دلالات الإيجاز والإطناب في البيان القرآني
الدكتور محمد بن محمد الحجوي
وهذا المعنى يتلاءم مع الآيات البينات التي وصف الله فيها أصحاب الجنة وأصحاب النار، قال تعالى: >أفنجعل المسلمين كالمجرمين· مالكم كيف تحكمون< >القلم، 35-36<، وقوله: >فهو في عيشة راضية· في جنة عالية· قطوفها دانية· كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية< >الحاقة، 21- 23<، وقوله:>خذوه فغلوه· ثم الجحيم صلوه· ثم في سلسة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه< >الحاقة، 30 -32<·
هذه ضروب من الإيجاز في البيان القرآني، تظهر جزاً من التحدي في إعجازه الشامل، وهاهم العلماء في عصرنا الحديث يبحثون في إشاراته الكونية والطبيعية والعلمية التي أثبتها البحث العلمي، وكلما تقدم البحث أصبحت تلك الإشارات قوية ودالة على أن كتاب اللّه كتاب عقيدة يدعو الإنسان لاستعمال الفكر والعقل للتدبر في أسرار عجائب الوجود، وطبيعة الكائنات الحية، لأن استعمال العقل هو المدخل لتطور العلم·
دلالات الإطناب في البيان القرآني
إذا كان الإيجاز في موضعه بلاغة فإن الإطناب يعد كذلك بلاغة، ولذلك لم يتوان الفصحاء والبلغاء في الجمع بينهما إذا كان المقام دالا عليهما، فكما يجب على البليغ في مظان الإيجاز أن يوجز، فكذلك ينبغي في موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع:
يرمون بالخطب الطوال، وتارة
وحي الملاحظ خيفة الرقباء
ومن أقوال العرب المأثورة التي تدل على أن الضربين أصل من أصول البيان قولهم: >الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل<، ومن يدرس تراث العرب الشعري والنثري يجد المعاني البارعة قد صيغت بالأسلوبين معاً، هذه الخصائص الأسلوبية في كلام العرب لها تأثير قوي في الإبداع، لأن الأسلوبين يساعدان المبدع للتعبير عن خواطره وأفكاره بأشكال متعددة من الرؤى، قال >حازم< يذكر ما للعرب من الاستدلالات، والتبحر في المعاني في أثناء حديثه عن القوانين البلاغية التي وضعها أرسطو:>ولو وجد هذا الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من كثرة الحكم والأمثال والاستدلالات، واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام لفظا ومعنى، وتبحر في أصناف المعاني، وحسن تصرفهم في وضعها ووضع الألفاظ بإزائها، وفي إحكام مبانيها واقتراناتها، ولطف التفاتاتهم وتتميماتهم واستطرادهم، وحسن مأخذهم ومنازعهم وتلاعبهم بالأقاويل المخيلة كيف شاءوا، لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية< (17)·
وأسلوب الإطناب في القرآن مثل أسلوب الإيجاز، تميز بخصائص بيانية معبرة عن الإعجاز، ووافق خطابه المقام، وبهذا المنهج لم يخرج عما تعارف عليه العربي في بلاغتهم، بسط وتفصيل في غير خطل، وإيجاز واختصار في غير عجز·
ومن هنا يبدو سر البسط والتفصيل في بيان القرآن في قوله تعالى:>هي عصاى أتوكأ عليها، وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى<>طه، - 18<·
إن الجوب في الآية الكريمة جاء رداً على سؤال وجه لسيدنا >موسى< عليه السلام في قوله تعالى:>وما تلك بيمينك ياموسى<، وكان من الممكن أن يقتصر الجواب على قدر السؤال، كأن يقول >موسى< عليه السلام: عصاي، أو هي عصاي، ويكون الجواب تماما على قدر السؤال، لكن مثل هذا الجواب في مثل هذا المقام لايفيد السائل ولا يقنعه، وقد يدفعه لوضع سؤال آخر طلبا للزيادة في التوضيح والتفصيل، ومعرفة الغاية من حمل العصا، وتجنبا لتكرارر السؤال، ورغبة في إقناع السائل كان البسط في هذه الآية الكريمة مراعاة لأحوال >موسى< عليه السلام، وللظرف الذي كان فيه، وبرغم أن هذا التعبير المعجز قد ذكر بعض الأسباب، فإنه أضاف عبارة بليغة وجامعة لمعان كثيرة، وهي >ولي فيها مآرب أخرى< إنها عبارة تجعل السامع يتخيل أشياء كثيرة في الاستفادة من هذه العصا، كما ان هذا البسط لا تخفي دلالته في كيفية معاملة أصناف من الناس، فمنهم الذكي الفطن الذي يعرف خبايا السؤال، فيقنع السائل بجواب شاف، ومنهم القليل الفهم والإدراك، أو لا يبالي بالأشياء فيكون جوابه مختلفا أو غير مقنع، ويدخل في هذا البسط أيضا مراعاة العادات والتقاليد والأعراف، ونمط الحياة والفكر السائد في المجتمع·
