‫التحزين في قراءة القرآن الكريم‬
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :


قال ابن حجر في شرح البخاري (9/70) :
" وقال ابن الجوزي اختلفوا في معنى قوله يتغنى على أربعة أقوال :
أحدها تحسين الصوت
والثاني الاستغناء
والثالث التحزن قاله الشافعي
والرابع التشاغل به تقول العرب تغني بالمكان أقام به
قلت وفيه قول آخر حكاه ابن الأنباري في الزاهر قال المراد به التلذذ الاستحلاء له كما يستلذ أهل الطرب بالغناء فأطلق عليه تغنيا من حيث أنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء وهو كقول النابغة
بكاء حمامة تدعو هديلا *** مفجعة على فنن تغني
أطلق على صوتها غناء لأنه يطرب كما يطرب الغناء وإن لم يكن غناء حقيقة
وهو كقولهم العمائم تيجان العرب لكونها تقوم مقام التيجان
وفيه قول آخر حسن وهو أن يجعله هجيراه كما يجعل المسافر والفارغ هجيراه الغناء
قال ابن الأعرابي كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى وإذا جلست في أفنيتها وفي أكثر أحوالها فلما نزل القرآن أحب النبي صلى الله عليه و سلم أن يكون هجيراهم القراءة مكان التغني
ويؤيد القول الرابع بيت الأعشى المتقدم فإنه أراد بقوله طويل التغني طول الإقامة لا الاستغناء لأنه أليق بوصف الطول من الاستغناء
يعني أنه كان ملازما لوطنه بين أهله كانوا يتمدحون بذلك
كما قال حسان
أولاد جفنة حول قبر أبيهم *** قبر بن مارية الكريم المفضل
أراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتجاع ولا يبرحون من أوطانهم فيكون معنى الحديث الحث على ملازمة القرآن وأن لا يتعدى إلى غيره وهو يئول من حيث المعنى إلى ما اختاره البخاري من تخصيص الاستغناء وأنه يستغني به عن غيره من الكتب
وقيل المراد من لم يغنه القرآن وينفعه في إيمانه ويصدق بما فيه من وعد ووعيد
وقيل معناه من لم يرتح لقراءته وسماعه وليس المراد ما اختاره أبو عبيد أنه يحصل به الغنى دون الفقر لكن الذي اختاره أبو عبيد غير مدفوع إذا أريد به الغنى المعنوي وهو غنى النفس وهو القناعة لا الغنى المحسوس الذي هو ضد الفقر
لأن ذلك لا يحصل بمجرد ملازمة القراءة إلا إن كان ذلك بالخاصية وسياق الحديث يأبى الحمل على ذلك
فإن فيه إشارة إلى الحث على تكلف ذلك وفي توجيهه تكلف كأنه قال ليس منا من لم يتطلب الغني بملازمة تلاوته
وأما الذي نقله عن الشافعي فلم أره صريحا عنه في تفسير الخبر وإنما قال في مختصر المزني وأحب أن يقرأ حدرا وتحزينا انتهى
قال أهل اللغة حدرت القراءة أدرجتها ولم أمططها وقرأ فلان تحزينا إذا رقق صوته وصيره كصوت الحزين
وقد روى ابن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه قرأسورة فحزنها شبه الرثي
وأخرجه أبو عوانة عن الليث بن سعد قال يتغنى به يتحزن به ويرقق به قلبه
وذكر الطبري عن الشافعي أنه سئل عن تأويل بن عيينة التغني بالاستغناء فلم يرتضه وقال لو أراد الاستغناء لقال لم يستغن وإنما أراد تحسين الصوت
قال ابن بطال وبذلك فسره بن أبي مليكة وعبد الله بن المبارك والنضر بن شميل
ويؤيده رواية عبد الأعلى عن معمر عن بن شهاب في حديث الباب بلفظ ما أذن لنبي في الترنم في القرآن أخرجه الطبري
وعنده في رواية عبد الرزاق عن معمر ما اذن لنبي حسن الصوت وهذا اللفظ عند مسلم من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة وعند بن أبي داود والطحاوي من رواية عمرو بن دينار عن أبي سلمة عن أبي هريرة حسن الترنم بالقرآن
قال الطبري والترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القاريء وطرب به قال ولو كان معناه الاستغناء لما كان لذكر الصوت ولا لذكر الجهر معنى
وأخرج بن ماجة والكجي وصححه بن حبان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد مرفوعا الله أشد أذنا أي استماعا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته والقينة المغنية
وروى بن أبي شيبة من حديث عقبة بن عامر رفعه تعلموا القرآن وغنوا به وأفشوه - كذا وقع عنده والمشهور عند غيره في الحديث وتغنوا به –
والمعروف في كلام العرب أن التغني الترجيع بالصوت كما قال حسان:
تغن بالشعر إما أنت قائله *** إن الغناء بهذا الشعر مضمار
قال ولا نعلم في كلام العرب تغنى بمعنى استغنى ولا في أشعارهم وبيت الأعشى لا حجة فيه لأنه أراد طول الإقامة ومنه قوله تعالى كأن لم يغنوا فيها
وقال بيت المغيرة أيضا لا حجة فيه لأن التغاني تفاعل بين اثنين وليس هو بمعنى تغني
قال وإنما يأتي تغني من الغنى الذي هو ضد الفقر بمعنى تفعل أي يظهر خلاف ما عنده وهذا فاسد المعنى
قلت ويمكن أن يكون بمعنى تكلفه أي تطلبه وحمل نفسه عليه ولو شق عليه كما تقدم قريبا ويؤيده حديث فإن لم تبكوا فتباكوا "انتهى كلامه

أقول : يستفاد من كلام ابن حجر السابق عدة فوائد متعلقة بالتحزين في القراءة
الأولى : أن جمعاً من السلف اختاروا التحزين وفسروا به التغني بالقرآن وهذا مذهب الليث بن سعد والشافعي
وليست التفسيرات الأخرى بأولى بالقبول من تفسيرهم
الثانية : أنه جاء عن أبي هريرة أنه قرأ سورةً فحزنها شبه الرثي وقد حسن سند تلك الرواية
ولم أقف عليها بعد البحث الطويل ، فالذي يبدو أنها في الكتب المفقودة التي اطلع عليها ابن حجر ولم نرزق _ معاشر المتأخرين _ الإطلاع عليها
ثم وقفت على اسناد للخبر
ذكره ابن الجزري في غاية النهاية عن أبي بكر بن مجاهد قال :
ثنا عبد الله بن سليمان انبا يونس بن حبيب عن قتيبة بن مهران انبا سليمان بن مسلم قال سمعت أبا جعفر يحكي لنا قراءة أبي هريرة ....فذكره
وسليمان بن مسلم هو ابن جماز لم يوثقه أحد وهو صاحب قراءة معروف
وشيخه هو أبو جعفر المدني القاريء ثقة

الثالثة : أن عدداً من العلماء فسروا ( التغني ) بتحسين الصوت ، وهذا لا يتعارض مع التحزين فإنهما يجتمعان فإعمال عامة التفاسير المنقولة عن السلف أولى من إهمال بعضها
وممن اختار استحباب ( التحزين ) بالقراءة مفتي المملكة السابق عبد العزيز ابن باز
فقد جاء في شريط ( الفتوى وأحكامها ) الوجه الثاني السؤال التالي : هذا يسأل عن قضية تحسين الصوت بالقراءة هل المراد بذلك ما هو معروف من علم التجويد الموجود الآن ؟
فأجاب: هو من ذلك ولكن تحسين الصوت أجمع من ذلك ، في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما أذن الله لشيء ما أذن لحسن الصوت في القرآن يجهر به " وفي الحديث الآخر :" ليس منا من لم يتغنى بالقرآن يجهر به " فتحسين الصوت يحصل به خشوع للقاريء و ( تحزن ) واعطاء المقام حقه في الحروف والكلمات حتى يخشع المستمع ويتأثر بالقراءة "
أقول : فجعل الشيخ ( التحزن ) من أسباب التأثر بالقراءة
وعليه لا ينبغي الإنكار على من يحزن قراءته بلا تمطيط ولا تشبه بالفساق ، ولا ينبغي إلحاقه بأهل التطريب المذموم والله أعلم
وممن اختار التحزين وفسره تفسيراً حسناً ابن حبان البستي حيث قال في صحيحه (3/ 27) :"
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ»، يُرِيدُ يَتَحَزَّنُ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْغُنْيَةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْغُنْيَةِ لَقَالَ: يَتَغَانَى بِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: يَتَغَنَّى بِهِ، وَلَيْسَ التَّحَزُّنُ بِالْقُرْآنِ نَقَاءَ الْجِرْمِ، وَطِيبَ الصَّوْتِ، وَطَاعَةَ اللَّهَوَاتِ بِأَنْوَاعِ النَّغَمِ بِوِفَاقِ الْوِقَاعِ، وَلَكِنَّ التَّحَزُّنَ بِالْقُرْآنِ هُوَ أَنْ يُقَارِنَهُ شَيْئَانِ: الْأَسَفُ وَالتَّلَهُّفُ: الْأَسَفُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَالتَّلَهُّفُ عَلَى مَا يُؤْمَلُ مِنَ التَّوْقِيرِ، فَإِذَا تَأَلَّمَ الْقَلْبُ وَتَوَجَّعَ، وَتَحَزَّنَ الصَّوْتُ وَرَجَّعَ، بَدَرَ الْجَفْنَ بِالدِّمُوعِ، وَالْقَلْبَ بِاللُّمُوعِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَلِذُّ الْمُتَهَجِّدُ بِالْمُنَاجَاةِ ، وَيَفِرُّ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى وَكْرِ الْخَلَوَاتِ، رَجَاءَ غُفْرَانِ السَّالِفِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالتَّجَاوُزِ عَنِ الْجِنَايَاتِ وَالْعُيُوبِ"

وقد نص الإمام أحمد أن قراءة أبي موسى الأشعري كانت بحزن
قال ابن قدامة في المغني (3/ 405) :"
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : حُزْنُهُ فَيَقْرَؤُهُ بِحُزْنٍ مِثْلُ صَوْتِ أَبِي مُوسَى "

وكذا اختار التحزين ابن كثير في فضائل القرآن
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه / عبدالله الخليفي