الوثائق الوقفية ودورها في إثراء تاريخ الحضارة الإسلامية
محمد مرسي محمد*
من الواضح أن مفهوم الوقف في العالم العربي والإسلامي يستند بقوة إلى الخلفية الدينية، فاستشعار المسلم لدوره في الحياة انطلاقاً من العقيدة الإسلامية أدى إلى تلك الفعالية الهائلة لنظام الوقف في التجربة التاريخية كما نلحظ أن تراجع الفكر الإسلامي وضعف العقيدة الإسلامية في توجيه القضايا الكبرى في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، كان لهما مظاهر عديدة، منها ما رافق تلك الفترة من تراجع بَيِّنٍ للنظام الوقفي وتطبيقاته. كما أن ما يحدث في عالمنا المعاصر من عودة فاعلة للفكر الإسلامي والرغبة العارمة في تقديم مشروع حضاري إسلامي –على رغم تباين المواقف تجاهه– رافقه أيضاً اهتمام كبير بمسألتين تنطلقان من الخلفية الدينية ولهما آثارهما الاجتماعية والاقتصادية وهما الوقف والزكاة.
وإذا كانت صناعة الحضارة الإسلامية قد مثلت ملحمة عظمى، نهضت بها الأمة على امتداد قرون عديدة.. منذ أن خرجت هذه الأمة من بين دفتي القرآن الكريم: صانع عقيدتها وشريعتها.. ومؤلف وحدتها.. وموضوع علوم شريعتها.. ومصدر الصبغة الإلهية لعلوم حضارتها.. وناسج المعايير التي عرضت عليها مواريث الأمم التي سبقتها وعاصرتها.
إذا كان هذا هو شأن "الأمة" في صناعة هذه الحضارة -فإن(الوقف) قد كان المؤسسة الأم التي مَوَّلَتْ صناعة أمتنا لهذه الحضارة الإسلامية– ولم تكن "الدولة" ولا "الخزائن" هي التي صنعت أو مولت هذه الملحمة الحضارية العظمى!
فالمالك الحقيقي للأموال والثروات هو الله.. وللإنسان فيها ملكية المنفعة –الجازية- التي تطلق حوافز إبداعه في التنمية والاستثمار، وفق عهد الاستخلاف.
لكن.. أما وقد جاءت صناعة الحضارة الإسلامية بواسطة "الأمة"، فقد اقتضى تمويل هذه الصناعة قيام مؤسسة التمويل الاجتماعي التي تحرر المال من استبداد الفرد -فضلاً عن الدولة-، وترده خالصاً لملكية الله، ليكون وقفاً على العمل الحضاري العام.
لقد نهض الوقف في الحضارة الإسلامية بهذا الدور.. دور إعادة "الملكية المجازية" في الأموال والثروات إلى "الملكية الحقيقية" فيها.. وهنا يرد "ابن حزم" على القائلين بأن الوقف –الحُبس- يخرج الأموال من ملك الواقف إلى غير مالك - يقول: "إن الحُبس ليس إخراجاً إلى غير مالك، بل إخراج إلى أَجَلِّ المالكين، وهو الله -سبحانه وتعالى-"(1).
ولإمكانية "إنشاء" وقف فلابد أن يكون ذلك من خلال "وثيقة" أو "حجة"، وللوثيقة أو (الحجة) أهمية في تحليل العلاقة بين الأوقاف والدولة ودورها -أي الأوقاف- في مجال علاقة المجتمع بالدولة.
والوثيقة الإسلامية: صك كتب ليكون حجة في المستقبل لإثبات حق أو التقيد بالتزام، سواء أكان ذلك بين طرفين أم بإرادة منفردة واحدة، كالوصية والوقف(2).
والواقع أن أول وثيقة وقفية في الإسلام هي وثيقة عمر بن الخطاب t ونصها الكامل هو: "هذا ما أوصى به عبد الله: عمر الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم الذي بخيبر، ورقيقة الذي فيه، والمائة الذي أطعمه رسول e بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثم ذَوُو الرأي من أهلها، ولا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى، من السائل والمحروم. وذوى القربى، ولا حرج على من وليه إن أَكَلَ، أو أَكَّلَ، أو اشترى رقيقاً منه"(3).
