الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإن النفوس والقلوب قد يعتريها ويصيبها شيء من اليأس والقنوط والإحباط من حين لآخر، وخاصة إذا أقبلت عليها المصائب والابتلاءات والملمات؛ مما يعود بأثر سلبي بالغ على قلب المؤمن ونفسه، مع وجود التباين والتفاوت في أثر ذلك على النفوس والقلوب، بحسب قوة الإيمان لدى العبد وضعفه.
وإنه من المعلوم والمشاهد في واقعنا المعاصر الذي نعيش أنه قد تكالبت واجتمعت الفتن المتعلقة بأمري الدين والدنيا، وثقلت وثقل وقعها على النفس والقلب والإيمان، وهذا لا ينكره أحد، وقد لا يسلم ولم يسلم منه أحد عبر العصور والقرون، والأزمنة والأمكنة، فما زالت الفتن تعصف بالأمة شرقًا وغربًا بشتى صورها وأشكالها وأنماطها، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وليعلم العبد أن اليأس والقنوط من كبائر الذنوب والخطايا؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: ((الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من رَوح الله))؛ [أخرجه الطبراني، وعبدالرزاق، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة].
وإن الواجب على المؤمنين ألَّا يقطعوا رجاءهم من رحمة الله تبارك وتعالى، وألا ييأسوا ويقنطوا من تفريج الله تعالى وتنفيسه للكربات والملمات عن عباده وأوليائه وأصفيائه جل وعلا، فإنه لا يقنط من تفريجه وتنفيسه إلا القوم الكافرون؛ لأنهم يجهلون عظيم قدرة الله وخفي أفضاله سبحانه على عباده.
فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه، واليأس يوجب له التثاقل والتباطؤ فيما يرجو ويؤمل، ففضل الله تعالى وإحسانه عظيم ورحمته واسعة.
لذا كان لزامًا أن نقف عند هذا الموضوع لأهميته، ولا بد قبل الحديث عنه من الإشارة إلى مفهوم اليأس والقنوط، وفهم معناهما من خلال النصوص الشرعية، والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية.
فاليأس: هو نقيض الرجاء، وانقطاع الطمع من الشيء، والجزم والقطع على أن المطلوب لا يتحصل؛ لتحقيق فواته وقطع الأمل في تحققه.
والقنوط: هو شدة اليأس من الخير، والإياس من الرحمة، بل هو أشد اليأس من تحقق الشيء.
ولقد ورد ذكر اليأس والقنوط في عدة آيات من كتاب الله تبارك وتعالى صراحة وملفوظًا ومنطوقًا بها؛ ومن هذه الآيات القرآنية:
قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
هذا خطاب من الله جل جلاله لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكل من قام مقامه من الدعاة لدين الله سبحانه، مخبرًا للعباد عن ربهم وخالقهم، وعن سعة رحمته وعظيم عفوه لكل من أسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب؛ قليلها وكثيرها، عظيمها وصغيرها؛ فرحمته سبحانه وسعت كل شيء.
وينادي الله تبارك وتعالى في هذه الآية المباركة عباده بألَّا يقنطوا من رحمته سبحانه وتعالى، وألا ييأسوا من مغفرة ذنوبهم إن هم قصروا وأخطؤوا، ولا ييأسوا من رجائهم دخول الجنة، وبعدهم عن النار.
وتعد هذه الآية هي أرجى آية في كتاب الله تعالى؛ لاشتمالها على أعظم بشارة للمسرفين على أنفسهم في الكفر والشرك، والذنوب والمعاصي.
قال ابن جزي: "قال علي بن أبي طالب وابن مسعود: هذه أرجى آية في القرآن، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية))".
ولقد اختلف أهل العلم في تفسيرها من كون المعنيُّ بهذه الآية هم أهل الشرك إذا تابوا، أم أنها عامة في أهل الشرك وغيرهم من العصاة إن تابوا، والصحيح أنها عامة في جميع العصاة من أهل الشرك وغيرهم.
قال الطبري: "اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية، فقال بعضهم: عني بها قوم من أهل الشرك، قالوا لما دُعوا إلى الإيمان بالله: كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا، وقتلنا النفس التي حرم الله، والله يعد فاعل ذلك النار، فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمانُ؟ فنزلت هذه الآية".
وقال الطبري أيضًا: "وعن ابن عباس: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 53]، وذلك أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أنه من عبد الأوثان، ودعا مع الله إلهًا آخر، وقتل النفس التي حرم الله - لم يُغفر له، فكيف نهاجر ونسلم، وقد عبدنا الآلهة، وقتلنا النفس التي حرم الله ونحن أهل الشرك؟ فأنزل الله: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 53]؛ يقول: لا تيأسوا من رحمتي، إن الله يغفر الذنوب جميعًا، وقال: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [الزمر: 54]، وإنما يعاتب الله أولي الألباب، وإنما الحلال والحرام لأهل الإيمان، فإياهم عاتَبَ، وإياهم أمَرَ إن أسرف أحدهم على نفسه ألَّا يقنط من رحمة الله، وأن ينيب ولا يبطئ بالتوبة من ذلك الإسراف، والذنب الذي عمل، وقد ذكر الله في سورة آل عمران المؤمنين حين سألوا الله المغفرة فقالوا: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ [آل عمران: 147]، فينبغي أن يُعلم أنهم قد كانوا يصيبون الإسراف، فأمرهم بالتوبة من إسرافهم".
