فوائد سيَّد.. العالِم الذي فقدناه

في صباح يوم الأحد الثاني من رمضان سنة 1387هـ - الثالث من ديسمبر سنة 1967م دُعِي الأستاذ فؤاد سيَّد فأجاب، وخسرت مصر والعالم العربي بوفاته عالمًا فردًا، ظل يعمل في دنيا المخطوطات العربية قرابة الأربعين عامًا، درسًا وتمثلًا وتصنيفًا؟.
إن حياة هذا الرجل صورة فذة، جمعت أجزاؤها كل جلال النبوغ الفطري والتحصيل الذكي الدؤوب والعصامية التي استعلت على قسوة المنشأ وباركتها عناية الله حتى استوت علمًا نافعًا فيه خير وبركة ونماء. ولد الأستاذ فؤاد سيِّد عمارة في القاهرة (بدرب الأغوات في حي الدرب الأحمر) يوم 20 أكتوبر سنة 1916م لأب رقيق الحال، توفي عنه سنة 1932 م، ولم تكن له عمومة يعتزي إليها ويشرف بها، أو خؤولة تصونه وترعاه، فدب على الطريق وحيدًا إلا من دعاء أم لا تملك سوى الدعاء وقد أشقاها الترمل وأرَّقها الخوف على الصبي اليتيم، ولم يصب الفتى من التعليم غير مرحلة «الكُتَّاب» ثم أربع سنوات قضاها بمدرسة عبد الباقي الشوربجي الأولية بشارع جامع البنات، ويترك الصبي المدرسة ليعمل بمطبعة كانت تسمى المطبعة الملوكية، بجوار دار الكتب المصرية على يمينك وأنت تريد ميدان العتبة. وفي سنة 1929م يلتحق الصبي بدار الكتب المصرية عاملًا بمطبعتها في تصفيف الحروف، ثم يدلف الفتى على استحياء إلى مخازن الدار وفهارسها العربية فتبهره صفوف الكتب ويعيش مع ترابها أحلى قصة كفاح نسجت خيوطها موهبة فذة ورفدتها عبقرية نادرة.
استمع إلى الأستاذ المحقق محمد عبد الجواد يصفه في هذه المرحلة من حياته في كتابه: «تقويم دار العلوم الذي صدر عام 1959 م» يقول: «من أكثر من ربع قرن مضى توجهت إلى دار الكتب المصرية، أبحث عن موضوع لغوي، فصادفني بين ولدانها فتى في منتصف العقد الثاني من عمره، طلب إليه الأمين أن يجيب طلبتي، فإذا بي أمام مطلع عالم بالموضوع، وأضاف إلى إجابته ذكر جملة من المظان التي يصح الرجوع إليها فيه.
فعجبت لهذا الشاب وتمنيت لو أن «دار الكتب» يكون بين موظفيها عدد من المرشدين من مثله، والذين أدعوهم «فهارس ناطقة».
وبعد أن يعدد الأستاذ عبد الجواد آثار الفقيد يضيف: «وترى فؤادًا هذا - في تحقيق المخطوط «حـ» (يقصد طبقات الأطباء والحكماء» - عالمًا من كبار العلماء بدقائق الحقائق التاريخية، وكتب السير والطبقات، فضلًا عن سعة الاطلاع والتمكن من المادة التي يبحث عنها ويفحص عن صحتها. أما المباحث اللغوية وتحقيق الأسماء والمصطلحات، فتعجب عن اطلاعك على مجهوده، كيف يتكلم عن اليونانية واللاتينية، إلى الفرنسية والألمانية والتركية وغيرها، واثقًا مما يقول مرجحًا مضعفًا». انتهى كلام الأستاذ محمد عبد الجواد.
وفي هذه الحقبة من التاريخ كانت دار الكتب المصرية تضم نفرًا من العلماء الأفذاذ الذين نذروا حياتهم لخدمة التراث العربي والفكر الإسلامي في صمت معجب، حيث قدموا شوامخ النصوص العربية، كتفسير القرطبي والأغاني والنجوم الزاهرة ونهاية الأرب، على أدق ما يكون الإخراج ضبطًا وتحقيقًا.
