السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
عباد الله ...
سورة عظيمة في كتاب الله، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستضعفٌ في شعاب مكة، وما آمن معه إلا قليل، نزلت في خضم المسغبة، في خضم الألم، نزلت والمؤمنون قد حزموا أمرهم، وعزموا عزمهم، تختلط حلاوة الإيمان والتوحيد والتقى بآيات تتنزل من السماء؛ فتشفي وتكفي وتداوي جروح الألم والعذاب.
هناك في بطحاء مكةَ ثلةٌ قليلةٌ مستضعفة لا تكاد تبين، يؤخذون ويعذبون، وعلى مقربة من الكعبة يُوثَقون ويقيدون، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلًا، وقريش في عزها وتلادها تكذب النبي صلى الله عليه وسلم وتؤذيه، ويقولون: ساحر ومجنون، وأمم الكفر من فارس والروم تحيط به، وتتلقف أخباره، وربه يأمره بالدعوة والبلاغ.
وما ثَمَّ بدر ولا فتح مكة ولا وفود القبائل، ولا شيء يلوح من هذا في الأفق إلا مغارمًا للدعوة ثقيلة، وأعباءً تنوء بحملها الجبال.
والرسول صلى الله عليه وسلم ماضٍ في دعوته، لا يعلم ما يخفي له الغيب، ولا يرى شيئًا عن مصير هذه الدعوة التي كلفه الله بها، والمشركون يرَون اجتهاده في العبادة، وإصراره على الدعوة، ومكابدته الليل قيامًا ودعاءً، فيقولون: "ما أنزل الله عليك القرآن يا محمد إلا لشقائك"؛ أي: لتتعنى وتتعب، وهو عليه الصلاة والسلام بشرٌ من البشر يحزن ويتألم؛ قال تعالى: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].
وفي هذه الأثناء تتنزل سورة طه، ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 2 - 5].
في هذه الفاتحة تمهيدٌ لما يرد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاطلاع بأمر التبليغ، وكونه من أولي العزم مثل موسى عليه السلام، وألَّا يكون مفرطًا في العزم كما فرط آدم عليه السلام قبل نزوله إلى الأرض.
وخصَّ موسى عليه السلام بالذكر؛ ليتأسى به صلى الله عليه وسلم في الصبر ومقاساة المصاعب والأوجاع، فنارُ موسى التي أبصرها في طريقه هي نورٌ سينير للناس، ويبشرهم بدينٍ صحيح بعد ظلمة الضلال وسوء الاعتقاد.
عالج موسى بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، ولقي منهم ما لقي، إنه نبي اختاره الله كما اختارك، وألقى محبته في القلوب كما ألقى محبتك، وصنعه الله على عينه كما يصنعك يا محمد على عينه، ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39].
إن التساؤلات التي يسألها هؤلاء المشركون هي عينُ ما سأل فرعون موسى، فقال موسى: ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 50]، ربنا الذي وهب الوجود لكل موجود، كل ذرة فيه تنبض وكل خلية فيه تحيا، وكل شيء فيه يتحرك، وكل كائن فيه يتفاعل في توافق وانتظام، إنه الله؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 50].
وفي سياق السورة يقول الله: ﴿ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾ [طه: 16]، وهذا عباد الله فيه تحذير من كل داعٍ إلى الباطل، يصد عن الإيمان والهدى، يوقع الشبهة في القلب، فلا يستمع له ولا يروج لكلامه وثقافته.
لقد ألقى موسى عصاه فإذا هي حية تسعى، إن عصا موسى عصًا لكل مؤمن، إنها عصا التأييد والنصرة والبرهان، لقد خاف موسى وولى مدبرًا، وهو أقرب شيء من كنف الله وإحاطته؛ فقال الله: ﴿ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ﴾ [طه: 21]؛ قال ابن كثير: "لما أمر موسى بأخذها لف طرف المدرعة على يده، فقيل له: يا موسى، لو أذن الله بما تحاذر، أكانت تغني عنك شيئًا؟ قال: لا، ولكني ضعيف، ومن ضعفٍ خُلقت، ثم كشف عن يده".
لقد كان موسى ذا عقل واسع وفهم ثاقب، فها هو يدرك - وإن امتلئ قلبه باليقين وأن الله معه يسمع ويرى - شدة البلاء، وعظيم وقعه وقلة الصبر عليه، فيطلب ويسأل: ﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾ [طه: 25 - 32]، فأعطاه الله ما سأل، ومع ذلك مع كمال اليقين وتمام الإيمان والأخ الوفي الحكيم، ورعاية الله المباشرة - خاف موسى، ألا ما أشد وقع الفتن إذا لم يُحَطِ المرء بتأييد متكرر وتثبيت مستمر!
