حذيفة بن اليمان... كاتم السر
عباس توفيق


نسبه:
هو حذيفة بن حِسْـل "حُسَيل" بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جِروة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عبس العبسي القطيعي من بني عبس بن بغيض بن رَيث بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان العبسي بن غطفان[1]. وكانت كنيته أبا عبد الله.
واشتهر بين المسلمين باسم حذيفة بن اليمان، واليمان لقب قيل إنه غلب على أبيه حِسْل وقيل إنه لقبُ جروة بن الحارث الذي هو جَدُّ جَدّه والذي فر إلى المدينة لدمٍ أصابه فحالف بني عبد الأشهل من الأنصار وهم من اليمن فسماه قومه اليمان[2].
وأمه هي الرباب بنت كعب بن عدي بن عبد الأشهل، وهي من الأنصار[3].
إسلامه وجهاده:
ليس من الواضح أين كان سكن حذيفة عند ظهور الإسلام، ففرار جد جده إلى المدينة ومحالفته لبني عبد الأشهل يقتضيان ترجيح سكنه في المدينة، وربما يعزز هذا أنه اختار النصرة حين خيّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينها وبين الهجرة[4]. غير أن اعتراض كفار قريش له ولأبويه حين هاجروا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني أنه كان في مكة أو في حدودها التي كان لقريش سلطان عليها.
ومهما يكن، فقد أوصل نفسه إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - الذي آخى بينه وبين عمار بن ياسر[5]. ولكنه لم يشهد وقعة بدر لأن كفار قريش أخذوه وأخذوا أباه عندما خرجا لئلا يريدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكرا وقالا إنما هما يقصدان المدينة فأطلقوهما لحصولهم منهما على عهد الله وميثاقه بعدم القتال مع المسلمين، وبعد وصولهما إلى المدينة أخبرا النبي - عليه الصلاة والسلام - بهذا العهد فصرفهما عن المشاركة في بدر وقال: (( نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم))[6].
وأما الوقائع الأخرى فقد شهدها وشارك فيها، وقُتل أبوه في معركة أحد خطأً بيد بعض المسلمين إذ ظنوه من المشركين فشدوا عليه وبلغوا منه المقتل قبل أن ينتبهوا إلى صياح حذيفة فيهم أنه أبوه، وتصدق حذيفة بديته على المسلمين[7].
وفي يوم الخندق بعث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صفوف قريش في سرية وحدَهُ ليستطلع أخبار القوم فجاءه بخبر عزمهم على الرحيل[8]. وقد وردت الحادثة مرويّة عن حذيفة نفسه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في ليلة شديدة الريح والبرد لأصحابه الذين كانوا معه: (( ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة))، فسكتوا جميعاً وأعاد - عليه الصلاة والسلام - السؤال مرتين أخريين فسكت القوم أيضاً فانتدب عندئذ حذيفة بالتعيين قائلاً: (( قم يا حذيفة فأْتِنا بخبر القوم))، يقول حذيفة: " فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: اذهب فأْتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليَّ، فلما ولّيتُ من عنده جعلتُ كأنما أمشي في حمّامٍ حتى أتيتهم فرأيتُ أبا سفيان يُصْلي ظهره بالنار، فوضعتُ سهماً في كبد القوس فأردتُ أن أرميه فذكرتُ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تذعرهم عليَّ))، ولو رميتُه لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمّام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغتُ قررْتُ، فألبسني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضْل عباءة كانت عليه يصلّي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحتُ فلما أصبحتُ قال: (( قم يا نَومان))[9].
كاتم السر:
وحذيفة معروف بين الصحابة بأنه كاتم سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرّفه - عليه الصلاة والسلام - بأسماء المنافقين الذين أرادوا الغدر به في أثناء عودته من تبوك وبأسماء مَن عداهم من المنافقين، وكان عمر - رضي الله عنه - يسأله عنهم، ويراقبه في الموتى ولا يشهد الجنازة التي لا يرى حذيفة يحضرها[10].
وكان حذيفة يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشر مخافة أن يدركه[11]، وفي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبره بما هو كائن إلى قيام الساعة " فما منه شيء إلا قد سألته، إلا أني لم أسأله: ما يُخرج أهل المدينة من المدينة؟ "[12]. وسئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن حذيفة فقال: " علِمَ المنافقين وسأل عن المعضلات فإن تسألوه تجدوه بها عالماً"[13].
دوره في زمن الخلفاء:
كان حذيفة - رضي الله عنه - على ميسرة جيش عمار بن ياسر الذي وجهه عمر من الكوفة إلى تستر لإسناد جيش أبي موسى الأشعري الذي كان متجهاً إليها ليفتحها[14]، كما أنه جعله قائداً للجيش الخارج من الكوفة إلى نهاوند لمساندة النعمان بن مقرن الذي جعله عمر قائداً لجيشه وللجيوش التي بعث بها إسناداً له، وأمر عمر أن يتولى حذيفة قيادة تلك الجيوش إذا أصيب النعمان[15]، وقد تولاها بعد انكشاف الموقف إثر استشهاد النعمان بن مقرن في أثناء فتح نهاوند سنة 21 هـ، وصالح أهل نهاوند على الخراج والجزية وأمّنهم على أموالهم وأنفسهم وذراريهم وسميت نهاوند يومئذ بماه دينار[16].
غير أن الطبري ذكر ماه دينار وكأنها قصبة أخرى وأن حذيفة صالح أهلها بعد فتح نهاوند[17] ونقل ياقوت الحموي عن البعض أن ماه دينار هي كورة الدينور[18].
وواصل حذيفة فتح ولايات أخرى كهمذان والري والدينور سنة 22هـ[19]، وشهد فتح الجزيرة ونزل نصيبين. وصالح بعضها بعد قتال شديد كأذربيجان، وفي هذا قال ياقوت الحموي إنها فُتحتْ "في أيام عمر بن الخطاب، - رضي الله عنه -، وكان عمر قد أنفذ المغيرة بن شعبة الثّقفي والياً على الكوفة، ومعه كتاب إلى حذيفة بن اليمان، بولاية أذربيجان، فورد الكتاب على حذيفة وهو بنهاوند، فسار منها إلى أذربيجان في جيش كثيف، حتى أتى أردبيل، وهي يومئذ مدينة أذربيجان. وكان مرزبانها قد جمع المقاتلة من أهل باجروان، وميمذ، والبذّ، وسراو، وشيز، والميانج، وغيرها، فقاتلوا المسلمين قتالا شديدا أياماً، ثم إن المرزبان صالح حذيفة على جميع أذربيجان، على ثمانمائة ألف درهم وزن، على أن لا يقتل منهم أحدا، ولا يسبيه، ولا يهدم بيت نار، ولا يعرض لأكراد البلاشجان، وسبلان، وميان روذان، ولا يمنع أهل الشيز خاصّة من الزّفن في أعيادهم، وإظهار ما كانوا يظهرونه، ثم إنه غزا موقان، وجيلان، فأوقع بهم، وصالحهم على إتاوة، ثم إنّ عمر، - رضي الله عنه -، عزل حذيفة"[20].
وأما في الأعمال المدنية فقد ولاه عمر الجهة التي سماها بـ: "ما سقت دجلة وما وراءها"، وكانت ضمن حدود ولاية الكوفة، فكتب إلى أهلها: إني بعثتُ إليكم عمارَ بن ياسر أميراً وعبدَ الله بن مسعود معلماً ووزيراً ووليتُ حذيفة بن اليمان ما سقتْ دجلة وما وراءها ووليتُ عثمان بن حنيف الفرات وما سقى"[21]، وأناط به مسح سقي الفرات[22].
ومن المهام التي جعلها عمر في حذيفة ولاية المدائن[23] ولكن لم يردْ تاريخٌ محدد لهذه الولاية. ومن المعروف أن سلمان الفارسي كان يقوم بإمرتها، وقد توفي في عام 36هـ[24] وهو العام الذي توفي فيه حذيفة أيضاً، ومع أن سلمان الفارسي كان يزهد في الإمارة كما في قوله: " إن عمر أكرهني، فكتبت إليه فأبى عليَّ مرتين، وكتبتُ إليه فأوعدني"[25] إلا أننا لا نجد نصاً يفيد أن عمر أعفاه، وفي الوقت عينه نجد ما يفيد أن عمر ولّى حذيفة على المدائن وكتب إلى أهلها " اسمعوا له وأطيعوا وأعطوه ما سألكم". فخرج حذيفة من عند عمر على حمار مُوْكَفٍ[26] تحته زادُه، فلما قدم استقبله الدهاقين[27] وبيده رغيفٌ وعَرقٌ من لحم[28]، وعندما
تلا عليهم عهْده طلبوا منه أن يسأل ما يشاء فقال: " طعاماً آكله وعلَفَ حماري هذا، ما دمت فيكم، من تبن"[29].
ولعل هذه التولية كانت بعد فتوح الري وهمذان والدينور سنة 22هـ وقبل استشهاد عمر في أواخر سنة 23هـ.
وفاته:
بقي حذيفة والياً على المدائن إلى أن توفي فيها سنة ست وثلاثين، وقيل خمس وثلاثين، بعد استشهاد عثمان بن عفان بأربعين ليلة[30]، وأوصى ولديه صفوان وسعيداً أن يبايعا علياً بن ابي طالب فبايعاه وقاتلا معه في معركة صفين واستشهدا فيها[31].
ومع أن وفاته كانت في المدائن إلا أنه لم يُدفن فيها أول الأمر، وهذا واضح من الوصف الذي أعطاه ياقوت الحموي للمدائن حيث اكتفى بذكر قبر سلمان الفارسي فيها فقال: "وبالمدينة الشرقية قرب الإيوان قبر سلمان الفارسي، - رضي الله عنه -، وعليه مشهد يزار إلى وقتنا هذا"[32].
ولعل دفنه كان بقناطر حذيفة التي حملت اسمه لأنه نزل عندها أو رمّها وأعاد عمارتها[33]. وتقع قناطر حذيفة في سواد بغداد وقريبةً من نهر دجلة.
وفي الثلث الأول من القرن العشرين كاد تيار النهر يجرف قبره فجرى نقل جثمانه إلى المدائن في حوالي عام 1932 بتشييع عسكري مهيب شارك فيه ملك العراق يومئذ ورجالات دولته ودُفن قريباً من سلمان الفارسي[34].
-------------------------------
[1] الاستيعاب 1:334، تهذيب الأسماء واللغات 1: 154

[2] المصدران السابقان

[3] الاستيعاب 1: 334

[4] الإصابة 2: 39، أسد الغابة 1: 706

[5] سير أعلام النبلاء 2: 362

[6] صحيح مسلم حديث رقم 1787، المعجم الأوسط 8: 213

[7] تهذيب الأسماء واللغات 1: 154، سير أعلام النبلاء 2: 362

[8] الاستيعاب 1: 334، تهذيب الأسماء والصفات 1: 154

[9] صحيح مسلم حديث رقم 1788، صحيح ابن حبان حديث رقم 7125

[10] الاستيعاب 1: 335

[11] صحيح البخاري حديث رقم 7084، السلسلة الصحيحة حديث رقم 2739

[12] صحيح مسلم حديث رقم 2891

[13] سير أعلام النبلاء 2: 363

[14] معجم البلدان 2: 30

[15] صحيح ابن حبان حديث رقم 4756، تاريخ الطبري 4: 127، 115-118، البداية والنهاية 10: 117-118

[16] معجم البلدان 5: 49

[17] تاريخ الطبري 4: 137

[18] معجم البلدان 5: 49

[19] الاستيعاب 1: 335

[20] 1: 129 معجم البلدان

[21] تاريخ الطبري 4: 139

[22] معجم البلدان 3: 275

[23] تهذيب الأسماء واللغات 1: 154، ويرى ياقوت أنها سميت المدائن لأنها كانت مسكن الملوك من الأكاسرة الساسانية وغيرهم فكان كلّ واحد منهم إذا ملك بنى لنفسه مدينة إلى جنب التي قبلها وسماها باسم، فأولها المدينة العتيقة التي لزاب...ثم مدينة الإسكندر ثم طيسفون من مدائنها ثم اسفانبر ثم مدينة يقال لها رومية فسميت المدائن بذلك ينظر:معجم البلدان 5: 74-75

[24] سير أعلام النبلاء 1: 554، وفي كتاب الوفيات لابن قنفذ ص 5 أن وفاته كانت سنة 35هـ

[25] سير أعلام النبلاء 1: 547

[26] الإكاف والأكاف أي البرذعة، وهي ما يوضع على ظهر الحمار ليُركب عليه

[27] كبار رجال المدائن وتجّارها

[28] سير أعلام النبلاء 2: 363

[29] المصدر السابق 2: 366

[30] المصدر السابق 2: 363

[31] الاستيعاب 1: 335، تهذيب الأسماء واللغات 1: 154

[32] معجم البلدان 5: 75

[33] معجم البلدان 3: 275، 4: 400