قال الشيخ صالح الفوزان فى التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية
وَنُؤْمِنُ بالبَعْثِ وجزاءِ الأعمالِ يومَ القيامةِ، والعرضِ والحسابِ، وقراءةِ الكتابِ، والثوابِ والعقابِ، والصراطِ والميزانِ.
التعليق
بعدَ البَرْزَخِ يُبْعَثُ الناسُ من قبورِهِم، فهذهِ القبورُ تَضُم الأجسادَ وتحفظُهَا، فإذا جاءَ البعثُ فإنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ هَذِهِ الأجسامَ كَمَا خَلَقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، لا يَنْقُصُ منهَا شَيْءٌ {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأَنْبِيَاء: 104).
فَتُعَادُ كَمَا كَانَتْ، بِحَيْثُ لَو مَرَّ شَخْصٌ على رجلٍ يَعْرِفُهُ لَقَالَ: هذا فلانٌ. ثم يَأْمُرُ اللَّهُ إسرافيلَ فَيَنْفُخُ في الصورِ النفخةَ الثانيةَ، فَتَطِيرُ الأرواحُ إلى أجسادِهَا.
والمَحْشَرُ: مَجْمَعُ الأُمَمِ، يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ والآخرينَ بعدَ البعثِ، فاللَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قديرٌ، والإيمانُ بالبعثِ أَحَدُ أركَانِ الإيمانِ الستَّةِ، كما في الحديثِ.
وَأَنْكَرَ البعثَ المشركونَ والملاحدةُ بِنَاءً على عقولِهِم، فقالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} (الوَاقِعَة: 47، 48) وَذَكَرَ اللَّهُ إِنْكَارَهُم هذا في عِدَّةِ مَوَاضِعَ، مثلَ: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس: 78).
واللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً على البعثِ {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الرُّوم: 27) وهذا مِن بَابِ ضَرْبِ المَثَلِ، فالذي خَلَقَهُمْ مِن ماءٍ مَهِينٍ، أَلاَّ يَقْدِرُ أَنْ يَخْلُقَهُمْ مِن تُرَابٍ وَيُعِيدَهُم كما كانوا؟ {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * ألَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْييَ الْمَوْتَى} (القِيَامَة: 36 - 40).
وَمَِن الأدلةِ: إحياءُ أرضٍ يَابِسَةٍ قَاحِلَةٍ بيضاءَ ما فيها شَيْءٌ، ثم يُنْزِلُ اللَّهُ عليها المطرَ، فَفِي أيامٍ قليلةٍ تَهْتَزُّ بالنباتِ.
ألَيْسَ الذي يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا بِقَادِرٍ على أنْ يُعِيدَ خَلْقَ الإنسانِ؟ فهذا شَيْءٌ معقولٌ وشيءٌ محسوسٌ {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} (يس: 33) بعدَ أنْ كانتْ مَيْتَةً فَأَحْيَاهَا بالنباتِ {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَاأَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (الحج: 56).
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ على البَعْثِ أَيْضًا: أنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لو لم يَبْعَث الناسَ ويُجَازِهِم لكَانَ خَلْقُهُ عَبَثًا، واللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عن العبثِ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (المُؤْمِنُونَ: 115، 116).
فالإنسانُ الذي يُفْنِي نَفْسَهُ بالعِبَادةِ والطاعةِ في الدنيا فَيَمُوتُ وَلاَ يُبْعَثُ؟! كذلكَ الكافِرُ يَعِيثُ في الأَرْضِ فسادًا وَيَفْعَلُ الفواحشَ وَيَمُوتُ ولا يُبْعَثُ؟! هذا لا يَكُونُ مِن حكمةِ اللَّهِ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثِيَة: 21)، وقَالَ سُبْحَانَهُ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم: 35، 36)، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِين َ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 27، 28).
فَالْمُؤْمِنُ قَدْ لاَ يَنْعَمُ في الدنيا، ويكونُ في ضيقٍ وشدَّةٍ، فلا يَنَالُ جزاءَ عملِه؟! والكافرُ يَنْعَمُ ويَبْطِشُ ويُفْسِدُ في الأَرْضِ ولا يَنَالُ جزاءَهُ؟! هذا لا يَلِيقُ بحكمةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
والبعثُ معناهُ القيامُ من القبورِ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين: 6) (وَجَزَاءِ الأَعْمَالِ) كما سَبَقَ: أنَّ المُحْسِنِينَ والمُسِيئِينَ لا يَنَالُونَ جزاءَهُم في الدنيا، إِنَّمَا ذلكَ في دارِ الآخرةِ.