وأعاد الله الرحمن على موسى مرةً أخرى وقت المنازلة، لما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم، ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ﴾ [طه: 67، 68]، ليس هذا فحسب، بل ﴿ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ﴾ [طه: 69]، كل ما صنعوا وما حشدوا، لا يعدو يا موسى أن يكون كيد ساحر، كيد ساحر وحسب، هذا هو حجم الباطل وحقيقته، فما تصنع قريش إذًا، وهي التي لم تُعْطَ معشار ما أُعطي فرعون، ولا ما حُشد له ولا ما أنفق؟
إن الذي أيد موسى بهارون سيؤيدك مع نزول هذه السورة بعمر بن الخطاب، ولئن كان هارون عليه السلام رحمة؛ كما قال الله: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ﴾ [مريم: 53]، فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِ ينَ ﴾ [الأنفال: 62]، ولئن عظم على هؤلاء المشركين ترك ملة آبائهم، فإن فرعون سأل عن مصير مَن قبله مجادلًا ومحاولًا انتزاع عبارة من موسى تثير سخط من معه على مصير آبائهم، ترفع موسى عن مجادلته وعن الخوض فيما لا يجدي في ذلك المقام؛ لأن المقام مقام دعوة للأحياء لا البحث عن الأموات، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في ذروة المحاجة والمحاورة مع المشركين؛ قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [ص: 69، 70]، هكذا عباد الله ينبغي البعد عن مجادلة أهل الشبهات والأهواء، وأن يشرع المرء في عمل الخير، والدعوة إليه وأن يفطن أن هناك نفوسًا تأبى الحق، وتتأبى الانسياق له، فلا معنى لقضاء الأوقات وهدرها في كثرة الجدال معها.
ولئن قيل لك: ساحر ومجنون، تريد أن تحوز المجد لنفسك، فقد قيل لموسى وهارون: ﴿ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ﴾ [طه: 63].
ثم قضى الله لبني إسرائيل بالغلبة مع نبيهم موسى عليه السلام، فجاءتهم فتنة السراء، فحذرهم الله أشد تحذير؛ قال الله: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُم ْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ﴾ [طه: 80، 81]، ثم وقعت الفتنة وعبدوا العجل، وما تغير موسى ولا هارون في الأمرين، كانوا دعاةً للحق ثابتين عليه في السراء والضراء.
بارك الله لنا في القرآن العظيم، وهدانا إلى صراطه المستقيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
♦♦♦♦♦
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين؛ أما بعد:
عباد الله، في ختام هذه السورة يقول الله مذكرًا نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]؛ يقول الإمام السعدي رحمه الله: "لقد وصينا آدم وأمرناه وعهدنا إليه عهدًا ليقوم به، فالتزمه وأذعن له وانقاد وعزم على القيام به، ومع ذلك نسي ما أمر به وانتقضت عزيمته المحكمة، فجرى عليه ما جرى، فصار عبرةً لذريته وصارت طبائعهم مثل طبعه، لكنه بادر بالتوبة وأقر بالخطيئة، فغفر الله له ذنبه".
ثم وصاه الله بالصلاة وأمره بها؛ فقال: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]؛ قال ابن كثير رحمه الله:
إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، الرزق الهني الذي لا يجعلك تطغى، أو تظلم، أو تؤثِر أحدًا من الذرية على الآخر.
وقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنًى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلًا، ولم أسد فقرك))؛ ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]؛ أي: حسن العاقبة في الدنيا والآخرة هي الجنة لمن اتقى الله.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت الليل كأنَّا في دار عقبة بن رافع، فأوتينا برطب من رطب ابن طاب، فأوَّلت أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة، وأن ديننا قد طاب)).
أيًّا كانت الأحوال ومهما تقلبت بك الأمور، فإنها ألسنة حق، وسياط صدق تسوقك لربك الكريم، وتذكرك بما هجرت من الدين، وتربط على قلبك، وتعلقك بالله أنسًا ومناجاة، وقد قضى القوم من قبلنا، فخذ من كتاب الله عظاته وتدبر سننه وآياته، ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].
هذا عباد الله، وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه؛ فقال جل من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
يا رب، صلِّ وسلم وبارك على حبيبنا وسيدنا وشفيعنا وقرة أعيننا محمد بن عبدالله وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء المهديين الراشدين أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وذي النورين عثمان، وأبي السبطين علي، وباقي العشرة وأهل الشجرة، وأهل بدر وأحد، وباقي الصحابة الكرام والتابعين وتابعيهم بإحسان وعنا معهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، وأَدِرِ الدائرة على الكفرة والملاحدة والمنافقين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، وانصر عبادك الموحدين المجاهدين فوق كل أرض وتحت كل سماء يا رب العالمين.
اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا وآثامنا وخطايانا، فتحرمنا من الإسلام يا رب العالمين، اللهم أحينا على الإسلام، متعنا به قائمين وقاعدين وراقدين، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، الذين تدفع عنهم الذنب، وتبعدهم عن اقتحام الكبائر والمصائب والمعاصي العظام يا رب العالمين، اللهم اربط على قلوبنا برباط الدين العظيم إله الحق المبين، اللهم وفق شبابنا لما فيه الخير يا رب العالمين واجعلهم من أهل التقى والإيمان، وفق نساءنا يا رب العالمين إلى العفة والحجاب والطهارة والبعد عن مواطن الاختلاط يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين لما فيه خير الإسلام وصلاح المسلمين، ووفق نائب خادم الحرمين لما فيه خير الإسلام وصلاح المسلمين، يا ربي خذ بناصيته إلى البر والتقوى، ووفقه إلى العمل بما ترضى، وقيد له البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتدعوه إليه، واصرف عنه بطانة السوء، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتاهم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/139011/#ixzz6G5vhjsXI