من المسائل التي تطرح في هذا الوقت الذي سيهل علينا فيه شهر عزيز كريم[1]: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، في ظروف لم نعتدها، وأقصد على الخصوص إهلاله والمساجد لا تزال موصدة، هذه المساجد التي ظلت وجهة المسلمين لإقامة الصلوات الخمس المفروضة، وصلاة التروايح في كل ليلة من لياليه المباركة؛ طمعًا في مغفرة ما تقدم من أوزارهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر))؛ [متفق عليه] – قلتُ: من المسائل التي تطرح نفسها في مثل هذه الظروف: حكم صلاة التروايح مع المذياع أو التلفاز.
والراجح عدم جواز ذلك؛ لعدة أمور:
1- الإخلال بصفة الجماعة: فإن الجماعة من الاجتماع، وهذا لا يتحقق بالصلاة مع هذه الوسائل.
قال الله تعالى: ﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43]؛ أي: صلوا مع المصلين، ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها؛ كما قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى[2]، ويقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: "﴿ مَعَ ﴾ تقتضي المعية والجمعية"[3].
فأي جماعة تتحقق بين مأموم وإمام بينهما مسافات شاسعة، لا يجمعهما حائط ولا يظلهما سقف، بل قد تجد الإمام في مشرق الأرض والمأموم الذي ائتم به - عبر تلك الوسائل - في مغربها.
وفي الحديث: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا فردًا يصلي خلف الصف، فوقف عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف، قال: استقبل صلاتك؛ لا صلاة للذي خلف الصف))[4]؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فوجه الدلالة أنه أبطل صلاة المنفرد عن الصف وهو في جماعة، وأمره بإعاة صلاته مع أنه لم ينفرد إلا في المكان خاصة، فصلاة المنفرد عن الجماعة والمكان أولى بالبطلان"[5].
وهذا لا شك ينطبق على مَن صلى التراويح منفردًا بنية الجماعة مع إمام عبر التلفاز أو المذياع؛ يكبر بتكبيره، ويركع بركوعه، ويسلمه بتسليمه.
2- عدم تراصِّ الصفوف: وهو أمر واجب[6]في الصلاة، وقد تعددت الأحاديث في الأمر بتسوية الصفوف، والحقيقة في الأمر الوجوب إلا لقرينة:
• عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا ولا تختلفوا؛ فتختلف قلوبكم))؛ [مسلم].
• وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: ((رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه))؛ [البخاري].
• وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب))؛ [صحيح أبي داود].
• وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سَوُّوا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفِّ من تمام الصلاة))؛ [متفق عليه].
وفي الموطأ (باب: ما جاء في تسوية الصفوف) عن نافع: ((أن عمر بن الخطاب كان يأمر بتسوية الصفوف، فإذا أخبروه أن قد استوت، كبَّر))[7]؛ قال الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله تعالى في الاستذكار: "وأما تسوية الصفوف في الصلاة، فالآثار فيها متواترة من طرق شتى صحاح، كلها ثابتة في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تسوية الصفوف، وعمل الخلفاء الراشدين بذلك بعده، وهذا ما لا خلاف فيما بين العلماء فيه، وأسانيد الأحاديث في ذلك كثيرة في كتب المصنفين"[8].
"قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يكبر إذا كان إمامًا حتى تستوي الصفوف خلفه؛ قال الماوردي: وهذا كما قال: ينبغي للإمام إذا وقف في محرابه بعد فراغ المؤذن من إقامته ألَّا يحرم بالصلاة إلا بعد استواء الصفوف خلفه"[9].
فهذه الأحاديث مستفيضة في الأمر بتسوية الصفوف، وهذا كلام الأئمة والعلماء في بيان ذلك، فأين من صلى في بيته مؤتَمًّا بتلفاز أو مذياع من هذا الأمر النبوي، ومن كلام الأئمة الأعلام؟
3- الخلل في متابعة الإمام:
متابعة الإمام من الأمور المؤكدة في صلاة الجماعة، وقد ورد الأمر بها في غير ما حديث؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ((إنما جُعل الإمام ليُؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه، وإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعين))، وفي رواية: ((إنما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]، فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعين))[10].
ولا يحسبن الذي يصلي خلف تلفاز أو مذياع أنه يتابع الإمام متابعة تامة، بل قد يكون مخالفًا له من حيث لا يشعر؛ فقد يرفع الإمام من الركوع وهو لا يزال راكعًا، أو يسلم الإمام وهو لا يزال في تشهده وهكذا، وذلك بسبب بعد المكان بينهما، فإن الصورة والصوت لا تصل عبر تلك الوسائل بشكل فوري مائة في المائة.
وقد ورد الوعيد الشديد في حق من خالف الإمام؛ من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟))؛ [متفق عليه]، وفي رواية: ((أما يخشى - أو: ألا يخشى - أحدكم إذا رفع رأسه والإمام ساجد أن يحوِّل الله رأسَه رأسَ حمار، أو صورته صورةَ حمارٍ؟))[11].
4- الأصل في العبادات التوقف:
باب العبادات توقيفي لا عمل فيه إلا بالدليل والبرهان، وإلا صار الأمر بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا ما لا شك فيه بخصوص اعتماد تلك الوسائل في صلاة التروايح، فإنه من المحدثات والبدع في الدين؛ يقول الله تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21]، فالدين "لا يكون إلا ما شرعه الله تعالى؛ ليدين به العباد ويتقربوا به إليه، فالأصل الحجر على كل أحد أن يشرع شيئًا ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم"[12].
ومعلوم أن أي عبادة تقوم على شرطين اثنين لا صحة لها إلا بهما: الإخلاص والاتباع؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وصلاح العمل إنما يكون باتباع السنة فيه؛ وقد روي عن بعض السلف أنه قال: "ما من عمل إلا ويوضع له سؤالان: سؤال عن الإخلاص، والآخر عن الاتباع"؛ قال تعالى ذكره: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 65]، وهذا سؤال عن الاتباع.
وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في الاتباع أيما ترغيب، وحذر من الابتداع ورهَّب منه غاية الترهيب؛ فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه من يعِشْ منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة))[13]، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ترفعه: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ))؛ [متفق عليه]، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: ((خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة))؛ [مسلم].
ولا ريب أن متابعة مأموم لإمام لم يجمعهما مكان وربما اختلف بينهما حتى الزمان - مما لم يشرعه الله، ولا سنَّه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة الكرام عليهم أفضل الرضوان.
قد يقول قائل: أليست المصالح المرسلة مما اعتبره كثير من العلماء كأصل من أصول الأحكام؟
والجواب: بلى، لكنهم حددوا مجالاتها، فإدراج هذه المسألة في باب المصالح المرسلة لا يصح؛ لأن المصلحة المرسلة يعمل بها فيما لم يكن توقيفيًّا، فلا مجال لها في باب العبادات.
"فإن المصلحة المرسلة لا يمكن أن يستدل بها على ثبوت عبادة أو زيادة فيها أو نقص شيء منها"[14].
5- إمكان تعرض هذه الوسائل المسموعة أو المرئية لتوقف أثناء نقل الصلاة لسبب من الأسباب؛ كانقطاع التيار الكهربائي مثلًا؛ مما يشوش على المؤتم خلفها، فلا يدري كيف يتابع.
6- بطلان الاستدلال بكلام للإمام مالك رحمه الله تعالى في المدونة:
استدل بعض أهل العلم مؤخرًا على جواز صلاة التراويح هذا العام بكلام للإمام مالك رحمه الله تعالى في موضعين من المدونة:
وهذا نص ما استدلوا به:
أ- الموضع الأول: "الصلاة أمام القبلة بصلاة الإمام:
قال: وقال مالك: ومن صلى في دور أمام القبلة بصلاة الإمام، وهم يسمعون تكبير الإمام، فيصلون بصلاته، ويركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، فصلاتهم تامة، وإن كانوا بين يدي الإمام، قال: ولا أحب لهم أن يفعلوا ذلك، قال ابن القاسم: قال مالك: وقد بلغني أن دارًا لآل عمر بن الخطاب وهي أمام القبلة كانوا يصلون بصلاة الإمام فيها فيما مضى من الزمان، قال مالك: وما أحب أن يفعله أحد ومن فعله أجزأه"[15].
والاستدلال بهذا الكلام لا يصح من وجوه:
• أن الكلام عن قوم دورهم مجاورة للمسجد؛ بحيث يتمكنون من سماع التكبير ورؤية أفعال الإمام فيأتمون به، وهذا غير متحقق فيمن صلى خلف وسيلة من وسائل الاتصال السمعي أو البصري.
• قول الإمام مالك: "ولا أحب لهم أن يفعلوا ذلك" يبين أنه كان رحمه الله تعالى يكره ذلك، فكيف سيكون جوابه لو سُئل مثل مسألتنا هاته، لا شك أن كراهته ستكون لها أشد، والله أعلم وأحكم.
• فعْل آلِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا وجه للاستدلال به؛ لأنه يتعلق بدار أمام القبلة قرب المسجد.
