حكم الربا بين المسلم والكافر
فضل ربي ممتاز زادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..
أما بعد:
فهذا بحث في: "حكم الربا بين المسلم والكافر" ويشتمل على العناصر الآتية:
التمهيد: في تعريف الربا.
المسألة الأولى: صورة المسألة.
المسألة الثانية: تحرير محل النزاع.
المسألة الثالثة: الأقوال في المسألة.
المسألة الرابعة: الأدلة والمناقشات.
المسألة الخامسة: الترجيح.
المسألة السادسة: الرد على من تعلق بقول المجيزين في العصر الحاضر.
الخاتمة.
التمهيد: في تعريف الربا:
أ*- تعريف الربا لغة:
الربا لغة: الزيادة والنماء والعلو، وأربيت: إذا أخذت أكثر مما أعطيت، ورباه تربية وتربا أي غذاه، ويطلق هذا على كل ما ينمي كالولد والزرع ونحوه[1].
ب*- تعريف الربا اصطلاحا:
ويطلق الربا في الشريعة على زيادة مخصوصة وهو فيها نوعان:
أحدهما: ربا الجاهلية ويسمى ربا الديون وربا النسيئة، وله صورتان:
الأولى: أن يتقرر في ذمة شخص لآخر دين سواء كان منشؤه قرضا أو بيعا أو غير ذلك فإذا حل الأجل طالبه رب الدين فقال المدين: زدني في الأجل أزدك في الدراهم ففعل.
الثانية: أن يقرض شخص آخر عشرة دراهم بأحد عشر أو نحو ذلك إلى أجل.
والنوع الثاني: ربا البيوع وهو ثابت بالتحريم بقوله- صلى الله عليه وسلم -: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد "[2].
وهو قسمان:
ربا فضل وربا نساء، فإذا باع الشخص غيره درهما بدرهمين أو صاعا من تمر بصاعين منه مع تعجيل البدلين كان ذلك ربا فضل، وإذا باعه دينارا بعشرة دراهم أو صاعا من تمر بصاع من شعير مع تأخير أحد البدلين كان ذلك ربا نساء[3].
المسألة الأولى: صورة المسألة:
من المعلوم قطعاً أن الربا محرم بين المسلمين كأن يباع درهمٌ بدرهمين، ولكن هل يجوز ذلك بين المسلم والكافر سواء كان الكافر حربياً أو معاهداً، وسواء كان ذلك في دار الإسلام أو دار الكفر؟ وإذا قيل بجواز الربا بين المسلم والكافر فهل يجوز أخذاً أو إعطاء أو يجوز الأخذ فقط، وبأن يأخذ المسلم الزيادة؟ اختلف أهل العلم في ذلك وإليك تحرير محل نزاعهم:
المسألة الثانية: تحرير محل الخلاف:
لقد أجمع العلماء على تحريم الربا في دار الإسلام بين المسلم والكافر المعاهد -سواء كان ذميا أو مستأمنا - أخذاً وإعطاء على حد سواء[4].
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى- الإجماع على تحريم جميع المعاملات الفاسدة بين المسلمين وبين الكفار والمعاهدين في دار الإسلام وقال: " وقد أجمع المسلمون على أنه يحرم في دار الإسلام بين المسلمين وبين أهل العهد ما يحرم بين المسلمين من المعاملات الفاسدة "[5] فيدخل في ذلك الربا بين المسلم والكافر المعاهد.
ويدل على محل إجماع أهل العلم ما يلي:
1- الأدلة العامة من الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الربا، فتشمل هذه الأدلة ما ذكر في محل الإجماع ولا يوجد ما يدل على خلاف ذلك[6].
2- أن تعامل المسلمين مع الكفار المعاهدين في دار الإسلام له حكم تعامل المسلمين مع بعضهم فيها؛ لوجوب التزام المسلم بالأحكام الشرعية وعصمة مال المسلمين والمعاهدين من الكفار فيها؛ لأن عقد الذمة يوجب عصمة مال الذمي كما يوجب التزام الذمي بأحكام الإسلام في الدنيا فيما يخص المعاملات، والمستأمنون في دار الإسلام بمنزلة الذميين في ذلك لوجود العهد بينهم وبين المسلمين[7].
3- أن مال كل واحد منهم متقوم معصوم فلا يتملكه غيره إلا بالعقد الصحيح وبناء عليه فإن حرمة الربا ثابتة في حقهم[8].