وجاء البيان في إطناب القرآن أجناس معينة، يلزم بيانها لأن ذكرها من دون قصد قد يجعلها غامضة في ذهن السامع، أو تختلط مع أجناس أخرى، فيكون البسط في هذه الحال ضرورة بلاغية لإزالة اللبس والغموض، قال تعالى: >وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه< >الأنعام،- 38<·
البسط في الآية زيادة في بيان الجنس المقصود من الدابة والطائر، فكان ذكر الأرض والجناحين إطنابا، لكنه إطناب من أجل تحديد النوع·
ومن أسلوب الإطناب الذي جاء مراعيا لأحوال المخاطبين قوله تعالى :>إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل اللّه من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون< >البقرة،- 164<·
لاريب أن الحديث بتفصيل عن الظواهر الطبيعية التي ذكرتها الآية قصد به تعميم الفائدة لجميع الناس، لأنهم من ينكر هذه الحقائق إذا أوجز له الكلام، أو يخامره شك وارتياب في قدرة الله على تصريف الأمور والتحكم فيها، فلذلك جاء البيان القرآني مفصَّلا لها لتكون حجة على الحاضر والغائب·
وإن من ينظر في بيان القرآن بغير تدبُّر في الأمور التي ترتبط بالمخلوقات وخالقها، وبالأسباب ومسبباتها لحري أن يقع في الوهم، وتختلط عليه الأشياء، فلا يفرق بين صواب وخطأ، وممكن ومستحيل، فلذلك كان مفتاح معاني كتاب اللّه هو تدبُّرها بعقل وحكمة، واستحضار معاني الآيات المحكمات والمتشابهات أثناء التفسير والتحليل، لأن القرآن يفسر بعضه بعضها لكونه متناسقا في مضامين، سواء كانت غيبية أو تقريرية أو تشريعية، كما ينبغي للباحث أن يستحضر السنة الشريفة فهي مفتاح كتاب اللّه، والمدخل إلى أنواره، والاستعانة باجتهاد علماء الأمة وسلفها الصالح الذين فتحوا عقولهم وقلوبهم لتدبر معاني القرآن والسنَّة الشريفة، فاستخرجوا منهما درراً ولآلئ أنارت للمسلمين منهج دينهم وحياتهم، ومن هنا ينبغي عدم التسرع في اعتبار حرف أو كلمة أو عبارة حشوا في القرآن لمجرد أنها تبدو غير مؤثرة في المعنى إذا حذفناها، إن التحدي في كتاب الله كان شاملا في تراكيبه ومعانيه وأخباره قال تعالى: >الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به< >غافر،- 7<، هذا التركيب المعجز الجليل قد يرى فيه المتعجل تكرار المعاني، حيث يمكن الاستغناء عن بعض الألفاظ من دون أن يطرأ خلل على سياق الآية الكريمة، وذلك أن الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون لله، والتسبيح تعبير عن الإيمان الصادق، فلماذا زيدت >ويؤمنون به<، والإيمان حاصل سلفا؟ هنا يجب التأمل بعمق في البيان القرآني، فما من حرف أو لفظ أو تركيب إلا له معنى ومقصد شريف، والزيادة هنا جاءت للدلالة على معنى محدد، فيه توجيه وإرشاد للمؤمنين، وهو جعل الإيمان والعمل قرينين، لأن الأعمال لا تكتمل إلا بالإقرار بالإيمان باللسان والفعل، والإيمان شرف وفضل على كل الأعمال كيفما بلغت درجاتها في الكمال، ومن هنا كانت هذه الزيادة هي البلاغة عينها، وهي الجزء الذي أعطى قوة للمعنى حيث يوجه المؤمنين للجمع بين صدق الإيمان، والعمل الصالح، قال >السكاكي<: >ووجه حسن ذكره أظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه< 22.
