تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: صور من الفسـاد المـــالي بينـتـهـا السنـة النبـويـة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي صور من الفسـاد المـــالي بينـتـهـا السنـة النبـويـة

    صور من الفسـاد المـــالي بينـتـهـا السنـة النبـويـة


    د. محمد عودة أحمد الحوري

    قال -تعالى-: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(الر وم: 41)، وظهور الفساد هو الجريمة الأبرز لمن أُمر بالإصلاح، ونُهي عن الفساد، كما في قوله -تعالى-: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}( الأْراف: 56)، وسنن الله في إهلاك المفسدين ثابتة، وآياتها شاهدة، ويقع الفساد في شؤون الحياة المختلفة، وصوره المتنوعة، وأضراره على الأفـراد والمجتمعات غير خافية، وقد طالت ضرورات الحياة، ولاسـيّما المال، وعـلاج المعضلات يحتاج إلى مراحل، وأَولى المراحل وُأولها تشخيص المعضلة والوقوف عليها.

    وقد قمت في هذا البحث بتتبع الأحاديث النبوية التي تضمنت بيانا لسلوكيات، تعد تعديا على المال العام أو الخاص، وتمثل صورة من صور الفساد المالي في شؤون الحياة المختلفة في مجالي: العبادات، والمعاملات؛ مما يؤثر سلبا على استقرار الأمة وقوتها؛ فبينت أنواع الفساد المالي التي تقع في العبادات، في الصدقات، وفي الجهاد، وهما عبادتان تقومان على البذل والعطاء، إلا أنه قد يقع فيهما ما يعكر صفوهما، ويقلب غايتهما، كما بينت أنواعا من الفساد المالي الذي يقع في المعاملات: في البيوع، والدين، ومسألة الناس، والأطعمة، والوظيفة، ولا يخفى أن ضبط هذه الأمور المختلفة، والعمل على منع وقوعها، يسهم في تحصين المجتمع، ويعزز استقراره وأمنه.



    مكانة المال في الإسلام

    يعد المال عصب الحياة، وشريانها الرئيس، وهو من أبرز المقاصـد الـتي جـاءت نصوص الشريعة وتشريعاتها للحفاظ عليها؛ فنجد النصوص الشرعية متوافرة للدلالة على أهمية المال، ومكانته، ووجـوب حفظه، ومنع الاعتداء عليه؛ ومما يدل على ذلك أن أركان الإسلام خمسة أحدها عبادة مالية هي: (الزكاة)، بل بايع النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على إيتائها.

    ولما قال السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالله، آللهُ أمـرك أن تأخذ هذل الصدقة من أغنيائنا؛ فتقْسِمها علـى فقرائنـا؟ قـال الـنبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم نعم».



    نصوص السنة

    وبتتبع نصوص السنة المطهرة نجد أنها قدمت تصورا شموليـا لعلاقـة الإنسـان

    بالمال؛ فأكدت معنى قوله -تعالى-: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}(الفجر: 20)، بقوله صلى الله عليه وسلم : «لَو أن لابن ِآدْم َمِثْلَ وادٍ مِنْ ذَهبَ ٍمَالا لأحَب أن يكُـونَ إليـه مِثْلـهُ، وَلا يَملأ عَيْنَ ابن آدَمَ إلا التَرابُ، ويتوبُ الله على من تابَ».



    فتنة المال

    وحذرت تلك النصوص من فتنة المال وسيطرته على العقل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «َتعسَ عَْبدُ الدينَارِ َوالدرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، وَاْلخَمِيصَةِ، ِإنْ ُأعْطىَ رضىَ، وَِإنْ لَمُْ يعْط َلَمْ يَرْضَ»،(5)، وقال:«وَِإن َهَذا الَْمالَ خَضَِرةٌ حلَْوةٌ،وَِنعْـ مَ َصـاحُِب الْمُْسـلِمِ لِمَنْ أَخذهُ ِبحَقهِ؛ فجعلَهُ ِفى سَبِيلِ اللهِ وَالْيََتامى وَالْمَسَاكين، وَمَنْ لَمْ يَأْخذه ِبحَقهِ فهْوَ كالآكل الذي لا يَشَْبعُ، وََيكُونُ علَيْهِ شهِيدا يَوْمَ الْقَِيامَةِ».