(والعَرْضِ) يعني: على اللَّهِ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقَّة: 18)، {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الكَهْف: 48) يُعْرَضُونَ على اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حُفَاةً عُرَاةً، غُرْلًا، أي: غَيْرَ مَخْتُونِينَ.
(والحِسَابِ) على الأعمالِ: تقريرُ الحسناتِ وتقريرُ السيئاتِ، هذا بالنسبةِ للمؤمنينَ، أَمَّا الكافِرُ فإِنَّهُ لا يُحَاسَبُ حِسَابَ موازنةٍ بينَ حسناتِهِ وسيِّئَاتِهِ، وإِنَّمَا يُقَرَّرُ بذنوبِهِ وكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حسناتٌ.
والمؤمنونَ منهمْ مَن يَدْخُلُ الجنَّةَ بغيرِ حسابٍ، وَمَنهمْ مَن يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ويَنْقَلِبُ إلى أهلِهِ مَسْرُورًا، وهو العَرْضُ، وَمَنهمْ مَن يُنَاقَشُ الحسابَ، وفي الحديثِ: (مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ). وهذهِ درجاتُ المؤمنينَ.
(والكُتُبِ): صحائفُ الأعمالِ التي عَمِلُوهَا في الدنيا، كُلٌّ يُعْطَى يومَ القيامةِ كِتَابَهُ وصحيفةَ أعمالِهِ التي عَمِلَهَا في الدنيا، ومكتوبٌ فيها كُلُّ شَيْءٍ {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} (الكَهْف: 49)، وقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَكُلُّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإِسْرَاء: 14،13) وقَالَ سُبْحَانَهُ: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍِ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } (الحَاقَّة: 19 – 22) فهذا الصنفُ من الناسِ يَفْرَحُ ويَسُرُّهُ أنْ يَطَّلِعَ الناسُ على كتابِهِ.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِي كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ }
(الحاقَّة: 25، 27) يَعْنِي: يا لَيْتَنِي لمْ أُبْعَثْ، وكَانَ الموتُ هو القاضيَ عَلَيَّ ولم أُبْعَثْ {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (الحاقة: 28 – 29).
وهذا تَطَايُرُ الصُّحُفِ، إِمَّا بِالْيَمِينِ أَوْ بِالشِّمَالِ.
(والثوابِ والعقابِ) الثوابِ على الحسناتِ، والعقابِ على السيئاتِ.
(والصراطِ) وهو: الجِسْرُ المنصوبُ على مَتْنِ جَهَنَّمَ، أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، وأَدَقُّ مِن الشَّعَرِ، وأَحَرُّ مِن الجمرِ، يَمُرُّ الناسُ عليهِ على قَدْرِ أعمالِهِم، فمِنْهُم مَن يَمُرُّ كالبرقِ الخاطفِ، وَمَنهم مَن يَمُرُّ كالريحِ، وَمَنهمْ مَن يَمُرُّ كأَجَاوِيدِ الخيلِ، وَمَنهم مَنْ يَمُرُّ كَرِكَابِ الإبلِ، وَمَنهمْ مَن يَمُرُّ عَدْوًا وَمَنهم مَن يَمُرُّ مَشْيًا، وَمَنهم مَنْ يَمُرُّ حَبْوًا وَمَنهم مَن تَلْقُطُهُ كلاليبُ على حافَّتَي الجِسْرِ وتَقْذِفُهُ في النارِ، وهذهِ أمورُ غَيْبٍ، فلا يُدْخِلُ الإنسانُ عَقْلَهُ فيها، وكُلُّ الناسِ يَمُرُّونَ على الصراطِ {وَإِنْ مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (مَرْيَم: 71، 72).
وَتُوزَنُ الحسناتُ، فإنْ رَجَحَتْ حسناتُهُ فَازَ، وإِنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ على حسناتِهِ خابَ وخَسِرَ {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُةُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} (الأَعْرَاف: 8، 9).
وَتَكَرَّرَ ذِكْرُ الوزنِ والميزانِ في آياتٍ كثيرةٍ، وهذا مِن عَدْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وأَنَّهُ لا يَظْلِمُ أَحَدًا. والميزانُ حَقِيقِيٌّ، لَهُ كِفَّتَانِ: تُوضَعُ الحسناتُ في كِفَّةٍ، وتُوضَعُ السيئاتُ في كِفَّةٍ، فأَيُّهُمْ رَجَحَتْ حسناتُهُ فازَ، وأيُّهُم رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ فَخَسِرَ {وَنَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ - التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية