الوقفة الرابعة : القراءات الشاذة لها فوائد متعددة :
منها : أنه يحتج بها ، ويعمل بما يقتضيه معناها إذا لم يكن هناك ما يعارضها أو يدفعها ، وهي في الاحتجاج بها في حكم خبر الواحد .
وهذا هو رأي جمهور العلماء كما ذكر ذلك ابن عبدالبر - رحمه الله - بقوله : ( ...وهذا جائز عند جمهور العلماء ، وهو عندهم يجري مجرى خبر الواحد في الاحتجاج به للعمل بما يقتضيه معناه ...). [ الاستذكار 10/190. وانظر : كتاب أثر القراءات في الفقه الإسلامي للدكتور صبري عبدالرؤوف ص 331 - 347 حيث عقد فصلاً بيّن فيه موقف الفقهاء من الاحتجاج بالقراءة الشاذة . ]
ومن أمثلة ذلك : قول الله تعالى في كفارة اليمين : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } [ المائدة : 89 ] جاء في قراءة ابن مسعود وأبيّ بن كعب - رضي الله عنهما - : { ثلاثة أيام متتابعات } ، وعلى هذا استند جماعة من العلماء فقالوا : إنه يلزم التتابع في صيام كفارة اليمين .
قال أبو بكر الجصاص : ( روى مجاهد عن عبدالله بن مسعود ، وأبو العالية عن أبيّ : { فصيام ثلاثة أيام متتابعات } ، وقال إبراهيم النخعي في قراءتنا : { فصيام ثلاثة أيام متتابعات } ، وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاووس : هن متتابعات لايجزي فيها التفريق .
فثبت التتابع بقول هؤلاء ، ولم تثبت التلاوة لجواز كون التلاوة منسوخة والحكم ثابتاً ، وهو قول أصحابنا ، وقال مالك والشافعي : يجزيء فيها التفريق ) ا هـ .[أحكام القرآن للجصاص 2/577 .]
قال ابن كثير - رحمه الله - بعد ذكره للآثار التي تؤيد القائلين بالتتابع : ( وهذه إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً فلا أقل أن يكون خبر واحد أو تفسيراً من الصحابة ، وهو في حكم المرفوع ) ا هـ . [تفسير ابن كثير 2/86 .]
ومن فوائد القراءة الشاذة أنها تفسر القراءة المتواترة وتُبيّن معناها ، ويُسْتعان بها على فهم مراد الله تعالى .
قال أبو عبيد في فضائل القرآن : ( إن القصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها ، وذلك كقراءة عائشة وحفصة : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر } [ البقرة : 538 ] ، وكقراءة ابن معسود : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما } [ المائدة : 38 ] ... وكما قرأ ابن عباس : { لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج } [ البقرة : 198 ] ... فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن ، وقد كان يروى مثل هذا عن بعض التابعين في التفسير فيستحسن ذلك ، فكيف إذا روى عن كبار الصحابة ، ثُمَّ صار في نفس القراءة ! فهو الآن أكثر من التفسير وأقوى ؛ فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف معرفة صحة التأويل ) ا هـ [ من البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/486 ، 487 باختصار . ]
.
ويتعلق بالقراءة الشاذة بعض القواعد التفسيرية التي يستفاد منها عند تفسير كلام الله ، ومن هذه القواعد : [ انظر هذه القواعد في كتاب قواعد التفسير جمعاً ودراسة لخالد بن عثمان السبت 1/90-93]
1 - قاعدة : القراءات يُبَيّن بعضها بعضاً ، ويدخل في هذه القاعدة أن القراءة الشاذة تفسِّر القراءة المتواترة .
2 - قاعدة : يعمل بالقراءة الشاذة - إذا صح سندها - تنزيلاً لها منزلة خبر الآحاد .
3 - القراءة الشاذة إن خالفت القراءة المتواترة المجمع عليها ولم يمكن الجمع فهي باطلة . وهذا معنى قول ابن عبدالبر : ( وفيه جواز الاحتجاج بالقراءة التي ليست في مصحف عثمان إذا لم يكن في مصحف عثمان ما يدفعها ) . [ بتصرف يسير من الاستذكار 10/190 .]