    ملكية الإنسان للمال

    كما بينت أن ملكية الإنسان لهذا المال صورية فقط، حقيقتها الاستخلاف، قال -تعالى-: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِين َ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}(الحديد: 7)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : «يُقولُ العَْبدُ: مالي، مَالي، وإنما لَه من َمالِهِ ثَلاثٌ: ما أكَلَ فأفَْنى، أو لَبِسَ فأْبَلى، أو أعْطى فأقَْنى، وما سوى ذلك، فهُوَ داهِب وتاركُهُ لِلناسِ».



    ويزيد ذلك إيضاحا قوله صلى الله عليه وسلم : «أيكُم مالُ وارِثِه أحب إليه من ماله؟»، قالوا: يا رسول الله، ما مِنا أحدٌإلامالُه أحب إليه، قال: «فإن مَالَـهُ مـاَ قـدمَ، مالَ َوارِثِهِ ما أخرَ»، وجعلت الأحاديث النبوية الشريفة أمـان النـاس علـى أمـوالهم مـن علامـات الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والمؤمن: مـن أمِنَـهُ النـاس علـى دمائهم وأموالهم»، حتى أخذ النبي صلى الله عليه وسلم البيعة – والبيعة شأنها عظيم- على عدم سرقة المال أو نهبه فقال: «تُبايعوني على ألا تُشـركُوا بـالله شـيئًا، ولا تَسْـرِقوا..»، وزاد في رواية: «ولا ننَْتهِب».



    كثرة المال

    وحذر صلى الله عليه وسلم من كثرة المال لمن لا يؤدي حق الله فيه؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: انَْتهَيْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهـو جـاِلسٌ في ظِـل اْلَكعْبَـة؛ فلمـا رآني قال: «هُمُ الأخسرون ورَب اْلكعْبَةِ»؛ فقلتُ: يا رسول الله ِفداكَ أبي وأمـي مَـن هُمْ؟ قال: «هُمُ الأكثرون أموالا، إلا من قال هكذا، وهكذا، وهكذا، - من بَيْنِ يديه- ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله - وقليلٌ ما هم».



    جمع المال

    وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمع المال ليس مقصدا، بل المقصد إنفاقه فيما يرضي الله؛ فقال: «لَوْ كان عِْنـِدي أُحـدٌ ذَهَبًـا، لأحْبَبْـتُ أنْ تَـأِتيَ ثـلاثٌ وعِْندي منه دينار، لَْيسَ شَيْئًا ُأرصُدهُ في دَيْنٍ علي، أحدُ من يَقَْبلُهُ»، وأوضح أن هذه العلاقة بين الإنسان والمال مسـتمرة يـوم القيامـة؛ فقـال: «لا تزولُ قدَمَا عبد يومَ القيامة، حتى يُسألَ عن أربع:... وعن ماله من أين اكتسبه وفـيم أنفقه؟».



    أموال الناس محترمة

    ونصّ النبي صلى الله عليه وسلم على أن أموال الناس محترمة لا يجوز الاعتـداء عليهـا، وكان هـذا مـن وصاياه صلى الله عليه وسلم عام حجـة الـوداع؛ فقـال: «فـإن دمـاءَكم، وأمـوالَكم، وأعراضكم، عليكم حرامٌ».



    الحفاظ على المال

    وفي سبيل الحفاظ على المال، ومنع التعدي على حقوق الناس، نجد عـددا مـن الأحاديث: منها ما يفيد النهي عموما عن إضاعة المال، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : «ِإن الله َحَرم ََعلَْيكُم ْعُقُوق الأمهَاتِ، وَوَأْدَالْبَنَ اتِ، وَمََنعَ وَهَاتِ،َ وكَِره لكُـمْ قِيلَ وََقالَ، وكَثَْرةَ السؤَالِ، وَِإضاعَةَ الَْمالِ»، كما عدّ القتيل دفاعا عن ماله شهيدا؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه : قال: جاء رجلٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: يـا رسـول الله، َأرأيـتَ إنْ جـاء رجلٌ يريدُ أَْخذَ مَالي؟ قال:«فلاُ تعْطِهِ مالَكَ»، قال: أرَأيتَ إنْ قَاَتَلني؟ قال:«قاِتلْـهُ» قال: أرأيتَ إنْ قَـتَلني؟ قـال: «فأنـتَ شـهيدٌ»، قـال: أرَأيـتَ إنْ قتلتـهُ؟ قـال «هـو النار»، ونهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الـدعاء علـى الأمـوال؛ فقـال: «...ولا تدُعوا على أموالكم، لا تُوافِقُوا من الله -عَز وجـلَ- سـاعةَ نَيْـلٍ، فيهـا عطـاءٌ، فَيَسْتَجيب لكم».



