إياكم وخضراء الدِّمن
بسمة عزوزي

لايخفى على أحد أن مقاييس ومعايير اختيار الزوجة قد تغيرت واختلفت اليوم عما كانت عليه في عهود أجدادنا وأسلافنا· فبعد أن كان الحرص على اختيار الزوجة الصالحة المتدينة والمتمسكة بفضائل الأخلاق ومكارمها هو أكثر ما يتطلع إليه الإنسان انعكس الأمر اليوم في زمن الفتنة وانتشار المظاهر الخادعة وضياع المبادئ السامية، حيث أمسى الإنسان يصبو إلى الجمال الفتان والمظهر المثير في المرأة المراد الزواج بها أكثر من اعتباره للتدين السليم والخلق القويم عندها، وهذا ما نهى عنه الإسلام الذي يهدف إلى بناء البيت المسلم القوي الأركان والمرتكز على أساس تربوي مفعم بالصلاح والتدين والخلق الأصيل، لأن ذلك هو الكفيل وحده بالمحافظة على الكيان الأسري من الانهيار سواء على مستوى الزوجين من حيث التعامل فيما بينهما أو على مستوى الأولاد الذين تنساب إليهم تربية الوالدين بشكل تلقائي وطبيعي لكي تحيا الأسرة ويستمر عطاؤها على أصل متين من التربية الدينية التي لا ينكر أحد للزوجة ـ المختارة على أساس من الدين والخلق ـ الفضل العميم في إشاعتهما وترسخ معالمهما في أرجاء الأسرة·
وإذا كان الإسلام يهدف إلى تحقيق هذه الثمرة في كل بيت مسلم فإننا اليوم نلاحظ أن كثيراً من شبابنا الذين لا يكادون يفكرون في مستقبل حياتهم الزوجية والأسرية إذا ما أقبلوا على الزواج جنحوا إلى تفضيل عنصر الجمال الخادع على غيره من العناصر التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: <تنكح المرأة لأربع، لما لها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبت يداك
إن اعتبار جمال المرأة أمر مشروع وحق طبيعي لكن ينبغي أن لا يكون العنصر الحاسم في اختيار الزوجة، فالجمال أمر نسبي لا تجمع عليه كل الاعتبارات البشرية، وخصوصاً أنه بعد ولوج عش الزوجية واستمرار العشرة تتناقص أهميته أمام ما تفرضه مسؤوليات الحياة الزوجية وما يُطلَب من كلا الزوجين القيام به تجاه بعضهما بعضاً، وتجاه الأبناء· لذلك فإن المتأمل ملياً في الحديث النبوي السالف يجد أن تأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عنصر الدين واعتباره أساساً جوهرياً في اختيار الزوجة قبل غيره من العناصر هو ما ينبغي على شبابنا الالتفات والتنبه إليه بقوة، ويكفي من أجل استيعاب أهمية وجدوى هذا الأمر التذكير بأنه بقدر ما حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الدعوة إلى تجاوز عنصر الجمال الذي يخفى لدى المرأة فساداً في الأخلاق ونقصاً في التدين، فقد دعا عليه الصلاة والسلام من جهة أخرى الأسرة المسلمة إلى وجوب مراعاة عنصري الدين والخلق في الشاب الخاطب على اعتبار أنهما أساس الكفاءة المطلوبة فقال: <إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض>، وبذلك فإنه ليس مقياساً أن يكون الرجل غنياً أو جميلاً·
إن الإسلام لم يُؤْثِر الشرط الخُلُقي في المرأة إلا بهدف تحقيق تلك المبادئ والفضائل السامية التي ترفع الإنسان إلى مكانه الكريم، وهي مبادئ لا تغفل الجسد ولا المال، ولكنها تأبى أن تجعلهما كل شيء في موازين الزوجية الناجحة· ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الدارقطني: <إياكم وخضراء الدِّمَن، قيل يا رسول الله وما خضراء الدِّمَن؟ قال: >المرأة الحسناء في المنبت السوء>·
ولفظة الدمن التي جاءت في الحديث جمع دِمْنة وهي المكان المتسخ الذي ينبت فيه النبات الأخضر الناصع <وخُضرة الدمن>مثل يضرب في حسن الظاهر وقبح الباطن، وهو ما يفهم من الحديث الذي جاء محذراً من المرأة التي تبدو حسناء وجميلة ولكنها ـ في واقع الأمر ـ قد تربت في أكناف بيت غير متدين، وفي ظل أسرة لا نصيب لها في الخلق القويم أو المكارم والفضائل الإسلامية، فهي إذاً مثل تلك النبتة الخضراء الخاطفة للبصر، لكن لا يعدو أن تكون بذرتها وجذورها ضاربة في أعماق المزبلة· إن الحديث السابق يحذر المقبل على الزواج من الاغترار بالمظهر والجمال الفاتن وعدم اعتبار العناصر الأساسية في اختيار الزوجة من تدين حسن وخلق نبيل· وحقيقة الجمال لا تعدو أن تكون موضوعاً شعورياً يختلف بين فرد وآخر، فلا يمكن حصرها في لون أو شكل إلا على أساس من النسبية التي تفرضها البيئة··· وهي نسبية لا ثبات لها في ذاتها·
ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذي يهدف إلى الزواج مبتغياً به غير ما هو مقصود منه من تكوين أسرة مسلمة فاضلة وملتزمة فإنه يعامل بنقيض مقصوده· فيقول: <من تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقراً، ومن تزوج امرأة لحسبها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج امرأة ليغض بها بصره ويحصن فرجه أو يصل رحمه بارك الله له فيها وبارك لها فيه>· ولا شك أن القصد من هذا الحظر النبوي هو التحذير من أن يكون الهدف الأول من الزواج هو الاتجاه نحو تلك الغايات الدنيا الفانية التي لا ترفع من شأن صاحبها ولا تسمو به، بل الواجب أن يكون عنصر التدين متوافراً أولاً لأن الدين هداية للعقل وإيقاظ للضمير، ثم تأتي بعد ذلك الصفات والعناصر الأخرى التي يميل إليها الإنسان بطبعه وفطرته·
وأخيراً لا نجد ما نختم به أفضل من الحديث الذي رواه عبد بن حميد والذي جاء فيه: <لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يُرْديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأَمة خَرْمَاء ذاتُ دِين أفضل