بسم الله الرحمن الرحيم
وبه تعالى نستعين
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه؛ آمين.
أحبتي في الله رحمني الله تعالى وإياكم، يعلم الله أن المسألة أسهل وأوضح من أن يسطر فيها هذا الكلام كله، وما كان الله ليجعل نشر الدين بعد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتبليغة في يد رجال لم يكونوا جديرين بأن يصحبوا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإليكم الحق الواضح، والكلام الراجح في توضيح ما قد يعلق في صدروكم أو أفهامكم حول هؤلاء القمم بشأن هذه المسألة.
قال الشيخ العلامة/ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى:
ومما يبين فساد قولكم، وخطأ فهمكم في معنى حديث أبي هريرة: أن الصحابة رضي الله عنهم، أجمعوا على قتال مانعي الزكاة، بعد مناظرة وقعت بين أبي بكر وعمر؛ واستدل عمر على أبي بكر بحديث أبي هريرة، فبين صديق الأمة رضي الله عنه أن الحديث حجة على قتال من منع الزكاة؛ فوافقه عمر، وسائر الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويصلون.
ونحن نسوق الحديث بتمامه، ثم نذكر ما قاله العلماء في شرحه، ليتبين أن فهمكم الفاسد، لم يقل به أحد من العلماء، وأنه فهم مذموم مشؤوم، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع الأمة، فنقول:
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ فقال أبو بكر: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ فوالله، لو منعوني عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه; قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق".
وهذا الحديث خرجه البخاري في كتاب الزكاة، ومسلم في كتاب الإيمان، وهو من أعظم الأدلة على فساد قولكم؛ فإن الصديق رضي الله عنه جعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب.
وقد تكلم النووي رحمه الله على هذا الحديث في شرح صحيح مسلم، فقال:
باب الأمر بقتال الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من قال ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله تعالى، وقتال من منع الزكاة وغيرها، من حقوق الإسلام، واهتمام الإمام بشرائع الإسلام؛ ثم ساق الحديث.
ثم قال: قال الخطابي في شرح هذا الكلام كلاما حسنا لا بد من ذكره، لما فيه من الفوائد، قال رحمه الله:
مما يجب تقديمه، أن يعلم: أن أهل الردة كانوا إذ ذاك صنفين:
صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا لكفرهم، وهم الذين عنى أبو هريرة بقوله: وكفر من كفر من العرب.
والصنف الآخر: فرقوا بين الصلاة، وأنكروا فرض الزكاة، ووجوب أدائها إلى الإمام.
وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة، من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك، وفرقها فيهم.
وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر رضي الله عنه، فراجع أبا بكر رضي الله عنه وناظره، واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فمن قالها فقد عصم نفسه وماله"، فكان هذا من عمر رضي الله عنه تعلقا بظاهر الكلام، قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل شرائطه.
فقال أبو بكر: الزكاة حق المال; يريد أن القضية التي قد تضمنت عصمة دمه وماله، معلقة بإيفاء شرائطها، والحكم المتعلق بشرطين، لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم، ثم قاسه بالصلاة، ورد الزكاة إليها، وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة، كان إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك ردوا المختلف فيه إلى المتفق عليه.
فلما استقر صحة رأي أبي بكر رضي الله عنه وبان لعمر صوابه، تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله: "فلما رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال عرفت أنه الحق"، يريد انشراح صدره بالحجة التي أدلى بها، والبرهان الذي أقامه، نصا ودلالة. انتهى.
فتأمل: هذا الباب الذي ذكره النووي رحمه الله - وهو إمام الشافعية، على الإطلاق ـ، تجده صريحا في رد شبهتك: أن من قال لا إله إلا الله، لا يباح دمه وماله، وإن ترك الصلاة ومنع الزكاة؛ فالترجمة نفسها صريحة في رد قولكم، فإنه صرح بالأمر بالقتال، على ترك الصلاة، ومنع الزكاة.
وتأمل: ما ذكره الخطابي، أن الذين منعوا الزكاة، منهم من كان يسمح بها ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم، كبني يربوع، فإنهم أرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وأنه عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر في أمر هؤلاء، ثم إن عمر وافق أبا بكر على قتالهم.
وتأمل قوله: واحتج عمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله"، وكان هذا من عمر تعلقا بظاهر الكلام، قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل في شرائطه.
وتأمل قوله: إن قتال الممتنع من الصلاة، كان إجماعا من الصحابة.
وقد أشار الخطابي إلى أن حديث أبي هريرة مختصر; قال النووي رحمه الله: قال الخطابي: ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر، وأن عبد الله بن عمر وأنسا روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة; ففي حديث ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
وفي رواية أنس: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا؛ فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين". انتهى.
قلت: وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب والسنة، من رواية أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به؛ فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
وفي استدلال أبي بكر، واعتراض عمر رضي الله عنهما: دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة؛ وكأن هؤلاء الثلاثة سمعوا هذه الزيادة في روايتهم في مجلس آخر، فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليه، ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها، ولما كان احتج بالقياس والعموم، والله أعلم. انتهى كلام النووي.
فتأمل ما ذكره الخطابي، تجده صريحا في رد قولكم، وتأمل قوله: فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليهم.
وبالجملة: فحديث أبي هريرة حجة عليكم لا لكم، ولو لم يكن فيه إلا قوله: "بحقها" لكان كافيا في بطلان شبهتكم؛ فإن الصلاة والزكاة من أعظم حقوق لا إله إلا الله، بل هما أعظمها على الإطلاق.
ومما يدل على بطلان قولكم، وفساد فهمكم في معنى الحديث، أعني حديث أبي هريرة: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"، أن جميع الشراح والمحدثين لم يتأولوه على هذا التأويل الذي ذهبتم إليه.
فإنه حديث صحيح مخرج في الصحاح، وهؤلاء شراح البخاري، ومحشّوه نحوا من أربعين، كما نبه عليه القسطلاني في خطبة شرح البخاري، وكذا شرح مسلم، هل أحد منهم استدل به على ترك قتال من ترك الفرائض؟ بل الذي ذكروه خلاف ما ذهبتم إليه; ولو لم يكن إلا احتجاج عمر به على أبي بكر، واستدلال أبي بكر على قتال مانعي الزكاة، لكان كافيا. انتهى كلام الشيخ رحمه الله
فالحمد لله من قبل ومن بعد، ورجاء خاصا لا تكلفوا السؤال فوالله لأنها من أوضح وأسهل القضايا.