ومن هؤلاء العلماء أذكر الأساتذة عبد الرحيم محمود وزكي العدوي وحسن حسين وعبد المجيد الأقدمي ومحمود إمام. ويبرز من بين هذا النفر الكريم الشيخ محمد عبد الرسول، وكان رحمه الله حجة في المخطوطات العربية، وتتوثق صلة الفتى به ويتتلمذ له فيصيب على يديه خيرًا كثيرًا.
وقد اضطر فقيدنا في هذه المرحلة من حياته إلى أن يأكل من نَسْخِ الكتب، فنَسَخَ كثيرًا من المخطوطات. وقد حدثني أن يديه لا تزالان ترتعشان من طول ما نسخ. وحقًّا ما قال، فقد كنت إذا حدقت فيه وهو يكتب لا تخطئ رعشة خفيفة في يديه. ومن الذين كان ينسخ لهم - كما حدثني - الدكتور محمود الخضيري أستاذ الفلسفة الإسلامية رحمه الله، والمستشرق الفرنسي شال كونس المشتغل بتحقيق كتاب «الجيم» لأبي عمرو الشيباني. وكان - رحمه الله - يفخر بنسخ الكتب، ويقول لي: إنه مهنة العلماء كياقوت الحموي صاحب معجم الأدباء.
وبفضل هذا النسخ حصَّل كثيرًا من المعارف، ووعت ذاكرته ما لا يحصى من أسماء الكتب.
وحين أصبح قادرًا على تمييز الخطوط وردها إلى العصر الذي كتبت فيه، استنادًا إلى نوع الحبر وكثافة الورق وطريقة الكتابة، من إهمال للنقط أو إعجام. أضف إلى هذا أن خطوط العلماء كانت متميزة في عينه، فهذا خط الصلاح الصفدي، وذاك قلم ابن حجر العسقلاني.
وكان يقول لي: إن خط الصفدي لا تخطئه العين، فهو خط منسق جميل، ومن خصائصه كيت وكيت، وإن قلم ابن حجر لا يتوقف فتكاد كلماته تتشابك. وكذلك كان. وكان غفر الله له نسيج وحده في قراءة ما يكتب في صدر المخطوط من إجازات أو تملكات أو توثيق، ثم كان حجة في تقويم كل ذلك وبيان زيفه من صحيحه، مع قدرة فائقة على قراءة الكلمات المصحَّفة وتقويم العبارات المزالة عن وجهها. ويا لحسرة القلب، لقد مات بموت هذا الرجل علم كثير.
وكم كنا نتمنى أن ينسأ الله في أجله حتى نستطيع نحن أبناء هذا الجيل أن نعي شيئًا من هذا العلم الكثير، كما كان هو يتمنى أن يمتد به العمر ويُكفى السعي المضني وراء الرزق ليدوِّن هذا المحصول فتخرج تلك المعرفة إلى الناس في كتاب مقروء. أجل، كان الأستاذ فؤاد سيِّد وريث تلك المدرسة الجليلة التي أحبت المخطوطات العربية ووقفت عليها مالها ومنحتها كل حياتها، مدرسة محمد محمود الشنقيطي وأحمد تيمور وأحمد زكي.
ونعود إلى الخط الوظيفي للفقيد، فنراه يظل يعمل في قسم الفهارس العربية إلى أن منح في سنة 1951 لقب أمين المخطوطات بصفة شرفية، وكان حينئذ يقوم بفهرسة المخطوطات وتصنيفها. ولما قامت دار الكتب بفصل المخطوطات عن المطبوعات في جناح خاص بها أصدر مدير الدار (وكان في ذلك الوقت الأستاذ السيَّد فرج وكيل وزارة الثقافة الآن) قرارًا بتسليمه عهدة مكتبة المخطوطات والقيام بشؤونها، وصار أول أمين للمخطوطات بالدار. وقد قام في عمله الجديد بالأعمال الآتية:
1 - الخدمة المكتبية وإرشاد الباحثين.
2 - اختيار جميع المخطوطات والوثائق التي تحتاج للتجليد والترميم ووضع المواصفات الفنية اللازمة لذلك حفاظًا عليها وصونًا لها، لما لهذه المخطوطات من معالم تاريخية وفنية.
3 - اختيار المخطوطات القيمة والنادرة لتصويرها بالميكروفيلم أو التكبير.
4 - تزويد المكتبة بصورة من بطاقات جميع المخطوطات المحفوظة بالدار لتيسير وسائل البحث والمراجعة لجمهورها من المستعيرين.
5 - إعداد دفتر خاص للكتب المعارة داخل هذه المكتبة أو عند موظفي الدار أو في الخارج، وإصدار إحصائيات شهرية سنوية بحالة الإعارة فيها.
6 - المشاركة في إعداد سجلات خاصة للمخطوطات تكون صورة مطابقة لما في مخازن المخطوطات من الكتب، لتصير أساسًا لجرد هذه المكتبة وحصر محتوياتها. وقد كان من أثر هذه التنظيمات التي تمت لأول مرة في تاريخ دار الكتب أن حققت هذه المكتبة رسالتها العلمية على خير ما يجب من النفع للمترددين عليها من الباحثين والعلماء العرب والمستشرقين.
ولما كان - رحمه الله - سكرتيرًا للجنة شراء المخطوطات ولجنة حماية المخطوطات وصيانتها، فقد يسر له إشرافه على هذه المكتبة إنجاز أعمال هاتين اللجنتين بصورة مباشرة كان لها أثر كبير في النتائج الإيجابية التي حققتها هاتان اللجنتان.
ومع ذلك فإن عمله في أمانة المخطوطات وسكرتارية هذه اللجان وإعداد جداول أعمالها وتنفيذ قراراتها لم يحل دون مساهمة فعالة مع قسم حماية التراث في فهرسة المخطوطات وتصنيفها.
وقد قام فعلًا في هذا الصدد بالأعمال الآتية:

1 - إخراج فهرست مخطوطات مصطلح الحديث، على منهج علمي مفصل للمرة الأولى في تاريخ دار الكتب. صدر سنة 1956 م.
2 - فهرسة جميع ما يرد للدار تباعًا من المخطوطات والمصوَّرات.
3 - إعداد فهرست لجميع ما أضيف لمخازن الدار من الكتب الخطية من سنة 1936م إلى سنة 1955م ويحوي ما يقرب من ثمانية آلاف كتاب ورسالة. وقد ظهر في ثلاثة أقسام: القسم الأول (أ - س) وصدر سنة 1961م.
القسم الثاني (ش - ل) وصدر سنة 1962م. القسم الثالث (م - ي) وصدر سنة 1963م.
4 - نشرة عن مؤلفات ابن سينا وشروحها الموجودة بالدار. صدرت سنة 1950 بمناسبة العيد الألفي لابن سينا. ولم يقف نشاط الفقيد محصورًا داخل دار الكتب المصرية، بل تعداه إلى كل الهيئات المعنية بالتراث العربي، فحين أنشئ معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية ظل - رحمه الله - على صلة به ومشاركة في أعماله، حتى انتدب ابتداء من سنة 1953م ليكون خبيرًا بالمعهد.
وقد أنجز لهذا المعهد عدة فهارس، صور أولها عام 1954 م وهو فهرس عام لمقتنيات المعهد. والفهرس الثاني خاص بعلم التاريخ، وجاء في مجلدين، ظهر الأول سنة 1957م، والثاني سنة 1959م.
ثم عمل فهرسًا ثالثًا للمعارف العامة نجز سنة 1966م. ولم يكن إخراجه للفهارس جافًا واقفًا عند حدود المادة المكتبية، بل كنت تحس فيه بدقة العالم وتصرف المتثبت المحقق. استمع إليه في مقدمة الفهرس العام لمعهد المخطوطات: «وقد عنيت عناية شديدة بذكر اسم المؤلف كاملًا مصحوبًا بكنيته ولقبه ونسبه، مع التحري الدقيق لتاريخ وفاته، أو تعيين القرن الذي عاش فيه معتمدًا في ذلك على كتب التراجم والطبقات.
وكنت حريصًا على التعريف بالكتاب ومحتوياته وتبويبه وذكر ما يشمله من موضوعات، ما وافتني بذلك المصادر والأصل. وعنيت أيضًا بعمل إحالات متعددة للكتب التي لها أسماء مختلفة، أو اشتهرت بعناوين معينة، أو كانت اختصارًا أو شرحًا لكتب أخرى، كما أن الكتب التي تبحث في أكثر في موضوع كررت ذكرها ذكرها في فنونها المتعددة، كل ذلك تيسيرًا للباحث وعونًا له على الوصول إلى طلبته من أية مظنة».
وكان - رحمه الله - على صلة ومشاركة في أعمال معاهد الاستشراق بمصر وعلى وجه الخصوص المعهد الفرنسي. ولما أنشأ المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالجمهورية العربية المتحدة فرعًا لنشر التراث الإسلامي عام 1960م كان - رحمه الله - عضوًا فيه من أول جلسة.
وفي العام الفائت أنشأت وزارة الثقافة معهدًا ملحقًا بدار الكتب المصرية لتحقيق النصوص ونشرها يلتحق به خريجو الجامعات. وقد اختير - رحمه الله - ليحاضر في هذا المعهد.
رحلاته العلمية: حجَّ - رحمة الله عليه - مرَّتين، زار خلالهما مكتبات مكة والمدينة، واطلَّع على نفائس المخطوطات هناك، وتوثَّقت صلاته بعلمائهما. وفي سنة 1957م، انتدب ضمن بعثة لزيارة مكتبة دير سانت كاترين بشبه جزيرة سيناء، لدراسة ما تحويه من مخطوطات أثرية وتقديم تقرير بما يجب اتباعه لحفظ هذه المخطوطات وحمايتها.
ثم كانت رحلتاه إلى اليمن، الأولى سنة 1952م، والثانية 1964م، في بعثة برياسة الدكتور خليل نامي أستاذ فقه اللغة بآداب القاهرة. وفي هاتين الرحلتين اكتُشف لأول مرة تراث طيب لفكر المعتزلة، تطاول عليه العمر، مختبئًا في سراديب الظلام. وقد نشر من هذا التراث المكتشف ثلاثة نصوص للقاضي عبد الجبار: المغني، والمجموع المحيط بالتكليف، ثم شرح الأصول الخمسة. ولا يزال هناك الكثير من تراث المعتزلة مما صور من اليمن ينتظر الدراسة والنشر.
وكان الموجود من هذا التراث بين يدي الناس لا يزيد على الكتب الثلاثة. وترجع أهمية هذا التراث - كما كان يحدثني الأستاذ رحمه الله - إلى أنه يعرض لفكر المعتزلة بأقلام أئمة الاعتزال أنفسهم، وكان كل ما يكتب قبلًا عنهم إنما يأتي من قبل خصومهم، وفي هذا ما فيه.
وفي شهر مايو من العام الماضي كانت آخر رحلاته رحمه الله، حيث دعاه المعهد الجامعي الشرقي بنابُلي للقيام بدراسات علمية في التراث الإسلامي والمخطوطات العربية.
وقد لقي هناك ترحيبًا كريمًا من جمعيات الاستشراق ولبث شهرين يعاون طلبة الدراسات العليا على فهرسة محتويات المعهد من المخطوطات العربية، ويرشد ويوجه أصحاب الدراسات والبحوث إلى المراجع العلمية التي تخدم بحوثهم.
آثاره العلمية: من الناس من يشغل بغيره عن نفسه، وتستعلن آثاره أو تتوارى في جهود سواه، وهو في كل ذلك سعيد بما يبذل من وقته وفكره، وسواء أذاع الناس فضله أم جحدوا فهو حيث هو، لا يتحول ولا يريم، لأنه يرضي سخاء نفسه الراغبة في البذل والعطاء. وقد كان الأستاذ - آجره الله - من هذا الصنف من الناس، فقد فرضت عليه ظروفه الوظيفية في الإرشاد والتوجيه، ثم قبل كل ذلك قلبه المحب للناس الراغب فيهم المستزيد من صداقتهم، فرض عليه كل ذلك أن يعيش لغيره وأن يقف وقته لتلبية الرغبات وقضاء الحاجات.
وقد كنت أرى الرسائل أكوامًا تلاحقه في مكتبه وفي بيته من الدارسين والمحققين، وقد تأخذ الرغبات بتلابيبه فيبدو منه بعض الضجر، ولكنه سرعان ما يثوب إلى نفسه السخية المعطاء فيلبي ويجيب. وافتح أي كتاب شئت من نصوص التراث المنشور لترى آثار علمه وفضله، يذكرها الناشرون تكريمًا للرجل وتزكية لعملهم. لكن الله بارك له في وقته وسُنِّي له أن يُخرج بعض النصوص حاملة اسمه، وقد أبان فيها عن علم كثير. ففضلًا عن الفهارس العلمية التي صنعها لدار الكتب المصرية ومعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية، حقق - رحمه الله - هذه النصوص، وهي بحسب ترتيبها الزمني:
1 - طبقات الأطباء والحكماء، لأبي سليمان بن حسان الأندلسي المعروف بابن جُلجُل (بجيمين مضمومتين) من علماء القرن الرابع الهجري. وقد كان الفقيد - رحمه الله - يعتز كثيرًا بهذا الكتاب وبعمله فيه. وقد قدَّم له بمقدمة علمية قيمة، قال فيها: «هذا كتاب يعتبر وثيقة هامة في تاريخ العلوم وتطور حركة التأليف والترجمة في القرن الرابع الهجري الذي يعد بحق العصر الذي ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية ونمت وبلغت غايتها من الإنتاج الواسع في شتى ميادين العلوم والآداب.
ولعل ميزة هذا الكتاب الأولى التي جعلت له قيمة علمية خاصة ونصًا قديمًا له خطره في تاريخ العلم أن مؤلفه يعتمد فيما رجع إليه من مصادر على تراجم عربية لأصول لاتينية تاريخية. فقد عهدنا دائمًا أن أكثر الكتب التي نقلها العرب أو غيرهم من المترجمين كانت عن أصول يونانية، والقليل منها عن اللغات الفارسية والسريانية والهندية، وأنهم أكثروا من النقل والترجمة عن هذا الطريق، ولكنا لم نظفر - إلا قيلًا جدًّا - بنصوص عربية ترجمت عن اللغات اللاتينية.
وربما كان كتابنا هذا أول كتاب استفاد من هذه الترجمات التي نرجح أنها تمَّت في عصره أو قبله بقليل». ثم يمضي الأستاذ في مقدمته متحدثًا عن مصادر الكتاب، وعن هذا اللون من التصنيف، متتبعًا المسار الزمني له.
وقد وقف - رحمه الله - عند بعض النصوص التي أوردها ابن جُلجُل، والتي تذكر صراحة قدم حركة النقل والترجمة في صدر الدولة الأموية. وكان الشائع أنها تمت في العصر العباسي وفي عصر المأمون بالذات.
