دفتري القديم


فتاة في العشرين، كانت تشكو لي الضيق من أهلها، الذي تزداد دائرة ضغطه مع كونها القائمة على أعمال البيت.. مشكلات والديها على أشدها.. والدها عصبي، وحين تهب رياح عصبيته يكاد رعد تلك العصبية يصم الآذان، ويكاد سيلها يهدم كل ما أمامه. وحين ذاك تشفق على والدتها، التي تقف في وجه الطوفان.

يبدو أن والدتها، بتآزر هذه الإشكالات، مع أعباء الأطفال، انشغلت بنفسها فأصبحت بعيدة عن ابنتها، مما زاد غربة البنت في بيتها!.. إذ صارت لا تسمع إلا الجانب الخشن من الأصوات؛ هدير عصبية الوالد، أو أنين عتاب الوالدة.

تقول: بأنها تحتاج –بقوة- إلى من تتحدث معه، من يسليها، ينفس عنها، يسمع منها، يصغي إليها.. وأن حبل الصمت يلتف على عنقها، ويحاول خنقها.
تأملت أكثر –في حديث البنت- فاكتشفت أن مستواها الثقافي رائع، ولديها مواهب أدبية، وتمتلك أسلوباً تصويرياً أخاذاً.. مشكلتها أنها ترى أن مستوى أمها الثقافي والفكري لا يمكن معه سباحتهما في بركة (همًّ) واحدة، بل ربما رأت الأم –بعفويتها، وبسبب الأجواء النفسية التي تلفها – أن مواهب البنت تلك (خرابيط).. تضيع بها البنت وقتها، لتنشغل عن (أعمال) البيت المهمة!!

هنا ذكرتني مشكلة تلك الفتاة بما كنت أصنعه وقت الطفولة.. حيث كان يعجبني أن يكون قريباً مني دفتر صغير، وقد زاد ارتباطي به أكثر كثرة (شخبطتي) باعتباري أملك موهبة الخط، وأحب كثرة الألوان.. فكنت أصطحب دفتري، في بعض السفريات والمناسبات، لأودعه (كوكتيلاً) من الكلمات.. فمرة يخطر لي أني شاعر، فأصارع بحور الشعر، لأظفر منها ولو ببيتين، وقد يكون ذانك البيتان هجاء طريفاً، ...وأكثر الأحيان يكون النثر أسلس قياداً، فمرة أسجل وصفاً للطريق، أو تصويراً لحادثة، أو تسجيلاً لمشاعري في إحدى اللحظات.

وحين يمر قطار الزمن ثم أرجع إلى دفتري، الذي يبدو وقتها كما لو كان قد كتبه أحد غيري، إذ يكون بركان العواطف الغاضبة قد ركد، والأمور تغيرت.. فينطلق من شفتي –أثناء قراءتي- (سيل) ابتسامات، قد تتحول إلى ضحكة لم أستطع السيطرة عليها، فتلفت نظر من حولي، ويبدون تعجبهم، وقد يحمدون الله على العافية (!!)، خاصة وهم لا يرون شيئاً حولي يثير الضحك.
ثم هو مع مرور الزمن يكشف لي عن (التحولات) التي طالت أسلوبي، ويمثل مذكرات (جميلة) من حياتي، ما كانت ربما لتبقى لولا التدوين، ثم إن الانفعال الداخلي بالموقف، يجعل تصويره مختلفاً (جداً) عن تصويره في الحالات (العادية).. ولذا فإنه –أثناء التسجيل- (يمتص) انفعالات الشخص، بصورة رائعة، ولذا غالباً تنطلق على صاحبه شحنة طاقة غير عادية، تدفعه للإسراع في التسجيل خوف النسيان... وحين ينتهي، يتنفس نفساً طويلاً كأنه يتأكد من خلاله أنه لم يبق شيء من (أشلاء) الانفعالات!

كنت أجهد أن أقنع الفتاة بالتجربة، ولكنها كانت تستبعد أن يستوعب الدفتر (كوم) المشكلات، التي تكاد تدفنها.. قلت لها فلتجربي!!


د. عبد العزيز المقبل