الْأَوْبِئَةُ وَالطَّوَاعِينُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَعُقُوبَةٌ ؛
فَإِنْ أَصَابَتْ مُؤْمِنِينَ قَائِمِينَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ ابْتِلَاءٌ، فَإِنْ صَبَرُوا وَاحْتَسَبُوا أُجِرُوا أَجْرًا عَظِيمًا، فَمَنْ مَاتَ فِي الطاعون يرجى أن ينال أجر الشهادة.
عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَنِي «أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِي
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْه
أخبر الرب تعالى أن ما يحصل للعباد من محن وكوارث ومصائب، فبما كسبت أيديهم، قال تعالى:﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾. وقال سبحانه:﴿ ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
قال الإمام ابن القيّم ـ رحمه الله ـ:
(ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه، وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه،
ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص
ما يجلب عليهم من الآلام، والأمراض، والأسقام، والطواعين والقحوط، والجدوب، وسلب بركات الأرض، وثمارها، ونباتها، وسلب منافعها، أو نقصانها أمورًا متتابعة يتلو بعضها بعضًا، فإن لم يتسع علمك لهذا
فاكتف بقوله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } [الروم: 41]،
ونزّل هذه الآية على أحوال العالم
، وطابق بين الواقع وبينها،
وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان،
وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة،
بعضها آخذ برقاب بعض،
وكلما أحدث الناس ظلمًا وفجورًا،
أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وأهويتهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات،
ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.
وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بد منه،[ مفتاح دار السعادة]
وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْفَوَاحِشَ وَالْبَغْيَ سَبَبَانِ لِلْوَبَاءِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «لم تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه بسند حسن
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا ظَهَرَ الْبَغْيُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ المُوتَانُ.
والمُوتَانُ هُوَ: المَوْتُ الْكَثِيرِ الْوُقُوع.
ان الاوبة والطواعين مؤشرات، لكى نكون من أولي الألباب الذين يتعظون ويعتبرون بما يصيبهم، فما أكثر العبر وما أقل المعتبر
، قال عز وجل:﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ أي لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
وَفِي عَصْرِنَا هَذَا ظَهَرَتْ أَوْبِئَةٌ مَا كَانَتْ تُعْرَفُ مِنْ قَبْلُ؛ كَالْإِيدْزِ وَالسَّارس وَجُنُونِ الْبَقَرِ وَأنْفِلُوَنْزَ ا الطُّيُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَأَيبُولَا وَكُورُونَا وَغَيْرِهَا، حَتَّى إِنَّ مُنَظَّمَةَ الصِّحَّةِ الْعَالَمِيَّةِ سَجَّلَتْ فِي خَمْسَةِ أَعْوَامٍ فَقَطْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَمِئَةِ وَبَاءٍ فِي مَنَاطِقِ الْعَالَمِ المُخْتَلِفَةِ، ، وكأن هذه إشارات وإنذارات من الله لعباده أن ينتبهوا ويتيقظوا، ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
والطاعون : قيل : هو مرض خاص معروف عن العلماء والأطباء ، وقيل : بل هو كل مرض عام (وباء) ، يؤدي إلى وفاة الكثيرين من الناس .
وهذه الأحاديث تدل على أن النهي خاص بمن خرج من بلد الطاعون (أو الوباء) فرارا منه ، أما من خرج لقصد آخر ، كتجارة أو دراسة أو عمل ... : فلا يشمله النهي .
وقد نص على هذا التفريق غير واحد من أهل العلم، بل حكى بعضهم اتفاق العلماء على ذلك.
قال النووي في "شرح صحيح مسلم" :
"الطَّاعُون قُرُوح تَخْرُج فِي الْجَسَد ...
وَأَمَّا ( الْوَبَاء ) فَقَالَ الْخَلِيل وَغَيْره : هُوَ مَرَض الطَّاعُون ، وَقَالَ آخرون : هُوَ كُلّ مَرَض عَامّ ، وَالصَّحِيح الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ : أَنَّهُ مَرَض الْكَثِيرِينَ مِنْ النَّاس فِي جِهَة مِنْ الْأَرْض ، دُون سَائِر الْجِهَات ، وَيَكُون مُخَالِفًا لِلْمُعْتَادِ مِنْ أَمْرَاض فِي الْكَثْرَة وَغَيْرهَا ، وَيَكُون مَرَضهمْ نَوْعًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ سَائِر الْأَوْقَات ، فَإِنَّ أَمْرَاضهمْ فِيهَا مُخْتَلِفَة ...
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث : مَنْع الْقُدُوم عَلَى بَلَد الطَّاعُون ، وَمَنْع الْخُرُوج مِنْهُ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ .
أَمَّا الْخُرُوج لِعَارِضٍ : فَلَا بَأْس بِهِ ...
وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَاز الْخُرُوج بِشُغْلٍ وَغَرَض غَيْر الْفِرَار ، وَدَلِيله صَرِيح الْأَحَادِيث " انتهى .
وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (21/183( :
"وفي ذلك إباحة الخروج ذلك الوقت ، من موضع الطاعون ، للسفر المعتاد ، إذا لم يكن القصد الفرار من الطاعون" انتهى .
وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (3/367) :
"وَإِذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِبَلَدٍ وَلَسْت فِيهِ : فَلَا تَقْدَمْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كُنْت فِيهِ : فَلَا تَخْرُجْ مِنْهُ ، لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ ، وَمُرَادُهُمْ فِي دُخُولِهِ ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ : لِغَيْرِ سَبَبٍ ، بَلْ فِرَارًا ؛ وَإِلَّا : لَمْ يَحْرُمْ " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين" (6/569) :
"والطاعون وباء فتاك والعياذ بالله ، قال بعض أهل العلم : إنه نوع خاص من الوباء ، وأنه عبارة عن جروح وتقرحات في البدن تصيب الإنسان ...... وقيل : إن الطاعون اسم لكل وباء عام ينتشر بسرعة كالكوليرا وغيرها ، وهذا أقرب ، فإن هذا إن لم يكن داخلا في اللفظ ، فهو داخل في المعنى ، كل وباء عام ينتشر بسرعة : فإنه لا يجوز للإنسان أن يقدم على البلد الذي حل فيها هذا الوباء ، وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه .
أما خروج الإنسان منها ، لا فرارا منه ، ولكن لأنه أتى إلى هذا البلد لحاجة ثم انقضت حاجته ، وأراد أن يرجع إلى بلده : فلا بأس" انتهى .
وقال أيضا في "الشرح الممتع" (1/110-111) : "وبالنسبة للطاعون هل يجوز للإنسان أن يخرج من البلد إذا وقع فيه؟
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (لا تخرجوا منه ـ أي من البلد الذي وقع فيه ـ فراراً منه) ، فقيد النبي صلّى الله عليه وسلّم منع الخروج بما إذا كان فراراً ، أما إذا كان الإنسان أتى إلى هذا البلد لغرض أو لتجارة وانتهت، وأراد أن يرجع إلى بلده ، فلا نقول: هذا حرام عليك، بل نقول: لك أن تذهب" انتهى.
وقد زاد الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (10/1990) هذه المسألة تفصيلا ؛ فذكر أن الخروج من بلد الطاعون له ثلاث حالات :
الأولى : أن يخرج فراراً منه لا لقصد آخر ، فهذا يتناوله النهي بلا شك .
الثانية : أن يخرج لقصد آخر غير الفرار ، كالعمل ونحوه ، فلا يدخل في النهي ، وهذا القسم هو الذي نقل النووي رحمه الله الاتفاق على جوازه .
الحالة الثالة : أن يخرج لعمل أو غيره ويضيف إلى ذلك قصد السلامة من الوباء ، فهذا قد اختلف العلماء فيه ، وذكر الحافظ ابن حجر أن مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه جواز الخروج في هذه الحالة .
