أ- السَّحور وتأخيره:
1- ومما سنَّه رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) للصائم أن يتسَحَّر.
والسَّحور: ما يؤكل في السَّحر؛ أي: بعد منتصف اللَّيل إلى الفجر، وقد أجمعت الأمَّة على استحبابه، وأنَّه لا إثمَ على من تركه، وأنَّ الأمرَ الوارد فيه في الأحاديث أمر ندبٍ وإرشاد، لا أمر فرض وإيجاب[1].
فعن أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: «تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً»[2].
والحكمة منه أنَّه يقوِّي الصائم ويُنشِّطه، ويهوِّن عليه الصيام، وكذلك فيه تمييز لصيام المسلمين عن غيرهم، وقد قال رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ»[3].
2- ويتحقَّقُ السحور ولو بجرعة ماء، وأفضله ما كان على تمرٍ، أو أي طعام آخر، فعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «تَسَحَّرُوا، وَلَوْ بِجَرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ»[4]، وقال (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أيضًا: «نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ»[5].
3- والسُّنة في السَّحُور تأخيره إلى قبيل الفجر (الصَّادق)، ثم يقوم المسلم إلى الصَّلاة بعد ذلك مباشرة؛ حيثُ يُؤذَّن لها، وذلك لِما رواه أنس عن زيدِ بن ثابتٍ رضي الله عنه قال: «تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ»، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ "قَالَ: «قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً»[6].
4- وإذا سمعَ المسلم الآذان، وطعامه أو شرابه في يده، فله أن يأكل أو يشرب منه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ النِّدَاءَ وَالإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ، فَلَا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ»[7].
وهذه رُخصَةٌ عظيمة من ربِّ العالمين على عباده الصَّائمين، تيسيرًا منه عليهم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج/ 78].
ب- تعجيل الإفطار:
5- ويُستحبُ للصَّائم أن يعجِّل الإفطار، بمجرد التَّحقُق من غياب قُرصِ الشَّمس، وراء الأفق - برؤيته ومُشاهدته، أو بإخبار الثِّقة الصَّادق - فقد رغَّب في ذلك رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وجعله من دلائِل بقاء الخير في هذه الأمَّة، فقال (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ، مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ»[8].
وكرِه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) التَّأخير لما فيه من التَّشَبُه بالأديان الأخرى في عبادتهم وعاداتهم؛ حيث إنهم كانوا يغلُون في دينهم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: «لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الفِطْرَ، لِأَنَّ اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ»[9].
وقد كان من هَدْيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن يفطر بعد غروب الشَّمس مباشرة، ولو مع بقاء الشَّفَقِ الأحمر، فكان (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُعجِّل الفطور والصلاة، ثم يبدأ بفطوره.
فعن ابن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): « إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»[10].
وقد تبِعهُ أصحابه رضي الله عنهم على ذلك، واسْتَنوا بسُنَّته، فقد أخرج عبدالرزَّاق في "المصنّف" - بإسناد صحَّحه الحافظ في "الفتح" (4/ 199) - عن عمرِو بن ميمُون، قال: "كان أصحابُ محمَّد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أسرع النَّاس إفطارًا وأبطأهُم سحورًا".
وكان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يفطر حين يغيبُ قرص الشَّمس[11].
6- ومن السُّنة أن يكون الفطر على رطبٍ أو تمرٍ أو ماء؛ لحديثٍ أنس رضي الله عنه، قال «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ، فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ»[12]؛ وذلك لما فيها من بركاتٍ وخواص في التأثير على القلوب والأبدان.
7- والسُّنة أن يُفطرَ الصائم قبلَ أن يصلي صلاة المغرب، فقد كانَ رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يفطرُ قبل أن يصلِّي[13]؛ ولأنَّ تعجيل الفطر من أخلاق الأنبيَاء عليهم الصَّلاة والسلام.
8- ويستحبُّ للصَّائم الدَّعاء عند الإفطار، فقد كان رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقول إذا أفطر: « ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ »[14].
وله أن يدعُوَ بما شاء من دعوات الخير لنفسِه وللمسلمين.
ج- التَّنزُّه عن اللَّغوِ والرَّفث، واغتنام أيام الصَّوم في الذِّكر والطَّاعة والجُود:
9- وينبغي للصَّائم أنْ يزداد حِرصًا على التنزه عن اللَّغو والرَّفث، والصَّخَب والجهل، والسَّبِ والشتم، فقد قال رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»[15].
10- ويُستحبُّ للصَّائم اغتنام أيام رمضان في الذِّكر والطاعة والجُود، ومدارسة القرآن الكريم، والإكثار من الحسنات، والازدياد من الخير، فهكذا كان رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
قال ابن عباس رضي الله عنه: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»[16].
--------------------
[1] وقد نقل الإجماع على ذلك: الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 139)، والنووي في "شرح مسلم" (5/ 69)، وابن المنذر كما في "سبل السلام" (2/ 247)، وقال الصَّنعاني، فيه: "وظاهر الأمر وجوب التسَحر، ولكنه صرفه عنه إلى الندب، ما ثبت من مواصلته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، ومواصلة أصحابه".