    الشفاعة للسارق

    وغضب النبي صلى الله عليه وسلم جدا، حينما حاول بعض الصحابة الشفاعة للمرأة المخزومية التي سرقت، وعدّ ذلك سببا لهلاك الأمم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «ِإنمَا هلَكَ مَنْ كانَ قَْبَلكُمْ، أنهُمْ كانُوا يُقِيمُونَ اْلحد عَلى الْوَضيعِ، وَيَتُْركون الشرِيفَ، والِذي نَفِْسي بَِيِده،لَوَْ أن فَاطِمَة فَعلَتْ ذَلِكَ لَقََطعْتَُ يـدَهَا»، حتى نفى صفة الإيمان عن السارق أثناء تلبسه بجريمته فقال:«...وَلَاَيس ْـِرق ُالساِرُق حِين يسْرق وَهُوَ مُؤْمِنُ».
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: صور من الفسـاد المـــالي بينـتـهـا السنـة النبـويـة

    صور من الفساد المالي بينتها السنـة النبـويـة (2) الفسـاد المالي في الصدقات


    د. محمد عودة أحمد الحوري

    تعد الصدقات من العبادات المالية، ورأسها الزكاة، وهـي ركـن مـن أركـان الإسلام العظيم، ولما كانت كذلك وجب حفظها من كل ما مـن شـأنه تـأخير تحقيـق المصلحة أو منعها، والمتتبع للأحاديث الواردة في الزكاة يجد أنهـا تضـمنت جملـة مـن المبادئ التي تمنع من وقوع الفساد المالي فيها الحال أو المآل، ومما يميز المنهج الإسلامي في محاربة الفساد المالي اعتماده على جانب التربية الإيمانية لمنع وقـوع هـذه الصور، أو علاجها بعد وقوعها.

    ومن أبرز صور الفساد المالي التي تقع في الزكاة

    أولا: منع الزكاة.

    منع الزكاة أعظم صور الفساد المتعلقة بها؛ فالزكاة حق واجب في المال، وهـي طهرة له، وسبب لنمائه، ولكن بعض من يجهل أو يتناسى أن المال مـال الله -جـل وعـز-، وأنه مستخلف فيه، تغلبه نفسه الشحيحة؛ فيعمد إلى منع الزكاة، وقد حذر القرآن الكريم من هذا السلوك الخطأ، وبين عاقبته الوخيمة، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}(الت وبة: 34 - 3٥).

    وأكدت السنة النبوية صورة هذا العذاب الأليم فيما رواه أبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : «ما مِن صاحِِب كنزٍ لا يؤدى زكَاتَهُ،ِإلاُ أحِْمى عليهِ في نار جهنم؛ فَيجعل صفاِئح فيكوىِ بهاجنباه وَجبِينه، حتى يحكمَ الله بين عِباِده في يومٍ كان مِقداره خمسِين ألف سنةٍ، ثُم يرى سبِيله، إِما إلى الجنة، وإِما إلى النار، وَمَا مِنْ َصاحِب ِإِبلٍ لا يُؤَدى زكاتها، ِإلا بطِح َلها بِقاع قرقرٍ كأَوفَرِ ما كانت تستَن علَيه كلمَا مَضى عليه أخراها رُدتَْ عليه أولاهَا،حَتىَ يحكم الله بين َعِباِدهِ في يومٍ كان مِقدارهُ خمسين ألف سنة».

