الصفحة البيضاء
سيد عبدالحليم الشوربجي




بدا وجهها وهي تنظر في المرآة أشبه بهالة من النور··· كانت فرحتها لا توصف وهي تلبس الحجاب للمرة الأولى··· لم تشعر براحة قبل ذلك مثل راحتها وفرحتها هذه المرة وهي تقف أمام المرآة··· لقد كانت تقضى الساعات الطوال قبل ذلك أمام المرآة تصفف شعرها وتزين وجهها بمختلف المساحيق تبدِّل وتغير ولا تخلص من ذلك إلا إلى حيرة وقلق لا تعلم سببها كانت تنزل إلى العمل وهي قلقة ماذا يقول الناس عن ثيابي··· عن مكياجي··· عن وجهي··· عن مظهري··· كانت تنتابها حالات حيرة وقلق، رغم جمالها الظاهري الذي كان يلحظه كل ناظر إليها، لكن داخلها لم يكن أبداً مطمئناً كانت تحس دائماً بفراغ شديد، وأن شيئاً ينقصها ما هو؟! لا تدري!! كانت تنتابها لحظات يخفق قلبها دون أن تعلم السبب··· زميلاتها وصديقاتها كن يحسدنها على جمالها ووجهها الفاتن واهتمامها الزائد بمظهرها وجاذبيتها وولع الرجال بها، كانت ترتسم على وجهها ابتسامة تبدي بها بعض الرضا ـ الذي لم تكن تشعر به ـ مع كل كلمة إطراء لو إعجاب، لكنها لم تكن أبداً سعيدة ولا راضية في داخلها، لم تشعر أبداً بدفء حتى في أيام الصيف الشديدة كانت تشعر بأنها في حاجة إلى غطاء يحمي جسدها من هذه الرياح الشديدة البرودة المنبعثة من كل مكان التي لم تكن تعلم مصدرها·
اليوم فقط وهي تقف أماما لمرآة علمت السبب لماذا لم تكن تحسُّ بالدفء قبل ذلك··· بدأت تسوي حجابها وتتأكد تماماً أنه لا يظهر شيئاً مما لا يجوز إظهاره··· نزلت إلى العمل للمرة الأولى بالحجاب··· بدا كل شيء أمامها جديداً··· الشارع الذي كانت تجتازه ذهاباً وإياباً إلى العمل يبدو وكأنه شارع آخر وجوه الناس مختلفة··· نظراتهم التي كانت ترصدها مع كل ذهاب وإياب بدت مشدوهة لا تكاد ترتفع إليها حتى تغض الطرف مرة أخرى··· أحست وهي تدخل مكان العمل كأنها تدخل للمرة الأولى، وكأنها تتسلم عملاً جديداً في مكان جديد··· الوجوه كلها داخل مكان العمل ترمقها لم يتعرف إليها معظم زملائها ـ في بداية الأمر ـ لقد رأوا أمامهم إنساناً جديداً في مظهره وملبسه وحركاته··· المشية المتمايلة المتبخترة مع صوت الأقدام اختفت تماماً··· الصوت الرقيق المثير الذي يجذب مستمعه اختفى تماماً··· العيون التي كانت تستميل كل ناظر إليها لم تعد ترتفع إلا لتبصر الطريق فقط··· بعضهم ظنوها موظفة جديدة جاءت تتسلم العمل وبعضهم ظنها امرأة من خارج العمل جاءت تخلص بعض الأوراق··· لم يخطر ببالهم يوماً أن تتحول هذه الأنوثة الطاغية إلى هذا الشكل·
أطلق عدد من زملائها كلمات تندروا بها عليها لم تأبه بكلماتهم، جلست على مكتبها وسط هذه الضجة العالية من الأصوات التي حولها لقد صارت حديث الساعة بين زملائها وزميلاتها بعضهن يقول: إنها أصيبت بمسٍّ شيطاني وبعضهم يقول: إنها اكتشفت أنها مصابة بمرض خبيث فأرادت أن تتوب، وبعضهم ظن أن هذا أمر وقتي ربما سببه وفاة أحد أقاربها، تعليقات كثيرة سمعت بعضها ولم تسمع بأكثرها لم تأبه بذلك، كانت تستمع لهذه التعليقات دون أن تعلق عليها بشيء أو ترد على أحد، كانت تعلم أن المفاجأة شديدة وأن هذه التعليقات رد فعل طبيعي لهذا التحول لأنهم رأوا شخصاً مختلفاً تماماً عن ذي قبل، ناهيك عن النوايا السيئة التي كانت وراء هذه التعليقات، تمنت لو تستطيع أن تصرخ في هؤلاء فتقول لهم: أنتم لاتفهمون ولا تعلمون أن التوبة ومعرفة طريق الإيمان والتقوى بمثابة ولادة جديدة وبعث جديد للإنسان، بل هو الحياة الحقيقية لمن يريد أن يستمتع بهذه الحياة··· كانت تعلم أن أشياء كثيرة ستواجهها من باب الاختبار فكانت مستعدة لأي رد فعل ممن حولها وما عليها إلا أن تثبت وتصبر··· تناولت بعض الأوراق التي أمامها انشغلت قليلاً بالكتابة تناست الأصوات والهمسات التي حولها سمعت صوتاً يقول لها: أين الآنسة منى رفعت رأسها وقف مشدوهاً للحظات وهو ينظر إليها لم يتعرف إليها في بداية الأمر··· من؟؟!
ـ منى··· ما هذا؟؟!!
ـ كما ترى···
ـ أنا أرى شخصاً جديداً أمامي كأني لم أعرفه من قبل·
ـ نعم هو كما ترى فعلاً···
ـ ماذا حدث؟!
ـ لم يحدث شيء·
ـ ما التغير المفاجئ هذا؟!

ـ ليس مفاجئاً، بل هو ثمرة تفكير وبحث عن الحياة الحقيقية التي أجد فيها نفسي وراحتي وعزتي وثقتي بنفسي··· كانت بينهما علاقة إعجاب متبادل لكن لم يكن يربطهما شيء رسمي كانت أحياناً تخرج معه وتحادثه من باب الصداقة والزمالة كان بينهما شبه وعد ضمني على الارتباط، علمت أن الوضع تغير عن ذي قبل ولن تسمح لنفسها بعد ذلك بمثل هذه العلاقة··· كان يهمها رد فعله في هذه اللحظة حتى تضع حداً لهذه العلاقة، تمنت لو طلبت منه رأيه صراحة وهل تغيَّر ما وعدها به قبل الحجاب لأنها لن تقبل بغيره ـ كان قد وعدها أن يتقدم لها رسمياً ـ لكنها آثرت الصمت··· لم يضف تعليقاً انصرف من أمامها بعد أن ألقى عليها السلام، ردت عليه السلام··· عادت إلى أوراقها··· تناست الموضوع وطوت صفحته تماماً، كما تناست وطوت صفحات كثيرة من حياتها السابقة لتفتح صفحة بيضاء جديدة··· عادت إلى البيت هادئة مطمئنة أحست بسعادة غامرة وهي تتدخل إلى البيت ـ لم تشعر بها من قبل ـ قالت في نفسها: اليوم سأمزِّق كل الصفحات السابقة في حياتي وافتح صفحة جديدة، صفحة بيضاء لا أسطر فيها إلا ما يرضي الله عز وجل