بسم الله الرحمن الرحيم ،
هذا مبحث مختصر ، جمعت فيه أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مسألة النذر لغير الله تعالى .. ومتى يكون شركاً أكبر ، ومتى يكون شركاً أصغر .. فهو ليس نوعاً واحداً ، بل يتضمن الشركين ، بحسب ما نذر به .
وأبدأ بتعريف النذر لغة وشرعاً .
لغة : النَّحْبُ ، وهو ما يَنْذِرُه الإِنسان فيجعله على نفسه نَحْباً واجباً ، وجمعه نُذُور [انظر لسان العرب ، باب : ن ذ ر]
وشرعاً : إلزام الإنسان المكلف نفسه ما ليس واجباً عليه شرعاً تعظيماً للمنذور له .. وهذا هو نذر العبادة .
وقد يصح في معاني النذر كذلك الشكر .. كأن يلزم المرء نفسه بإكرام فلان إن هو أسدى إليه خدمة ما .. ولا شيء في ذلك .
وقد يصح فيه أيضاً التحقير أو التهديد .. كأن يلزم المرء نفسه بأن يقتل أو يضرب فلاناً إن هو عصاه في أمر ما .
فالنذر له أحوال .. فما كان من نذر عبادة ، كان النذر عبادة لله .. ليس لذاته ، ولكن لغايته .
فمحض النذر ليس بعبادة أصلاً ، إلا إن اقترن بعبادة .
--------------------
يقول ابن تيمية - رحمه الله - في [مجموع الفتاوى : 27:136]
جعل هذا النوع من النذر من أسباب الشرك بالله تعالى .. ومعلوم أن أسباب الشرك هي شرك أصغر .وَأَمَّا الْأَشْجَارُ وَالْأَحْجَارُ وَالْعُيُونُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يَنْذِرُ لَهَا بَعْضُ الْعَامَّةِ ، أَوْ يُعَلِّقُونَ بِهَا خِرَقًا ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، أَوْ يَأْخُذُونَ وَرَقَهَا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ ، أَوْ يُصَلُّونَ عِنْدَهَا ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى
ويقول في النذر للموتى [مجموع الفتاوى : 11/504]:
جعل النذر لغير الله مساوياً للحلف بغيره .. وأوجب عليه الاستغفار ولم يوجب عليه كفارة ..وَأَمَّا " النَّذْرُ لِلْمَوْتَى " مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ ، أَوْ لِقُبُورِهِمْ أَوْ الْمُقِيمِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ . فَهُوَ نَذْرُ شِرْكٍ وَمَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى . سَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ نَفَقَةً أَوْ ذَهَبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ يُنْذِرُ لِلْكَنَائِسِ ؛ وَالرُّهْبَانِ وَبُيُوتِ الْأَصْنَامِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } " وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ النَّذْرُ لِلَّهِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ النَّذْرُ لِغَيْرِ اللَّهِ ، فَهُوَ كَمَنْ يَحْلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ ، وَهَذَا شِرْكٌ . فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا وَفَاءٌ وَلَا كَفَّارَةٌ . وَمَنْ تَصَدَّقَ بِالنُّقُودِ عَلَى أَهْلِ الْفَقْرِ وَالدِّينِ فَأَجْرُهُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَأَصْلُ عَقْدِ النَّذْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ : " { إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } " وَإِذَا نَذَرَ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ ؛ دُونَ مَا لَمْ يَكُنْ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى .
لو كان هذا النوع من النذور شركاً أكبر ، لقال إنه يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل .. كما هو مشهور من كلامه عند الحديث عن الشرك الأكبر في مواضع كثيرة .. ولكنه فقط ألزمه بالاستغفار ، وجعله مساوياً للحلف بغير الله .
ويقول في موضع آخر في [مجموع الفتاوى : 33/123]:
يقول ابن تيمية - رحمه الله - إن النذر لا يجوز إلا إذا كان عبادة لله .. ومفهوم هذا الكلام أن من النذر ما ليس بعبادة أصلاً .. وهذا مثل أن ينذر المباح لله تعالى ، فهذا النذر ليس بعبادة .. أو أن ينذر هذا المباح لمخلوق .. مثل أن يقول : لك عليّ إن رزقني الله مالاً أن أشتريَ فرساً أو أنكح امرأة أخرى .. فأين وجه العبادة في هذا النذر ؟؟وَالنَّذْرُ لِلْمَخْلُوقَات ِ أَعْظَمُ مِنْ الْحَلِفِ بِهَا ، فَمَنْ نَذَرَ لِمَخْلُوقِ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ وَلَا وَفَاءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ : مِثْلَ مَنْ يُنْذِرُ لِمَيِّتِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ ، كَمَنْ يُنْذِرُ لِلشَّيْخِ جاكير ، وَأَبِي الْوَفَاءِ ، أَوْ الْمُنْتَظِرِ ، أَوْ السِّتِّ نَفِيسَةَ ، أَوْ لِلشَّيْخِ رَسْلَانَ ، أَوْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ . وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ : زَيْتًا أَوْ شَمْعًا أَوْ سُتُورًا أَوْ نَقْدًا : ذَهَبًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : فَكُلُّ هَذِهِ النُّذُورِ مُحَرَّمَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجِبُ ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنَّمَا يُوفِي بِالنَّذْرِ إذَا كَانَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَكَانَ طَاعَةً ؛ فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ عِبَادَةً ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إلَّا بِمَا شَرَعَ . فَمَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ أَعْظَمُ مِنْ شِرْكِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ كَالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَلَوْ نَذَرَ مَا لَيْسَ عِبَادَةً - كَمَا لَوْ نَذَرَتْ الْمَرْأَةُ صَوْمَ أَيَّامِ الْحَيْضِ - لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ .
ولكن .. إن كان هذا النذر عبادة ، وصرفه المرء لغير الله ، كان شركاً أكبر .. وفي ذلك يقول ابن تيمية : (( فَمَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ أَعْظَمُ مِنْ شِرْكِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ كَالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ )) .. فهو يعني النذر الذي هو عبادة ، كما هو مفهوم من سياق الحديث .
ومن نذر لغير الله ما يكون به شركاً أصغر ، فيكون هذا النذر شركاً أصغر .. كمن نذر لصاحب القبر أن يزيّن أو يسرّج قبره إن رزقه الله مالاً .. فيكون هذا النذر شركاً أصغر بمقتضى ما نذر به .. وهكذا .
والذي جعل ابن تيمية يقول إن النذر لغير الله إنما هو كالحلف بغير الله هو كما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال في [مجموع الفتاوى : 25/277]:
فالنذر لا يعدو أن يكون حلفاً .. فمن حلف بغير الله فقد وقع في شرك أصغر .. ومن حلف بغير الله تعظيماً للمحلوف ورفعاً به إلى رتبة الإله ، فهو قد وقع في الشرك الأكبر .ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : " { كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينٍ } وَقَالَ : " { النَّذْرُ حَلْفَةٌ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ : " { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ }
هذا ما عندي ، والله أعلم