الطوائف الحرفية .. تاريخ الإتقان في الحضارة الإسلامية
فاطمة حافظ
عرفت المجتمعات الإسلامية في عصورها السالفة مجاميع محلية كانت من أهم ملامحها ولعل أهمها نظام أهل الصناعات والحرف المسمى “الطوائف الحرفية” أو “الأصناف”، وهو عبارة عن تكتل يضم أهل كل حرفة أو صناعة معينة في هيئة واحدة، ولقد كان نظام الطائفة أحد الخواص المميزة للمدينة الإسلامية إذ يندر أن يجد المرء مدينة تخلو من الطوائف، ولقد كان لكل منها تنظيم هرمي ثابت ودستور أو قانون غير مدون ينظم ممارسة الحرف ويضبط تعاملات أفرادها بميثاق أخلاقي ثابت لا يتبدل.
آراء حول نشوء نظام الطوائف الحرفية
تعددت الآراء حول نشوء الطوائف والأصناف، إذ بينما يذهب بعض الدارسين إلى أن فكرة الطائفة ظهرت خلال العصر البيزنطي وأن الطوائف الإسلامية نقلتها عنه، لكن ليس هناك براهين كافية تدعم هذا الافتراض وخصوصا أن الطائفة لم تظهر في العالم الإسلامي إلا في القرن الثالث الهجري على الأقل، ويذهب لويس ماسينيون إلى أن أول ظهور للطائفة كان في عهد الفاطميين، إذ استهدفت الدعوة الإسماعيلية التي تبناها الفاطميون جذب مناصرين من أرباب الحرف والصناعات ليكونوا عونا لها ، وتلقف برنارد لويس[i] هذا الرأي ذاهبا إلى أن هناك ثلاثة براهين تؤيد أن الفاطميين هم من أوجدوا الطوائف الحرفية في ديار الإسلام:
– الأول، أن كتاب الدعوة الإسماعيلية الأشهر (رسائل إخوان الصفا) خصص فصلا كاملا للنظر في الحرف وأصنافها وتبويبها والإشادة بها.
– والثاني الفرق الواضح بين وضعية أهل الحرف في عهد الفاطميين وفي غيرهم من العهود الإسلامية، إذ كانت هذه الحرف مضطهدة تضيق عليها السلطات الخناق من خلال المحتسب، ولقد بدا ذلك من خلال الصورة السلبية للحرف التي كرستها كتب الحسبة في معظم البلدان، وأما في عصر الدولة الفاطمية فقد كانت تتمتع بنفوذ عظيم وبرعاية الدولة، ودلل على ذلك بوضعية علماء الأزهر وطلابه في ذلك العهد فقد كانت خير مثال على الوضعية المميزة لأرباب الحرف.
-والثالث، استمرار الأثر الإسماعيلي في هذه الطوائف إلى عدة قرون تالية، وهو ما يمكن تبينه بعض الرسائل المتأخرة مثل رسالة (التحف والذخائر في بير الحرف والصنائع) والتي تعود للقرن السادس عشر-كما يدعي-وهي تبين كراهة أصحاب الحرف للعهد العثماني، وتبدو فيها فكرة انتظار المهدي لينقذ البؤساء من العمال.
وبفحص هذه البراهين التي ساقها لويس نجدها لا تنهض دليلا على أن الدعوة الإسماعيلية هي التي أنشأت ونظمت الحرفية الإسلامية للأسباب التالية:
أن التشكيلات الحرفية أخذت تظهر في الأفق قبل قيام الدعوة الإسماعيلية بقرن تقريبا، إذ يذكر ابن عذارى في تاريخه أن يزيد بن حاتم والي أفريقية والمغرب في منتصف القرن الثاني كان حسن السيرة ” فقدم أفريقيا وأصلحها ورتب أسواق القيروان وجعل كل صناعة في مكانها”، وهو ما يشير إلى أن تجمع أهل كل حرفة وصناعة كان موجودا بالفعل.
يتخذ لويس من العلماء الأزهريين دليلا وحيدا للبرهنة على وضعية الطوائف في ظل العصر الفاطمي، وهو ما لا يمكن التسليم به ليس لأن العلماء لا يمكن اعتبارهم حرفة أو طائفة وحسب، وإنما لأن التنظيم الأزهري التقليدي لم يظهر إلى الوجود بوضوح إلا في العصر العثماني بعد قرون من زوال الدعوة الإسماعيلية، ذلك أن منصب شيخ الجامع على سبيل المثال لم يظهر إلا في القرن الحادي عشر الهجري.