وهو ما اختاره الإمام البخاري فإنه قد ترجم في صحيحه : "من خرج من الأرض التي لا تلائمه" ، وساق حديث العرنيين ، يستدل به على جواز ذلك ، وفي هذا الحديث : أن جماعة أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وأظهروا الإسلام ، ولكنهم أصابهم مرض من جو المدينة ، حيث لم يوافق أجسامهم ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتداووا من ذلك بألبان وأبوال الإبل ، فخرجوا من المدينة لأن تلك الإبل كانت في مراعيها .
وقد ذكر البخاري ذلك قبل ذكره للحديث الذي فيه النهي عن الخروج من أرض الطاعون فرارا منه ، فقال الحافظ ابن حجر تعليقا على ذلك :
"قوله : " بَاب مَنْ خَرَجَ مِنْ أَرْض لَا تُلَايِمُهُ " ... وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْحَدِيث الَّذِي أَوْرَدَهُ بَعْده فِي النَّهْي عَنْ الْخُرُوج مِنْ الْأَرْض الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّاعُون : لَيْسَ عَلَى عُمُومه ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَخْصُوص بِمَنْ خَرَجَ فِرَارًا مِنْهُ ، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيره إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى" انتهى .[الاسلام سؤال وجواب]
روى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن عوف قصة قدوم عمر إلى الشام وعلمه بالطاعون قبل الدخول في قصة طويلة، وفيها: أن عبد الرحمن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه. قال ابن حجر الهيتمي في فتاويه: اختلف العلماء في الخروج من البلد الذي وقع به الطاعون والقدوم عليه. وظاهر كلام ابن عبد البر والقاضي عياض أن النهي للتحريم، ثم زاد القاضي أن أكثر العلماء على ذلك..... وعلى ذلك جرى ابن خزيمة من أصحابنا... ومن ثم قال التاج السبكي وتبعه المحققون: مذهبنا -وهو الذي عليه الأكثر- أن النهي من الفرار للتحريم، وكلام النووي في شرح مسلم صريح في تحريم القدوم كالفرار حتى قال: فيه منع القدوم على بلد الطاعون والخروج منه فراراً من ذلك، أما الخروج لعارض فلا بأس، هذا هو مذهبنا ومذهب الجمهور. قال القاضي عياض: وهو قول الأكثرين.... ومنهم من جوَّز القدوم عليه والخروج منه فرارا، وهو المشهور من مذهب مالك ثم قال: والصحيح ما قدمناه من النهي عن القدوم والفرار. انتهى. وذكر الحافظ في الفتح: أن من العلماء من أجاز ذلك لمن قويت عزيمته وعُلِم توكله وصبره على ذلك. لكن هل ما سبق ذكره عن الطاعون يشمل كل الأوبئة والأمراض أم هو خاص بالطاعون فحسب؟: قال ابن حجر الهيتمي في فتاويه: وخَرَج بالفرار من محل الطاعون الفرار من أرض الوباء فإنه جائز بالإجماع، كما قاله الجلال السيوطي وعبارته: الوباء غير الطاعون، والطاعون أخص من الوباء، وقد اختص الطاعون بكونه شهادة ورحمة وبتحريم الفرار منه، والفرار من الوباء بغيره كالحُمى وسائر أسباب الهلاك جائز بالإجماع. قال ابن حجر: وما أشار إليه من الفرق بين الوباء والطاعون هو ما عليه الأكثرون خلافاً لبعض المالكية. انتهى. وقال في موضع آخر: ..... فيحرم الخروج منه فراراً والدخول إليه لغير حاجة، هو ظاهر هنا لأنه إذا جاز الخروج لحاجة جاز الدخول قياساً؛ إذ لا يظهر بينهما فرق. انتهى. فالخلاصة أن الراجح من أقوال العلماء أن الأوبئة غير الطاعون فلا تأخذ نفس الحكم، إلا أننا ننصحك بعدم الذهاب والبحث عن عمل في بلد آخر لكي لا تقول بعد ذلك: لو*!!!. والله أعلم. .[الاسلام سؤال وجواب]