الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
هذا بحث في سماع أبي عبيدة بن عبد الله مسعود، من أبيه، حاولت اختصاره قدر الإمكان، مع استيعاب أطراف المسألة وأدلتها، فأقول -وبالله التوفيق-:
أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، فقد قال شعبة، عن عمرو بن مرة: "سألت أبا عبيدة بن عبد الله هل تذكر من عبد الله شيئا؟ قال: لا"، وفي رواية: "تحفظ عن أبيك شيئا؟ قال: لا".
وروى ابن المديني عن سلم بن قتيبة قال: "قلت لشعبة: إن عثمان البري حدثنا عن أبي إسحاق، أنه سمع أبا عبيدة، أنه سمع ابن مسعود؟ فقال: أوه، كان أبو عبيدة ابن سبع سنين، وجعل يضرب على جبهته"، وتعقبه ابن حجر فقال: "هذا الاستدلال بكونه ابن سبع سنين على أنه لم يسمع من أبيه ليس بقائم، ولكن راوي الحديث عثمان ضعيف".
قال ابن سعد: "روى عن أبيه رواية كثيرة، وذكروا أنه لم يسمع منه شيئا"، وقال ابن معين، وأحمد، والعجلي، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، وغيرهم: "لم يسمع من أبيه شيئا"، وقال محمد بن أحمد بن البراء: "قال علي بن المديني: عبد الرحمن بن عبد الله سمع من أبيه، وكان شعبة يقول: لم يسمع من أبيه، وهو عندي قد أدركه، قلت: فأبو عبيدة؟ قال: لا، لم يدركه"، وقال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، هل سمع من أبيه عبد الله؟ فقال أبي: لم يسمع، قلت: فإن عبد الواحد بن زياد، روى عن أبي مالك الأشجعي، عن عبد الله بن أبي هند، عن أبي عبيدة قال: خرجت مع أبي لصلاة الصبح، قال أبي: ما أدري ما هذا، عبد الله بن أبي هند من هو؟"، وقال ابن خراش: "أبو عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا، أخباره مراسيل؛ أدخل بينه وبين أبيه مسروقا وغيره"، وقال البيهقي: "ورواية إبراهيم، عن عبد الله منقطعة لا شك فيها، ورواية أبي عبيدة عن أبيه؛ لأن أبا عبيدة لم يدرك أباه"، وقال ابن عبد البر: "لم يسمع من أبيه فيما يقول أهل الحديث"(1).
بينما سئل الدارقطني: سماع أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه صحيح؟ قال: "يختلف فيه، والصحيح عندي أنه لم يسمع منه، ولكنه كان صغيرا بين يديه"، وقال الحاكم في حديث له عن أبيه: "هذا حديث صحيح الإسناد، إن سلم من الإرسال فقد اختلف مشايخنا في سماع أبي عبيدة من أبيه"(2).
كذا قالا، علما أني لم أقف على أحد من الأئمة أثبت له السماع، وأثبته بعض المتأخرين؛ كالعيني وغيره، وحجته في ذلك قال: "وأما قول هذا القائل -يعني: ابن حجر-: لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه، فمردود بما ذكر في المعجم الأوسط للطبراني من حديث زياد بن سعد، عن أبي الزبير، قال: حدثني يونس بن خباب الكوفي، سمعت أبا عبيدة بن عبد الله، يذكر أنه سمع أباه يقول: كنت مع النبي عليه الصلاة والسلام في سفر الحديث، وبما أخرج الحاكم في مستدركه حديث أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن أبيه في ذكر يوسف عليه السلام، وصحح إسناده، وربما حسن الترمذي عدة أحاديث رواها عن أبيه...، ومن شرط الحديث الحسن أن يكون متصل الإسناد عند المحدثين"، وقال أيضا: "وقد أجبنا عن قول من يقول: أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، وكيف ما سمع وقد كان عمره سبع سنين حين مات أبوه عبد الله؛ قاله غير واحد من أهل النقل، وابن سبع سنين لا ينكر سماعه من الغرباء عند المحدثين، فكيف من الآباء القاطنين"(3).
والجواب عن ذلك بأمور:
الأول: هذا الحديث لا يصح عن أبي عبيدة؛ قال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن زياد بن سعد إلا زمعة، تفرد به أبو قرة"(4)، ويونس بن خباب قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: "مضطرب الحديث، ليس بالقوي"، وقال الساجي: "صدوق في الحديث، تكلموا فيه من جهة رأيه السوء"، وقال الدارقطني: "كان رجل سوء، فيه شيعية مفرطة، كان يسب عثمان"(5)، وزمعة بن صالح ضعيف(6)، فهذا وما سبق من حديث عثمان البري، وعبد الله بن أبي هند، كله لا يصح.
الثاني: الترمذي وإن كان حسن بعض حديثه، إلا أنه قرن ذلك ببيان الانقطاع، يقول: "هذا حديث حسن، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه"(7)، وأحيانا يذكر أنه لم يسمع فقط، وكذلك الحاكم علق الصحة على السماع؛ كما سبق، وقال أيضا في حديث آخر: "هذا إسناد صحيح، إن كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود سمع من أبيه"(8).
الثالث: وأما قوله: إن عمر أبي عبيدة كان سبع سنين حين مات أبوه عبد الله، وابن سمع لا ينكر سماعه، فالجواب أن الحكم بالانقطاع لم يبنه أهل العلم على عمره حين مات أبوه فقط، بل لما سبق من إسناد صحيح عن عمرو بن مرة، قال: "سألت أبا عبيدة: تحفظ عن أبيك شيئا؟ قال: لا".
قال المباركفوري: "لابد للعيني أن يثبت أولا صحة رواية المعجم الأوسط ثم بعد ذلك يستدل بها على صحة سماع أبي عبيدة، ودونه خرط القتاد، وأما استدلاله على سماعه من أبيه بما أخرجه الحاكم وتصحيحه فعجيب جدا فإن تساهله مشهور، وقد ثبت بسند صحيح عن أبي عبيدة نفسه عدم سماعه من أبيه كما عرفت، وأما استدلاله على ذلك بما حسن الترمذي عدة أحاديث رواها عن أبيه فمبني على أنه لم يقف على أن الترمذي قد يحسن الحديث مع الاعتراف بانقطاعه، وقد ذكرنا ذلك في المقدمة"(9).
وأقوى ما قد يستدل به على السماع:
ما رواه أبان العطار، عن قتادة، عن أبي عبيدة: (أنه فيما سأل أباه عن بيض الحمام فقال: صوم يوم)، وهذا ظاهره أنه سأل أباه وحفظ عنه، لكن رواه عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن لاحق بن حميد، عن أبي عبيدة: (أن ابن مسعود قال في ذلك: عليك لكل بيضة -أي: بيض النعام- صيام يوم، أو طعام مسكين)(10)، وهذا أصح؛ فابن أبي عروبة من أثبت الناس في قتادة.
ومع كون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه، إلا أن بعض أهل العلم قد صحح حديثه عنه: قال ابن المديني في حديث يرويه أبو عبيدة، عن أبيه: "هو منقطع، وهو حديث ثبت"، وقال يعقوب بن شيبة: "إنما استجاز أصحابنا أن يدخلوا حديث أبي عبيدة، عن أبيه في المسند -يعني: في الحديث المتصل-؛ لمعرفة أبي عبيدة بحديث أبيه وصحتها، وأنه لم يأت فيها بحديث منكر"، وقال ابن تيمية: "ويقال: إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه؛ لكن هو عالم بحال أبيه متلق لآثاره من أكابر أصحاب أبيه، وهذه حال متكررة من عبد الله رضي الله عنه فتكون مشهورة عند أصحابه فيكثر المتحدث بها، ولم يكن في أصحاب عبد الله من يتهم عليه حتى يخاف أن يكون هو الواسطة؛ فلهذا صار الناس يحتجون برواية ابنه عنه"، وقال ابن رجب الحنبلي: "وأبو عبيدة وإن لم يسمع من أبيه، إلا أن أحاديثه عنه صحيحة، تلقاها عن أهل بيته الثقات العارفين بحديث أبيه، قاله ابن المديني وغيره"، وقال أيضا: "وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه، لكن رواياته عنه أخذها عن أهل بيته، فهي صحيحة عندهم"(11).
وقد حسن الترمذي، والدارقطني بعض الأحاديث له عن أبيه، وقال النسائي في حديث: "أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، والحديث جيد"(12).
والجواب عن ذلك: أن أصحاب ابن مسعود ليسوا كلهم ثقات، ففيهم الضعفاء والمجاهيل، وكثير ممن ذكر الانقطاع، لم يقولوا بذلك، بل أطلقوا عدم السماع من غير تفصيل، حتى الترمذي، والنسائي، وغيرهما، وإن حسنوا بعض الأحاديث له من روايته عن أبيه، إلا أنهم أعلوا غيرها بعدم سماعه منه.
وأيضا فقد احتج أحمد وغيره ببعضها، فالظاهر أنهم كانوا ينتقون منها؛ كما قال أحمد في عمرو بن شعيب: "أصحاب الحديث إذا شاءوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وإذا شاءوا تركوه".
علما أن باب الاحتجاج والاستشهاد، أوسع من باب التصحيح والتضعيف؛ كما هو معلوم، والله أعلم.
وكتبه/
حسين الحبشي
غفر الله له.
______________
(1) انظر: الطبقات الكبير (8/329)، ومسائل أحمد - رواية ابن هانئ (2170)، ومعرفة الثقات وغيرهم للعجلي (2200)، والتاريخ عن ابن معين لعباس الدوري (1716)، والتاريخ عن ابن معين لعثمان الدارمي (515)، والصغرى للنسائي (1420)، والمراسيل لابن أبي حاتم (ص256)، والكبير للبيهقي (16/312)، والتمهيد لابن عبد البر (3/458)، وتاريخ دمشق (35/67)، واللطائف لأبي موسى المديني (924)، وتهذيب الكمال (3051)، وتهذيب التهذيب (5/75).
(2) العلل للدارقطني (2/499)، والمستدرك للحاكم (2561).
(3) عمدة القاري (2/302، 303).
(4) الأوسط للطبراني (9189).
(5) تهذيب التهذيب (11/437).
(6) تهذيب التهذيب (3/338)، وتقريب التهذيب (2035).
(7) السنن للترمذي (1714، 3084).
(8) المستدرك للحاكم (1873).
(9) تحفة الأحوذي (1/73).
(10) المصنف لابن أبي شيبة (15906)، والكنى للبخاري (447).
(11) مجموع الفتاوى (6/ 404)، وفتح الباري (5/187، 6/14)، وشرح علل الترمذي (1/544).
(12) انظر: الكبرى للنسائي (1057)، والسنن للدارقطني (3362)، والنكت على ابن الصلاح لابن حجر (1/398).