أسباب النجاة من الفتن (1)

د. مسعد بن مساعد الحسيني



من كتاب موقف المسلم من الفتن


تركنا نبينا صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء، ليلها ونهارها سواء، لا يضل عنها إلا هالك، وكان من بيانه لنا أن بين لنا أسباب النجاة والوقاية من الفتن، كما أنه بمعرفة أسباب الوقوع في الفتن تعرف أسباب النجاة منها.
فمن أسباب النجاة من الفتن ما يلي:
أولا: الاعتصام بالكتاب والسنة

ينبغي للمسلم الاعتصام بالكتاب والسنة وفهمهما على ضوء فهم السلف الصالح، وذلك يعنى العلم بدين الله -تعالى-، والعمل بذلك العلم والتمسك به، بعد فهمه على ضوء فهم السلف الصالح، وذلك ليبقى الفهم منضبطاً والمنهج قويماً، والتمسك بالكتاب والسنة هو أعظم أسباب العصمة والنجاة من الفتن، قال -تعالى-: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آيته لعلكم تهتدون}(آل عمران: 103)، وقال: {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً}(النساء : 17) ، وقال نبيه صلى الله عليه وسلم : «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تهلكوا ولن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي»، وقال: «إن هذا القرآن طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً» (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء

ولما وعظ أصحابه كما في حديث العرباض رضي الله عنه موعظة بليغة؛ وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقالوا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع؛ فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (رواه الإمام أحمد وغيره، وصححه الألباني)، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً؛ فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»، وقال صلى الله عليه وسلم : «لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك».

ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، وقال هذا صراط الله مستقيماً، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً، وقال: «هذه السبل، ما من سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه»، ثم قرأ: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (رواه أحمد).. وقد جاء عن الصحابة والتابعين الحث على التمسك بالكتاب والسنة، والتحذير من مخالفة ذلك، كما جاء عن كثير من أئمة السلف بعدهم؛ فمن ذلك: قول ابن مسعود رضي الله عنه : «الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة».

فإنهم على الهدى المستقيم

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله -تعالى- لصحبه نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه؛ فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم؛ فإنهم على الهدى المستقيم»، وعنه رضي الله عنه ، قال: «تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع، والتعمق، والبدع، وعليكم بالعتيق»، وعنه قال: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة»، وقوله: «قد كفيتم». أي كفيتم التشريع، وإنما عليكم الإتباع.

اتبع ولا تبتدع

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «من تعلم كتاب الله ثم اتبع ما فيه هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب»، وعنه قال: «عليك بتقوى الله -تعالى- والاستقامة، اتبع ولا تبتدع»، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، إنك إن تتبع خير من أن تبتدع، ولن تخطئ الطريق ما اتبعت الأثر»، وعن أبي العالية -رحمه الله- قال: «تعلموا الإسلام؛ فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم؛ فإنه الإسلام، ولا تحرفوا عن الإسلام يميناً وشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء!»، ووصايا السلف في التمسك بالكتاب والسنة على ما كان عليه السلف الصالح أكثر من أن تحصر، وذلك دليل صدق المحبة والمتابعة، كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: «فمن كان محباً لله لزمه أن يتبع الرسول؛ فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله؛ فيحبه الله».

ثانيا: الأخذ عن العلماء الربانيين

الأخذ عن العلماء الربانيين، والرجوع إليهم، والالتفاف حولهم وتوقيرهم فقد أمرنا الله -تعالى- بسؤال أهل العلم فقال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (الأنبياء: 7)، وقال: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: 83)، وفي الحديث: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وذي السلطان المقسط، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه» (رواه أبو داود).

وقوله صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه»؛ فالواجب الأخذ عن العلماء الراسخين الذين يعظمون السنة، ويظهرونها، ويدعون إليها، ويحرصون على جمع الكلمة ولم الشمل؛ فطاعتهم رشاد، والأخذ عنهم هدى، واستشارتهم سداد في الرأي، قال الله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (النساء: 59)، وأولوا الأمر على التحقيق هم العلماء والأمراء، كما نص على هذا غير واحد من المحققين؛ فالعلماء يلون أمر الدين، والأمراء يلون أمر الدنيا، ويحملون الناس على الدين، وقد تقدم الحديث: «إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكنه يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالا؛ فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».

ثالثا: لزوم الجماعة وطاعة أولى الأمر

فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، ومن خرج على الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، كما دلت على ذلك الحاديث.

تلزم جماعة المسلمين وإمامهم

وفي حديث حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر؛ فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دخن» قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله: صفهم لنا، فقال: «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (رواه البخاري).

العاقل لا يترك المنبع العذب

فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عند كثرة وجود الدعاة إلى الشر أن يلزم المسلم جماعة المسلمين وإمامهم، ونحمد الله أن جعل لنا إمامة راشدة وعلماء كباراً يرجع إليهم المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها؛ فالعاقل لا يترك المنبع العذب، ويبحث عن المشارب هنا وهناك. وفي الحديث: «ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أولياء الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم»؛ فهذه الثلاث تنقي القلب، ولا يبقى فيه مع وجودها غش ولا دغل فيسلم من الفتن.