وهذا النص هو ما جاء في صفحة 61 من الكتاب أثناء ترجمة ماسرجويه الطبيب البصري الذي عاش في الدولة الأموية، وتولَّى أيام حُكْم مروان بن الحكم (64 - 65 هـ) ترجمة كتاب «أهرن بن أعين القس» إلى العربية. وكان أهرن من الأطباء الذين عاشوا في الإسكندرية في عصر هرقل (610 - 641 م) في صدر الإسلام، ووضع «كناشة» باللغة اليونانية ثم نقله إلى السريانية، إلى أن قام بترجمته إلى العربية ماسرجويه المذكور. وقد ذكر ابن جُلجُل في هذه الترجمة أن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) وجده في خزائن الكتب (الأموية) وأنه استخار الله في إخراجه إلى المسلمين. وكثيرًا ما كان الأستاذ - رحمه الله - يدلني على قيمة هذا النص، ويكثر من الحديث حوله.
وقد طبع هذا الكتاب أول مرة بمطبعة الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة سنة 1955م، ثم أعادت مكتبة المثنى ببغداد طبعه بالأوفست منذ ثلاث سنوات، بعد أن عزّت نسخه، فقدمت بذلك خدمة جليلة للعلم والعلماء.
2 - طبقات فقهاء اليمن، لابن سمرة الجعدي، عمر بن علي المتوفى بعد سنة 586هـ، وهو أول كتاب يظهر خاصًا بعلماء اليمن. وترى في آخره فهرسًا لبلاد اليمن، صنعه الفقيد، آية في التثبُّت والتحرِّي والاستقصاء. وقد طبع هذا الكتاب بالقاهرة سنة 1957م، وجعله الأستاذ الحلقة الأولى في سلسلة «المكتبة اليمنية» التي كان يريد أن يمضي في نشرها.
3 - شروط المؤرخ في كتابة التاريخ (مجموعة فتاوى لبعض العلماء فيما يشترط في المؤرخ لكتابة التاريخ من الجرح والتعديل)، نشرت بمجلة معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية سنة 1957.
4 - إعارة الكتب عند الأقدمين (نصان قديمان لليزيدي والسيوطي)، نشرت بمجلة معهد المخطوطات سنة 1958م.
5 - الوسيط في تراجم أدباء شنقيط (موريتانيا) للشنقيطي أحمد بن الأمين. أشرف الفقيد على طبعه وقدم له. طبع بالقاهرة سنة 1959م.
6 - العبر في خبر من عبر([1])، للحافظ الذهبي المتوفى سنة 748هـ، وهو مختصر لكتابه الكبير «تاريخ الإسلام»، حقق الأستاذ منه الجزئين الثاني والثالث. وطبعا بالكويت سنة 1961م.
7 - العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين (مكة) لتقي الدين الفاسي المتوفى سنة 832هـ وهو أكبر موسوعة في تاريخ مكة ومن عاش فيها أو دخلها أو سكنها من العلماء والفقهاء والشعراء والأدباء وغيرهم. حذا فيه مؤلفه حذو الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"، والحاكم النيسابوري في "تاريخ نيسابور"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"، والسمعاني في "تاريخ مرو". والكتاب في ثمانية أجزاء حقق الفقيد العزيز منه الأجزاء من الثاني إلى السابع، وأعجلته المنية عن إتمام الثامن. وقد كان في نيته - رحمه الله - أن ينشر «ذيل العقد» لابن فهد المكي تلميذ الفاسي. وقد رأيت بعيني مدى ما كابده الأستاذ من جهد في تحقيق الكتاب. ومكة البلد الأمين مهوى الأفئدة ومطمح الأنفس، ارتبطت أرضها الحرام بأداء ركن من أركان الإسلام، فلن تحد عالمًا من علماء الإسلام إلا وردها حاجًّا مجاورًا.
ومن هنا كثرت تراجم هذا الكتاب، وانفسح مجال القول أمام الفاسي، فأكثر من النقول والنصوص، ونقل أسماء المترجمين ووفياتهم من أحجار القبور (وتلك منزلة عليا في درجات التأريخ).
فكان لزامًا على من يتصدى لتحقيق مثل هذا العمل أن يشارف ذلك المستوى في التحقيق والتوثيق. وقد فعل الرجل، ورجع إلى مصادر الفاسي، مطبوعها ومخطوطها - وما أكثرها - وصحح كثيرًا من الأسماء والبلدان.
وقد كان - رحمه الله - حجة في ضبط الأعلام والأنساب. وعلى هذا الذكر أقول: إن الأستاذ كان كثير الرجوع في ضبط الأعلام إلى «تاج العروس» للمرتضى الزبيدي، وكان دائم الإشادة بالتاج فيما يتصل بذكر الأعلام والأنساب والألقاب والبلدان. وكان يقول لي كثيرًا: إن هذه فضيلة للتاج عري عنها «لسان العرب» لابن منظور. وقد ابتدأ طبع العقد الثمين بالقاهرة سنة 1959م، وحقَّق الفقيد الجزء الثاني عام 1962م.
وحين توفي - رحمه الله - كان في برنامجه تحقيق جملة صالحة من الكتب أذكر منها:
1 - نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، للإدريسي. وكان يقوم على طبع هذه الموسوعة الجغرافية إحدى جمعيات الاستشراق بإيطاليا، عهدت إلى القيد تحقيق القسم الخاص باليمن، ووزعت بقية الأجزاء على خمسة عشر عالمًا ومستشرقًا، وكان - رحمه الله - على نية العمل في هذا الكتاب خلال شهر رمضان الذي لقي ربه فيه.
2 - طبقات المفسرين، للداودي تلميذ السيوطي.
3 - فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار، وهو من التراث الذي اجتلبه من رحلتي اليمن.
4 - جزء من مختصر تاريخ دمشق لابن منظور، الذي يخرجه معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية.
ثقافته: لم ينل فقيدنا من إجازات التعليم سوى الشهادة الابتدائية، حصل عليها سنة 1943م بعد أن سلخ من عمره 27 عامًا، وقد اضطر إلى الحصول على هذه الإجازة الصغيرة لينتقل من طبقة العمال والسعاة إلى طبقة الكتبة والموظفين بدار الكتب المصرية. ثم التحق بمدرسة «برليتس» ليصيب طرفًا من اللغة الفرنسية.
هذا هو كل تعليمه المدرسي، لكنه - رحمه الله - كان ذا نفس طلعة، حببت إليه المعرفة في كل فرعها فراح ينشدها من بطون الكتب وأفواه الرجال. وكان حصاد هذا كله سعة أفق ورحابة صدر ومضار عقل ونفاذ بصيرة. اتَّصل - رحمه الله - بالتراث الإسلامي صبيًّا بحكم عمله في دار الكتب المصرية، وتلمذ هناك لمشيخة جليلة - أسلفت الحديث عنها - شدته إلى التحصيل، فحفظ المعلقات السبع وعيون الشعر فاستقام لسانه. على أن هناك شخصية كريمة بهرت الفقيد العزيز فأقبل عليها وأفاد منها الخلق الرضي والعلم النافع، وما كان - رحمه الله - يذكر هذه الشخصية إلا وتطفر من عينيه الدمعة، تلك هي شخصية الشيخ محمد زاهد الكوثري علامة وقته ونادرة زمانه، ولد - رحمه الله - بشرقي الأستانة ونزل القاهرة فرارًا من اضطهاد الكماليين، حيث توفي بها سنة 1371هـ / 1952م، وقد أجاز الشيخ الكوثري فقيدنا في ليلة الجمعة 20 من رمضان سنة 1371هـ في السنة التي توفي فيها، وكانت آخر إجازة يمنحها الشيخ لتلاميذه.
ونص الإجازة: «وممن استجازني الأستاذ الفاضل البحاثة الواسع الاطلاع السيَّد فؤاد السيِّد عمارة، كان الله له حيثما يكون، ورعاه في كل حركة وسكون. وبعد أن اطلع على كثير من مؤلفاتي وسمع مني حديث الرحمة المسلسل بالأولية، أجزته أن يروي عني جميع ما تصح لي وعني روايته من حديث وتفسير وفقه وأصول وتوحيد ومصطلح وتاريخ وحكمة وعربية».
وفي آخر المطاف تركز علم الفقيد في نقطتين اثنتين لا يشركه فيهما سواه: فكر المعتزلة، والإحاطة بجغرافية اليمن وعلمائها. هاتان النقطتان فرَّغ لهما نفسه وصرف إليهما جهده، حتى ملك القول فيهما غير مدافع ولا مزاحم.
وقد قُدِّر لي - وأنا آخذ عنه وأتلقى منه - أن أشهده وهو يخطط لتحقيق «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة»، و«نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» فرأيت عجبًا، يرحمه الله. أما الحديث عن ظرفه وخفة ظله فيرجع إلى أنه تعرف في شبابه على أعلام الظرف والفكاهة في ذلك العصر، من مدرسة الشاعر الزجال حسين شفيق المصري، وكان - رحمه الله - أمة في الرواية والحفظ - ومعارضاته للمعلقات السبع معروفة - وكانت لفقيدنا خصوصية بهذا الشاعر الكبير، أفاضت عليه الكثير من خفة الروح وعذوبة الحديث. ووعت حافظته كثيرًا من شعر حسين شفيق، لم يدون. وقد حدثني - رحمه الله - عن جماعة من ظرفاء الأدباء كانت تلتقي بدار الكتب في ذلك الوقت في حلقة يسمونها «البعكوكة» على يسارك وأنت تدخل الدار الآن. وحول هذه الحلقة رويت أشعار ورنت ضحكات.
وقد لا يعلم الكثيرون أن للأستاذ فؤاد أزجالًا طيبة. ولولا اشتغاله بالتراث لكان له في عالم الزجل شأن كبير.
من هذه الروافد الخصبة تكونت ثقافته ونمت معارفه، وبارك الله في أيامه فجعل أفئدة من الناس تهوي إليه تفيد وتستفيد، وكانت الرسائل ترد عليه من كل رجا تصل إليه الكلمة العربية، وأصبح مكتبه وبيته مثابة لكل طالب علم.
وكنت أرى الناس حوله من مختلف الأسنان وشتى المذاهب وكلهم دانٍ منه، قريب إليه، فأتمثل:
تَمَلُّ النَّدَامَى ما عدَاني فإنَّنِي *** بِكُلِّ الذي يَهْوَى نَدِيميَ مُولَعُ
فقد كانت كلماته حبيبة إلى كل قلب، خفيفة على كل سمع، يمزج الفائدة العلمية بالنكتة العذبة، مع نقاء طبع وصفاء روح، فلم يكن رحمه الله يصبر على خصومة أو يطيل جفاء، فإذا بدرت منه البادرة فهو سريع الأوبة مزيل الجفوة. وظل - رحمه الله - يعيش أجمل وفاء للناس، حتى مات في لحظة وفاء، حين رأى أم ولده ورفيقة عمره تصاب بشلل مفاجئ، فاجتاحته المصيبة، ولم يعش بعدها سوى يوم واحدٍ، ليتركنا في يوم حزين، وتطوى صفحة مضيئة من صفحات النبوغ والمعرفة لفتى نحيل دخل دار الكتب عام 1929 عاملًا يصفِّف الحروف في المطبعة، وقبل وفاته بأربعة أشهر ذهب يحاضر في معاهد إيطاليا عن المخطوطات العربية، وبين هذا وذاك جهد دائب وعلم نافع.
اللَّهُمَّ إنا نسألك أن تتغمَّد ذنبه، وأن تمهد عذره، وأن تنير قبره، وأن تجعله مع الذين أنعمت عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين وحسن أولئك رفيقًا.
المصدر: «مجلة المجلة»، عدد: مارس 1968م
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/139655/#ixzz6JZIBzTeM