مسك الختام - السرَّاء والضرَّاء كلاهما بلاء

سالم الناشي




تختلف نظرة الناس إلى حقيقة معنى البلاء والعافية تفاوتاً عظيماً؛ فأكثرهم يرون في كثرة المال وصحة البدن وسعة الجاه عافية، وفي نقص المال والمرض وخمول الجاه بلاءً، مع أن القرآن قد نص على أن السرَّاء والضرَّاء كليهما بلاء وفتنة قال -تعالى-: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء:35) وقال -تعالى- {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف:168).
وقد قال بعض الصحابة استيعاباً منهم للنظرة الصحيحة إلى قضية البلاء والعافية: «ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر»؛ فقد يكون في الظاهر، أو في حس أكثر الناس أنواع من البلاء، والفتنة أعظم خطراً عليهم من نقص المال، أو الجاه، أو الصحة، أو الحرية، وقد يبتليهم الله بشيء من هذا النقص ليعافيهم من بلاءات أخرى يوشك أن تهلكهم؛ فيجعل الله لعباده المؤمنين في البلاء عافية وفي الألم لذة، وفي النقص كمالات ورحمات، وفي الكسر جبراً، وفي الذل عزاً {وَلَنَبْلُوَنّ كُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (166) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة:155-157).
وقال -تعالى- {ولَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحزاب قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} (الأحزاب:22)؛ فقالوا وعدنا ولم يقولوا توعدنا، أو حتى أخبرنا؛ وذلك لأن البلاء فيه عطايا الزيادة من الإيمان والإسلام، ومن صلاح أحوال الباطن والظاهر، ومن اليقظة من الغفلة، وتجديد الحياة للقلب من أمراض الحياة الراتبة التي يغرق فيها أكثر قلوب الخلق إلا من رحمه الله، حتى يفتح للقلب نافذة يبصر بها ما كان أمامه و لا يبصره، من ملكوت السماوات والأرض، ومن قرب الآخرة وسرعة زوال الدنيا، ومن آثار عزة الله وقدرته وقهره لعباده حتى يتعافى القلب بأنواع من العافية، ويرحم بأنواع من الرحمات.
وإن من أخطر الأمراض القلبية التي قد يبتلى بها الإنسان أن ينظر إلى أن النعم مُستَحقة له بمجرد الوجود، وأنها غير قابلة للسلب مع نسيان الآخرة والحساب والغفلة عن الشكر؛ مما قد يصل بالمرء إلى الشك في البعث والجزاء، كما وقع من صاحب الجنتين فقال: {مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً} (الكهف:35-36)، وأكثر الناس يرون نعم الله عليهم من حقوقهم الثابتة، التي لو لم يعطوها لكانوا مظلومين؛ فيقولون ذلك بلسان الحال أو المقال، وهذا من أعظم أسباب زوال الشكر، وعدم تقدير النعمة حق قدرها.
كما أنهم يرون جريان النعم كل يوم، بل كل ساعة مما يقتضي في ظنهم استمرارها إلى الأبد «مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً»؛ فيحصل العجب والكبر والظن، بأن الإنسان هو مصدر النعمة وصاحبها، وحتى لو كانت موهوبة له؛ فهو يستحقها وجوباً وإلزاماً {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} (فصلت:50)، وكما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (القصص:78)
وكل هذا من كفران النعم والضلال، الذي يعافى منه الإنسان بشيء يسير من النقص والحرمان؛ فيتذكر به أنه لا يملك ولا يستحق ولا يقدر، وأنه في كل لحظة مفتقر إلى ربه ومولاه، كما خلقه يرزقه وينعم عليه، ويهبه كرمًا منه وجوداً، ورحمة منه وفضلاَ، والله ذو الفضل العظيم.