ـ ذكر الجواب عن إشكال وقع في كون الطاعون وخز الجن :
[32/ب ] ذكر القاضي تاج الدين السبكي في " جزء " جمعه في الطاعون ، بعد أن ذكر حديث أبي موسى المذكور ، ما ملخصه (1) : لو ثبت هذا الحديث للزم أن لا يقع الطاعون في شهر رمضان ، لأن الشياطين تُصَفَّد فيه وتغلغل ، كما ثبت في الصحيح.قال (2) لكنه قد وقع الطاعون فيه ، بل شاهدناه في شهر رمضان أكثر منه في غيره .
ثم أجاب : بأن الحديث ليس فيه أن الشياطين تبطل أعمالها فيه بالكلية ، بل يحصل بذلك لها المنع من معظم العمل. قال : و يحتمل أن يقال (3) : إنهم طَعَنوا قبل دخول شهر رمضان ، ولم يظهر التأثير إلا بعد دخول شهر رمضان . قال : وهذا بعيد .
ثم قال : وخطر لي أن يقال : إن تصفيد الشياطين إنما هو عما يترتب عليه من ابن آدم إثم ؛ من تحسينهم الفجور لابن آدم ليقع هو فيه . أما ما لا يترتب عليه إثم ، بل يثاب المرء عليه ـ كالطاعون مثلًا ـ فلا يمنعون منه ، كما لا يمنعون مما لا يترتب عليه إثم ولا ثواب كالاحتلام ، انتهى .
وقد تكلم العلماء قديمًا على هذه المسألة ، واستشكلوا تصفيد الشياطين فيه من جهة أخرى ، وهي المعاصي ؛ كالكبائر (4) و غيرها من بني آدم فيه . قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن هذا (5) الحديث ، وقلت له : فالرجل يوسوس له في رمضان و يُصرَعُ ؟ فقال : هكذا جاء الحديث (6) .
وقد استوعبت الكلام على ذلك في " فتح الباري " وهذا ملخصه :
قال الحليمي : يحتمل أن يكون الذين يُسَلسلون (1) من الشياطين مسترقو السمع منهم ، وأن تسلسلهم (2) يقع في ليالي رمضان دون أيامه ، لأنهم كانوا مُنعوا / في زمن نزول القرآن من استراق السمع [33/أ] مطلقًا ، في رمضان وفي غيره ، فزيدوا التسلسل فيه مبالغة في التحفظ . قال : ويحتمل أن (3) يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون فيه إلى إفساد المسلمين ، مثلما كانوا يخلصون في غيره ، لاشتغال المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات به ، و بقراءة القرآن ، والذكر والصلاة ، انتهى .
وقال ابن خزيمة : المراد بالشياطين في الحديث بعضهم لا كلهم ؛ وترجم لذلك في " صحيحه " وأورد ما أخرجه - واللفظ له والترمذي وصححه و النسائي والحاكم ، من طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم _ " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان ، صُفِّدت الشياطين بغير قيد " . و في رواية الترمذي " صُفِّدت الشياطين ومردة الجن " ، بـ " الواو " العاطفة .
وعند النسائي من وجه آخر ، عن أبي هريرة بلفظ : " وتُغَل فيه مردة الشياطين " (4) .
وقوله : " صُفِّدّتْ " _ بضم أوله _ أي شُدَّتْ بالأصفاد وهي الأغلال ، واحدها صَفَدٌ _ بفتحتين _ وهو ما يُوثق به الأسيرُ من قَيْدٍ
وقال عياضٌ في الكلام على أصل الحديث : يَحتَمِلُ تسلسلُ الشياطين أمرين : أحداهما : أن يحمل على ظاهره وحقيقته ، وأنه لمنع [ 33/ب ] الشياطين من أذى / المؤمنين . ويحتمل أن يكون للإشارة إلى كثرة الثواب ، وأن الشياطين يقل (2) إغواؤهم فيصيرون (3) كالمصَفّدين ، ويكون ذلك كناية عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات .
و رجح القرطبى في " المفهم " حَمْلَهُ على ظاهره ، ثم قال : فإن قيل : فكيف تُرى الشرور والمعاصي واقعه في شهر رمضان كثيرًا ، فلو صُفّدت الشياطين لم يقع ذلك ؟ فالجواب : أنها إنما تُغَل عن مَن صام الصوم المُعْتَبَرَ بشروطه و مراعاة آدابه . أو أن المُصَفّدَ بعض الشياطين _ وهم المردة _ لا كُلُّهُمْ . أو المقصود تقليلُ الشرورِ فيه ، وهو أمرٌ واقع ، فإن وجود ذلك فيه أقلُّ منه في غيره ، انتهى كلامه ، والمعتمد الاحتمال الثاني ، على ما تقدم تقريره ، وبه يندفع الإشكال ، والله أعلم .
ذكر الدليل على أن الجن قد يسلطون على الإنس بغير الوخز في رمضان و في غيره ، فلا يستنكر تسليطهم بالوخز، و أن الله تعالى قد يدفع بعضهم عن بعضهم
ثبت في " الصحيحين " عن صفية بنت حُيي أم المؤمنين رضي الله عنها ، في قصة اعتكاف النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ في رمضان ، فإن النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " . وهو وإن كان في سياقه أنه مخصوص بالوسوسة ، لكنه يدل على إمكان ما أشرت إليه بطريق عموم لفظه . والدلالة الوجودية فيمن يصرعه الجن من الإنس كثيرة جدًا .
وقد أخرج البزار من حديث سمرة رفعه : " إن للشيطان كُحْلًا ولَعُوقًا ، فإذا كَحَلَ الإنسانَ من كحله شغله عن / الصلاة ، وإذا لعقه من [ 34/أ] لعوقه ذرب لسانه في الشر " .
في سنده ضعف يسير (1) ، ولكن له شاهد من حديث أنس (2) .