رمضان والقرآن(*)
محمد حسين يعقوب
(1)
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
رمضان شهر القرآن العلاقة بينهما وثيقة والارتباط عظيم.
فلابد من الحديث عن القرآن بتفصيل شديد والعناية به في هذا الشهر الفضيل عناية خاصة ولذلك إليكم هنا الفصل الماتع عن القرآن الكريم فاقرأ بِرَوِيَّة ولا تتعجل كى تعمل.
القرآن. .
كتاب الله الخالد، الذي أخرج الله به هذه الأمة من الظلمات إلى النور فأنشأها النشأة الأولى وبدلَّها من بعد خوفها
أمنا، ومكّن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي بها صارت أمة، ولم تكن من قبل شيئًا، وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض، ولا ذكر في السماء، فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن ..
القرآن .. كتاب هذه الأمة، هو روحها وباعثها، وقوامها وكيانها وهو حارسها وراعيها، وهو بيانها وترجمانها، هو دستورها ومنهجها، وهو زاد الطريق ..
ولكن ستظل هناك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة ذات وجود حقيقي، ووجهت به أحداث وإقعية في حياة هذه الأمة، وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك.
سيظل هناك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن طالما نحن نتلوه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة، لا علاقة لها بواقع الحياة البشرية، بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسًا ووقائع وأحداثًا حية.
آيات منزلة من حول العرش، فالأرض بهذه الآيات سماء وهذه الآيات لتلك السماء كواكب، بل الجند الإلهي قد نشر له من الفضيلة علم، وانضوت إليه من الأرواح مواكب، أغلقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها، وامتنعت عليه أعراف الضمائر فابتز أنفالها.
ضمائر العرب امتنعت عن القرآن بما استوعر فيها من العادات والأخلاق، فنفد إليها وابتزها وغلبها على أمرها ..
كم صدوا عن سبيله صدًّا، ومن ذا يدافع السيل إذا هدر؟، واعترضوه بالألسنة ردا، ولعمري من يرد على الله القدر؟
ألفاظٌ إذا اشتدت فأمواج البحر الزاخرة، وإذا لانت فأنفاس الحياة الآخرة، متى وُعِدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب.
وإن أُوعِدت بعذاب الله جعلت الألسن ترعد من حُمَّى القلوب.
معان هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان، تَرِفُّ بندى الحياة على زهرة الضمير، وتحلق في أرواحها من معاني العبرة معنى العبير ..
يجري في الخواطر كما تصعد في الشجر قطراتُ الماء.
ويتصل بالروح فكأنما يَمُدُّ لها بسبب إلى السماء ..
ألفاظٌ لم تعهد كَلْمَ أحداقِها، وثمراتٌ لم تَنْبُت في قَلَمِ أوراقها، ونورٌ عليه رونق الماء فكأنما اشتعلت به الغيوم، وماءٌ يتلألأ منالنُّور فكأنما عُصِر من النجوم ..وهل رأوا إلا كلاما تضيءُ ألفاظُه كالمصابيح، فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح، يريدون أن يطفئوا نور الله، وأين سراج النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب تطفيه، وأين نور القمر من كفٍّ يحسِب صاحبُها أنها في
حجمه فيرفعها كأنما يخفيه!
وهيهات هيهات، دون ذلك دَرْجُ الشمسِ وهي أم الحياة في كفن، وإنزالُها بالأيدي وهي روح النار في قبر من كهوف الزمن.
لا جرم أن القرآن سر السماء، فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول، ومعنى الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول، ولذلك إن تمادى أهل الباطل في طغيانهم يعمهون، فستظل آياته تلقف ما يأفكون، {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 118] (1).
فضائل القرآن:
(1) القرآن رحمة:
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ في ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، أولم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن، يشعرهم أن عين الله عليهم، وأنه معنيٌّ بهم يتنزل عليهم كلامه، يحدثهم بما في نفوسهم، وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير ..
واللهُ بعد ذلك يكرمهم حتى أنه ينزل عليهم كلماته تتلى عليهم، والذين يؤمنون هم الذين يجدون مسَّ رحمةِ الله في نفوسهم، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل، ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير، وهم الذين ينفعهم هذا القرآن؛ لأنه يحيا في قلوبهم، ويفتح لهم عن كنوزه، ويمنحهم ذخائره ويشرق في أرواحهم بالممعرفة والنور ..
1) إعجاز القرآن للرافعي (29 - 31).
(*)كتاب أسرار المحبين في رمضان للشيخ محمد حسين يعقوب