حاجة طلبة العلم إلى التفرغ العلمي
خباب الحمد
إنَّ التفرغ الذهني للعلم كان وراء تحصيل أبي هريرة رضي الله عنه لعلوم السنَّة النبويَّة حيث كان بدون مُنازع، الصحابي الجليل الأكثر جمعاً لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد توفيق الله له ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، حتى حمل العلم عنه ثمان مائة رجل ما بين صاحب وتابع كما قال الإمام البخاري([5]).
يحدَّث أبو هريرة عن نفسه فيقول:(إن إخواننا من المهاجرين شغلهم الصفق في الأسواق, وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم, وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم - بشبع بطنه - و يحضر ما لا يحضرون, ويحفظ ما لا يحفظون)([6])
وقد كان التفرغ الذهني للعلم وراء نبوغ الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه حيث تفرغ لدراسة اللغة العبرية (لغة يهود)، فعن زيد بن ثابت قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلَّم له كلمات من كتاب يهود قال (إني والله ما آمن يهود على كتاب) قال: فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلمته له قال : فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم)([7]).
ولقد نال الصحابي الجليل ابن عباس - رضي الله عنه - منزلة الكبار، مع صِغَرِ سِنِّه دون أن يحتقره أحد لدنو عمره عن أعمارهم، حتَّى لُقِّب بـفتى الكهول؛ فلقد رفع الله قدره بالعلم، لأنَّه غذَّ السَّير فيه، واجتهد في تحصيل مأموله، فرحمه الله ورضي عنه.
يُحدِّثُ ابن عباس عن نفسه فيقول:« لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار : هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير » ، فقال : واعجبا لك يا ابن عباس ، أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم ، قال : « فتركت ذاك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح علي من التراب فيخرج فيراني » فيقول : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك ؟ هلا أرسلت إلي فآتيك ؟ ، فأقول : « لا ، أنا أحق أن آتيك » ، قال : فأسأله عن الحديث ، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني ، فيقول : « هذا الفتى كان أعقل مني »([8]).
ولقد تفرغ للعلم كليَّة جماعة من أكابر أهل العلم المُبرّزين، وكان تفرغهم سبب نبوغهم وبلوغهم درجة من العلم لم يصل لها عدد من أقرانهم، ومنهم فيما يحضرني ذكره:
1) الإمام البخاري لم يُحصِّل ما حباه الله به من علم، إلاَّ لتفرغه علمياً للدراسة والتحصيل حتَّى ألَّف صحيحه الذي جمع فيه الأحاديث الصحاح، وقد أتمَّ سبعة عشر عاماً في جمع وتأليف هذا الكتاب.
2) الإمام النووي مكث في وقت الطلب في دمشق أربع سنين لم ينم مضطجعاً، وكان ينام مسنداً ظهره إلى أسطوانة، ولم يكن يضطجع خلال هذه المدة اضطجاع المستريح في نومته.
3) الإمام ابن الملقن، فلقد طلب الحديث في صغره بنفسه فأقبل عليه وعُني به حتّى تفرَّغ له.
4) العلامة ابن خلدون مكث بضع سنوات في قلعة بني سلامة في المغرب العربي كتب خلالها مقدمته الشهيرة.
5) الشيخ بدر الدين الدمشقي حبس نفسه في المكتبة تسع سنوات، حتَّى حصَّل من العلم ما شاء الله أن يُحصِّل.
6) الإمام الشوكاني نشأ في بيت علم حيث كان والده من العلماء الكبار، وكان له أكبر الأثر في تكوين الشوكاني،حيث هيأ له فرصة التفرغ للعلم، وبدأ حياته العلمية منذ الصغر، وتتلمذ على عدد كبير من علماء صنعاء في عصره، وقد بلغ مرتبة من التفوق المبكر جعلته يدرّس أثناء طلبه العلم، ويفتي وهو في العشرين من عمره!
7) تحدث حاجي خليفة في كتابه (ميزان الحق) عن طريقة جمعه لكتابه (كشف الظنون) فقال: وكنت في أثناء إقامتي في حلب أتردد إلى حوانيت الكتبيين وأتصفح ما فيها وما يرد إليها من الكتب والرسائل، فألهمت جمع كتاب في أسماء الكتب والمصنفات فشرعت به من ذلك الحين، ثم لما رجعت إلى استانبول وصل إلي مال ورثته فابتعت به شيئا من الكتب والمصنفات فازداد حرصي على إتمام ما شرعت به، وفي سنة (1048هـ) مات رجل تاجر من أقاربي ورثت منه مالا كثيرا فاستعنت بذلك المال على إصلاح حالي والانقطاع لطلب العلم والتصنيف فأنفقت جانبا عظيما من تلك الثروة التي وصلت إلي في اقتناء الكتب، وجمعت كتابي هذا من الكتب التي جمعتها والتي اطلعت عليها في حلب واستنبول والمصنفات الجليلة الموقوفة في الخزائن العمومية بدار السلطنة ومن كتب الطبقات والتراجم وغيرها في مدة عشرين سنة([9])
· ضرورة الإنفاق على من تفرَّغ للعلم:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لعلك تُرزقُ به)([10])، وفي هذا الحديث فضل الإنفاق على طلبة العلم، وأنَّ الله تعالى يُبارك لمن كفله بزيادة الرزق في ماله.
إنَّ كثيراً من طلبة العلم ممن يُمكنهم الانقطاع للعلم والتفرغ لأجله، لم يمنعهم من ذلك إلاَّ عدم فراغ البال من هموم الأشغال، وطلب العيش، وهو وإن كان بحد ذاته شيئاً جميلاً ومتطلباً شرعياً، فإنَّ أفضل الكسب أن يأكل الرجل من عمل يده كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بيد أنَّ الأمَّة تحتاج لمن يشتغل لها شغلاً آخر، فلو تفرَّس عدد من أهل العلم في طلبتهم، ولحظوا نبوغهم وذكائهم وصلاحهم وتقواهم لربهم، وكلَّفوا أهل الخير بالإنفاق عليهم، وكفالتهم أثناء طلبهم للعلم في الجامع على مشايخهم وفي الجامعة على أساتذتهم، فلعلَّه بعد عِقدين من الزمن، يكون لأولئك شأن في تعليم الناس ورفع الجهل عنهم، فصرف المال لمن تفرَّغ للعلم،ليس لأجل لحمهم وشحمهم بل لكي يكون نفعهم لأنفسهم أولاً ولأمَّتهم ثانياً، فتصرفُ الأموال في حقهم على حسب كفايتهم، ويُعينهم على تلقي العلم تحصيلاً وحفظاً وفهماً وتأليفاً ودعوة، فنفعهم بالمال وإن كان ذاتياً لكنَّ مآله سيكون لأمَّة الإسلام.
لقد ذكر ابن عابدين:
(أنه تلزم على المسلمين كفاية طالب العلم إذا خرج للطلب حتى لو امتنعوا عن كفايته يجبرون كما يجبرون في دين الزكاة إذا امتنعوا عن أدائها)([11]).
ومن أفضل ما يُقام به تجاه تفريغ طلبة العلم لأجله، الاعتناء بمشاريع وقفية تكون خاصَّة بكفالة طلبة العلم، كي تُشجعهم على مواصلة طلب العلم، ويتم صرف هذه المساعدات من ريع الوصايا التي حددها واقفوها لمصرف كفالة طلبة العلم رغبة في الأجر والثواب، وقد حصل هذا في سابق الزمان – وإن كان قد حصل في عصرنا مع قلَّته - فقد أدى توافد طلاب العلم من جميع أنحاء العالم إلى مراكز الحضارة الإسلامية والعواصم الإسلامية إلى إنشاء الحانات الوقفية التي تؤويهم، وهو ما استرعى نظر العلامة ابن خلدون عندما وصف الوضع الاجتماعي السائد في القاهرة وقت صلاح الدين الأيوبي بقوله:(فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والرُبط ووقفوا عليها الأوقاف المغلّة، وكثر طلاب العلم وارتحل إليها الناس من العراق والمغرب)[12]
إنَّ طالب العلم إن لم يكن في كفاية في معيشته فلن يُحصِّل من العلم ما يتغيَّاه ويتوخاه، ذلك أنَّ العلم كثير والعمر قصير وجمع المال لأجل المعيشة سيأخذ من وقت المرء وقتاً طويلاً وكل ذلك سيكون على حساب وقته وجهده.
يقول عبدالرحيم بن سليمان الرازي:كنا عند سفيان الثوري فكان إذا أتاه الرجل يطلب العلم سأله : هل لك وجه معيشة ؟
فإن أخبره أنه في كفاية، أمره بطلب العلم، وإن لم يكن فى كفاية أمره بطلب المعيشة ([13]).
ولو بحثنا في تاريخ عدد من علماء الإسلام البارزين لوجدنا أنَّ بعضهم كان ينفقُ عليهم أقاربهم أو أهل الفضل ممن يحملون هَمَّ العلم إنفاقاً على طلبته بلا منٍّ ولا أذى.
فلقد فتح الله تعالى على الإمام عبد الله بن المبارك من خزائن جُوده، وكانت له وفرة من المال، فكان يكفل وينفق على عدد من الأئمة الأعلام، الذين ضنَّت بمثلهم الأعصار وطنَّت بذكرهم الأعصار وهم: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، وإسماعيل بن عُليَّة.
وكان الليث بن سعد يصل مالكاً، والكثير من طلبة العلم.
ولقد كانت والدة الإمام سفيان الثوري، تُؤازره في طلب العلم حتى قالت له: يا بني: (اذهب فتعلم العلم وأعولك بمغزلي هذا، فإن وجدت في نفسك أثرًا فأكمل، وإلا فلا تتعنَّى)([14])
وكان يُنفق على الإمام ابن تيمية أخوه شرف الدين.
وقد تيسَّر طلب العلم كذلك لبعض العلماء، حينما ورثوا عن ورَّثوا مالاً من آبائهم فانتفعوا به في التحصيل العلمي والتأليف النافع.
فالإمام البخاري رحمه الله ورَّث له والده مالاً جزيلاً أنفقه في طلبه للعلم وسفره لجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
وذكر الإمام ابن عدي أن والد الإمام يحيى بن معين خلف له ثروة ضخمة ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم فأنفق ذلك كله على الحديث لما توسع في طلبه ورحلاته.
وإمام المُفسِّرين ابن جرير الطبري اقتصر في معيشته على ما يَرِدُهُ من ريع أرضه وبستانه الذي خلَّفه له والده.
والإمام محمد بن الحسن الشيباني ذكر مترجموه أنَّ والده قد خلَّف له مبلغًا كبيرًا أنفق جُلَّه في طلب العلم والرحلة إليه.
إنَّ العلم الأصيل يحتاج لتفرغ حقيقي، وإنَّ من أعطاه فضلة وقته لن ينتفع به شخصياً وقلَّما ينفع به غيره، ففراغ البال من الهم المتعلق بالمعيشة مهم للغاية في مسألة التحصيل العلمي والانقطاع له، ويؤكد ذلك الإمام الشافعي فيما يذكره عنه النووي "لو كلفت شراء بصلة لما فهمت مسألة"([15]).
وقد جاء في ديوان الإمام الشافعي:
لا يُدرك الحكمة من عمره * يكدح في مصلحة الأهل
ولا ينال العلم إلا فتى * خالٍ من الأفكار والشغل
لو أن لقمان الحكيم الذي * سارت به الركبان بالفضل
بلي بفقر وعيال لما * فرق بين التبن والبقل
بقيت بقية للقول بأنَّ التفرغ العلمي لابد أن يستشعر صاحبه أنَّه ينتفع به، ويؤتي ثمة علمية، أمَّا إن شعر أنَّه يقضي وقته بالنوم والكسل، والتقاعس عن أداء مهمة العلم، فيقال له:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ
[1] ) أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه زكريا بن يحيى الوقار ، قال ابن عدي : كان يضع الحديث، فالحديث لا يصح.
[2] ) رواه البخاري (20) ومسلم (1108)،
[3] ) "الجواهر والدرر" للسخاوي (1/58) .
[4] ) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، سورة الانشراح ، تفسير آية (7).
[5] ) إعلام الموقعين، لابن قيم الجوزية : ( 2/259).
[6] ) أخرجه البخاري : (1/122).
[7] ) أخرجه الترمذي (2715) وقال: (هذا حديث حسن صحيح ) وقد علقه البخاري في صحيحه : (7 /95) جازماً بصحته.
[8] ) أخرجه الحاكم في المستدرك ( 1 / 106 ) والطبراني ( 10 / 10952 ) وقال الهيثمي ( 9 / 277 ) رجاله رجال الصحيح ، وأخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم ( 1 / 85 ) وابن سعد في الطبقات ( 4 / 182 ) .
[9] ) مقدمة ذيل كشف الظنون، لجميل بك العظم.
[10] ) أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
[11] ) تنقيح الفتاوى الحامدية، لابن عابدين
[12] ) العبر وديوان المبتدأ والخبر، لابن خلدون : (2/778 – 779).
[13] ) الجامع لأخلاق الراوي، للخطيب البغدادي: (1/98)
[14] ) الآداب الشرعية،لابن مفلح:(2/45)
[15] ) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمُتعلِّم،لاب ن جماعة الكناني، ص(71).