وفي هذه الآية المباركة دعوة لجميع العصاة من أهل الشرك وغيرهم إلى التوبة والإنابة والرجوع إلى الله جل وعلا.
قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه الآية على غير توبة؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه".
والمراد بالإسراف في هذه الآية هو الإفراط في المعاصي والاستكثار منها والعياذ بالله تعالى.
قال الشوكاني في تفسير قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 53]: المراد بالإسراف: الإفراط في المعاصي والاستكثار منها.
ومعنى ﴿ لَا تَقْنَطُوا ﴾: لا تيأسوا، ﴿ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ من مغفرته.
ثم لما نهاهم عن القنوط، أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه، ويجعل الرجاء مكان القنوط؛ فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾.
واعلم أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه؛ لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أولًا أضاف العباد إلى نفسه؛ لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى وبفحوى الخطاب، ثم جاء بما لا يبقى بعده شك، ولا يتخالج القلب عند سماعه ظنٌّ؛ فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ﴾، فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده، فهو في قوة: إن الله يغفر كل ذنب كائنًا ما كان، إلا ما أخرجه النص القرآني وهو الشرك؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48].
ثم لم يكتفِ بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب، بل أكد ذلك بقوله: ﴿ جَمِيعًا ﴾، فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه، الخالعين لثياب القنوط، الرافضين لسوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم! وما أحسن ما علَّل سبحانه به هذا الكلام قائلًا: ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾.
أي: كثير المغفرة والرحمة، عظيمهما، بليغهما، واسعهما، فمن أبى هذا التفضل العظيم والعطاء الجسيم، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به، فقد ركب أعظم الشطط، وغلط أقبح الغلط؛ فإن التبشير وعدم التقنيط الذي جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز، والمسلك الذي سلكه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما صح عنه من قوله: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)).
وتدل هذه الآية المباركة على أمرين:
الأول: لا ينبغي للمسرفين على أنفسهم بالكفر والمعاصي أن يقنطوا وييأسوا من رحمة الله جل وعلا.
والثاني: أنها تدل على مغفرة جميع الذنوب - قليلها وكثيرها - لمن تاب عنها قبل موته.
قال الشنقيطي: "هذه الآية الكريمة تدل على أمرين:
الأول: أن المسرفين ليس لهم أن يقنطوا من رحمة الله، مع أنه جاءت آية تدل على خلاف ذلك؛ وهي قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [غافر: 43].
والجواب أن الإسراف يكون بالكفر ويكون بارتكاب المعاصي دون الكفر، فآية ﴿ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ في الإسراف الذي هو كفر.
وآية: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الزمر: 53] في الإسراف بالمعاصي دون الكفر، ويجاب أيضًا بأنه آية: ﴿ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ فيما إذا لم يتوبوا، وأن قوله: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ﴾ فيما إذا تابوا.
والأمر الثاني: أنها دلت على غفران جميع الذنوب، مع أنه دلت آيات أخر على أن من الذنوب ما لا يُغفر، وهو الشرك بالله تعالى.
والجواب أن آية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ﴾ [النساء: 48] مخصصة لهذه، وقال بعض العلماء: هذه مقيدة بالتوبة؛ بدليل قوله تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ﴾ [الزمر: 54]، فإنه عطف على قوله ﴿ لَا تَقْنَطُوا ﴾ [الزمر: 53]، وعليه فلا إشكال، وهو اختيار ابن كثير".
وقال السعدي: "يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه، ويحثهم على الإنابة قبل ألَّا يمكنهم ذلك فقال: ﴿ قُلْ ﴾ يا أيها الرسول، ومن قام مقامه من الدعاة لدين الله، مخبرًا للعباد عن ربهم: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الزمر: 53] باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب، والسعي في مساخط علام الغيوب.
﴿ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾: أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعًا من الشرك، والقتل، والزنا، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار.
﴿ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]: أي: وصفه المغفرة والرحمة، وصفان لازمان ذاتيان، لا تنفك ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود، مالئة للموجود، تسح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار، والعطاء أحب إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضب وغلبته، ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأتِ بها العبد، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة؛ أعظمها وأجلها، بل لا سبب لها غيره: الإنابة إلى الله تعالى بالتوبة النصوح، والدعاء والتضرع، والتأله والتعبد، فهلمَّ إلى هذا السبب الأجل، والطريق الأعظم".
هذا ما تيسر إيراده، نسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يكون لوجهه الكريم خالصًا، ونسأله سبحانه أن يرزقنا حسن الظن به والتوكل عليه والإنابة إليه.
والحمد لله رب العالمين.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/139563/#ixzz6J29YRypD