كما أن وثائق الوقف عبارة عن صكوك شرعية تسجل في المحاكم ويشهد عليها الشهود وتتضمن أن فلاناً قد وقف مجموعة الكتب في دار مستقلة أو مدرسة أو مسجد أو رباط،وتحمل مجموعة من الشروط التي يجب أن تتبع في إدارة الوقف، وتبين قائم وقفه في سبيل استمرار الاستفادة منه على المدى الطويل، وأقدم نماذج هذا النمط كانت ترد ضمن وثائق تشير إلى ما تم وقفه من أوقاف متنوعة على مجموعة متباينة منها المسجد والرباط والمدرسة والمكتبة، ومن أمثلة ذلك وثيقة وقف عمر بن الخطاب t ووقف الحاكم بأمر الله الفاطمي المدونة في عام 400هـ والتي تضمنت ما وقفه على الجامع الأزهر براشدة والجامع بالمقس ودار الحكمة(4)، وهناك مجموعة من وثائق الوقف من العصر المملوكي تضمنت قضايا تنظيمية تتعلق بمكتبات المدارس، مثل وثيقة وقف السلطان الغورى، ووثيقة وقف السلطان فرج برقوق ووثيقة وقف جمال الاستادار، ووثيقة وقف الأمير صرغتمش(5).
وقد تضم وثيقة الوقف عند الإشارة إلى ما يخص المكتبة: عناوين الكتب الوقفية، وفي هذه الحالة تأتى الوثيقة في شكل كتاب مجلد، كما هو الحال بالنسبة لوثيقة وقف مسجد محمد بك أبى الذهب في القاهرة والتي جاءت في كتاب صفحاته116صفحة، اعتنى بإخراجه عناية كبيرة من حيث التجليد والورق وجعلت الصفحات في أطر مذهبه(6)، والنص المتعلق بوقف المكتبة يبتدئُ من الصفحة الثالثة والسبعين وبدايته ".. وأن مولانا الأمير محمد بيك الواقف المشار إليه أعلاه وقف أيضاً وحبس وسبل وتصدق لله -سبحانه وتعالى- بجميع الكتب الشريفة الجليلة المقيدة التي حوت القرآن وأنواع الفنون من تفسير وحديث وفقه وشروح ومتون وغير ذلك مما يأتي بيانه فيه المشتملة بدلالة الدفتر المكتتب في شأن ذلك على مصحفين.."(7)، وبعد تعداد وذكر العناوين التي وقفت، تذكر الوثيقة بعض النقاط المتعلقة بتنظيم الاستخدام والاستفادة منها، وما يتطلبه الحفاظ عليها من عقوبات تنزل على خازنها عند التفريط..(8).
لقد كان للوقف دورٌ مميز في تقديم معطيات فنية لها دلالات تاريخية واجتماعية واقتصادية أدت إلى إثراء التاريخ الإسلامي، فمن خلال الوقفيات ووثائقها تم إبراز العديد من المعالم:
أ- تم التعرف من خلال الوثائق الوقفية على المعالم العمرانية والأراضي الزراعية وأصحاب المناصب وأماكن الأوقاف والعملات والمرتبات للموظفين وتقديمات الأوقاف والمستفيدين من الوقف كذلك التعرف إلى أسماء عدد من أمراء المناطق وكذلك أسماء عدد من الأعلام ومن أماكن ومواقع عمرانية كثيرة والأسواق، والعائلات، وأصبحت الوثائق الوقفية تشكل مصدراً مهماً للمعطيات الطبوغرافية التي تتعلق بقرية أو مدينة أو حتى منطقة بكاملها(…)، فالوقفيات تحفل بوصف وتحديد الأراضي والمزارع التابعة لقرية من القرى، بحيث تساعدنا كثيراً على إعادة تصور الوضع الطبوغرافي للقرى كما كانت عليه قبل قرون، وخاصة بالنسبة لتلك القرى التي اندثرت وتلاشت معالمها مع توسع المدن واندماجها فيها(9).