أن رسالة “التحف والذخائر في بير الحرف والصنائع” التي ذكرها إليها لويس، لا تمت من قريب أو بعيد للحرف وإنما موضوعها الهدايا التي أهديت للخلفاء والأمراء والنفقات العظيمة في الولائم والدعوات، كما أنها لم تكتب في العصر العثماني كما يزعم وإنما في القرن الخامس الهجري، وقد نشرها وحققها الدكتور محمد حميد الله فليطالعها من أراد، والراجح أن لويس لم يطلع عليها وإنما توهم من ظاهر عنوانها أنها تخص الحرف والصنائع فاعتبرها دليلا على مدعاه الذي يفتقر الدليل.
وعلى أي حال ترجح معظم المصادر أن أول ظهور لنظام الطوائف كان في عهد الأيوبيين، وأما في عهد المماليك فقد اتخذ صفة الثبات والاستمرار إذ تذكر كثير من المصادر التاريخية أن أهل كل طائفة حرفية انتظموا في هيئة واحدة تحدد علاقتهم ببعضهم البعض وتحكم علاقتهم مع غيرهم من الجمهور، وقد تركزت كل حرفة في حي من أحياء المدينة فكانت هناك أحياء للصاغة والبزازين والعطارين والنحاسين، واستمرت هذه الطوائف في ظل الحكم العثماني دون أن يطرأ على أوضاعها أي تغيير يذكر اتساقا مع المبدأ الذي تبناه العثمانيون وهو ترك الأوضاع والتشكيلات المحلية دون أي تغيير يذكر، وترك السكان يدبرون أمورهم بأنفسهم.
مكونات الطائفة ودستورها
الطائفة هي الإطار الذي ينظم الحرف، وهي تتألف من مجموع “المعلمين والعمال والمتعلمين الذين يتعاطون في المدينة الواحدة مهنة واحدة صناعية أو تجارية في الأسواق” ويفترض هذا التعريف أن الطائفة لا تنشأ إلا في المدن، وأنها تتخذ من الأسواق مكانا لها، فالحرف التي لا تتخذ من السوق مكانا لها لا تعد طائفة كالقابلات مثلا، وتتشكل الطائفة من هرم متدرج يتربع على قمته شيخ الطائفة وفي أسفله الصبي أو المتعلم وفيما يلي نقدم بيانا بعناصر الطائفة:
شيخ الطائفة: وهو أعلى منصب في الطائفة، وينتخب من قبل الأعضاء بالأغلبية في حفل كبير يشهده أهل الطائفة وممثل السلطة، ويشترط فيه أن يكون حسن السمعة، وله سلطة على جميع أفراد الطائفة ويخضع الجميع لسلطته، وهو الذي يتحدث بلسان الطائفة لدى الحكام والأمراء، وتشمل مهامه مراقبة جودة المصنوعات، وله الحق في إتلاف الفاسد منها، كما يحق له معاقبة المخالفين لأعراف الطائفة، كما يقوم بالتحكيم بين أفراد الطائفة فيما ينشب بينهم من خلافات.
النقيب: وهو منصب تال لمنصب شيخ الطائفة، فهو يعاون شيخ الطائفة ويحل محله إذا مرض أو سافر فهو بمثابة الوزير من السلطان.
المعلم: وهو الرجل الذي وصل في صنعته إلى رتبة الأستاذية وأصبح ملمًا بدقائق الصنعة، والمعلمون يشكلون معظم أهل الطائفة، وللمعلم الحق في أن يفتتح محلا خاصا به، وأن يستعين ببعض الصبية، وهو يتولى تدريبهم على مهارات الصنعة، والعلاقة بينهم تشبه علاقة الوالد بولده، فكما أن للوالد على ولده حقوق فإن للمعلم على صبيه حقوق كذلك، وتلك الحقوق المتبادلة تبرهن أن الطائفة كانت تضطلع بأدوار اجتماعية إضافة إلى أدوارها المهنية.
