، ثم التحق بالصف: "زادك الله حرصًا ولا تعد" رواه البخاري، ولم يأمره بالإِعادة، وينازعون في صحة حديث وابصة الآتي، وإن صح فيحمل على الندب، ولما روى البيهقي من طريق مغيرة فيمن صلى خلف الصف وحده أنه صلى الله عليه وسلم قال "صلاته تامة".
القول الثاني: لا تصح، وهو مذهب الحنابلة والنخعي وابن خزيمة وغيرهم؛ لحديث علي بن شيبان رضي الله عنه، أنه قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف، فرأى رجلاً يصلي فرداً خلف الصف، فوقف نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى انصرف الرجل من صلاته: (استقبل صلاتك، لا صلاة للذي خلف الصف) رواه أحمد وحسنه، وحسنه النووي، وقواه الذهبي، وصححه البيهقي والبوصيري، ولحديث وابصة رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة) رواه أصحاب السنن، قال الحافظ وصححه أحمد وابن خزيمة.
القول الثالث: تصح إذا لم يستطع أن يدخل في الصف، وهو مذهب الحسن ورواية عند الحنابلة واختاره ابن تيمية، وهو الراجح، لعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
حكم النازلة: اختلف المعاصرون في هذه النازلة على اتجاهين:
الاتجاه الأول: مشروعية التباعد، لما تقدم في المسائل الثلاث المتقدم ذكرها، وبه أفتى كثير من المعاصرين.
الاتجاه الثاني: عدم مشروعية ذلك، لأنها هيئة محدثة في الصلاة.
الراجح: الاتجاه الأول، لما يلي:
1-أن الإخلال ببعض أحكام الصلاة للحاجة والعذر وارد في الشريعة، وذلك مثل صلاة الخوف بصورها المتنوعة، وصلاة المريض والمسافر في الطائرة ونحوها، والائتمام بالإمام الذي يصلي جالساً كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، ولعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، ولما ورد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) رواه البخاري.
قال النووي رحمه الله في منهاجه: (هذا من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم ويدخل فيها ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي).
قال ابن الجوزي رحمه الله في المشكل: (قد دل على وجوب المقدور عليه من جميع المأمورات، فإن من لم يمكنه الصلاة قاعدا صلى على جنب).
قال ابن رجب رحمه الله في جامعه: (دليل على أن من عجز عن فعل المأمور به كله، وقدر على بعضه، فإنه يأتي بما أمكنه منه، وهذا مطرد في مسائل منها الطهارة ومنها الصلاة). وبنحوه قال ابن دقيق العيد.
2-أن المصافة هنا تركت للحاجة، وهي الاحتراز من العدوى، والحاجة تنزل منزلة الضرورة في تغير الحكم.
قال ابن تيمية رحمه الله: (وإذا كان القيام والقراءة وإتمام الركوع والسجود والطهارة بالماء وغير ذلك يسقط بالعجز فكذلك الاصطفاف وترك التقدم).
3-أن الجهات الصحية هي ذات خبرة ورأي، وقرار صاحب الخبرة معتبر، وهذا مقرر في أحكام الشريعة، ومنثور في كلام الفقهاء في المذاهب الفقهية، ولا يخفى على فقيه مثل ذلك.
4-أن جملة من القواعد الشرعية تتوافق مع ما ذكر بعاليه: (الحاجة تقدَّر بقدرها)، (وإذا ضاق الأمر اتَّسع)، (ودرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح).
5-على القول بالسنية في جميع ما تقدم فقد تعارض أمران هل يقال صلوا في بيوتكم أولى أو القيام بالصلاة في المسجد بهذه الصفة؟
لا شك الثاني؛ لأن الجماعة في المساجد مقدَّمة، والواجب مقدَّم على السنة.
وإذا قيل بالواجب في جميع ما تقدم وللحاجة، فوجوب الجماعة آكد وأعظم، والقاعدة: (تحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.)، (وإذا اجتمعت المصالح الأخروية الخالصة، فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح والأفضل فالأفضل).
ثم إن عمارة المساجد بالمصلين مقصد من مقاصد الشريعة العظيمة، وبها تتحقق كثير من المقاصد الشرعية وتحصيلها أمر مطلوب، ولذا من نحا إلى القول بالبدعية أو الأفضل تقديم الصلاة في البيوت ففيه بعد ومجانبة للصواب. والله أعلم.
يتبع