• قول الإمام مالك: "وما أحب أن يفعله أحد" يدل كذلك على كراهته للاقتداء من دار خارج المسجد.
ب- الموضع الثاني: "في الصلاة فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام:
قال: وقال مالك: لا بأس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد، والإمام في داخل المسجد، قال: وكان آخر ما فارقنا مالكًا أنه كره أن يصلي الرجل خلف الإمام بصلاة الإمام على ظهر المسجد، قال: ولا يعجبني هذا من قوله، وقوله الأول به آخذ"[16].
والاستدلال بهذا الكلام لا يصح كذلك من وجوه:
• اختلاف الصورتين: فالكلام هنا عن مأموم فوق سطح المسجد يأتم بالإمام داخل المسجد، فها هنا قد تحقق الاجتماع في الزمان والمكان؛ لأن سطح المسجد يظل جزءًا من المسجد، أما صورة المسألة موضوع البحث فتتعلق بمأموم يأتم بإمام قد فصل بينهما المكان بعشرات أو مئات وربما آلاف الكيلومترات.
• قوله: "وكان آخر ما فارقنا مالكًا أنه كره أن يصلي الرجل خلف الإمام بصلاة الإمام على ظهر المسجد" يدل على أن آخر عهد الإمام مالك رحمه الله تعالى كراهيته لذلك.
وإن كان ذلك كذلك فكراهيته لمن صلى بصلاة إمام عبر التلفاز أو المذياع ستكون أشد.
• "ولا يعجبني هذا من قوله، وقوله الأول به آخذ"، هذا قول عبدالرحمن بن القاسم، وقوله رحمه الله تعالى لا يغير من قول الإمام مالك رحمه الله تعالى شيئًا.
7- روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى بسنده أن عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرًا من الأنصار ((أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتيَ مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلًّى، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأفعل إن شاء الله، قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر فقمنا فصفنا فصلى ركعتين ثم سلم))؛ [البخاري، ح رقم: 428].
والشاهد من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للصحابي الجليل عتبان بن مالك رضي الله عنه أن يصليَ إمامًا بقومه، مع أنه لا يفصل بينه وبينهم إلا ذلك الوادي.
فكيف بمن يَفصل بينه وبين الإمام ليس واديًا فحسب، بل ربما تفصله مدن أو بلدان؟ والله المستعان.
8- اختلف العلماء فيما يتعلق بحكم الصلاة خارج المسجد بالنظر إلى اتصال البيوت به أو عدم اتصالها به، بين مجوز ومانع، ومن جوَّز عند عدم الاتصال اشترط شروطًا؛ من الرؤية أو اتصال الصفوف وغيرها.
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف سيكون الحال في صلاة تسقط فيها كل هذه الشروط؟ حيث يتعذر أو لا يعقل اتصال الصفوف، ولا إمكانية الرؤية، فالحكم بعدم الجواز أظهر.
جاء في (شرح كتاب الصلاة من عمدة الطالب): "تصح صلاة المأموم إذا كان خارج المسجد بشرط: أن يرى الإمام أو مَن وراءه ولو في بعض الصلاة، وهناك شرط آخر وهو إمكان الاقتداء،
وشرط ثالث: ألا يوجد فاصل بين الإمام والمأموم كنهر تجري فيه السفن.
فعلى المذهب[17] الشروط الثلاثة.
الشافعي: يكفي الرؤية.
الإمام مالك: يكفي الرؤية أو السماع.
أبو حنيفة: يكفي الرؤية أو السماع، وعدم وجود فاصل"[18].
فإذا أردنا أن نرى مدى توفر هذه الشروط - وإن اختلف فيها الأئمة - في صلاة المؤتم بالتلفاز أو المذياع نراها منعدمة أو شبه منعدمة:
فالرؤية غير ممكنة؛ لبعد المكان، والمصلي خلف تلك الوسائل لا يرى الإمام ولا بعض المأمومين، وإنما يرى صورتهم منقولة عبر تلك الوسائل.
بالنسبة لإمكانية الاقتداء، فقد سبق أن المتابعة لا بد أن يحصل فيها خلل.
بالنسبة للفاصل: فليس النهر فحسب هو الفاصل بين المؤتم والإمام، ولكن ربما تفصلهما أنهار ومدن وبلدان.
9- القول بجواز صلاة التراويح خلف المذياع أو التلفاز في هذا العام قد يؤدي إلى تكاسل بعض المسلمين في شهودها في المساجد في الأعوام المقبلة؛ اعتمادًا منهم على القول بالجواز، خاصة وأن من طبيعة النفس الركون إلى الكسل والخمول وعدم تكلف المشقة، فتبقى هذه الفتوى – أي: القول بالجواز - عالقة في ذهن البعض كلما حلَّ رمضان، ومعه صلاة التراويح، فيفوت الأجر العظيم المترتب على حضور المسجد ومتابعة الإمام حتى يسلم آخر تسليمة من صلاة التروايح، وربما وجد الشيطان فرصته في تثبيط البعض عن شهود الفرائض في المساجد؛ حيث يزين لهم التوسع في الأخذ بتلك الرخصة، فيعتمدوها ليس فقط في قيام ليالي رمضان، بل حتى في الصلوات المكتوبة؛ فمداخل الشيطان خفية، وقد يوقع الإنسان في شباكه من حيث لا يدري عياذًا بالله تعالى.
10- رد العلماء على أدلة المجيزين بما يكفي ويشفي:
• من أدلة المجيزين للصلاة خلف المذياع أو التلفاز: "قولهم: إن الفقهاء نصوا على أن صلاة الجمعة وصلاة الجماعة تصح في البيوت المجاورة للمسجد والقريبة منه.
ونوقش بأن هذا غير مسلَّم، وإنما نص العلماء عن ذلك للحاجة؛ مثلًا: إذا امتلأ المسجد، وامتلأت الطرقات، واتصلت الصفوف فالبيوت التي وصلتها الصفوف - فلا بأس أن يصلي أصحابها فيها، لكن بشرط ألَّا يكون منفردًا إذا كان رجلًا.
• ومن أدلة المجيزين كذلك: قولهم بأنه إذا نزل المطر، فإن ((النبي صلى الله عليه وسلم أذِن للناس أن يصلوا في رحالهم، وهم يسمعون صوت النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدون به)).
ونوقش بأن هذا الدليل غير صحيح، بل المراد كما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كان في ليلة ذات برد ومطر أن يقول: ألا صلوا في الرحال))، فالمقصود بذلك أنه تسقط عنهم صلاة الجماعة للمشقة، وليس المراد أنهم يتابعون النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد ذلك أنهم كانوا يتابعونه صلى الله عليه وسلم.
• مما استدل به المجيزون قولهم: أن العبرة في الائتمام هو الاقتداء، والآن تهيأت المتابعة؛ يعني: الذي يسمع صوت المذياع يقتدي بالإمام؛ يركع معه ويسمع صوته.
ونوقش هذا الدليل بأنه غير صحيح، بل العبرة أن يجتمع الإمام والمأموم في مكان واحد وزمان واحد، وهذه هي العبرة التي دلت لها السنة"[19].
11- بعض النقولات عن أهل العلم في عدم جواز الصلاة خلف المذياع أو التلفاز:
أ- سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ما حكم الصلاة مع الراديو، أو آلة من الآلات المتصلة بالإذاعة التي يسمعونها من الراديو، وهم في أبعد مكان؟
بعد أن ذكرت اللجنة مجموعة من الأدلة على عظم شأن الجماعة، وأنها شعيرة من الشعائر الإسلامية - قالت: "ثم إنه قد تقع صلاته على أحوال لا تصح معها صلاته عند جماعة من الفقهاء؛ مثل: كونه منفردًا خلف الصف، مع إمكان دخوله في صف لو كان بالمسجد، وكونه أمام الإمام وقد يعرض ما لا يمكنه معه الاقتداء بالإمام؛ كخلل في جهاز الاستقبال أو الإرسال، أو انقطاع التيار الكهربائي وهو في أمنٍ مِن هذا لو صلى في مكان يرى فيه الإمام والمأمومين؛ لهذا نرى أنه لا يجوز أن يصلي في بيته منفردًا، أو في جماعة مستقلة عن جماعة المسجد، أو مقتديًا بإمام المسجد عن طريق الإذاعة"[20].
ب- يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "وعلى القول الثاني لا تصح الصلاة؛ لأن الصفوف غير متصلة، وهذا القول هو الصحيح، والذي يصلي خلف المذياع يصلي خلف إمام ليس بين يديه، بل بينهما مسافات كبيرة، فالراجح: أنه لا يصح اقتداء المأموم خارج المسجد، إلا إذا اتصلت الصفوف".
ج- ويقول العلامة الفوزان حفظه الله تعالى: "أما من ناحية الذين يصلون خلف المذياع، فهذه الصلاة باطلة، وهذا الاقتداء لا يصح؛ لِما بينهم وبين الإمام من مسافات بعيدة، وعليهم أن يعيدوا الصلوات التي صلوها على هذا النمط لعدم صحتها".
خاتمة:
لهذه الأمور وغيرها يتبين عدم جواز صلاة التراويح خلف التلفاز أو المذياع وغيرهما من الوسائل المسموعة والمرئية، والأفضل للمسلم والأحوط والأسلم له لتصح صلاته وينال رضى الله جل في علاه:
1- أن يصلي في بيته محتسبًا الأجر والثواب، فإن الأعمال بالنيات؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))؛ [متفق عليه]، فالله تعالى يعلم أن عادته صلاة التراويح في بيوت الله، لكنه حيل بينه وبينها هذا العام، فسيكتب له بإذن الله أجر الجماعة وثوابها؛ لأنه لم يمنعه من حضورها إلا العذر.
وخذ أخي الكريم هذه البشرى النبوية:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد تركتم في المدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ - إلا وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر))؛ [صحيح أبي داود]، فأنت كذلك أخي حبسك العذر، ولم تصلِّ التراويح في بيتك عمدًا، بل اضطرارًا.
2- أن يعتبر هذا الأمر منحة وليس محنة؛ فالصلاة في البيت فرصة لمجاهدة النفس، فإن من حكم مشروعية الجماعة التنشيط على الطاعة، فالمسلم في بيته قد يفقد ذلك النشاط الذي ألِفه برؤيته لعشرات بل ربما مئات المصلين في المسجد، فهي إذًا فرصة لمجاهدة الهوى، وضرب روح الكسل بسوط الجد والمجاهدة؛ ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
3- اغتنام الفرصة: فيطيل قيامه وركوعه وسجوده كما يشاء؛ حيث إنه ليس مقيدًا بإمام، ولربما كان يتحسر فيما مضى من سرعة الإمام، خاصة في موضع السجود[21]،فها هي الفرصة سانحة للتضرع بين يدي الله تعالى، والإلحاح عليه سبحانه في الدعاء والتزلف والتقرب إليه جل في علاه؛ فإنه كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء))؛ [رواه مسلم].
4- ترغيب الأهل والأولاد في هذا الخير العظيم بالائتمام بهم في ليالي رمضان؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132]، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء))؛ [صحيح أبي داود].
واسمع أخي هذه البشرى السارة: عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين جميعًا، كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات))؛ [صحيح أبي داود]، هذا فقط إذا صليا ركعتين، فكيف بمن صلى إحدى عشرة ركعة؟
وقد وعد الله الذاكرين له بالأجر الجزيل؛ كما جاء في محكم التنزيل: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ وَالْمُؤْمِنِين َ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّق ِينَ وَالْمُتَصَدِّق َاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35]، و﴿ وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ لا يقدر قدره إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله أن يجعلنا منهم"[22].
فاللهم بلغنا رمضان، واجعلنا ممن صامه أحسن صيام، وقامه أحسن قيام، واجعلنا من عتقائك فيه من النيران، الفائزين برضوانك والجنان، برحمتك يا رحمن.
----------------------
[1] إذا كان "كريم" بمعنى: مكرَم؛ أي: فعيل بمعنى مفعول - فلا بأس بهذا الاسم، فرمضان مكرم من الله سبحانه، أما "كريم" بمعنى: مكرم؛ أي: فعيل بمعنى فاعل، فلا يصح وصفه بذلك؛ لأن رمضان زمن لا دخل له في إكرام غيره.
[2] تيسير الرحمن: 50.
[3] الجامع في أحكام القرآن: (1/ 348).
[4] صحيح ابن ماجه، حديث رقم: 882.
[5] الصلاة وحكم تاركها: 148.
[6] وهو ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك، فإن الأصل في الأمر الوجوب، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام وهو مذهب ابن حزم وغيرهما.
[7] الموطأ، رواية يحيى الليثي: (1/ 158)، حديث رقم: 373.
[8] الاستذكار: (2/ 288).
[9] الحاوي في فقه الشافعي: (2/ 97).
[10] رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما، وهو في صحيح الجامع تحت رقم: 2359.
[11] صحيح أبي داود: باب التشديد فيمن يرفع قبل الإمام أو يضع قبله.
[12] تيسير الرحمن: 757.
[13] رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي والألباني.
[14] أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله: 148.
[15] المدونة: 175.
[16] المدونة: 175.
[17] المذهب الحنبلي.
[18] شرح كتاب الصلاة من عمدة الطالب.
[19] فقه النوازل في العبادات: 44، 45 (بتصرف يسير).
[20] مجلة البحوث الإسلامية: (17/ 77).
[21] وهذا ما أصبحنا نعانيه منذ سنين، سرعة التراويح، والله المستعان.
[22] تيسير الرحمن: 664.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/140001/#ixzz6LN16u0BC