العريف: وهو الصبي الذي أمضى في تعلم الحرفة بضع سنوات، لكنه لم يصبح معلما بعد فهو في منزلة وسطى بين المعلم وبين الصبي، وهو عامل أجير يعيش في الغالب عند المعلم الذي يتكفل بإيوائه وإطعامه لبضع سنوات، ولا يجوز للعريف أن يترك معلمه أثناء هذه المدة دون سبب، وإن فعل لا يجد معلما آخر يقبله إن غادره، وعندما يغدو العريف متقنا لصنعته ويستطيع صنع عمل ما بمفرده تتوفر فيه الجودة والإتقان، عندئذ يعرض ما أنتجه على معلمه فإذا نال رضا معلمه فإنه يخطر شيخ الطائفة أن العريف قد أتقن صنعته ويستحق لقب معلم، ويُمنح له في حفل يحضره أعضاء الطائفة.
الصبي: وهو يعيش عند المعلم وله عليه واجب الاحترام والطاعة، وله على المعلم أن يعلمه الحرفة، وتبلغ مدة التعليم بضع سنوات يتمرن فيها الصبي على أساسيات الحرفة، فإن تمكن منها أعد له امتحان ليرتقي لرتبة العريف ويعد له احتفال بهذه المناسبة تجرى خلاله قراءة الفاتحة وتذكيره ببعض الآداب والوصايا.
وعلاوة على هذه المكونات الثابتة التي كانت تتكون منها الطائفة، والتي وجدت في جل البلدان الإسلامية مع اختلافات يسيرة هنا وهناك، كان هناك قانون أو دستور غير مكتوب ينظم شئون الطائفة، وهذا الدستور كان وثيق الصلة بالقيم الإسلامية ويشتمل بعض هذا الدستور على ثلاث مسائل أساسية تعد ركيزة كل طائفة وهي: مبدأ الثمن ، العدل للسلعة: فلا يجوز بيع السلعة بثمن فاحش للعميل ولعله مستمد من التحريم الإسلامي للربا، والعمل الجيد أي إنتاج سلعة تتوافر فيها عناصر الجودة وتخلو من العيوب، ومبدأ المحافظة على أسرار العمل وعدم جواز إفشائها، وقد كان هذا المبدأ وراء تماسك الحرف لفترة طويلة وحماية أفرادها من البطالة، إذ حال بين أن يتعرف أسرارها ويمارسها الغرباء.
يتبين من خلال دستور الطائفة وبنية مكوناتها أن ثمة اختلافات تميز الطائفة الحرفية عن النقابة العمالية الحديثة، وأولها أن الطائفة كانت إطارا يجمع بين ما هو مهني وما هو أخلاقي فهناك أخلاقيات يجب توافرها في شيخ الطائفة كما في الصبي، وهي صفة لا نجدها في النقابات الحديثة، وثانيها أن الانتماء العضوي إلى الطائفة كان ينشئ روابط روحية بين كافة أفرادها، هذه الروابط كانت تماثل الروابط العائلية القائمة فالصبي بمنزلة الابن للمعلم، والمعلم كالأب، وأفراد الطائفة كالأخوة يتعاونون فيما بينهم ولا يتنافسون، وهذا خلافا للنقابات الحديثة التي لا تكترث بإنشاء مثل هذه الروابط المعنوية، وثالثها حضور الأثر الديني في كثير من ممارسات الطائفة وفي حفلاتها وفي دستورها غير المدون الذي يستند إلى المبادئ الإسلامية التي تحرم الربا وترفض الغش والتدليس وتدعو إلى إحلال روح التعاون بدلا من المنافسة والتناحر بين الأفراد.
وبالجملة، يمكن القول إن نظام الطوائف الحرفية استطاع أن يحافظ على حقوق أبناء الطائفة ويحفظ حقوق المشترين بإنتاج سلع جيدة بسعر مناسب، كما استطاع أن يؤمن الاحتياجات المحلية من السلع والصناعات لقرون طويلة، لكن تغير وسائل الإنتاج واعتمادها على الآلات الصناعية الحديثة عجل بأفول هذا النظام وحلول التنظيم النقابي محله.
[i] أشار برنارد لويس إلى ذلك في بحثه (النقابات الإسلامية) الذي ترجمه الدكتور عبد العزيز الدوري ونشره بمجلة الرسالة عام 1940، الأعداد 355 إلى 357.[i]