قصة إدريس عليه السلام


راغب السرجانى

دائمًا ما يُثار جدال عند الحديث عن الأنبياء، خاصَّةً من لم يرد لهم ذكرٌ وافٍ في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة..
وذلك لأنَّ أغلب اعتماد المفسِّرين والمؤرِّخين في هذا الصدد على الإسرائيليَّات والنصوص الأدبيَّة المستمدَّة من تراث الشعوب..
ومن القصص والروايات الأكثر جدلًا وخلافًا منذ أزمان بعيدة -وقد تجلَّت بشدَّة في أيامنا تلك- هي قصَّة نبي الله إدريس عليه السلام..
فلقد تم تناولها من اتِّجاهات عديدة؛ فهناك من اعتمد في سردها على التراث الإسلامي من كتب المفسرين والمؤرخين، وهناك من تناولها من ناحية روايات الإسرائيليات من كتب العهد القديم والجديد وأقوال علماء اليهود والنصارى..
وكذلك هناك الجانب الأثري الذي يعتمد على الجانب الحسي الملموس واللغات القديمة في تفسير النصوص والنقوش الموجودة على الآثار والمعابد، بالإضافة إلى التراث الشعب الأدبي المتمثِّل في حكاوى الشارع والقصص الشعبية المتوارثة عبر الأجيال والأساطير..
وهي بالطبع لا تُعدُّ مصدرًا يُعتمد عليه في تقصِّي الأخبار والحقائق، مع أنَّها بكلِّ حالٍ من الأحوال كالرماد من النار فإن وُجِد فلا بُدَّ أن يكون له أصلٌ يرتكز عليه، حتى مع ما جرى عليه من تحريف وتبديل بلا ريب من كثرة التداول على الألسن..
والإشكالية الكبرى في هذا الصدد أن تخلط كلَّ تلك الأوراق بلا قدرةٍ حقيقيَّةٍ على الربط أو وجود العلم الكافي لذلك..
حقيقة إدريس عليه السلام
وقد رأينا في هذه السطور أن نوجز قصة نبي الله إدريس عليه السلام من المصدر الرئيس الذي هو أصل اعتمادنا ومجال اختصاصنا (البحث في التراث والتاريخ الإسلامي)، وأن نسرد الحقائق المؤكدة من خلال الروايات الصحيحة بغض النظر عن الأمور الخلافية الظنية التي لا دليل عليها لا من الشرع أو التاريخ أو علم الآثار..