وكذلك نجد الإطناب في التوجيه الرباني في قوله تعالى:>والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد< محمد،-2<·
إن الإيمان والعمل الصالح هما أساس التقوى، وقد اقترنا لبيان أن أحدهما يكمل الآخر، لأن عدم الإيمان برسالة محمد عليه الصلاة والسلام يبطل كل إيمان وكل عمل، وهذا بيان لفضل رسالته عليه السلام على سائر الرسالات، لأن الإسلام دين للبشرية جمعاء، صحح مافي الرسالات السابقة المحرفة من تحريف وغلو، ووضع للبشرية النهج القويم الذي راعى مصالحهم في كل زمان ومكان، ومما يلاحظ في الآية الكريمة من الناحية البيانية أن التخصيص جاء بعد ذكر الأعم، وهذا الأسلوب يكتسب بلاغته بالتركيز على الغرض المقصود، قال >السجلماسي< في بيان هذا النهج من الأساليب عند العرب: >نهج من أساليب النظوم البلاغية وأفانين البديع< 24 ·
ولذلك نجد في بيان القرآن هذا الأسلوب البديع في آيات كثيرة لبيان فضل الشيء أو تخصيصه كقوله تعالى: >من كان عدوا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكائىل >البقرة،- 98<·
جاء تخصيص جبريل وميكائيل بعد التعميم لبيان مزيتهما وشرفهما وفضلهما·
وفي مثل هذا الأسلوب يأتي تقديم الجزئي على الكلي لإفادة الغرض البياني نفسه الذي يتحقق بتقديم الكلي على الجزئي· وقد يكون الكلي بمفرده لايفيد الفائدة المطلوبة، ولا يوفي بالغرض البياني، فيأتي الجزئي مساعداً على بيان الكلي· قال تعالى:>ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم< >محمد،- 31<·
ذكر اللّه سبحانه وتعالى: >المجاهدين< ثم >الصابرين< والمجاهدون هم الأخص بالذكر لإشعار المسلمين بفضل الجهاد في سبيل إعادة كلمة اللّه، ونصرة دينه، وتثبيت الشريعة، أما الصابرون فيهم المجاهدون أنفسهم، أو فئة منهم تبلوا بلاء حسنا في القتال والصبر على المكاره، فلذلك كان هذا الجزئي ضروريا لبيان ما يتحلى به المجاهدون من صفات نبيلة، وهي الصبر على مكروه القتال وشدته في سبيل الله·
وفي التركيب البياني العربي مصطلح سموه >حشوا< لأنه إطناب زائد لغير فائده، وقد يكون كذلك إذا لم ينح الكاتب بالمعاني مناحي الإبداع والتعجيب، إلا أن الحشو قد يأتي في تراكيب بليغة، فيكون أجود من كثير من أصول الكلام، وحذفه من موضعه قد يغير الصورة البيانية من كمال بهائه إلى كلام تقريري لاترى فيه تناسقاً واستواء·
قال عبدالقاهر الجرجاني: >وقد تراه مع إطلاق هذا الإسم عليه واقعاً من القبول أحسن موقع، ومدركاً من الرضى أجزل حظ، ذاك لإفادته إياك على مجيئه مجيء مالا يعول في الإفادة عليه ولاطائل للسامع لديه، فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لم ترقبها، والنافعة أتتك ولم تحتسبها<27 ·
هذا الرأي في الحشو صدر عن شيخ البلاغيين، وأعلم الناس بالأساليب والبيان، وبأسرار إعجاز كتاب الله·
وإذا نظرنا فيما حققته من مبالغة لفظة >ظالمين< في قول الشاعر وهي حشو، يبدو لنا صحة هذا الرأي:
صببنا عليها - ظالمين - سياطنا
فطارت بها أيد سراع وأرجل
قد يكون الاستغناء عن هذه اللفظة، ولا يطرأ على المعنى تغيير، لكن حذفها سيكون تعبيراً عن الجهل بالبيان وأصوله، لأن هذا الحشو هو المبالغة المستحسنة، والزيادة المطلوبة في البيان· قال >ابن رشيق<: >حتى علمنا ضرورة أن إتيانه بهذه اللفظة التي هي حشو في ظهر الأمر أفضل من تركها 28 ·
بمثل هذه الرؤية ينبغي النظر في حشو شعر الفحول، ونثر البلغاء، وأحسن منه أن ينظر فيما جاء في كتاب اللّه الذي هو حجة في البيان، يفوق ماجاء في سائر كلام البلغاء·
وقد سمى البلاغيون الحشو تتميما >29<، واعتراضا >30<، وهي مصطلحات تفيد الزيادة التي تنزه الكلام عن التقصير، وبهذه الصفة تصبح عمدة في الكلام· ومنه ماجاء في قوله تعالى: >ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيراً< >الإنسان،- 8 ·
إن قوله تعالى: >على حبه< زيادة لكنها بليغة وطريفة حققت مبالغة في المعنى· وذلك أن الذي يطعم المسكين واليتيم والأسير والمحتاج من الشيء الذي يحبه ويشتهيه، ويكون في أشد الحاجة إليه، ولا سيما في زمن العسر والشدة يعبر عن موقف نبيل وشريف ونكران للذات· ويظهر هذا المعنى في قوله تعالى:>أو إطعام في يوم ذي مسغبة< >البلد، - 14< ولذلك كانت العرب في جاهليتها تفتخر بهذه المواقف النبيلة، قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الأدب فينا ينتقر
ونجد مثل هذه الزيادة البيانية التي تضفي على المعنى مبالغة مستحسنة في قوله تعالى:>ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة< >غافر - 40<·
إن قوله تعالى: >وهو مؤمن< تتميم بليغ أفاد فائدة جليلة في العقيدة، مثل مارأينا في سورة >محمد< حيث قرنت الآية بين العمل الصالح والإيمان، وجعلت كل واحد منهما يطلب الآخر·
وبعض البلاغيين رأى >الاعتراض< زيادة غير مؤثرة في الأسلوب من جهة المعنى >34<· وهذا الرأي لايمكن تعميمه على سائر الأساليب سواء كانت صادرة عن البلغاء، أو وردت في البيان القرآني، ولهذا نرده ولو كان صادرا عن بلاغي كانت له جهود طيبة في الدرس البلاغي وهو >السكاكي< حيث اعتبر الاعتراض في قوله تعالى: >فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة< >البقرة -24<·
مجرد زيادة يمكن الاستغناء عنها، ولكننا حينما ننعم النظر في هذا الاعتراض نجده يندرج في البيان لكونه نفى نفياً مطلقاً أن يحقق الجاحدون هذا الفعل مهما بلغ قدراتهم في البيان، فكان هو التحدي الذي برهن على صدق رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وجعل العرب يقرون بأن القرآن ليس كلام البشر·
إن النظر في أسلوب القرآن بخاصة، وأساليب البلغاء بعامة، ينبغي أن يكون مصحوبا بالتروي، والرؤية الفاحصة لقواعد البيان التي بنى عليها العرب كلامهم، فكثير من هذا الكلام لا تكتشف وجوهه ومحاسنه إلا بالبحث في الجزئيات والعلاقات التركيبية الدقيقة، لأن الدلالة في البيان العربي تذهب مذاهب متشبعة وخفيفة فقد تكون التفاتا أو تعاطفاً أو تتميماً أو اعتراضاً أو غيرها من الفنون التي عنى بالبلاغيون، بدراستها· ومعرفتها في البيان العربي والبيان القرآني خاصة مرتبطة بخصائص التراكيب الدقيقة في اللغة العربية، وبإشارات العلماء المضيئة لهذا البيان·>