واتفق أهل العلم على منع الكفار المعاهدين من التعامل بالربا فيما بينهم في دار الإسلام[9].
يقول شمس الدين السرخسي - رحمه الله - تعالى- في ذلك: " فإن دخل تجار أهل الحرب دار الإسلام بأمان فاشترى أحدهم من صاحبه درهما بدرهمين لم أجز ذلك إلا ما أجيزه بين أهل الإسلام وكذلك أهل الذمة إذا فعلوا ذلك "[10].
ويدل على محل اتفاقهم ما يلي:
1- قول الله - تعالى -: (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه)[11].
وجه الاستدلال: أن الآية تدل أنهم نهوا عن التعامل بالربا فالتعامل به منهم فسق فيمنعون من ذلك[12].
2- لأن مالهم في الإسلام متقوم معصوم ولا يمتلكه غيره إلا بالعقد الصحيح والتملك بالربا ليس تملكا بالعقد الصحيح فيمنعون من ذلك[13].
واختلفوا في حكم التعامل بالربا بين المسلم والكافر الحربي في دار الحرب إذا دخلها المسلم بأمان أو غير أمان وفي دار الإسلام إذا دخلها الحربي بغير أمان.
المسألة الثالثة: الأقوال في المسألة
ولأهل العلم في ذلك خمسة أقوال ويمكن حصرها في ثلاثة:
القول الأول: أن التعامل بالربا محرم بين المسلم والكافر مطلقا سواء كان حربيا أو غير حربي كحرمته في دار الإسلام وسواء دخلها بأمان أو بغير أمان وهو قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والظاهرية والإمام أبي يوسف من الحنفية والصحيح من المذهب عند الحنابلة وبه قال الأوزاعي وإسحاق[14].
القول الثاني: لا ربا بين المسلم والكافر الحربي في دار الحرب سواء دخلها بأمان أو بغير أمان وبه قال إبراهيم النخعي - رحمه الله - وهو ظاهر مذهب الحنفية[15] وهو رواية عند الحنابلة ذكرها الماوردي وقال: "وأقرها الشيخ تقي الدين على ظاهرها"[16].
وفي نسبة هذا القول إلى من نسب إليه أرى من المناسب التنبيه إلى ثلاثة أمور:
الأول: قد نسب هذا القول بهذا الإطلاق إلى الحنفية في كثير من كتبهم وكتب غيرهم كما يفيد ذلك ظاهر قولهم؛ ولكن بعض المحققين من علماء الحنفية ذهبوا إلى أن قولهم بالجواز خاص فيما لو كانت الزيادة الربوية للمسلم وأما إذا كانت للكافر فلا يصح بمعنى أنه يجوز للمسلم أن يبيع الدرهم بدرهمين على الكافر الحربي ولا يجوز أن يشتري منه الدرهم بدرهمين.
يقول العلامة ابن الهمام - رحمه الله - تعالى- في معرض ذكر أدلة الحنفية وما ورد عليها من مناقشات: " وهذا التقرير في التحقيق يقتضي أنه لو لم يرد خبر مكحول أجازه النظر المذكور؛ أعني كون ماله مباحا إلا لعارض لزوم الغدر، إلا أنه لا يخفى أنه يقتضي حل مباشرة العقد إذا كانت الزيادة ينالها المسلم والربا أعم من ذلك؛ إذ يشمل ما إذا كان الدرهمان من جهة المسلم ومن جهة الكافر، وجواب المسألة بالحل عام في الوجهين وكذا القمار قد يفضي إلى أن تكون مال الخطر للكافر بأن يكون الغلب له، فالظاهر أن الإباحة تفيد نيل المسلم الزيادة وقد التزم الأصحاب في الدرس أن مرادهم من حل الربا والقمار ما إذا حصلت الزيادة للمسلم نظرا إلى العلة وإن كان إطلاق الجواب خلافه"[17].
وقد أيد ابن عابدين - رحمه الله - ذلك وقال بعد أن ذكر كلام ابن الهمام السابق: " قلت ويدل على ذلك ما في السير الكبير وشرحه حيث قال: (وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب من أنفسهم بأي وجه كان؛ لأنه إنما أخذ المباح على وجه عري عن الغدر فيكون ذلك طيبا له)[18] ثم قال معلقا على ذلك: فانظر كيف جعل موضوع المسألة الأخذ من أموالهم برضاهم فعلم أن المراد من الربا والقمار في كلامهم ما كان على هذا الوجه وإن كان اللفظ عاماً؛ لأن الحكم يدور مع علته غالبا "[19].