من المؤكد أن إدريس عليه السلام كان نبيًّا وصديقًا وله مكانة رفيعة بين الأنبياء عليهم السلام؛ فقد قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 56، 57]، وقال سبحانه: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء: 85]..
وإدريس عليه السلام يُعرف في الكتب القديمة بـ "إخنوخ"، ويرججع نسبه إلى شيث بن آدم عليهما السلام، ونسبه كاملًا كما أورده ابن إسحاق وغيره من أئمة النسب: "إدريس بْنُ بَرْدَ بْنِ مُهَلْيِلِ بْنِ قَنِينَ بْنِ يَانِشَ بْنِ شيث بن آدم عليهم السَّلَامُ"[1].
وقد صح أنه أول من خطَّ بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب، وعلَّم الزراعة، وخطَّط المدن، وسكن البيوت..
وقد أنزل الله على نبيه إدريس عليه السلام صحفًا مقدَّسة قُدِّرت بثلاثين صحيفة، وقيل إنَّه سُمِّي "إدريس" لكثرة درسه لكتاب الله تعالى..
وقد أجمعوا أنَّه حذَّر قومه من مخالطة نَسل قابيل، ولكنَّهم عصوه وخالطوهم، وكان هذا سببًا في زلل الكثيرين منهم وبعدهم عن طريق الصلاح.
وقد ذكروا نقلًا عن الإنجيل أنه عاش 365 سنة وأنه كان له ابن يسمى "متوشالح"، وممَّا يُعضِّد صحَّة هذه الرواية أنَّه جاء فيها ما وافق كتاب الله، فتنصُّ على أنَّه: "عاشَ أخنوخُ خَمسًا وسِتينَ سنَةً، ووَلَدَ مَتوشالَحَ، وسارَ أخنوخُ مع اللهِ بَعدَ ما وَلَدَ مَتوشالَحَ ثَلاثَ مِئَةِ سنَةٍ، ووَلَدَ بَنينَ وبَناتٍ، فكانَتْ كُلُّ أيّامِ أخنوخَ ثَلاثَ مِئَةٍ وخَمسًا وسِتينَ سنَةً، وسارَ أخنوخُ مع اللهِ، ولم يوجَدْ لأنَّ اللهَ أخَذَهُ"[2].
فالقول بأنه: "سارَ أخنوخُ مع اللهِ" يعني أنه كان صالحًا تقيًّا يسير على صراط الله وطريقه، و"ولم يوجَدْ لأنَّ اللهَ أخَذَهُ" يبين أنَّه قد رُفِع بشكلٍ من الأشكال، وهذا موافقٌ لقول الله تعالى في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 56، 57]..
وقد ذكر المفسِّرون عند قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}، روايات عدَّة مختلفة، أقواها أنَّه رفعه الله في السماء الرابعة أو السادسة تحت جناح أحد الملائكة وفيها قُبِضَت روحه..
وقد اختلفت المصادر في مكان مولد إدريس عليه السلام ولكنَّ المتفق عليه أنَّه عاش في مصر وكان ملكًا عليها..
وقد أورد الإمام السيوطي والمقريزي وابن تغري بردي وابن إياس: أنَّ إدريس عليه السلام مَلَك مصر وكان أول من بنى بها بيوتًا للعبادة، وأنه أول من علَّم الناس الطب، وأنه من بنى الأهرامات وأودعها العلوم التي خشي من ضياعها، أو أنها كانت قبره وقبر جده شيث بن آدم عليهم السلام..
وأنَّه لعلمه بالفلك استدلَّ بحركة الكواكب على قرب الطوفان، وأنَّه كان يعيش في أرض بابل ولكنَّه أُوذِي منهم فدعا الله أن يرسله إلى أرض مثلها فأوحى إليه بالذهاب إلى مصر وعاش فيها وملكها..
ولكنَّ هذه الروايات أقرب للضعف ولا دليل عليها لا من القرآن والسنة ولا من الآثار المتروكة، ولكن يلاحظ أن كلَّ من ذكرها هم من المؤرخين المصريين أو من نقل عنهم، فالراجح أنها منقولة من التراث الشعبي المصري وهي بالطبع –كما ذكرنا من قبل- لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن تُعتمد كمصادر علميَّة موثوقة يُعتمد عليها..
وأمَّا مسألة أن "أبا الهول" التمثال الشهير هو تجسيد لشخص نبيِّ الله إدريس عليه السلام فليس له ذكرٌ في المصادر الإسلامية القديمة، وربَّما ورد في بعض المؤلفات القريبة، ولكنَّه لا يعدو بحالٍ من الأحوال -كما الروايات السابقة- أنَّه من حكاوى التراث الشعبي، فضلًا عن رأي المتخصصين في علم الآثار الذين يؤكدون بشكلٍ قاطع عدم صحة تلك الروايات..
وكذلك نجد أن تلك الروايات الشعبية التراثية قد تُخالف في كثيرٍ من الأحوال الشرع قبل العقل؛ فمثلًا نجد أنَّ من أشهر تلك الحكاوى الخاصَّة بقصَّة إدريس عليه السلام أنَّهم جعلوه إلهًا، وهو المعروف بـ "أوزوريس"، وأنه نزل من السماء ليعيش بأرض مصر ليحكمها ويُعلِّم أهلها فنون الحياة، ثم صعد إلى السماء مرة أخرى..

فمن الملاحظ أن القصة بها الكثير من الأصل الذي أوردناه سابقًا استنادًا على القرآن والإسرائيليات، ولكنها طبيعة الشعوب خاصة التي ابتعدت عن الدين فترات طويلة مثل مصر القديمة (الفرعونية)..
فالتناول الشعبي لتاريخ الأشخاص والأحداث أمر واقع مستمر، وقد يشط عن الواقع ويخترق حاجز العقل، ولكنه في أغلب الأحيان يحمل تشابهات قوية مع موروثات الأديان الرسالية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام.. فمثلًا في قصتنا نجد أنه مع مرور الوقت رفعه الناس من مرتبة النبي الصديق إلى مرتبة الآلهة وحاكوا له أسطورة تُخلِّده..
فالأهم لدينا أنَّه عند الحقائق والبحث العلمي يجب أن يكون الاعتماد الأوَّل والوحيد على المصادر الصحيحة من روايات مدروسة موثَّقة أو أدلَّة ملموسة، ويكون الأمر أهون بالطبع في العلوم الإنسانية كالتاريخ منها في العلوم التطبيقية..
ولكنه خاصَّةً إذا ترتَّب عليه أمرٌ من أمور الإيمان، كالإيمان بالأنبياء وهو ركنٌ من أركان الإيمان الستة اللازمة لاكتمال الدين، فيجب التحرِّي واتِّباع الأسس العلمية..



[1] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1419هـ، 3/387.
[2] سِفر التكوين، الإصحاح الخامس، [21-24].