ب- تعتبر الوثائق والسجلات الوقفية مستندات لا يمكن الطعن في صحتها ومصدراً لإعادة إحياء التراث الإسلامي، وإعادة كتابة التاريخ وقلب المفاهيم التاريخية التقليدية، فالوثائق الوقفية تَمُدُّنا بأعداد الوقفيات الإسلامية وأماكنها المشرذمة والمتعددة، وأوقاف السلاطين والأمراء، وكذلك بأسماء الشوارع والأحياء والخانات(10) التي اندثرت وأسماء المفتين والبطاركة والثكنات العسكرية(11).
ج- أهمية الوثائق الوقفية: فهي تعتبر بمثابة تراث وطني لا يقدر بثمن، ومصدر لا غنى عنه، فبدون الرجوع إلى وثائق الوقف لا تستطيع المصادر التقليدية تجديد نظرتنا للأحداث وإعادة حكمنا على الوقائع التي تعطي تقارير دقيقة عما تصفه من قرى ومن منشآت، من ثم فإن فائدتها تكمن في فتح أفق جديدة للتاريخ الاقتصادي إلى عصور لا نعرف عنها الشيء الكثير(12). هذا فضلاً عن التحف الغنية التي تؤرخ لفترة زمنية معينة، والتي يعود أكثرها في ملكيته إلى الأوقاف، فمن معروضات متحف الفن الإسلامي بالقاهرة، ومعظم معروضات متحف دار الكتب المصرية بالقاهرة، كلها عبارة عن تحف منقولة موقوفة على المساجد والمدارس وما إلى ذلك، وكذلك التحف الموقوفة على العتبات المقدسة(13).
وتتضح أهمية الأوقاف من خلال الوثائق المنقوشة على الجدران أو المحفوظة في المحاكم، وخاصة لدى الباحثين على اختلاف تخصصاتهم، لما لها من عناصر فنية جمالية، وما فيها من معطيات مختلفة ومضامين، فهي تصلح مادة فنية لدى المهندسين والخطاطين والمعماريين لجهة خطوط الكتابة وأنواعها وأشكالها وتناسقها وأبعادها، كما تصلح مادة مهمة لدى الباحثين الاجتماعيين، ومصدر معلومات غنيًّا للمؤرخين والباحثين في تخطيط المدن والتطور العمراني، والدارسين في المجالات الاقتصادية وفروعها التجارية والصناعية والزراعية، والمهتمين بالحركة الثقافية والحياة الدينية، وللماليين الذين يرصدون تطور القيمة النقدية والعملات، وللباحثين في أنواع الوظائف الدينية أو الطبية أو العسكرية، ومخصصاتهم الشهرية أو السنوية في عصر من العصور"(14)، بل سجلت لنا الوقفيات كل ما يتعلق بالأملاك وكيفية التصرف بها، ووصفت المنشآت المعمارية وصفاً دقيقاً يتخللها مصطلحات فقهية يستطيع من يدرسها بعمق أن يربط بين الفقه والعمارة ربطاً دقيقاً، بل تعبر هذه المصطلحات أحياناً عن الوظيفة الدقيقة للمكان(15).
د- مصدر متنوع: فحرص الواقف على تدوين الوقفية بشكل مفصل وعن موقع كل منشأة ونفقاتها، وهذه الوثائق تعتبر مصدراً مهماً لدراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديني والثقافي والحضاري، فمن هذه الوثائق نجد "كمية كبيرة من المعطيات التي تتعلق بالجوامع والحمامات وأقنية الري والجسور والخانات والاستراحات والمدارس والمستشفيات"، وبذلك تظهر مدى الأهمية التي يشكلها الوقف في دراسة التاريخ من مختلف جوانبه، بل لا يمكن "تجاهل الوثائق الوقفية في دراسة التاريخ الحضاري"(16).
وهناك الكثير من الفجوات والفراغات التي لا يمكن تجاوزها إلا بتوفر "مادة تاريخية جديدة غير قابلة للتحريف أو التزوير، ومن المذكور أن هذه المادة لا تجدها خارج وثائق الأرشيف، وقد يكون الجزء الأساسي منها خاصًّا بمسائل الوقف، وهذا ما جعل سجلات الوقف تُعَدُّ المصدر الأساسي والمادة الخام لكل مؤرخ أو باحث في قضايا التاريخ الداخلي لأي مجتمع إسلامي، فالجوانب الغامضة أو غير الموجودة من التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لا يمكن إيضاحها والتعرف على وقائعها وتلمس خصائصها خارج معطيات وثائق الوقف"، وهى مستندات لا يمكن الطعن في صحتها مطلقاً، وأن إعادة إحياء هذه الوثائق والسجلات سيؤدى إلى إعادة كتابة التاريخ وقلب المفاهيم التاريخية التقليدية(17).
ولا يمكن تجاهل ما يمكن أن تؤدى إليه دراسة الوقفيات من خدمة لتاريخ الكتاب من جانبين: الجانب التاريخ، والجانب الباليوغرافي أو الخطي. فاعتماداً على المخطوطات الحاملة لوثائق الوقف فإنه يمكن تَأْريخ نسبة كبيرة من هذه المخطوطات وتعريفها، ومما يساعد المهتمين بعلم المخطوطات في دراستهم المخطوطية هذه هو وجود هذه الوثائق الوقفية على ظهر الأوراق الأولى من المخطوطات، وأحياناً في وسطها، كما توجد هذه الوقفيات في بعض أجزاء المخطوط أو في جميع أجزائه، أما الجانب البالوغرافي أو الخطي، فيمكن للباحث في المخطوطات أن يحل رموز كتابه طالما ظل صاحبها مجهولاً، بمعنى أن مؤلَّف مخطوط مجهول المؤلِّف يكتشف من خلال مقابلة خط وقفية له عليها اسمه بكتابة هذا المخطوط(18).
لقد شجع الوقف على تمتين العلاقات بين الشعوب والتمازج بين الحضارات، فوجود الوقف شجع السياحة والتنقل بين المناطق وأعطى الشعور بالأمان، لمن يقوم بذلك بأنه لن يضيع أو يجوع، وهو ما سمح لابن بطوطة(الرحالة الشهير) أن يقوم برحلته، "فقد تمثلت الأخوة الإسلامية في بناء الكثير من الزوايا والمدارس والربط إذ سمح هذا النظام لابن بطوطة بالقيام بأسفاره، فعلى امتداد الرحلة يذكر ابن بطوطة نزوله في هذه الزاوية أو تلك، وحتى عندما أصبح موسراً من جراء العطايا كان ينزل هو وصحبه في هذه الزوايا التي تُؤَمِّنُ لهم المأكل والمشرب والمنام، وبعض التقديمات المالية عند السفر أحياناً، ولا شك في أنه قد استفاد من التسهيلات التي تقدمها الأخوة الإسلامية عندما جاور عامين في مكة". وهو ما حصل مع ابن جبير(رحالة أيضاً) حيث لم يتمالك نفسه من الإعجاب بمدى ما لمسه من مدن المشرق الإسلامي من عناية بالغرباء، ولا سيما إذا كانوا من رجال الدين وطلاب العلم والمشتغلين بها، فقد كانت هناك أعدادٌ من المغاربة نزحوا إلى المشرق إمّا للحج، وإمّا خلاصاً من الأخطار التي تعرضت لها بلاد المغرب والأندلس أواخر العصور الوسطى، وقد وجدوا رعاية بالغة من خلال العديد من الزوايا والمنشآت المخصصة للزهاد والمسافرين والفقراء التي كانت ترعاها وتصرف عليها الأوقاف(19).
إن ما قام به ابن بطوطة وابن جبير وغيرهما، وما قدموه من تعريف بالمناطق والعادات والتقاليد -لم تكن لتحصل ولم نكن لنطلع على هذا الإرث العظيم من التعريف لولا وجود الأوقاف، وما تمده للأماكن التي آوتهم ورَعَتْهُمْ، بل كان نجاح هذه الرحلات "أكبر دليل على عظمة الأخوة الإسلامية، وما تقدم للمسلمين من خدمات جُلَّى"(20).
إن انتشار الأوقاف من خلال وثائقها في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي كانت له دلالات حضارية خاصة:
أ- إن الكثير من المسلمين قد أوقفوا في مناطقهم وفي خارجها، وهو أمر له دلالة على ما تتمتع به الأمة الإسلامية من تسامح، وهي سمة من سمات الحضارة الإسلامية المبنية على عدم التمركز، "فالازدهار الحضاري الذي عرفته بخارى وطشقند وسمرقند وصولاً إلى مراكز الفقه والثقافة والحضارة غرباً، كان ذلك في حالة موازاة إن لم يتفوق على ما كان في المركز في بغداد"(21).
ولكن ذلك يختلف تماماً عن الحضارة الغربية، "فشرط وجودها المركز والأطراف التابعة، بما في ذلك حضاريا وأيديولوجيا وثقافيا، أما الاندماج أو التساوي بين المركز والأطراف فيعنى انفجار الوحدة وانهيار النظام الرأسمالي العالمي، كما يعنى انفجار الحداثة الغربية العالمية؛ لأن إعطاء الشعوب حقاً وحقيقة وضعاً حضاريا وثقافيا مساوياً لقرينه في المركز- يعني انتهاء الحضارة الغربية"، بل إن سياسة المجتمعات الغربية تقوم على "نهب العقول القادرة على تحقيق الذات بوسائل التهجير التربوي والأمني والبوليسي، وإغراءات إشباع الحاجات التي يحرم أصحاب العقول الذكية منها في مواطنهم، مواطن العالم الثالث"(22).
ب- عدم التعصب في نطاق الحضارة الإسلامية لطائفة أو لطبقة أو لمنطقة، وهو ما يبرز خاصة في المدارس والمكتبات والمنشآت الاجتماعية، فقد جعل ذلك من الارتقاء الاجتماعي في الإسلام مفتوحاً لكل الناس بما أتاحته أساليب الوقف، إذ لم تفرق أموال الوقف بين جنسية وأخرى وبين طبقة وأخرى.. بل سهلت للجميع الوصول إلى أقصى المراتب العلمية والاجتماعية والسياسية، وهذا التصرف على عكس ما يعمل به في الغرب، "فالغربيون في مؤسساتهم الخيرية الاجتماعية، كثيراً ما يحصرون الانتفاع بها في مواطنهم من أبناء دولتهم، أو أبناء مدينتهم، أو ديانتهم"(23).
ج- أثبت الوقف أن الحضارة تصنعها الأمة، فلا تحتكر قيامها فئة أو طبقة من المجتمع، وإنما يصنعها المجتمع كله، فالأمة بمختلف عناصرها وتياراتها هى التي أبدعت حضارة الإسلام، "والوقف كان المؤسسة الأم التي مولت صناعة أمتنا لهذه الحضارة".
ويمكن توضيح علاقة الوقف بالأمة والحضارة -من خلال الوثائق الوقفية- فيما يلي:
- ارتبطت الحضارة الإسلامية بما أنفقه الوقف على عناصر عديدة من رعاية اجتماعية وتربوية وصحية وعسكرية ودينية، في ضوء الوثيقة الوقفية فضلاً عن المشاركة الأهلية في صنع الحضارة، فلم تكن الدولة هي الفاعل الوحيد، بل شاركها المجتمع المدني بكافة جوانبه، وكانت الأمة حاضرة، ومن هنا فإن الحديث عن أي مشروع لبعث الحضارة الإسلامية لابد أن يعنيتصحيح الخلل الذي حدث في العلاقة بين الدولة والأمة، ولتعود للمؤسسات الأهلية والطوعية والخيرية دورها الفاعل، وفي مقدمتها الأوقاف في تصحيح هذا الخلل، وتمكن الأمة من إنجاز تحول حضاري جديد(24).
- الحضارة تصنعها المؤسسات: وهو ما أبقى الحضارة الإسلامية حية فترة طويلة من الزمن، وذلك من خلال طبيعة الوقف المتجددة، وهي ظاهرة واضحة في التاريخ الإسلامي، فقد استطاعت المؤسسات التي أقامها الوقف الاستمرار والبقاء طويلاً، دون أن تتوقف عن أداء رسالتها عقب وفاة مؤسسيها، في ضوء الوثيقة الوقفية ذلك أنه في كثير من حلقات التاريخ وعديد من بلاد العالم "توقفت المؤسسات الخيرية عن أداء رسالتها بعد فترة من الزمن بسبب وفاة مؤسسيها، ونُضُوب مواردها، وعدم توفر الإمكانات المادية التي تمكنها من الاستمرار في أداء الرسالة، مما يضطرها إلى طلب المساعدة الخيرية بين حين وآخر، حتى تتوقف تماما عن العلم، أما في ظل الحضارة العربية الإسلامية، فإنه قلَّ أن تصادفنا هذه الظاهرة".
- لقد أسهم الوقف في تفعيل المعادلة الشهيرة: (إنسان وتراب ووقت) ينتج: حضارة، حيث كان له الدور الفعال في الاستفادة من طاقات الإنسان والزمن بشكل خاص من خلال المؤسسات المختلفة، فقد انتشر التعليم في المؤسسات الوقفية بناءً على ما جاء في الوثيقة الوقفية، وبين كل أفراد المجتمع، حتى انتشرت الثقافة بين الخدم والفراشين والبوابين وغيرهم، ونبغ من الطبقات المتواضعة عدد كبير من العلماء. إن كل ذلك أسهم في الإعداد لقيام مجتمع إنساني يحمل قيماً وآداباً رفيعة، وحصلت النقلة العجيبة من الطور البدائي للعرب والشعوب والأمم الممتزجة بهم في إطار الجامعة الإسلامية إلى نمو حضاري شامل أكسب هذه الأمة المتانة العقدية، والاستقامة السلوكية، والريادة العلمية، والفكرية، والنهضة الاجتماعية والاقتصادية، والرفاه والقوة والمنعة.
خلاصة القول:
أنه يمكن التأكيد على أن النظام الوقفي في المجتمعات الإسلامية قد تبدل تماماً، وأن الحال القائم هو غير الحال المنتظر من نظام الوقف الذي تم الإطلاع عليه من خلال الوثائق الوقفية، ونستطيع إبداء الملاحظات التالية المعبرة إلى حد كبير عن واقع الوقف في جميع البلاد العربية الإسلامية.
1- إن المحاولات التاريخية القديمة من قبل عدد من المحاكم للسيطرة على ممتلكات وقفية من هنا أو هناك بعيداً عما جاء في الوثائق الوقفية لا تعدو أن تكون رغبة في تسلط ما أو في مصادرة لأرض معينة لهدف معين، ورغم جميع المحاولات التي جرت قديماً من هذا القبيل فإنه لم يخل زمن من حاكم إلا وأسهم في تعزيز مفهوم الوقف وتوسيع نطاقه وتنويع خدماته، بحيث يشكل الوقف للدولة عضداً في تأمين خدمات المجتمع وحاجاته المستجدة والمتغيرة باستمرار، كما بقى لدى الأفراد قديما تلك الروح المبادرة إلى خدمة المجتمع من خلال الوقف، وخصوصا لاستناده إلى دافع مهم هو الرغبة في الحصول على الثواب الدائم من خلال مفهوم الصدقة الجارية.
2- إن إساءات المتولين في إدارات الوقف قديما والتي لا تلتزم بما جاء في الوثيقة الوقفية نجدها قد وسمت كظاهرة إدانة للوقف ووضعت ضمن الدوافع التي أدت إلى عمليات وضع اليد عليه، نراها ظاهرة بشرية طبيعية كان يمكن معالجتها بشيء من الضوابط التي تحد من إساءاتها، وكان يمكن تصحيح مسيرة إدارة الوقف في حال اعتمد نظام التولية الجماعي بدلا من الفردية، فيتحول الوقف إلى مؤسسة واقعية لا تخضع لأمزجة شخصية، إذا لم تحدث معالجة حقيقة فاعلة لهذا الموضوع، بل استعمل سبباً لإجراءات أدت إلى مزيد من البلبلة.
3- أحكمت الدولة الحديثة وضع يدها على النظام الوقفي بحجة إصلاحه مخالفةً بذلك بما جاء في الوثائق الوقفية، إلا أن النتيجة العملية أنها أساءت إلى الوقف بشكل ظاهر لا يخفي على أحد وكان من سمات هذا الإصلاح:
أ- سوء الجهاز الإداري في إدارات الأوقاف الذي أصبح السمة العامة والمشهورة لهذه المؤسسة في جميع البلدان العربية والإسلامية، وبات يُضْرَبُ به المثلُ في التخلف لأن الإدارة ذهبت بعيداً عما جاء في وثيقة الوقف.
ب- عدم الحفاظ على شروط الواقفين التي جاءت في وثائقهم، فقد جرى ضم الممتلكات إلى بعضها ووضع للواردات الوقفية ميزانيات عامة تقررها سياسات الحكومات بصرف النظر عن اشتراط الواقفين.
ج- إن الأسس التي جرى الكلام عنها كثيراً في قدرتها على حفظ استقلالية الأوقاف واستمرارها قديما لم يكن لها دور فعلي أو أثر عندما قامت الدولة الحديثة بوضع يدها على الأوقاف والتصدي لإدارتها مباشرة مخالفة بذلك ما جاء في الوثيقة، إذ لم تلتفت إلى أي اعتبارات يمكن أن تحد من قدرتها تلك.
د- اندثار الخدمات الاقتصادية والاجتماعية للوقف، حيث لم يعد للوقف حسب الوثيقة الوقفية دور ملحوظ في تنمية المجتمع ورفده بالطاقات المالية والخدماتية المتنوعة، وتحول العمل الاجتماعي الخيري إلى مفهوم الجمعيات المؤسسة بقرار من الحكومات واعتمادها على تبرعات الأفراد وهباتهم النقدية، وهذا ما جعل العمل الخيري الاجتماعي رهينة إرادة الحكومات يمكن منعه أو مصادرته في أي لحظة، ورهينة الوضع الاقتصادي لأفراد المجتمع لتعلقة بتبرعاتهم المؤقتة التي ليس لها صفة الديمومة كما الواردات الوقفية.
هـ- حصر مفهوم الوقف بالمسألة الدينية التعبدية المحضة، فلم يعد يعرف من خدمات الوقف إلا العمل على بناء المساجد، وأن الصدقة الجارية مرتبطة بالمساجد وما يتبعها من مؤسسات خاصة بها، وهذا ما ضيع شمولية نظام الوقف. وهذا ما نلحظه في إدارات الوقف في العالم العربي المرتبطة بما يسمى بالشؤون الإسلامية، رغم أنه يوجد بالوثائق الوقفية مجالات عديدة غير ذلك.
و- هذه الصورة من الواقع الوقفي أدت إلى تقاعس الأفراد وإحجامهم عن المبادرة إلى الوقف لغياب مفهومه عن الأذهان، إضافة إلى عدم القناعة بما جاء في شروط الواقفين المسجلة في الوثائق الوقفية، وهذا ما يمكن ملاحظته في التناقص الشديد في عدد الوقفيات في سائر البلاد العربية والإسلامية منذ بدايات القرن العشرين.
لذلك كله نقول: إن نظام الوقف في العالم العربي الإسلامي قد تلقى في العصر الحديث ضربة قاسية أنهكت بنيانه، وقضت على أسسه، وضيعت مفاهيمه، وغيَّبَتْ أهدافه، وألغت نماذجه الراقية، وحولته إلى مجرد ثروة في الممتلكات المتفرقة، أغلبها معطل لا يستثمر، وإن استثمر فبأساليب غير مجدية، بحيث لم تعد إيراداتها تفي حتى للمجال الديني الضيق الذي انحصر فيه الوقف، كل ذلك كان بسبب عدم الالتزام بما جاء في الوثائق الوقفية التي تحدد مجالات الوقف وأهدافه وشروط إدارته.. إلخ.
4- إن من نتائج التبدلات الفكرية التي جرت في العالم العربي والإسلامي، في الربع الأخير من القرن العشرين، إدراك أهمية مؤسسة الوقف وبداية تحرك لإحياء مفاهيمه من خلال ظهور مشاريع أنظمة وقوانين، بل إنشاء مؤسسات بدأت بطرح صور جديدة لإدارات تعمل على التنمية اللازمة للمال الوقفي بما يؤهله لاستعادة دوره في التكوين الاقتصادي والاجتماعي.
لقد انحصر دور الأوقاف في الحياة الإسلامية المعاصرة وانحسر في أكثر المجتمعات الحديثة مع العلم بأن الأمة الإسلامية في هذه المرحلة هي أشد حاجة من أي وقت مضى لعوائد الأوقاف لمقابلة حاجاتها الملحة والمتزايدة.
***********************
الهوامش:
*) باحث من مصـر.
1 – الموسوعة الفقهية، الكويت، الطبعة الثانية، 1410هـ
2 – عبد الله بن محمد الحجيلي، دراسة وثائقية وقفية في الإسلام، مجلة أوقاف، العدد3، الكويت، 2002م، ص101.
3 – هذه الوقفية أشهر وقفية في الإسلام، فقد أخرجها كاملة أو طرفاً منها أئمة الإسلام من المحدثين وغيره، وهذا النص المدون هو ما رواه أبو داود في سننه الجزء الثالث، صفحة 117، حديث رقم 2879.
4 – ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء13، مكتبة المعارف، بيروت، 1977م، ص72.
5 – المقريزي، كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروفة بالخطط المقريزية، الجزء الثاني، دار الطباعة المصرية، القاهرة 1270هـ، ص366.
6 – ابن فرحو اليعمري، كتاب نصيحة المشاور وتسلية المجاور (مخطوطة تم نسخها في سنة 1093هـ محفوظة بدار الكتب المصرية برقم 43049) ورقة 54.
7 – المقريزي، مرجع سبق ذكره، ص401.
8 - كتاب التبر المسبوك في ذيل السلوك، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، د.ت، ص181.
9 – عمر عبد السلام تدمري، الأوقاف المنقوشة على جدران مساجد طرابلس الشام ومدارسها ودلالاتها التاريخية في عصر المماليك، مجلة أوقاف، العدد الأول، الأمانة العامة للأوقاف، الكويت، 2001م، ص43-48.
10- الخانات، جمع خان، فكان يبيع فيه التجار، والخان أيضا: موضع ينزله المسافرون.
11 – حسان حلاق، أوقاف المسلمين في بيروت في العهد العثماني، المركز الإسلامي للإعلام والإنماء، بيروت، ط1، 1985، ص5.
12 – صلاح حسين العبيدي، مؤسسة الأوقاف ودورها في الحفاظ على الآثار الإسلامية والمخطوطات، ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي والإسلامي، معهد البحوث والدراسات العربية، بغداد، 1983م، ص182.
13 – مؤسسة الأوقاف ودورها في الحفاظ على الآثار الإسلامية، مرجع سابق، ص193-194.
14 – عمر عبد السلام تدمري، مرجع سبق ذكره، ص351-357.
15 – خالد محمد عزب، تخطيط وعمارة المدن الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، كتاب الأمة، العدد 58، 1418هـ، ص46.
16 – محمد الأرناؤوط، ، دور الوقف في المجتمعات الإسلامية، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 2000م، ص12.
17 – ناصر الدين سعيدوني، دراسات تاريخية في الملكية والوقف والجباية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 2001م، ص196-197.
18 – أحمد شوقي بنبين، دراسات في علم المخطوطات والبحث البيبلوغرافي، منشورات كلية الآداب بالرباط، مطبعة النجاح، ط1، 1993م، ص54.
19 – ابن جبير، رحلة ابن جبير، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت، شرحه وكتب حواشيه طلال حرب، ص100.
20 – طلال حرب في مقدمته، رحلة ابن بطوطة تحفة النظار في غرائب الأمصار، دار الكتب العلمية، د.ت، ص193.
21 – منير شفيق، في الحداثة والخطاب الحداثي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1999م، ص31.
22 – المرجع السابق، الصفحة نفسها.
23 يحيى محمود جنيد، الوقف والمجتمع، مؤسسة اليمامة الصحفية الرياض، كتاب الرياض رقم39، 1417هـ، ص61.
24- محمد عمارة، دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة، ندوة نحو دور تنموي للوقف، الكويت، 1993م، ص170.
-----------------