    سبب العقوبة

    وبين العراقي -رحمه الله- سبب هذه العقوبة؛ لأن في منع الزكاة منعا للانتفاع بها وتعطيلا للحقوق؛ فيقول: «لِأَنه قََصدَ بِمنع ِحق اللهِ فِيهَا الِارتِفاق َوَالِانْتِفَاَ ع بِمَا مََنعَهُ مِْنهَا؛َ فكَان ذلِكَ الِذي قََصد الِانْتِفَاَع بِهَِ أضر الَْأشياءَ عليهِ،َ وُسلط عليهِ،حتـى باشَـر عُقُوبَتهُ بِنَفْسِهِ»، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

    كيفية العلاج

    وأما عن كيفية محاربة هذا النوع من الفساد بعـد التهديـد والوعيـد الأخـروي؛ فجاء العلاج موازيا للضرر الناتج عن الفعل؛ فروي عن َرسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهَ قالَ: «مَنَ ْأعْطَاهَا مُؤَْتجًِراَ فلَه أجرهَا، وَمَنْ مََنَعهَا فَإِنا آِخذُوهاَ وشطرََ مالِهِ، عزمَة مِن عزَمات رَبَنا -عز وجل-، لَْيسَ ِلآلِ محمدٍ منها شيء»، وهذه العقوبة المادية تعد رادعا لهوى النفس وشحها، قال ابـن القـيم-رحمه الله-: «وَِفي ثبُوت شرعية العقوبات الَْمالِية أَحَادِيث عدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَثْبُت َنسْخهَا ِبحجةٍ، َوعَمِلَ ِبهَا اْلخلََفـاء َبعْـده؛ فَـِإن العُقُوبَـة ِإنمَـا تَسُـوغ ِإذَا كانَ المعَاقَب متَعديا بِمَْنعِ وَاجب، أوْ ِارِتكَاب محْظُور».

    ثانيا: إخراج الزكاة من الرديء دون الجيد

    يعمد بعض الناس إلى تعطيل دور الزكاة في بناء المجتمع؛ وذلك بمنع مسـتحقيها من امتلاك حقهم كاملا، وهي حِيَلٌ، منهـا: أن يعمـد إلى الـرديء مـن الأصـناف فيجعله زكاة المال؛ ولمنع ذلك حددت السنة النبوية مـا ُيخْـرج زكاةً بـأن يكـون مـن أوسط المال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأعطى زكاةَ ماله طيبَـةً بهـا نفسُه راِفدةً عليه كل عامٍ، ولم يعطهِ الهرِمَة، ولكن مـن وسـط أمـوالكم؛ فـإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره»، ويؤيده حديث أَنس رضي الله عنه ، َحدثَ َأن أَبا بكرٍ رضي الله عنه كتبَ لَه ُالصدَقَةَ التِي أَمَرَ الله َُرسُولَه صلى الله عليه وسلم، وَلا يخْـَرُج ِفـي الصـدَقَةِ هَرمة، وَلا ذات عَوار، وَلا تَْيسٌ ِإلا ماشاءَ المصدق».

    وفي منع إخراج الناقص والمعيب مراعاة واضحة لمنفعة المسـتحقين، كمـا أن في منع أخذ التيس مراعاة لمنفعة صاحب المال. قـال الطـبري-رحمه الله: جعـل الـنبي المشيئة إلى المصدق في أخذ ذلك وتركه؛ فالواجب عليـه أن يعمـل بما فيـه الصلاح لأهل الصدقة، ورب الماشية، بما يكون عدلا للفريقين».

    ثالثا: أخذ الزكاة من أجود أنواع المال دون إذن صاحبه.

    كما يعد إخراج رديء المال نوعا من أنواع الفساد؛ لما فيه من تعد على منفعة المستحق؛ فإن إخراج أجود أنواع المال دون إذن صاحبه، يعد نوعا من إفسـاده؛ لما فيـه من إضرار برب المال، يدل على ذلك صراحة –غير ما ذكر آنفا وأوضـح منـه- قـول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه : «فَأَخْبِرْهُم َْأن اللهَ افْتَـرَضَ َعلَـْيهِمْ َزكاةًِ في أَمْوَاِلهِمْ؛ فَإَِذا أقَرواِ بذَلِكََ فُخذْ مِْنهُمْ، وَتََوق كَرَاِمَ أَمْوَالِ الناس».

    توجيه نبوي

    فهـذا توجيـه نبـوي شـريف بوجـوب مراعـاة مصـلحة رب المال، يقـول الخطابي-رحمه الله- تعليقا على نهيه صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ الصدقات من راضع لبن، قوله: لا تأخذ مـن راضع: الراضع ذات الـدر؛ فنهيـه عنهـا يحتمـل وجهين: أحدهما ألا يأخذ المصدق عن الواجب في الصدقة؛ لأنها خيار المال».

    ويلتحق بهذه النوع أن يطلب من المزكي فوق ما يجب عليـه، أو يطلب منـه زكاة ما لم تجب فيه الزكاة؛ فجاءت السنة النبوية ببيان أنه لا يؤخذ من المزكي أكثر مما وجب عليه، أو زكاة ما لم تجب زكاته، ينص على ذلك حديث أَنس رضي الله عنه أن أَباَ بكْرٍ رضي الله عنه كتب له هـَذا اْلكِتَـاب لَما وَجهَـهُ إلى الَْبحْـرَيْن: «بسْـمِ الله الرحْمَن ِالرحِيمِ،َ هِذه فَرِيضَةُ الصدَقَةِ التي فَرَضََ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم َعَلىالْمُْسلِم ِين، التي أَمَرَ الله ِبهَاَ رسُولَه؛ فَمَنْ سُِئَلهَامِـنَ الْمسـلِمين عَلـى وَْجِههَـا فليعِطهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوَْقهَاَ فلا يعط، ومن لم يكن معهِ إلا أربـع مِـنَ الإبِـل ِفلَـْيسَ فِيهَا صدَقَةٌ ِإلا أنْ يشاءَ رَبهَا...)، قال الطيبي-رحمه الله-: «إلا أن يشاء ربها» أي: صاحبها، أن يتبرع ويتطـوع، مبالغة في نفي الوجوب.

    وأما ما أخرجه صاحبه، طيبة به نفسه؛ فيقبل منه، ويرجى له البركة؛ لماروى عن ابن أَبيّْ كعب رضي الله عنه أن رجلا أحب أن يتصدق فوق ما يجب عليه؛ فََقالَ لَهُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم : «هَذا مَا علَيْك؛ فَِإنْ جِئْتَ بِفَوْقِـه ِقَِبلْنَـاه مِنـكَ»، قالَ: يا رسُولَ الله، هذه ناقَة عَظِيمَة سَمِينَة فَمُرْ يِقَبْضهَا؛ فأمَرَ َرسُـول الله صلى الله عليه وسلم بقَبْضهَا، وَدعا لَهُ ِفي مالِهِ ِبالبَركاَةِ.

    رابعاً: الجمع بين متفرق، أو التفريق بين مجتمع خشية الزكاة

    وفيه حديث ثَُمامَة بْنِ عَْبدِ اللهِ بْنِ َأَنسٍ، أن أَنسًـا حدثَـهُ أن أبَـا بكْـرٍ كَتَـب لَـهُ فَرِيضَةَ الصدَقَةِ التي فَرَضََ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم«ولا يجمع بَيْنَ مُتَفرقٍ، وَلا يُفَرق بَيْنَ مجْتَِمعٍ خَشْيَة الصدَقَةِ».

    فأمر كل واحد منهما ألا يحدث في المال شـيئًا مـن الجمـع والتفريـق خشـية الصدقة، وفي هذا النص دلالة واضحة على منع الإضرار، قال العيني -رحمه الله-: «وإنما نهي عنه؛ لأنه هروب عن أداء الحق الواجب عليه، وإجحاف في حق الفقير».

    وقال ابن حجر -رحمه الله-: «وََقالَ الُْمَهلب: قََصـدَالُْبخَـ اِري أن كل حِيلَـةٍ يََتحَيلُ ِبهَا أَحدٌ ِفي ِإسْقَاط الزكاةِ؛ فَِإن ِإثْمَ ذَلِكَ َعلَيْهِ؛ لَِأن النبي صلى الله عليه وسلم لَما مََنعَ مِن ْجَْمعِ اْلغَنَمَِ أوْ تَفْرِقَِتهَا خَشْيَةَ الصدَقَةُ ِفهِم مِنْـهَ هـَذا الَْمعَْنـى، وَُفهِـمَ مِـنْ حدِيثَِ طْلحَةَ ِفي قَوْلِه: أْفلَحَِ إن صَدَق أن مَنَْ رامَ أن يَـنُْقصَ شَـيْئًا مِـنْ فَـرَاِضِ اللهِ ِبحِيلَةٍ يحَْتاُلهَا أنهُ لَا يُْفلِحُ،َ قالَ: وَمَا أَجَابَ بِه الْفَُقَهاُء مِنْ تَصَرف ِِذي الَْمالِِ فيَ مالِـهِ قُرْبَ ُحلُولِاْ الحَوْلِ، ثُم ُيرِيدُِ بذَلِك الْفَِرارَ مِنَ الزكَاةِ، وَمَنْ نََوى ذَلِكََ فالْإثم عَنه غَيْـرُ سَاقِط».
    خامسا: إعطاء الزكاة لمن لا يستحقها.

    حددت مصارف الزكاة بقوله -تعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَبِيلِ فَرِيضَة مِنَ اللهِ واللَه علِيم حَكِيم}(التوبة: 60)، وحذرت السنة النبوية أن تعطى لغير مستحقيها، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «لا تحل الصدقةُ لغني، ولا لذِي مِرةٍ سَوي».
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: صور من الفسـاد المـــالي بينـتـهـا السنـة النبـويـة

    أنواع من الفساد المالي بينتها السنـة النبـويـة (3) الفسـاد المالي في الصدقات


    د. محمد عودة أحمد الحوري

    مازال الحديث موصولا عن الفساد المالي في الصدقات؛ حيث ذكرنا أن الصدقات تعد من العبادات المالية، ورأسها الزكاة، وهـي ركـن مـن أركـان الإسلام العظيم، ولما كانت كذلك وجب حفظها من كل ما مـن شـأنه تـأخير تحقيـق المصلحة أو منعها، والمتتبع للأحاديث الواردة في الزكاة يجد أنهـا تضـمنت جملـة مـن المبادئ التي تمنع وقوع الفساد المالي فيها حالا أو مآلا، ومما يميز المنهج الإسلامي في محاربة الفساد المالي اعتماده على جانب التربية الإيمانية لمنع وقـوع ذلك الفساد، أو علاجه بعد وقوعه.



    سادساً: تكليف المزكي دفع نفقات حمل زكاته إلى بيت المال

    ومن الأنواع التي تعد تعديا على المال: أن يكلف المزكي بتبعات إيصال الزكاة إلى بيت المال، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «لا جَلَبَ ولا جَنَبَ في زكاة، ولا تؤخذ زكاتهم إلا في دورهم».

    قال محمد بن إسحاق-رحمه الله-: معنى: (لا جَلَبَ): لا يجلب الصدقات إلى المصدِّق. و(لا جَنَبَ) لا ينزل المصدِّق بأقصى مواضع أصحاب الصدقة، فتجنب إليه، ولكن تؤخذ من الرجل في موضعه.

    يقول الخطابي- رحمه الله-: لا ينبغي للمُصدِّق أن يقيم بموضع، ثم يرسل إلى أهل المياه فيجلبوا إليه مواشيهم، فيصدقها. ولكن ليأتهم على مياههم حتى يصدقهم هناك. وقال ابن الأثير -رحمه الله-: فنُهي عن ذلك، وأمر أن تؤخذ صدقاتهم على مياههم وأماكنهم.

    سابعا: استغلال الساعي على الزكاة وظيفته لتحقيق مكاسب شخصية.

    ومن أنواع هذا الاستغلال:

    ١ - قبول الهدية التي تهدى بسبب الوظيفة.

    وهذا جلي فيما رواه أبو حميد الساعدي - رضي الله عنه -: قال: «استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم -رجلا من الأزد -يقال له: ابن اللتبية- على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، قال: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه، وأمه، حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه؛ إلا لقي الله يحمله يوم القيامة...».

    فهذا الحديث يدل أن ما أهدي إلى العامل في عمالته، والأمير في إمارته؛ شكرا لمعروف صنعه، أو تحبباً إليه، أنه في ذلك كله كأحد المسلمين، لا فضل له عليهم فيه؛ لأنه بولايته عليهم نال ذلك، فإن استأثر به؛ فهو سحت، والسحت كل ما يأخذه العامل والحاكم على إبطال حق أو إحقاق باطل، وكذلك ما يأخذه على القضاء بالحق.

    ٢- كتمان بعض أموال الزكاة

    يعد كتم بعض الزكاة خيانة، وهو غلول؛ النار أولى به وصاحبه، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطا فما فوقه، كان غلولا، يأتي به يوم القيامة... من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيرة، فما أوتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى».

    قال القرطبي -رحمه الله- يذكر فوائد الحديث: يدل على أنه لا يجوز له أن يقتطع منه شيئا لنفسه، لا أجرة ولا غيرها، ولا لغيره، إلا أن يأذن له الإمام الذي تلزمه طاعته.

    ثامنا: الرجوع بالصدقة رجوعا كليا أو جزئيا

    ومن أنواع الفساد في الصدقات رجوع صاحبها بها: كليا أو جزئيا، أما دليل النهي عن الرجوع كليا في الصدقة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته؛ كالكلب يرجع في قيئه».

    وأما الرجوع الجزئي عن الصدقة ما رواه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: قال: «حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تشتر، ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه!».


    وبين ابن حجر -رحمه الله- صورة ذلك الرجوع مع أن ظاهره البيع فيقول: العادة تقتضي بيع مثل ذلك برخص لغير المتصدق، فكيف بالمتصدق! فيصير راجعا في ذلك المقدار الذي سومح فيه.

    تاسعا: أنواع من الفساد المالي قد تلحق بالصدقات.

    ومما قد يلحق بالفساد المالي المتعلق بالصدقات لقربه منه في المعنى:

    أولاً: الكسب المالي الناتج عن الجور في العطية.

    تعد العطية من وسائل الكسب المشروع، إلا أن بعض الناس يتعدى في أعطيته، ومن أنواع التعدي فيه التي منعتها السنة النبوية أن يعطي الوالد بعض ولده دون بعض، كما في خبر النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: إن أباه أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكل ولدك نحلته مثل هذا؟» فقال: لا؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فأرجعه».

    وقد جمع ابن القيم ألفاظ الحديث وعلق عليها قائلا: وفي لفظ: هذا جور أشهد على هذا غيري. وهذا صريح في أن قوله أشهد على هذا غيري ليس إذنا؛ بل هو تهديد لتسميته إياه جورا، وهذه كلها ألفاظ صحيحة صريحة في التحريم والبطلان من عشرة أوجه تؤخذ من الحديث.

    ثانيا: الوصية بأكثرمن الثلث.

    حثت الشريعة على التبرع بالمال، ورغبت ببذله في أبواب الخير، إلا أنها نبهت على أن التطوع لا ينبغي أن يخل بالفروض، أو أن ينتقص من حقوق أصحاب الواجبات، ويتجلى هذا المعنى فيما رواه سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: «جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني، عام حجة الوداع، من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله، إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: فالشطر يا رسول الله؟ فقال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: فالثلث، والثلث كثير -أو كبير - إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في امرأتك...».

    فَمنْعُه - صلى الله عليه وسلم - سعدا من التبرع بماله جاء معللا، قال ابن هبيرة- رحمه الله- معلقا: خير دليل على أن ترك الرجل ورثته أغنياء خير من تركهم فقراء إذا أمكنه؛ لأن الخلق عيال الله، وهذا المتصدق (فإنما) يخرج ماله إلى بعض عيال الله -عز وجل-، وورثته (فهم) من بعض عيال الله -عز وجل-، فإذا عزم على التصدق؛ فالأولى أن يبدأ بمن يجمع بين الصدقة عليه وبين صلة الرحم فيه من ورثته؛ ولأن الرجل كاسب لورثته في حال حياته، فقد سعى لهم مدة حياته؛ فإذا ترك لهم بعده شيئا كان أيضا كالساعي لهم بما ترك لهم من ماله في أيديهم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •