الأوراق المالية (نشأتها، وتطورها، وجريان الربا فيما بينها)
دبيان محمد الدبيان
لمحة تاريخية مختصَرة في تعريفِ تطوُّر النظام النقدي في العالَم:
مرَّ النظام النقديُّ القائم الآن بمراحلَ تاريخيَّة، تطوَّر فيها من حال إلى حال، حتى وصلَ إلى ما نحن عليه الآن، وما زال يتطوَّر، حتى إنَّ بعض رجال الاقتصاد تنبَّأَ أن نصل في وقتٍ قريب إلى الحال التي لا نحتاج أن نحمِل نقودًا حين نتسوَّق، ونستطيع أن نُدوِّن هذه المراحل باختصار شديد:
المرحلة الأولى: في بدايةِ الحياة البشرية شَعُر الناس بحاجةٍ إلى تبادُل السِّلع، ولما كان الإنسانُ بطبعه يضنُّ ببذْلِ ما لديه إلا بعوض، نشأتِ الحاجة إلى ما يُسمَّى بالمقايضة؛ لأنَّ الناس في تلك الحِقْبة من التاريخ كانتْ معاملاتهم المالية بسيطة، والسِّلع كانتْ محدودة، ومع نموِّ السكَّان، وكثرة السِّلع وَجَدَ الناس أنَّ هذه الطريقة فيها من المشقَّةِ ما تمنع مِن استعمالها كطريقٍ عام يصلُح في كلِّ زمان ومكان، فانتقلوا إلى المرحلة الثانية.
المرحلة الثانية: اختار الناسُ بديلاً للمقايضة ما يُسمَّى نِظامَ النقود السِّلعية، وذلك أنَّ الناس قد اختاروا بعضَ السلع لتستعملَ استعمال الأثمان في معظمِ عقود المبادلة، وانتُقِيتْ من أجل ذلك سِلعٌ يَكثُر استعمالها، وتشتدُّ الحاجة إليها في بيئة خاصَّة؛ كالحبوب الغذائية، والمِلح، والجلود، وما إلى ذلك.
ولكن استعمال هذه السِّلع في التبادل كان فيه مِن مشاكلِ الحَمْل والنقل ما لا يَخْفَى، فلمَّا كثُر العمران، وازدادتِ الحاجة، وكثرتِ المبادلات، شَعُر الناس بحاجة إلى اختيار نَقْدٍ يخفُّ حملُه، وتتوفَّر ثِقةُ الناس فيه، وبهذه انتهتِ المرحلة الثانية في تاريخ النِّظام النقدي، لتبدأ المرحة الثالثة.
المرحلة الثالثة: في هذه المرحلة تَوجَّه الناسُ إلى استخدامِ الذهب والفِضَّة كأثمانٍ في المبادلات لقِيمتها الذاتية في صُنْع الحُليِّ، والأواني، ولسهولةِ حمْلِها، وادِّخارها، حتى أصبحَ هذانِ المعدنان عيارًا للقِيمة يعتمد الناسُ عليها في جميعِ البلاد والأقطار، وقد مرَّ على هذا النِّظام تطوُّرات كثيرة، نستطيع أن نُلخِّصها فيما يلي:
في بداية استخدامِ الذهب والفِضَّة كأثمانٍ كان الناس يستعملونهما على شكلِ قِطع متباينةِ الحجم، والوزن، والنقاء، سواء كانتْ تبرًا، أو مصوغة في صورة الحُلي، أو الأواني وغيرها، وكان التعامُل بها يتمُّ بالوزن.
ثم شَرَع الناسُ في سَبْكِ النقود مِن الذهب في بعضِ البلاد، ومن الفِضَّة في بلاد أخرى، كوحدات متساوية في الحجْم والوزن والنقاء، مختومة بختْم رسمي يَشْهَد بسلامتها، وقابليتها للتداوُل، وكانتْ قيمةُ القطعة الاسمية مساويةً لقِيمة ما تحتويه مِن ذهب أو فِضَّة.
وجَدَ الناس أنَّ القطع النقدية سواء كانتْ مِن الذهب أو الفضة، وإن كان يخفُّ حملها بالنِّسبة إلى السِّلع النقدية، ولكنَّها في جانب آخر يسهُل سَرِقتُها في نفس الوقت، فكان من الصعْب على الأثرياء أن يُخزِّنوا كمياتٍ كبيرةً من هذه القطع في بيوتهم، فبدأ الناس في أوربا في القرن السابع عشر يُودِعون هذه الكمياتِ الكبيرةَ عند بعض الصاغة على أساس أنَّ هؤلاء الصياغ يَملِكون خزائنَ بعيدةً عن السرقة والضياع، في نظيرِ أن يُعطيَهم هؤلاء الصاغة شهادة، أو إيصالاً بما أوْدَعوه بدقَّة، ويتعهَّدوا بردِّ هذه المعادن عندَ الطلب.
ولما ازدادتْ ثِقةُ الناس بهؤلاء الصاغة صارتْ هذه الإيصالات تُستعمَل في دفْع الثمن عندَ البيعات، فكان المشتري بدل أن يدفع القِيمة نقدًا يُسلِّم إلى البائع سندًا مِن هذه الإيصالات بعدَ تظهيره للغيْر، وكان البائعُ يَقْبَلُها ثِقةً بالصاغة الذين أصْدروها.
ثم تطوَّر الأمرُ، وأصبحت هذه الإيصالات متشابهةً؛ بحيث انتفى تدوينُ اسم مودِع السبائك عليها، فأصبحتْ تتداول بدون تظهير، بل بمجرَّد التَّسليم مع بقاء تعهُّدِ الصاغة بالوفاء بها عندَ الطلب بسبائك ذهبيَّة.
هذه هي بدايةُ الأوراق النقديَّة، فهي في بدايةِ أمرها لَم تكن لها صورةٌ رسمية، ولا سُلْطَة تلزم بقَبولها، وإنَّما كان المرجِعُ في قَبولها وردِّها إلى ثِقة البائع أو الدائن بمَن أصدرها.
وحين كثُر تداول الإيصالات في السوق في مطلع القرنِ السابع عشر الميلادي، تَطوَّرتْ هذه الأَوْراق إلى صورةٍ رسميَّة تُسمَّى (البنكنوت)، ويقال: إنَّ بنك "استاك هوم" بالسويد أوَّلَ مَن أصدرها كأوراقٍ نقدية، وكانتْ هذه الأوراق النقدية آنذاك مغطاةً بغطاء كامِل عندَ البنك الذي أصدرها، ومدعومةً بالذهب بنِسبة مائة في المائة، وكان البنك يلتزمُ ألاَّ يُصدِر هذه الأوراق إلا بقدر ما عندَه مِن الذهب، وكان لكلِّ مَن يحمل هذه الأوراق أن يذهبَ بها متى شاء إلى البنك، ويحول ما شاء منها إلى سبائكِ الذهب.
وفي مرحلةٍ ثالثة تبيَّن لأصحاب الصاغة أنَّ الإيصالات التي أصدروها لم تكن في غالب الأحيانِ ترجع إليهم؛ ليصرفوا قيمتها بالمعادن، وإنما جزءٌ يسير مِن حملة هذه الأوراق يقوم بذلك، وهذا ما دفَع أصحابَ الصاغة رغبةً في الربح أن يُصدِروا من الأوراق ما يجاوز قِيمةَ العملة المعدنية المحتفَظ بها لديهم كغِطاء.
وحينئذٍ اضطرت السلطات العامَّة للتدخُّل، وتكليف مؤسَّسات ذات طبيعة خاصَّة (مؤسَّسات الإصدار أو المصارف المركزيَّة)، باحتكارِ إصدار هذه النُّقود، وإحكام رقابتها.
تبيَّن للسلطات في ذلك الوقتِ أنَّه من الصعوبةِ المحافظةُ على مِثل هذه التغطية الذَّهبية الكاملة للنقود الورقيَّة في المدَى الطويل، فاحتياجاتُ النموِّ الاقتصادي وتمويل المشاريع في السِّلْم والحرب تتطلَّب زيادةً مستمرَّةً وملموسة في كميَّة النقود المتداوَلة، بينما الرصيدُ الذَّهبي ينمو بمعدَّلات ضئيلة بفِعْل القيود الطبيعيَّة، فلجأت إلى طبْع كميات كبيرة مِن النقود الورقيَّة تَزيد عن كمية الذهب الموجودة عندَهم؛ لتستعملها في سدِّ حاجاتها، فصار غطاء الأوراق النقدية يتناقص شيئًا فشيئًا، وهبطتْ نِسبةُ دعْمها بالذهب الحقيقي عن المائة بالمائة إلى نِسبةٍ أدْنَى بكثير، وذلك لأنَّ البنوك التي تصدر الأوراق النقدية كانتْ تستيقن بأنَّ جميعَ هذه الأوراق لا يُطلب تحويلها إلى الذَّهب في وقتٍ واحد، وقد قَبِلها الناس رغمَ أنَّ هذه الأوراق لم تكن مدعومةً بالكامل بالذهب نتيجةَ ثقتهم بأنَّ مصدرها يقدِرُ على تحويلها إلى الذَّهَبِ كلَّما طلب منه ذلك، بفضل الذهب الموجود عندَه، وإنْ كانت كمية الذهب أقلَّ مِن كمية الأوراق الصادرة مِن عنده، وأنَّ هذه الأوراق النقدية كانتْ تُسمَّى نقود الثقة.
بدأتْ نقود الثقة تتزايد إلى حدِّ أنَّ الأوراق بلغتْ أضعافَ مقدار الذهب الموجود في البلاد، ممَّا حمل إنكلترا إلى تعطيلِ تحويل هذه الأوراق إلى الذهب بعدَ حرب عام 1914 م، ثم عادتْ إلى جواز التحويلِ في سنة 1925، ولكن بشرْط: أنَّ ما يُطلب من البنك تحويله لا يكون أقل مِن ألف وسبعمائة جنيه بما جعَل عامَّة الناس لا يَقْدِرون على تحويل أوراقهم إلى الذهب، ولكنَّهم لم يحتفلوا بذلك لشيوعِ الأوراق كنقدٍ قانوني تنفعُهم في متاجراتهم الأهلية.
وفي عام 1931م منعتْ حكومة بريطانيا مِن تحويلِ الأوراق إلى الذهب إطلاقًا، حتى ولو طلب أكثر مِن ألف وسبعمائة جنيه، وأَلزمتِ الناس أن يقتنعوا بهذه الأوراق كبديلٍ للذهب، ويَتعاملوا بها في سائرِ مداولاتهم، ولكن الحكومات استمرَّتْ في احترام حقِّ بعضها لبعض، فإنَّ تحويل الأوراق وإنْ كان ممنوعًا داخلَ البلاد، ولكن كانتْ كلُّ دولة ملتزمةً بتحويل عملتها إلى الذهب لدولة أخرى إن تَقدَّمت إليها بعُملة الدولة الأولى، فلو شاءتْ أمريكا مثلاً أن تتقدَّم بأوراق جنيهات إسترلينية إلى إنكلترا، فإنَّ إنكلترا ملتزمة بتحويلِ تلك الأوراق إلى الذَّهَب، ويُسمَّى هذا النظام: قاعدة التعامُل بالذَّهَب.
ظلَّ هذا العمل بهذه القاعِدة مُستمرًّا إلى أنْ واجهتِ الولاياتُ المتحدة أزمةً شديدةً في سعر دولارها، وتدفَّق الذهب منها في سَنَة 1971م، فاضطُرَّتْ إلى إيقاف تحويل الدولار إلى ذهب حتى للدول، وذلك في تاريخ 15 من شهر أغسطس، سنة 1973، وبهذا قُضِي على آخِرِ شكل مِن دعْم الأوراق بالذهب، وأصبحت هذه النقود مُجرَّد قصاصة ليستْ لها قيمةٌ ذاتية كسِلعة، وإنما تُعتبَر قوَّة شِرائية بناء على ثِقة الأفراد فيها وأمر القانون، فاكتمَل بذلك تطوُّر النقود الورقيَّة، حتى أصبحتْ نقودًا ائتمانية خالِصة، بحيث أصبحتِ النقود الورقية تُمثِّل الصورةَ العامَّة للنقود في الاقتصاد المعاصر.
فهي نقودٌ قانونيَّة، يصبغ عليها القانون صِفةَ الشرعية، ولها القُدرةُ على تسويةِ الدُّيون، والإبراء منها، وهي تُمثِّل قِمَّة السيولة، حيث يمكنها أن تتحوَّل مباشرةً إلى سِلع وخِدْمات بحسب قوَّتها الشرائية، أو يحتفظ بها كما هي، وهي أيضًا نقودٌ نهائية؛ أي: لا تتحوَّل إلى ذهب، فلا يجوز لحاملِها تقديمُها إلى المصرف المركزي لتحويلها إلى ذهبٍ أو فِضَّة، وإنما ذلك هو مجرَّد أثرٍ تاريخي فحسب، والشكل الأساسي لهذه النقود يَتمثَّل في أوراقِ البنكنوت التي تُصدرها البنوكُ المركزية، ولها وحدة قياس خاصَّة بكلِّ قُطر، وتخضع لرقابة المصرف المركزي والحكومة، وتُحدَّد كميتها طبقًا للسياسة النقدية المتبعة، واتِّفاقًا مع حاجة المعاملات والمبادلات، وهذا يعني القدرةَ على تغيُّر كميتها حسبَ ظروف الزمان والمكان.
وبهذا نكون قد عَرَفْنا أنَّ النظام النقدي في العالَم لم يكن قائمًا على طَوْرٍ واحد في حقيقتها، ومكانتها النِّظامية، وإنما مَرَّت عليها أدوارٌ وأطوارٌ شتَّى، تنقَّلت فيها مِن كونها سنداتٍ للديون في مبدأ أمرها إلى أن تحوَّلَتْ إلى أثمان عُرْفية، وبهذا نعرِف أنَّ الخلاف الفقهي في تكييفها لا يَرجِع إلى خلافٍ حقيقي، وإنما يرجع إلى الحُكم عليها مِن خلال مراحلِ نموِّها وتطوُّرِها.
فالذي يقول: إنَّها مجرَّد وثيقة بدَيْن، فذلك يَرجِع إلى بدايةِ نشأتها، ومثله الذي يقول: إنَّها قائمةٌ مقامَ الذهب والفضة باعتبار أنها كانتْ في مرحلة مِن تاريخها مغطاةً بالذهب والفِضَّة، وأمَّا الذي يرى أنَّها أثمانٌ عُرْفيةٌ قائمة بذاتها، حَكَم عليها بالنسبة لمآلها التي آلتْ إليه.
ولم يقفِ التطورُ النقديُّ عندَ هذا الحد، بل ما زال الأمرُ يتطوَّر، وما زالتِ المجتمعات تُحدِث أشكالاً من النقود، ونستطيع أن نقول: إنَّ المجتمعاتِ اليوم تَعرِف - وبشكل واسع جدًّا - ما يُعرَف بالنقود الائتمانية، وهذا جزءٌ من تاريخ التطوُّرِ النقدي للمجتمعات الإنسانية، فهو يُعبِّر عن مرحلة مِن مراحلِ تطوُّرِ النقد، ولقد تنبأ الكاتبُ الأمريكي (Edward Beamy) في عام 1888م في كتابه (looking Backward) أنَّه بحلول عام 2000 م سوف يحلُّ محلَّ النقود بطاقاتٌ للشراء محدَّدة القِيمة، وسوف تسمح لحاملها بالحصولِ على الائتمان دونَ الحاجةِ إلى حمْل النقود؛ ليستغنيَ المجتمع بها عن النقود، وستكون النقودُ الائتمانية وبطاقات الائتمان محلَّ عناية لمقال قادم - إن شاء الله - تعالى -.
وبعدَ هذا الموجَز التاريخي للأوراق النقدية نُريد أن نَعرِف حُكمَ جريان الرِّبا فيها بناءً على فَهْم حقيقتها.
خلاف العلماء في جريان الرِّبا في النقود الورقية:
بالنِّسبة إلى رِبا القرْض، فإنَّه يجري فيها قولاً واحدًا؛ لأنَّ ربا القرْض لا يختصُّ بمال دون آخَر، بل كل منفعة مشروطة، أو متعارَف عليها يأخذها المقرِض على المقترِض، فهي مِنَ الربا المُجمَع على تحريمه، وإنَّما الخلافُ في جريان الربا في الأوراق النقدية إنَّما هو في البيوع خاصَّة.
كما أنَّ هذه الأوراق النقدية لم تكن معروفةً عندَ قدماء فقهاء الإسلام؛ لعدمِ تداولها في زَمنهم؛ ولذا سيكون العزوُ في البحْث إلى أقول المتأخِّرين مِن الفقهاء حين توجَّهوا لها بالبحْث بعد أن كثُرَ تداولها، وقامتِ الأسئلة الملحَّة في أحكامها، من حيثُ وجوب الزكاة فيها، وجعلها رأسَ مال في عقْد السَّلَم، وجريان الرِّبا فيها إلى غيرِ ذلك من المباحِث التي تصدَّوْا لها بالبحث، ويرجِع الخلاف فيها إلى خمسة أقوال:
القول الأول: أنَّ الأوراق النقدية إسنادٌ بدَين على جِهة إصدارها، وهي مؤسَّسة النقْد، أو البنك المركزي.
وبه قال الشيخ الشنقيطي في "أضواء البيان"، وعبدالقادر أحمد بن بدران، وأحمد الحسيني، وبعضُ مشيخة الأزهر، وبه أفتَى معظمُ علماء الهند وباكستان.
وقد استندَ أصحابُ هذا القول على ما يأتي:
(1) أنَّ هذه الأوراق ليس لها قِيمةٌ في ذاتها، وإنما قِيمتها في التعهُّد المسجَّل على كلِّ ورقة نقدية بتسليمِ قِيمتها لحاملها عندَ طلبه.
(2) ضرورة تَغطيتها بذَهَب أو فِضَّة، أو بهما معًا في خزائن مُصدِّريها.
(3) ضمان سُلطات الإصدار قِيمتها عندَ إبطالها، ومنع التعامُل بها، بخلاف الذهب والفِضَّة فإنَّ قِيمَتَهما في ذاتهما، ولا تلتزم الحكومةُ بدفع بدلهما عندَ هلاكهما.
كما استَندَ أصحابُ هذا القول إلى ما نصَّ عليه (لاروس)، أكبرُ وأشهر قاموس للغة الفرنسية في تعريفِ أوراق (بنكنوت) حيث يقول: "ورقة البنك عُملةٌ قابلة لدفْع قِيمتها عينًا لدَى الاطلاع لحاملها، وهي يُتعامل بها كما يُتعامل بالعملة المعدنية نفسها، غير أنَّه ينبغي أن تكونَ مضمونةً ليِثقَ الناس بالتعامل بها".
الأحكام المترتبة على هذا القول:
يترتَّب على القول بأنَّ الأوراقَ النقديةَ سنداتٌ بدَين نتائج وأحكام شرعيَّة، من ذلك:
(أ) منْع كلِّ المعاملات التي يُشترَط لصحتها التقابضُ في مجلس العقْد، من ذلك: لا يصحُّ جعلها رأسَ مال في عقْد السَّلَم؛ لأنَّ من شروط صحَّة السَّلَم قبضَ رأس مال السَّلَم في مجلس العقد، والأوراق النقدية تُعتبر سندًا بدَيْن، فلا يُعتبر قبضُها قبضًا لما تحتويه.
كما لا يجوز صرفُها بنقد معدني مِن ذهب أو فِضَّة، ولو كان يدًا بيد؛ لأنَّ مِن شروط الصَّرْف التقابضَ في مجلس العقد، والورقة النقدية على رأيِ أصحاب هذا القول وثيقةٌ بدَيْنٍ غائب عن مجلس العقد.
ومِن ذلك لا يجوز بيعُ ما في الذمَّة بهذه الأوراق حتى لا يُؤدِّي ذلك إلى بيع الكالئ بالكالئ؛ أي: بيع الدَّيْن بالدَّيْن.
(ب) عدم زَكاتها على قول مَن يرى أنَّ الدَّيْن لا تجب زكاتُه قبل قبضه، حتى يقبضَ ما يقابل هذه السندات.
مناقشة هذا القول:
والحقُّ أنَّ هذا القولَ يصدُق على الأوراق النقدية في مرحلة مِن مراحلِ تطورها، فهي كانتْ وثائقَ للديون في مبدأِ أمرها، وليستْ أموالاً، ولا أثمانًا، وأمَّا الآن لا يصدُق عليها ذلك بعد أن أصبحَ لها قِيمةٌ ذاتية؛ لأنَّ التعهُّد القاضي بتسليم المبلغ المرقوم على الورقة والذي كان مطبوعًا على هذه السندات في مرحلةٍ مِن تاريخها قد سُحِب، ولم يَعُدْ مطبوعًا، وقد تحوَّلتْ إلى نقودٍ إلزاميَّة لا تقبل الاستبدالَ بذهبٍ أو فِضَّة.
كما أنَّ الاستدلالَ على سنديتها بضرورةِ تغطيتها جميعًا بذهب أو فِضَّة، أو بهما معًا كان ذلك أيضًا في مرحلةٍ من تاريخها، ولم يعُدْ مُلحًّا الآن، فلم تقُمْ حاجةٌ إلى تغطيتها جميعها، وإنما قد يُغطَّى بعضها، ولا يلزم أن يكونَ الغِطاءُ ذهبًا، بل ربَّما كان مِن أمور عِدَّة، وذلك مثل الذَّهب، والعُملات الورقيَّة القويَّة، وهذه التغطية ليستْ نتيجةً للتعهُّد الصادر مِن مصدريها، ولكن حاجة الاقتصاد إلى وجودِ غطاء داعِم يُوفِّر الاستقرار للاقتصاد، ويدعم حركةَ تبادل المال، ويُوفِّر التزامًا سلطانيًّا بضمان قِيمة النقْد في حال تعرُّضِه للبطلان.
وأمَّا انتفاء القِيمة الذاتية لهذه الأوراق فليس في هذا دليلٌ على سنديتها؛ لأنَّ النقد قد سبَق لنا تعريفُه: بأنَّه ينطبق على كلِّ شيء يَلْقَى قَبولاً عامًّا، ويكون وسيطًا للتبادل، هذا مِن جهة، ومِن جهة أخرى فإنَّ النقود المعدنية لها قيمةٌ أكبرُ مِن قيمتها الذاتية، ومع ذلك لم يقلْ أحد: إنَّ الزيادة على قِيمتها الذاتية تُعتبَر سندًا على الدولة.
وأمَّا ضمان سلطاتِ إصدارها قيمتَها وقتَ إبطالها، ومنْع التعامل بها، فهذا سِرُّ اعتبارها والثقة بتموُّلها، وتداولها؛ إذ إنَّ قِيمتها ليستْ في ذاتها، وإنما هي في ضمانِ السلطات لها، وليس في هذا دَلالةٌ على اعتبارها سندًا بدَيْن على مصدريها.
القول الثاني: إنَّ الأوراق النقديَّة عَرَض مِن العُروض، لها ما للعروض مِنَ الخصائص والأحكام.
وبهذا قال الشيخ عليش المالكي، وعليه كثيرٌ من متأخِّري المالكية، واختاره شيخُ شيخِنا عبدالرحمن السعدي، والشيخ يحيى آمال، والشيخ سليمان بن حمدان، والشيخ علي الهندي، والشيخ حسن أيوب.
وللموضوع تتمة