وبهذا يتبين أن مذهب الحنفية هو جواز الربا فيما لو كانت الزيادة للمسلم.
الأمر الثاني: ذهب بعض المعاصرين أن الرواية القائلة بالجواز عند الحنابلة تحمل على هذا الوجه أيضاً؛ وذلك بناء على أن التعليل الذي علل به الحنفية قولهم علل به برهان الدين ابن مفلح - رحمه الله - هذه الرواية عند الحنابلة حيث قال: " لأن أموالهم مباحة، وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحاً "[20].
وهذا كما عرفنا عند الحنفية يفيد جواز الأخذ دون العطاء.
ويبدو لي أن تخصيص رواية الحنابلة على هذا الوجه غير مسلم به؛ لأنه لم يوجد في كلام الحنابلة ما يفيد ذلك رغم أنهم يدققون في مثل هذه الأمور، وذكرها المرداوي مطلقة وقارن بينها وبين الرواية القائلة بالجواز في حالة عدم وجود الأمان من حيث كونهما عامة أو خاصة ولم يذكر تخصيصها على الوجه المذكور[21]، كما أن ابن مفلح استدل للرواية المذكورة بالإضافة إلى التعليل المذكور بحديث مكحول الذي سيأتي ذكره وهو عام يفيد جواز الأخذ والإعطاء.
ولا يقال أن الحنفية كذلك استدلوا بحديث مكحول فيحمل قولهم على الحالتين لأنه قد وجد بين الحنفية من صرح بالتخصيص ولم يوجد عند الحنابلة من قال به.
الأمر الثالث: ذكر المرداوي أن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أقر الرواية القائلة بالجواز على ظاهرها، وذكر الدكتور نزيه حماد أنه تتبع في مؤلفات شيخ الإسلام ولم يجد فيها ما يفيد ذلك، بل وجد في كلامه ما يقتضي عكس ذلك وهو قوله: " أن الحربي لو عقد عقداً فاسداً من ربا أو بيع خمر أو خنزير أو نحو ذلك، ثم أسلم بعد قبض العوض لم يحرم ما بيده ولم يجب رده ولو لم يكن قبضه لم يجز له أن يقبض منه إلا ما يجوز للمسلم "[22].
وهذا يقتضي أن لا يبيح من باب أولى للمسلم الذي دخل دار الحرب أن يأخذ منهم الربا[23].
وبناء على ما سبق يمكن القول أن القائلين بالجواز فريقان:
الأول: القائلون بجواز الأخذ والإعطاء وهو ظاهر قول الحنفية وقول الإمام إبراهيم النخعي - رحمه الله - ورواية عند الحنابلة.
الثاني: جواز الأخذ للمسلم دون الإعطاء وهو ما ذهب إليه المحققون من الحنفية وقالوا أنه هو المذهب.
القول الثالث: جواز التعامل بالربا بين المسلم والكافر الحربي إذا كان لا أمان بينهما وهو رواية عند الحنابلة[24].
وذهب الدكتور نزيه حماد إلى جواز الأخذ دون الإعطاء في حالة عدم وجود الأمان بين المسلم والكافر الحربي[25] وهو اختيار الشيخ عمر المترك - رحمه الله - فيما لو دخل المسلم إلى دار الحربي بدون أمان[26].
المسألة الرابعة: الأدلة في المسألة:
استدل الجمهور القائلون بعدم الجواز مطلقا بما يلي:
1- الأدلة العامة الدالة على تحريم الربا من نصوص الكتاب والسنة مثل قوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) [27] وقوله - تعالى -(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)[28] وقوله - تعالى -: (وأحل الله البيع وحرم الربا) [29] وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: « فمن زاد أو استزاد فقد أربى»[30].
وجه الاستدلال: أن هذه الأدلة عامة تدل صراحة على تحريم الربا في كل مكان وعلى كل شخص ولم تخصص قوما دون قوم ولا مكانا دون غيره فيجب الأخذ بها[31].
قال المرداوي - رحمه الله - في ذلك: " والدلالة على أن الربا في دار الحرب حرام كتحريمه في دار الإسلام عموم ما ذكرنا من الكتاب والسنة "[32].
