مدخل إلى علم الفقه
ربيع أحمد

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وبعد:
فهذا تعريف بسيط بعلم الفقه كمدخل لمن يريد دراسته، فأسأل الله التوفيق والسداد.
أخوتاه علم الفقه كسائر العلوم لكي نجيده نحتاج إلى الإلمام بعشرة عناصر ألا وهي: الاسم والحد (التعريف)، والموضوع والفائدة وشرف تعلمه والواضع لهذا العلم ونسبة هذا العلم للعلوم الأخرى واستمداد هذا العلم من أي شيء يؤخذ هذا العلم وحكم تعلم هذا العلم ومسائل هذا العلم.
قال الشاعر:
إن مبادئ كل فن عشرة *** الحد والموضوع ثم الثمرة
فضله نسبة والواضع *** الاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى *** ومن درى الجميع حاز الشرف
وبتطبيق هذا الكلام على علم أصول الفقه نستطيع أن نلم به إلماماً جيداً.
أولاً: الاسم: الفقه.
ثانياً: الحد أو التعريف: الفقه له معنى لغوي ومعنى اصطلاحي، والمعنى اللغوي أي الذي في عرف أهل اللغة واللغة هي وسيلة التفاهم بين الناس وأداة التعبير عن المعاني التي يستخدمونها وتتكون من كلمات أو اللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم [1] والمعنى الاصطلاحي أي الذي في عرف أهل هذا العلم - ألا وهم الفقهاء، والاصطلاح مشتق من الصلح والطاء في اصطلاح مبدلة عن التاء، وأصلها اصتلاحاً من الصلح كأن أصحاب هذا الفن تصالحوا فيما بينهم على هذا المعنى لهذه الكلمة[2]، والفقهاء يذكرون المعنى اللغوي للكلمة مع المعنى الاصطلاحي لأجل أن نعرف الارتباط بين المسمى الشرعي والمسمى اللغوي حتى يتبين لنا أن المصطلحات الشرعية لم تكن خارجة عن نطاق المعاني اللغوية خروجاً كاملاً بل هناك ارتباط، ولهذا تجد الفقهاء - رحمهم الله - كلما أرادوا أن يعرفوا شيئاً قالوا: هو في اللغة كذا وفي الاصطلاح كذا؛ ليبين لك الارتباط بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي[3].
أخوتاه نعود لتعريف الفقه، أما الفقه لغة فهو: الفهم[4] قال - تعالى-: ( قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ) [5] أي ما نفهم كثيراً مما تقول، والفقه اصطلاحاً هو: معرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة (المستفادة) من أدلتها التفصيلية، قلنا معرفة، ولم نقل العلم وقلنا معرفة؛ لأن كلمة معرفة تشمل معرفة الشيء على حقيقته (العلم) أو على غير حقيقته (الوهم) وعلى حقيقته مع احتمال مرجوح (الظن) أو على حقيقته مع احتمال مساو (الشك) والأحكام الفقهية أو الأحكام الشرعية العملية منها اليقيني ومنها الظني أي ليست كل مسائل الفقه قطعية أي ليست كلها تعرف على حقيقتها؛ لذلك من الخطأ القول بأن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وقلنا الأحكام الشرعية أي المنسوبة إلى الشرع المنزل من عند الله فالأحكام منها الأحكام الشرعية والأحكام غير الشرعية، والأحكام غير الشرعية كالأحكام العقلية البديهية التي تعرف بالعقل كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، وكالأحكام الحسية التي تعرف بالحس كالعلم بأن الشخص له رجلان ويدان ورأس فهذا علم عن طريق الحس أي بالحواس، وقلنا الأحكام الشرعية العملية؛ لأن الشرع هو ما أنزله الله من الأحكام علمية أو عملية أو تهذيبية الأحكام العلمية هي الأحكام التي تختص بما يجب العلم به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر وهذا يختص به علم العقيدة، والأحكام العملية هي التي تختص بالعبادات كالصلاة والصوم، والمعاملات كالبيع والشراء والنكاح، ويختص بمعرفة العبادات والمعاملات علم الفقه، والأحكام التهذيبية سلوك الفرد مع نفسه ومع غيره، ويختص بدراستها علم الأخلاق أو الآداب، وقلنا المستفادة لتفريق بين علم الفقيه الذي من الأدلة كتاب أو سنة أو ما يرجع إليهما وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي من الوحي مباشرة، وقلنا الأدلة التفصيلية أي الأدلة التي في أعيان المسائل التي لكل مسألة على حدة خلافاً للأدلة العامة أو الإجمالية التي ينطوي تحتها عدة مسائل، فمثلاً قولنا الخمر حرام؛ لأن الله قال: ( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) [6] والخمر من الخبائث إذاً الخمر محرمة فهذا دليل عام؛ لأن الخمر واحدة من الخبائث والخبائث كثيرة فأي شيء من الخبائث يقال أنه محرم؛ لأنه من الخبائث أما لو قيل الخمر محرمة؛ لأن الله يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [7] فهذا دليل في عين المسألة أي دليل تفصيلي عرفنا هكذا أصول الفقه من ناحية مفرداته، والآن نعرفه باعتباره علم على علم مخصوص وباعتبار المركب كله أي كلمة أصول الفقه كلها، وهو أن أصول الفقه هو العلم الذي يختص بكيفية استنباط الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية.
ثالثا: موضوع الفقه: موضوع الفقه هو فعل المكلف من حيث ما يثبت له من الأحكام الشرعية العملية في عباداته ومعاملاته كالوجوب والندب والكراهة والتحريم والإباحة، فالفقيه يبحث في بيع المكلف وإجارته ورهنه وتوكيله وصلاته وصومه وحجه وقتله وسرقته وإقراره ووقفه لمعرفة الحكم الشرعي في كل فعل من هذه الأفعال[8].
رابعا: فائدته (ثمرته): الغاية من الفقه هي معرفة الأحكام الفقهية لكل فعل من أفعال المكلفين[9].
خامسا: استمداده: القرآن والسنة وما يرجع إليهما من أدلة الأحكام كالإجماع والقياس.
سادسا: نسبة علم الفقه للعلوم الأخرى: مرتبة علم الفقه من العلوم الأخرى أنه من العلوم الشرعية.
سابعا: الواضع لعلم أصول الفقه: واضع هذا العلم نقصد من نقله وفصله، ولا يقصد به الذي أنتجه وأبدعه؛ لأن هذه الأحكام الفقهية جاءت من عند الله في القرآن، فالله - سبحانه وتعالى- هو الذي علمنا إياها، لكن من فصله وأخرجه عن غيره من العلوم هذا هو المراد بالواضع هنا، ولابد أن نفرق بين تدوين العلم وبين جود العلم فالعلم موجود في أذهان العلماء، وقد يدون، وقد لا يدون، والتدوين يكشف عن وجود العلم لا موجد العلم، وقد نشأت أحكام الفقه مع نشأة الإسلام؛ لأن الإسلام مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام العملية، وأول من دون في علم الفقه الإمام مالك في كتابه الموطأ فإنه جمع فيه بناء على طلب الخليفة المنصور ما صح عنده من السنة ومن فتاوى للصحابة والتابعين وتابعيهم فكان كتاب حديث وفقه وهو أساس فقه الحجازيين ثم دون أبو يوسف صاحب أبي حنيفة عدة كتب في الفقه هي أساس فقه العراقيين، ودون محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كتب ظاهر الرواية (ستة كتب) واختصرها محمد بن محمد بن أحمد الذي عرف بالحاكم الشهيد (344ه) حين رأى - رحمه الله - إعراضا من بعض المتعلمين عن قراءة أحد كتب محمد بن الحسن (كتاب المبسوط)لإسهابه وتكرار مسائله وهذا المختصر سماه الكافي الذي يعد أصلا من أصول المذهب الحنفي ومن أقوى شروح هذا الكتاب كتاب المبسوط لشمس الأئمة السرخسي (490ه) الذي أملاه وهو في السجن، وقد أملى الشافعي بمصر كتابه الأم وهو أساس فقه المذهب الشافعي [10].
ثامناً: فضل علم الفقه: لقد حث الشرع على التفقه في الدين ومن يتفقه في الدين يعبد الله على بصيرة فإنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيرا يفقه في الدين))[11] والفقه في هذا الحديث بمعنى أوسع من الفقه اصطلاحا فالمراد به فقه الدين كله من عقيدة وعبادات ومعاملات وأخلاق، ويتضح من هذا أن من الفقه في الدين فقه الأحكام الشرعية العملية (الفقه) فبالفقه يعبد العبد ربه حق عبادته بلا ابتداع ولا إفراط ولا تفريط، ويسير به العبد إلى ربه في عبادته ومعاملاته، ويعرف المسلم كيف يعبد ربه، وكيف يتوضأ وكيف يغتسل وكيف يصلي وكيف يزكي وكيف يصوم وكيف يحج وكيف يعتمر، ويميز بين الحق والباطل، ويميز بين الحلال والحرام هذا غيض من فيض من فضل هذا العلم.
تاسعاً: مسائل الفقه: مسائل الفقه هي الأحكام الشرعية العملية التي تتعلق بأفعال المكلفين كصلاتهم، وصومهم، وبيوعهم، وجناياتهم، وكل ما يتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم، ويخرج بذلك الأحكام الاعتقادية (العلمية) والسلوكية (التهذيبية)، فلا تبحث في كتب الفقه.
عاشراً: حكم تعلم الفقه: من الفقه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية فيجب معرفة الأحكام الفقهية التي فرض الله علينا فعلها؛ لأن كل ما فرض الله فعله فرض العلم به فكيف يعمل الفعل دون معرفته وتعلمه؟ والقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فالشخص يجب عليه فعل ما أمر الله به، ولكي يفعله لا بد من معرفته وتعلمه إذا يجب معرفة وتعلم ما أوجبه الله ككل عبادة أوجبها الشرع على كل واحد، فعليه معرفتها قبل مزاولتها مثل علم الزكاة يجب على الإنسان معرفته قبل مزاولته، وعلم الحج يجب على الإنسان معرفته قبل مزاولته، أما ما عدا ذلك فهو من فروض الكفايات كدقائق علم الفقه ومسائل الأصول وغيرها من العلوم التي هي من قبيل فرض الكفاية.
وأخيراً: أخوتاه كيفية دراسة الفقه ونقول دراسة الفقه هي درس الفقه، والدرس هو تجزئة الشيء ليسهل الانتفاع به أي أن دارس الفقه يجزئ الفقه أجزاء كي يسهل عليه استيعابها، ومن يرد أن يبدأ دراسة الفقه فليبدأ بعد إخلاص النية لله - بأن يقصد التعبد لله بهذا العلم وأن يتخلص من جهالته فيعبد الله - جل وعلا - على بصيرة - بدراسة المتون الفقهية المختصرة وتقديمها على المطولات هكذا تعلمنا من المشايخ، وهكذا تكون المنهجية العلمية الصحيحة في الدراسة، مثلاً: يبدأ بعمدة الفقه لابن قدامة لو أراد أن يبدأ بالمذهب الحنبلي و المذهب الحنبلي أكثر المذاهب حيطة أو يبدأ بمتن المهذب للشيرازي أو متن أبي شجاع لو أراد أن يبدأ بالمذهب الشافعي، والمذهب الشافعي في نظري أكثر المذاهب صحة ثم بعد اختيار المتن الذي يدرسه طالب العلم يأخذه ويضبط مسائل كل باب فيه مثلا باب الطهارة مسائله كذا وكذا، باب الصلاة مسائله كذا وكذا ولاستيعاب أي مسألة لابد أن تتصورها فالحكم على الشيء فرع عن تصوره المسألة كذا ثم بعد تصور المسألة تعرف حكمها من حيث الإيجاب والندب والتحريم...أو هي شرط أو ركن وغير ذلك ثم بعدما عرفت الحكم تعرف ما دليل هذا الحكم ثم بعد معرفة دليل الحكم لابد أن تعرف وجه الاستدلال وهو استخدام أصول الفقه في النظر في الأدلة، تقول لنفسك كيف استنبط من هذا الدليل ذلك الحكم وبعدما عرفت وجه الاستدلال لابد أن تعرف الخلاف في المسألة تسأل نفسك ما هو الخلاف في المسألة؟ إن كان هناك من خالف في المسألة تعرفه وتعرف دليله ووجه استدلاله من دليله ثم تناقش دليله هل دليله صحيح أم لا ثم إن كان دليله صحيح هل يصح الاستدلال بهذا الدليل؟
والعلم يحتاج لهمة عالية لا للتقاعس ومرحبا بالرفق.
هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــ
[1]- الخصائص لابن جني
[2]- انظر شرح الأصول من علم الأصول لابن عثيمين ص 45 المكتبة التوفيقية
[3]- شرح الأصول من علم الأصول لابن عثيمين ص 38
[4]- انظر لسان العرب لابن منظور والمصباح المنير للفيومي والقاموس المحيط للفيروز آبادي مادة فقه
[5] - سورة هود من الآية 91
[6] - سورة الأعراف من الآية 157
[7] - سورة المائدة من الآية 90
[8]- علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص 12 دار الحديث 1423ه 2003م
[9]- انظر علم أصول الفقه د.محمد الزحيلي ص 14 دار القلم الطبعة الأولى 1425ه 2004م
[10] - علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص 16 بتصرف، وأيضا الفتح المبين في تعريف مصطلحات الفقهاء والأصوليين للدكتور محمد الحفناوي ص 37 وص 43 وص 69 بتصرف (دار السلام الطبعة الثانية 1428ه - 2007 م)
[11]- رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما