السلام عليكم،

متى تسكت !؟ *
ينبري كثير من صغار طلبة العلم وبعض الأساتذة بل عوام المسلمين للكتابة والكلام في زمن الفتن والهرج والمرج، كأنه مجبر على أن يكون له رأي في موضوع الفتنة أو أطرافها أو القضايا العظمى المحيرة لعقول أولي الألباب من الفطاحلة والجهابذة، وإذا ما سألت هذا الذي يُقحم نفسه في معمعة الفتنة المتلاطمة الأمواج: بأي حق شرعي تتدخل وتكتب وتحلل وتسخر وتهزأ بأطراف متخاصمة ومختلفة، وتعد نفسك مُنَظرا ومفكرا إسلاميا ببعض قُصصات الجرائد التي قرأتها، أو صفحات الانترنت التي تابعتها، أو بنزر من الفيديوهات التي شاهدتها، ثم تهدر النصوص الشرعية وتصادمها بالمفاهيم العقلية والمصطلحات الأكاديمية الفخمة؟... فلن يجيبك إجابة ترضي ربه.
وإذا استفسرت منه: هل أنت عالم مشهود لك بالدراية، أو شيخ متمكن مُتقن؟
فيجيبك بتواضع بارد: لا!
إذا، كيف ستقابل ربك لما يسألك عن كل حرف أو كلمة تلفّظ بها لسانُك أو خطّتها يدُك!؟
ألهذا الحد هان الدين وهانت الفتن!؟
ألهذه الدرجة تقحم نفسك في كلام، سواء كان حقا أم باطلا، جليلا أم حقيرا، خيرا أم شرا، بلا رادع ولا زِمام!؟
ألهذه الغاية يتمندل بك الشيطان وأنت غافل!؟
ألا تتذكر أن غير أهل العلم لا يحق لهم الخوض في دين الله، والتورط في ما لم يكلفهم به ربُّ العالمين، وأننا نحن العوام، أمرنا أن نسأل أهل الذكر في الدين، وليس الرويبضات الذين ينبتون كالفطر والطحالب، هنا وهناك وفي كل مكان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ » ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
وأكثر هذا النوع يفتون بالهوى والظن والتخمين والرجم بالغيب، وكلامهم لا ينفع ولا يفيد، بل يشوش الناس، ويبلبل عليهم شرع ربهم، وأغلبهم يتدخل في المسائل المستعصية على كبار العلماء، الذين سكتوا خوفا من الله، بينما هو كالبطل من ورق يتقحم الهيجاء تقحما، بلا علم ولا معرفة ولا دراسة ولا بحث، ولأنه أشبه بالذباب فهو يتخير القضايا التي اشتد فيها الخلاف ليزيدها جدالا ونزالا، والتي كثر فيها الخصام ليؤجج نارها وسعارها، ويتقصد تهويل سقطات الغافلين، وكشف وفضح العيوب المستورة، والخوض في الأعراض، والاتهام في النوايا، وضرب هذا بذاك، وإذا ظفَر بزلة أولياء الله وخاصته، فكأنما وقع على كنز من ذهب، فيطير بها في النوادي والمحافل والأزقة والمجالس كمذياع أو وكالة أخبار، لينتصر بها لفريقه وحزبه وجماعته...
وهو مسكين فارغ من نور الكتاب والسنة وحكمة الأولين والآخرين، كثيرا ما تجده يقول: "المسألة لم أدرسها لكن عندي فيها رأي"، وإذا سُئل عن حكم كذا يرد: "الله أعلم، ولكن يمكن أن تكون الإجابة أنه حرام"، وإذا استفهم عن أمر، يقول: "لا أدري، لكن أظن أنه يجوز ومباح"، وإذا استُفسر عن موقفه في موضوع أجاب: "ليس عندي معلومات محددة ودقيقة، لكن المعطيات الأولية تدل على أنه كذا وكذا وكذا"، وهكذا في سلسلة من التخرُّصَات والشكوك والأوهام، والعنتريات..
وليته يهرف بما لا يعرف، ويُنَظِر بلا بصيرة ولا بصر ثم ينسحب من المعمعة، لكنه يستمر في غيه، فيَخَطِئُ علماء السنة، ويُسفه فقهاء السلف، ويَسخر من أهل الذكر، ويتطاول على الأفاضل، وما انتبه أن الله به محيط، وبما يقوله وينشره خبير، فالله يغار على دينه وأوليائه، قال تعالى:
تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ).
وَقَالَ تَعَالَى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ).
واعلم أخي أنك محاسب عن حصاد لسانك وقلمك، قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
بعضهم، لمجرد أن صلّى أو أطال لحية أو قصَّر ثوبا.. أو اسدلت جلبابا او غطت وجها.. أو حاز شهادة جامعية أو حضَرَ ندوة أو شارك في ملتقى، يشعر أنه امتلك حق الكلام في دين الله والدفاع عنه حمية، لكنه في الواقع يتكلم ليتفكه ولتمضية الوقت وقتله، لا يصبر على الثرثرة في أمور الدين وشؤون العامة، لسانُه منفلت من عقاله، يشحذه في كل مناسبة وغير مناسبة ليمزق به عباد الله، عوّدَ جهازه الصوتي وانامله على اللمز والغمز والغيبة والنميمة والوقيعة والبهتان..، هذا النوع من الناس عندما يسكت فكأنما يتعذب من الداخل، يحترق من جوفه، يعاني صراعا باطنيا مريرا ويكاد ينفجر.. كيف أسكت؟ كيف أبقى صامتا؟ يجب أن أتكلم، أن أقول شيئا، كيف لمثلي أن يخرص؟ كيف لي ألا أقدم رأيي ولا أعرض موقفي؟ يجب أن يفهم الناس ويدركوا جميعا أنني أدري وأعلم وأعرف.. وبدون كلام سأكون صفرا على الهامش، المثل المشهور: (تكلم حتى أراك) لذا يجب أن أتحدث حتى يروني ويَشعروا بوجودي، فأنا بلا حركة لساني كالمشلول، يجب أن أثبت أنني لست عدما، وشعاري المتبع في ذلك: أنا أتكلم إذا أنا موجود!!
وأفضل ما تواجه به هذا الصنف أن تخبره بالحقيقة المرة بلا خجل ولا مواربة: أنت ليس عندك شيئا تقوله، لأنك تعترف للناس بأنك لست عالما بالدين ولا عارفا بالشريعة... فعندما كان شيوخ العلم في شبابهم يواصلون الليل بالنهار لتلقي ميراث النبوة، واستقاء الوحي من ينابيعه بالجهد والهمة، كنت أنت على مدرجات ملاعب الكرة تصيح كالمجنون، أو قابعا أمام التلفاز تتابع المسلسلات والأفلام الهابطة، شغوفا بفنانيك ونجومك الصاعدة إلى أسفل!... أو متكئا على الجدار المقابل لثانوية البنات تملأ عينيك بالغاديات والرائحات و"تبسبس" لبعضهن كما "يُبَسْبُ" للقطط تلطفا...، إنها صورة كاريكاتيرية لكنها صادقة في كثير ممن ورِث الجهل بعدها، وعشعش في رأسه إلى أن أدركه الهرم وسن اليأس الدماغي، فيريد أن يقنع نفسه بأنه ما زال في مرحلة النضج والبلوغ!
ومع كل ذلك يجادل ويقول: "كلامك صحيح، أنا لست عالما، لكن الخصومة التي بين أيدينا اليوم ظاهرة، والقضية المتناولة في هذه الساعة واضحة ولا لبس فيها، فيجب أن أدلي بدلوي"!
يا فلان عن أي دلو تتكلم!؟، أنت معك شكارة مثقوبة وليس دلوا.
اشتغل بالتعلم وقراءة القرآن وذكر الله والصلاة والصوم والصدقة وخدمة الأيتام والمحتاجين وتوزيع المصاحف وتنظيف المساجد... هو أطهر لقلبك وأفيد لدينك ولأمتك...لا تتدخل فيما لا يعنيك..واحذر أن تقول عن مسألة من مسائل الدين أنها هينة أو فتنة من الفتن العامة أنها سهلة، فقديما اجتهد الصحابة في بعضها فاقتتلوا ـ رحمهم الله جميعا ورضي عنهم ـ وتلك فتن عصم الله منها سيوفنا فنسأل الله أن يعصم منها ألسنتنا.
لقد سُئل الإمام مالك في مسألة فسكت، فقال له السائل إنها مسألة سهلة، فغضب وقال ليس في الدين مسألة سهلة، وهو مالك إمام دار الهجرة، وكان الصحابة يتدافعون الفتوى، ويتمنى كل واحد منهم أن غيره كفاه، لأن الكلام في الدين توقيع عن رب العالمين...فمن تكون أنت لتوقع عن الله بجهلك وطيشك وغرورك، بدل العلماء الإجلاء الذين سكتوا وأمسكوا!؟...ولا تحسبَنَّ نفْسَكَ أحَرَصَ وأغير على الدين منهم.
وخذها من مجرب، كل من ينشغل بالرد والكلام في الآخرين فلن يهتم بعيوب نفسه، وسيغفل عن ذنوبه ويقصر في حق ربه، إلا من وفقهم الله، وحتى الانشغال المفرط الشديد والدءوب بالرد على المبطلين وصنوف المنحرفين، قد يكون مدخلا للشيطان وسبيلا للتلبيس عليك، فينسيك وقاية نفسك والاعتناء بذاتك مراقبة ومراجعة وإعدادا وإصلاحا... لقد انشغلت شخصيا في "الإعلام الإسلامي" لسنوات بالرد على النصارى وبعض المذاهب الهدامة الأخرى... فوجدت نفسي غارقا في الكبائر دون أن أشعر. وأنا الآن في معركة تدارك بعض التقصير، وليس كله، فما ذهب لن يعود، وتجاوز بعض الكبوات، وليس كلها، فما مضى منها احصي ودون في صحيفتي، ولا ينفع مستقبلا إلا العودة الى الذات وتصفية الفواتير والحسابات، وأما في الدعوة فبالموازنة في الاهتمام بين "االأنا" و"الأخر"، وصدَق أحمد ابن حنبل شيخ الدنيا فكان يقول: "نحن قوم مساكين لولا ستر الله علينا لافتُضحنا"... ومن أنا إزاء ابن حنبل!؟
واعلم أخي أن الصمت خدمة جليلة تسديها لنفسك ولأمتك، والسكوت هدية ثمينة تقدمها لدينك...، فرَحِماكَ اللهُ، وهَدَاكَ: اُسْكُتْ..نعم اُسْكُتْ..اُسْكُ تْ.
* توقيع: الأستاذ الدكتور يزيد حمزاوي الجزائري
جامعة البليدة 2 - الجزائر
منقول من الصفحة الرسمية على الفيسبوك