الأم والكلام الأسود
تميم بن محمد الأصنج


لا يزال الله -تعالى- يغرس في هذه الأمة غرساً يستعملهم في طاعته، كما ثبت ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم -[1]، وهذا الغرس يصطفيه الله تعالى- ليكونوا أهلاً لطاعته، ويوفقهم لسلوك مسالك وطرق الخير، وييسر لهم سبل الهداية والرشاد، ويهيأ لهم من يقوم عليهم ويربيهم التربية الإسلامية الصحيحة، تفضلاً منه - سبحانه -، ومن ثم ترى أمثال هؤلاء الناشئة والغرس يقومون بدور في توعية الناس، وإصلاح شأنهم، بقدر طاقتهم وبحسب أعمارهم، إذ باعث الخير والإيمان يشع من على محياهم، فلا يهابون من غضب أب أو أم أو سخط معلم أو معلمة، أو استهزاء وسخرية من زميل أو زميلة، همهم الوحيد هو رضى الله - سبحانه وتعالى --. وفي أحداث القصة التالية نلمس دلالات ونستلهم دروساً للتأمل والعبرة ممن هم أصغر منا سناً وأقلنا حيلة، علها أن تعطي لنا حافزاً للعمل بهذه الشعيرة - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-، أو تشحذ همة مقعد قد فتر وتراخى عن هذه الشعيرة، فالله تعالى- يقول: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[محمد: 38].
نص القصة: [2]
(إحدى الأمهات كانت كثيرة اللعن والشتم..، وفي إحدى المرات سمعتها ابنتها الصغيرة ذات الأعوام الخمسة، فقالت: يا أمي، المسلم لا يلعن ولا يسب، يا أمي، هذا كلام أسود من الشيطان، لو سمحت اذهبي فاغسلي فمك..، فما كان من الأم بعد دهشتها إلا أن سألتها: من قال لك هذا؟ فأجابت: المعلمة في المدرسة.
فتأثرت الأم من كلام ابنتها، وذهبت إلى المدرسة، وشكرت المعلمة، وأقلعت عن عاداتها السيئة، بفضل الله ومن ثم الطفلة الصغيرة).
وقفات وفوائد من القصة:
1- دور المعلمة ومن ثم المدرسة في التربية الصالحة للأولاد، وهم بذلك يشكلون حلقة الوصل المترابط الذي يدعم البناء التربوي المتمثل في غرس الأخلاق والقيم النبيلة، والمفاهيم والأفكار الصحيحة في قلوب الناشئة، ويعطون نوعاً من التكامل التربوي، فإن حصل خلل تربوي في البيت أصلحته وقومته المدرسة.
2-حسن أسلوب الطفلة عند مخاطبتها ولدتها، ويتجلى ذلك في مناداتها بصفة الأمومة التي تضفي حنان وعطف وشفقة ومن ثم تكون أدعى بإذن الله- إلى قبول الحق. وكأني بها تلتمس قدوة من أبيها إبراهيم - عليه السلام - وهو يخاطبه أباه بكل رحمة وشفقة: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا* يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) [مريم: 42-45].
3- استخدام أسلوب تقريب المعاني المعنوية بالأشياء الحسية عند تغيير المنكر، إذ يعطي ذلك تقريب للصورة، وتوضيح للمعنى، ومن ثم توصيل الرسالة إلى نفسية المتلقي. فتنفير أو تشبيه الطفلة للكلام السيء والبذيء بأنه أسود ومن الشيطان ويلوث الفم، الذي يجب غسله من ذلك. وفي هذا منهج قرآني؛ إذ يضرب الله تعالى- مثل الواقع في معصية الغيبة: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ .. ) [الحجرات: 12].
4- إنه من الخطأ عند من يمارسون المنكرات والمعاصي أمام الصغار أن يظنوا أنهم لا يعقلون ذلك، ولا يدركون مثل هذه الأفعال والسلوكيات الخاطئة، فالصغير مولع بالتقليد، سواءً لوالديه أو لمعلميه أو...، ومن ثم لزم من يعمل المنكر إن ابتلي به- أن يتوارى قد المستطاع عن الصغار حتى لا يترسخ فيهم هذا المنكر، وإن كان الأولى ترك المنكر بالكلية.
5- التقديم والتمهيد بالأسلوب الحسن لتغيير المنكر له أثر في نفسية المنكر عليه، أو كذلك عند الأمر بالمعروف، فهذه الطفلة مهدت لكلامها بقولها: "المسلم لا يلعن، ولا يسب.. "، وقد جاء في هذا الشأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يرغب ويحث عبد الله بن عمر رضي الله عنه- على قيام الليل: (نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلى من الليل) قال سالم: "فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً" [3]. وفي إزالة المنكر، قال - صلى الله عليه وسلم -: (نعم الرجل أنت يا خريم، لولا خلتان)، قال: "قلت: وما هما يا رسول الله"؟ قال: (إسبالك إزارك، وإرخاؤك شعرك)[4].