ونوقش هذا الاستدلال بأن إطلاق النصوص إنما يتناول بالتحريم المال المعصوم، وأما المال غير المعصوم كمال الحربي فلا يتناوله إلا لتوقي الغدر[33].
2- أن كل ما كان حراماً في دار الإسلام كان حراماً في دار الحرب كسائر الفواحش والمعاصي وكالربا بين المسلمين في دار الحرب[34].
3- ولأن كل عقد حرم بين المسلم والذمي حرم بين المسلم والحربي كدار الإسلام بجامع الكفر في الكل[35].
4- ولأنه مال مأخوذ بعقد فلم يجز أخذه بعقد فاسد كالنكاح الفاسد إذا أمهر فيه في دار الحرب[36].
ونوقش بأن هناك فرقا؛ لأن البضع لا يستباح بالإباحة بل بالطريق الخاص أما المال فيباح بطيب النفس به وإباحته[37].
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بأن كل ما حرم الله لا يباح بالإباحة والتراضي وطيب النفس، والربا مما حرمه الله.
5- أن حرمة الربا ثابتة في حق العاقدين وأما في حق المسلم فظاهر وأما في حق الحربي فلأن الكفار مخاطبون بالمحرمات لقوله - تعالى -: (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه)[38] ولهذا حرم مع الذمي والحربي[39].
6- أن المسلم إذا دخل دار الكفر بأمان فيلزمه الوفاء بالعهد وأن لا يتعرض لمالهم ولا لشيء من أمرهم وإذا كان الربا جائزا عندهم فلا يجوز في الشرع[40].
واستدل الحنفية ومن معهم بما يلي:
1- ما رواه مكحول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب»[41].
وجه الاستدلال: أن لا ربا ممنوع بين المسلم والحربي في دار الحرب.
وقال السرخسي: "وهذا الحديث وإن كان مرسلاً فمكحول فقيه ثقة والمرسل من مثله مقبول"[42].
ونوقش الاستدلال بالحديث من وجهين:
أ*- من جهة السند: أنه غير ثابت ولا يصح الاستدلال به، قال العيني الحنفي فيه: " وهذا الحديث غريب ليس له أصل مسند"[43] وقال الإمام الشافعي فيه: "هذا ليس ثابت ولا حجة فيه"[44] وقال النووي فيه: "مرسل ضعيف لا حجة فيه"[45].
وأجيب عن هذه المناقشة بأن عدم ثبوته غير مسلم به لأن "جلالة قدر الإمام تقتضي أن لا يجعل لنفسه مذهبا من غير دليل واضح، وأما قوله: "ولا حجة فيه " فبالنسبة إليه لأن مذهبه عدم العمل بالمرسلات إلا مرسل سعيد بن المسيب والمرسل عندنا حجة"[46].
ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأنه يلزم منه قبول قول المجتهدين بلا دليل اعتمادا على "جلالة قدره " وهذا لا يجوز لكون المجتهد غير معصوم من الخطأ، وبعدم التسليم بحجية المرسل مطلقا، وعلى فرض تسليمه حجة فإن هذا المرسل ضعيف كما ذكر الإمام النووي وغيره من العلماء.
ثم إنه لا يقوى على معارضة الأدلة الثابتة على تحريم الربا، يقول ابن قدامة - رحمه الله -: "وخبرهم مرسل لا تعرف صحته ... ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به وهو مع ذلك مرسل محتمل "[47].
ب*- من جهة الدلالة: على فرض التسليم بحجية الحديث فإن المراد به النهي عن الربا في دار الحرب فيفيد التحريم كما يفيد قوله - تعالى -: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)[48] النهي عن الرفث والفسوق والجدال في الحج[49].
يقول الإمام النووي - رحمه الله -: " ولو صح لتأولناه على أن معناه لا يباح الربا في دار الحرب جمعا بين الأدلة "[50].
2- ما رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه قال في خطبة يوم العرفة في حجة الوداع: ((وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله))[51].
وجه الاستدلال: أن مكة كانت دار حرب إلى أن فتحت والعباس -رضي الله عنه- كان ممن تقدم إسلامه قبل ذلك فكان يعيش في دار حرب، وكان تحريم الربا قبل فتح مكة والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أبطل في هذا الحديث ما بقي الربا ولم يبطل ما قبض قبل فتح مكة وبعد التحريم؛ فدل ذلك على جواز التعامل بالربا بين المسلم والكافر في دار الحرب؛ لأنه حكم له بحكم ما كان من الربا قبل تحريمه[52].
وقال الإمام الطحاوي - رحمه الله - في ذلك: " ففي ذلك ما قد دل على أن الربا كان حلالا فيما بين المسلمين والمشركين بمكة لما كانت دار حرب، وهو حينئذ حرام بين المسلمين في دار الإسلام، وفي ذلك ما قد دل على إباحة الربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب"[53].
ونوقش هذا الاستدلال من عدة وجوه:
الأول: أنه ليس هناك دليل على أن العباس -رضي الله عنه- استمر على التعامل بالربا بعد إسلامه.
يقول السبكي - رحمه الله -: " أن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه، فيكفي حمل اللفظ عليه وليس ثم دليل على أنه بعد إسلامه استمر على الربا "[54].
الثاني: على فرض التسليم بأنه استمر على ذلك بعد إسلامه يحتمل أنه لم يكن عالما بتحريمه فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ[55].
الثالث: أنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجاز للعباس - رضي الله عنه - بأن يتعامل بالربا كما أجاز له أن يخفي إسلامه فيكون قضية عين لا يقاس عليه[56].
الرابع: أن سبب تعامل العباس - رضي الله عنه - في مكة -وهي دار الحرب- وقتئذ، هو أن تحريم الربا لم يكن قد استقر بشكل كامل حتى نزل قوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين)[57] وذلك قبيل حجة الوداع بأشهر قليلة، أما قبل ذلك فلم يكن تحريمه باتاً قاطعاً وأكد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع في خطبته ومما يدل على هذا أن تحريم الربا كان على مراحل[58].
3- أنه لما نزل قوله - تعالى -: (الم غلبت الروم) قال المشركون لأبي بكر -رضي الله عنه- ترون أن الروم تغلب فارس فقال نعم، فقالوا له هل لك أن تخاطرنا على نضع بيننا وبينك خطراً فإن غلبت الروم أخذت خطرنا وإن غلبت فارس أخذنا خطرك فخاطرهم أبو بكر -رضي الله عن-ه على ذلك ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك فقال اذهب إليهم فزد في الخطر وأبعد الأجل ففعل ثم ظهرت الروم بعد ذلك"[59].
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أجاز هذه المخاطرة بين أبي بكر والمشركين وأمره بالزيادة في الخطر والأجل ولو لم يكن ذلك جائزاً لما أجاز ذلك وما أمره بما أمر فدل ذلك على جواز التعامل بمثل هذه العقود المحرمة بين المسلم والمشرك في دار الشرك[60].
ونوقش هذه الاستدلال من وجوه:
الأول: أنه منسوخ بنهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر والقمار ويدل عليه ما جاء في رواية عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي أن ذلك كان قبل تحريم الرهان[61].
الثاني: أن المراهنة المحرمة هي ما كانت على باطل لا فائدة فيها للدين وأما ما كانت فيه منفعة للدين وإظهار لأدلته وبراهينه كرهان أبي بكر - رضي الله عنه - فهو مباح والقمار هو أكل أموال الناس بالباطل [62].
الثالث: ما روي أن أبا بكر - رضي الله عنه - لما أخذ الخطر وجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتصدق به ولو كان ذلك طيباً لم يأمره بالتصدق به[63].
4- ما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: ((أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسمة الجاهلية))[64].
وجه الاستدلال: أن ما وقع في دار الجاهلية من قسمة الميراث فإنه يمضي ذلك القسم وإن كانت قسمة مخالفة لأحكام الإسلام، ويقاس على ذلك المعاملة بالربا[65].
ونوقش بأن معناه أن ما تم بين المشركين من عقود قبل الإسلام لا تنقض ولا يتعرض لها ويدل على هذا حديث ابن عباس: "كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام"[66].
5- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أجلى بني النضير قالوا إن لنا ديوناً على الناس لم تحل بعد فقال لهم: ((ضعوا وتعجلوا))[67].
وجه الاستدلال: أن مثل هذه المعاملة غير جائزة بين المسلمين وقد كره ذلك عمر وابنه وزيد بن ثابت وقد أجاز ذلك لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونهم أهل حرب، فدل هذا على جواز مثل هذه المعاملات الفاسدة بين المسلم والكافر الحربي[68].
يتبع