[2] حديث صحيح: أخرجه البخاري (4/ 139)، ومسلم (3/ 130)، والترمذي (2/ 102)، والنسائي (4/ 1419)، وابن ماجه (1/ 540، فؤاد عبدالباقي)، وغيرهم، وقال الإمام النووي: "وأما البركة التي فيه، فظاهرة؛ لأنه يقوي على الصيام وينشط له، وتحصل بسببه الرَّغبة في الازدياد من الصيام، لخِفَّة المشقة فيه على المتسحر، فهذا هو الصواب المعتمد في معناه"؛ ا هـ، "شرح مسلم" (5/ 69).
[3] حديث صحيح: رواه مسلم (3/ 131)، وأبو داود (2343)، والترمذي (907)، والنسائي (2168)، من حديث: عَمْرو بن العاص مرفوعًا.
[4] حديث حسن: أخرجه ابن حبان (3476)، وله شاهد عند أبي يعلى (3340)، وأحمد (3/ 12)، وقد قوَّى الحافظ المنذري إسناده، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (1071)، و"صحيح الجامع" (2945).
[5] حديث صحيح: أخرجه أبو داود (2/ 303)، وابن حبان (223)، والبيهقي من طريق: سعيد المقبري عن أبي هريرة، وقد صححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1072)، و"الصحيحة" (562).
[6] حديث صحيح: أخرجه البخاري (4/ 138)، ومسلم (3/ 131)، و"مختصر مسلم" (581)، وغيرهما.
[7] حديث صحيح: رواه أبو داود (2333)، والإمام أحمد (2/ 510)، والحاكم (1/ 426)، وصحَّحه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصحّحه أيضًا الألباني في: "السلسة الصحيحة" (رقم:1394). وفي هذا الحديث دليل على بدعيَّة القول بالإمساك قبل طلوع الفجر الصَّادق، بدعوى الاحتياط وتمكين الوقت؛ قال الشيخ عبدالله بن صالح آل بسَّام رحمه الله: وبهذا تعلم أنَّ ما يجعله الناس من وقتين، وقت للإمساك ووقت لطلوع الفجر، بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي وسوسة من الشيطان، ليُلبِّس عليهم دينهم، وإلا فإنَّ السُّنة المحمدية أنَّ الإمساك يكون على أوَّل طلوع الفجر"؛ ا .هـ، من كتابه: "تيسير العلام شرح عمدة الأحكام" (ص/ 434)، وانظر أيضًا: في نقض هذه البدعة الشنيعة "الفتح" (4/ 199)، و"تمام المنة" (417)، و"فتح الغفور" (ص/ 33)، وقد ذهب إلى العمل بهذا الحديث، جماعة من الصَّحابة، وغيرهم، انظر أسماءَهم في "تفسير ابن كثير" (1/ 222)، و"تفسير الإمام القرطبي" (2/ 319).
[8] حديث صحيح: أخرجه البخاري (4/ 198)، ومسلم (1093)، من حديث: سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعًا به؛ وقال الصنعاني (2/ 246): "والحديث دليلٌ على استحباب تعجيل الإفطار إذا تحقق غروب الشمس بالرُّؤية، أو بإخبار من يجوز العمل بقوله".
[9] حديث صحيح: رواه أبو داود (2353)، وابن ماجه (1698)، والحاكم (1/ 431)، وصحَّحه ووافقه الذَّهبي، والألباني في: "صحيح الترغيب" (1075)، وقال الإمام الصنعاني (2/ 246): "قال في شرح المصابيح: ثم صار في ملتنا؛ (أي: تأخير الإفطار) شعارًا لأهل البدعة وسمة لهم"؛ ا هـ، قلت: يقصد الشِّيعة الرافضة، ومن وافقهم في كل عصر ومصر.
[10] حديث صحيح: أخرجه البخاري (4/ 199) واللفظ له، ومسلم (3/ 132)، وغيرهما.
[11] أثر صحيح الإسناد: أخرجه البخاري (4/ 196- الفتح) تعليقًا، ووصله سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة بسند صحيح؛ انظر: "فتح الباري" (4/ 199)، و"إرشاد الساري" (3/ 392).
[12] حديث حسن: أخرجه أبو داود (2356)، والترمذي (1/ 135)، والحاكم (1/ 432)، وصحَّحه، ووافقه الذهبي، وإنما هو حسن فقط، فإن فيه جعفر بن سليمان، قال الحافظ في "التقريب": صدوق، والحديث حسَّنه العلامة الألباني في "الإرواء" (922)، والأرنؤوط في "تخريج الرياض" (1239).
[13] كما في حديث أنس السَّابق.
[14] حديث حسن؛ أخرج أبو داود (2357)، والحاكم (1/ 422) وصحَّحه، والبيهقي، والدارقطني من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وقال الدارقطني: إسناده حسن، وأقرَّه الحافظ ابن حجر في "التلخيص"(911)، والألباني في "الإرواء"(920)، وحسّنه الأرنؤوط في "تخريج الأذكار" (ص/ 162).
[15] حديث صحيح: أخرجه البخاري (4/ 101) واللفظ له، ومسلم (3/ 107)، والنسائي (2/ 273)، وأحمد (2/ 273)، من طرق عن أبي هريرة؛ انظر تفصيل تخريجها في: "الإرواء" (رقم/ 918)، والله الموفق. و(الرفث): الكلام المتعلق بالنساء، وقيل: الفحش في الكلام عامَّة. و(الصَّخب): الصياح ورفع الصَّوت.
[16] حديث صحيح: أخرجه البخاري (3/ 397)، ومسلم (7/ 73)، والنّسائي (1/ 298)، وغيرهم.

https://www.alukah.net/spotlight/0/140215/