6- أن الطفل إذا تربى على شيء فإنه يتمسك به ويعتز به، سواءً سلباً أو إيجاباً، فنحن نرى هذه الطفلة تخاطب أمها بكل قوة وصرامة، وترد عليها كونها تعتقد بأنها على حق، وأن فعل أمها على باطل، وكذلك ينبغي أن يكون الآمر بالمعروف أو الناهي عن المنكر ذو شخصية وعزة مما يقدم عليه، وألا تأخذه حالة الخجل، أوالضعف فإنه على الحق. وهنا نشير إلى أهمية استغلال هذا الجانب في أطفالنا، فنغرس فيهم المبادئ والقيم السامية والأخلاق الحسنة الإسلامية؛ لكي نساعد في تكوين شخصياتهم السوية، المحصنة من أي انحراف -بإذن الله-.
7- إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستلزم العناية بفقهه، مما يعني أنه يأتي على إثر تعبئة علمية إيمانية بأنواع المعروف وبضده من المنكرات، وبالتالي يتبين للآمر بالمعروف أو الناهي عن المنكر أن تلك الأشياء المرتكبة هل هي على صواب أم على خطأ؟ وهذه الطفلة لم ترد على أمها وتنكر عليها عبثاً، بل على إثر تعلمها ذلك من قبل معلمتها. وبالتالي على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتعلم ما هي المعروفات والفضائل وأجر فعلها فيدعو إليها، ويتعلم أنواع المنكرات والرذائل ووزر مرتكبها لينكرها وينفر منها. وبذلك يكون على بصيرة من أمره فقد ينكر المعروف وهو يظنه منكراً، أو قد يأمر بمنكر وهو يظنه معروفاً، وفي حديث الذين أمروا الرجل بالاغتسال وهو يعاني من جرح ثم مات على إثرها، أكبر زاجر على أن لا يقدم الإنسان على شيء بلا علم، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: (قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال) [5]. وقد قال الإمام السعدي - رحمه الله - عند تفسيره قوله تعالى-: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ.. ) [لقمان: 17]: "وذلك يستلزم العلم بالمعروف ليأمر به، والعلم بالمنكر لينهى عنه"[6].
8- شكر الآمرين بالمعروف والناهين على المنكر، وذلك يعد تشجيع لهم على مواصلة مشوارهم في الاحتساب، ويعطيهم دفعة قوية في عملهم. فلم تكتف هذه الأم بما جرى بينها وبين ابنتها، بل ذهبت إلى المدرسة لتشكر هذه المعلمة على جهدها الطيب المبارك.
9- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثل سلسلة حلقة متواصلة في مشروع تطهير المجتمع من المنكرات، فالمعلمة علمت هذه الطفلة والطفلة احتسبت على والدتها وهكذا دواليك....، فالطفلة كانت حلقة الوصل ما بين هذه المعلمة وتلك الأمة، وهكذا تغيير المنكرات في المجتمع.
10- بينت لنا هذه القصة وسيلة من وسائل المنكرات، ونوع من أنواعها؛ فأما الوسيلة فهي وسيلة اللسان، الذي قال عن خطره النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ -رضي الله عنه-: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم))[7]، وأما النوع فهو: السب والشتم الذي يكثر على ألسنة الناس. مما يدلنا على أن المنكرات لا تقف على حد معين، إذ منها القولية والعملية، وأن الشيطان يفتح لبني آدم من المنكرات ما يجعله يسترسل بها ثم يغرق في مستنقعها.
11- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا صاحبه أسلوب حسن وقوة حجة ومنطق، وقلب خالص مشفق، فإن ذلك يكون عوناً -بإذن الله تعالى- على أن يؤثر في قلب الشخص المنكر عليه، أو الآمر له بالخير. فقد تأثرت الأم من كلام ابنتها، ومن ثم أقلعت عن تلك العادة السيئة.
12- أن الله إذا أراد شيئاً هيئ سببه، فقد أراد الله بهذه الأم خيراً لكي تقلع عن عادتها السيئة، عن طريق ابنتها والأم لا تحتسب ذلك، ولم تتفطن له. فلقد اندهشت من رد ابنتها لها وهي تظن أنها لا تفطن ولاتدرك معاني تلك الكلمات، بدليل قولها لابنتها وقد اعتراها الدهشة: من قال لك هذا؟ فالفضل لله أولاً وآخراً.
والحمد لله رب العالمين..
___________________
[1] - من رواية أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه-، انظر: مسند الإمام أحمد برقم(17822)، قال عنه الشيخ شعيب الأرنؤوط: "إسناده حسن"، وسنن ابن ماجه، وقال الشيخ الألباني عنه: "حسن".
[2] - مصدر القصة: مجلة مساء، العدد: 26.
[3] - رواه مسلم من حديث: ابن عمر رضي الله عنهما-، برقم(6525).
[4] - رواه الإمام أحمد برقم(19037) من حديث: خريم بن فاتك الأسدي رضي الله عنه-، وهو حسن بطرقه. انظر: مسند الإمام أحمد بتحقيق الأرنؤوط، (31/ 385).
[5] - انظر: السنن الكبرى للبيهقي، برقم(1015)، تحقيق: محمد عبد القادر عطا (1/227).
[6] - تفسير السعدي، ص: 648.
[7] - رواه الترمذي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه-، برقم (2616)، وقال الشيخ الألباني فيه: "صحيح".