زكاة الأراضي وقضاياها المعاصرة
عبد الله بن عمر السحيباني
المسألة الثالثة: تغيير النيّة ومدى تأثيره على حكم الزكاة.
يتفرع عن هذه المسألة ثلاثة فروع:
الفرع الأول: تغيير نيّة التجارة في الأرض إلى الانتفاع بها.
ذكر عامة الفقهاء من الحنفية [57] والمالكية [58] والشافعية [59] والحنابلة [60] أن من اشترى عرضاً للتجارة ثم بدا له أن يجعله لغير التجارة أنه يخرج بهذه النيّة عن كونه للتجارة ولا تجب عليه فيه الزكاة.
وعلى ذلك: فمن اشترى أرضاً يريدها للتجارة والتكسب ثم غيّر نيّته إلى الرغبة في سكناها، أو استغلالها بزراعة أو إيجار أو نحوه، فلا يجب عليه زكاة في هذه الأرض.
وقد علل الفقهاء هذا القول بما يلي:
أولاً: أن القنيّة الأصل، ويكفي في الرد إلى الأصل مجرد النيّة، كما لو نوى بالحلي التجارة، أو نوى المسافر الإقامة [61].
ثانياً: أن نيّة التجارة شرط لوجوب الزكاة في العروض، فإذا نوى القنيّة زالت نيّة التجارة، ففات شرط الوجوب [62].
ثالثاً: أن الاقتناء معناه الحبس للانتفاع وقد وجد بالنيّة مع الإمساك فيترتب الأثر على تلك النيّة بمجرها [63]. وبعبارة أخرى: أن من نوى ترك التجارة تارك لها في الحال فاقترنت النيّة بعمل هو ترك التجارة [64].
ولم يخالف في هذه المسألة سوى أشهب من المالكية في رواية له عن مالك حيث ذكر: أن حكم التجارة لا يسقط عن العرض بمجرد النيّة المخالفة للتجارة [65].
وعلة هذا القول: أن التجارة والاقتناء عندهم أصلان فلا ترجع السلعة من أحدهما إلى الآخر بمجرد النيّة [66] ثم استدلوا - أيضاً - بالقياس على السائمة إذا نوى بها العلف [67] فلا تكون معلوفة حتى يعلفها حقيقة.
لكن هذا القول ضعيف جداً ويمكن أن يجاب عما عللوا به بما يلي:
1 المنع من كون التجارة أصل في العروض بل الأصل هو الاقتناء لأنه إمساك وكف والتجارة طارئة لأنها فعل وتصرف والطارئ لا بد فيه من النيّة بخلاف الأصل فإنه لا يحتاج إلى نيّة في الرد إليه ومثال ذلك السفر والإقامة فالإقامة أصل فإذا نواها المسافر صار مقيماً أما السفر فإنه طارئ فإذا نواه المقيم لم يصر مسافراً لأن السفر إحداث فعل والفعل لم يوجد [68].
2 أما القياس على السائمة إذا نوى بها العلف فأجيب عنه: بالفرق فإن السائمة لا تشترط فيها نيّة السوم بل الشرط فيها السوم حقيقة فلا ينتفي الوجوب إلا بانتفاء السوم [69].
الفرع الثاني: تغيير نيّة الانتفاع بالأرض إلى التجارة بها.
إذا كان عند الإنسان أرض ينويها للسكنى أو الاستغلال بالزراعة أو الإجارة أو نحو ذلك ولم ينوها للتجارة ثم عدل عن هذه النيّة إلى نيّة التجارة بهذه الأرض ببيعها، فهل تجب فيها الزكاة وتكون من عروض التجارة بمجرد النيّة؟
هذه المسألة لها ارتباط وثيق بمسألة اشتراط العمل مع نيّة التجارة وهي مسألة خلافية يجري فيها خلاف العلماء في مسألة اشتراط العمل في العروض حتى تكون للتجارة وسوف يأتي ذكر القولين في المسألة مع أدلتها، وبيان الراجح فيها إن شاء الله [70].
الفرع الثالث: تغيير نيّة التجارة إلى الانتفاع ثم الرجوع إلى التجارة.
لو أن أحداً اشترى الأرض للتجارة ثم عدل عن هذه النيّة واستغل الأرض بأي نوع من أنواع الاستغلال أو جعلها للقنيّة ثم نواها بعد مدة للتجارة فهل تصير للتجارة أو لا تتحول بهذه النيّة؟ في هذه المسألة للعلماء قولان:
القول الأول: أن لهذه الأرض حكم القنيّة - بمعنى أنها لا تتحول فيها النيّة عن القنيّة إلى التجارة حتى يبيعه ويستقبل بثمنه حولاً - وهذه رواية ابن القاسم عن مالك[71] وهو مقتضى قول جمهور الفقهاء [72] وقد صرح به بعض الحنابلة [73].
وجه هذا القول: أن أصل العرض القنيّة فأثر في رده إلى أصله مجرد النيّة كالذهب والفضة [74].
القول الثاني:
أن لهذه الأرض حكم التجارة وهذه رواية أشهب عن مالك [75].
وجه هذا القول: أن النيّة مؤثرة في العروض كما لو اشتراها للتجارة، ثم نوى بها القنيّة، ولأنه لما اشتراها للتجارة وثبت لها هذا الحكم صار أصلاً لها فرجعت إليه لمجرد النيّة [76].
الراجح:
يظهر - والله أعلم - أن الحكم في هذه المسألة يتبع نيّة المالك فإذا نوى بها التجارة بعد نيّته الاقتناء أو الاستغلال فإنها تكون للتجارة وتجب فيها الزكاة إذا حال عليها الحول، وهذه المسألة في حقيقتها فرع عن القول باعتبار النيّة بمجردها فمن قال: إن النيّة كافية لإيجاب الزكاة في العروض قال بوجوب الزكاة هنا ومن اشترط مع النيّة التصرف والعمل حتى يكون العرض تجارياً لم يقل بالوجوب وستأتي هذه المسألة مفصلة إن شاء الله [77].
المسألة الرابعة: التحايل لإسقاط الزكاة مع نيّة التجارة.
مع ذكر كثير من أهل العلم تحريم الحيل المسقطة للزكاة إلا أنهم اختلفوا في ترتب الأثر على هذا الفعل المحرم بمعنى هل هذا الفعل يسقط الزكاة أو لا؟
وقبل ذكر الخلاف هذا توضيح لمحل النزاع: قال القرطبي: " أجمع العلماء على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف في ماله بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة وأجمعوا على أنه إذا حال الحول وأظل الساعي أنه لا يحل له التحيل ولا النقصان ولا أن يفرق بين مجتمع ولا أن يجمع بين متفرق" [78].
وبهذا يعلم أن الخلاف إنما هو فيمن تصرف في ماله أو غيّر نيته لقصد إسقاط الزكاة لا لقصد آخر وكان ذلك قبل حولان الحول.
اختلف أهل العلم فيمن تحيّل لإسقاط الزكاة بأي نوع من أنواع الحيل [79] وذلك كمن غيّر نيّة التجارة في الأرض أو باعها قبل الحول أو أكثر من شراء الأراضي فراراً من الزكاة هل يعامل ذلك المتحيل أو الفارّ من الزكاة بنقيض قصده فتجب عليه الزكاة أو لا؟ للعلماء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: أن الزكاة تسقط بالتصرف في المال قبل الحول ولو كان ذلك لقصد الفرار من الزكاة وهذا هو قول الحنفية [80] والشافعية [81] هو رواية عند الحنابلة [82] وهو قول الظاهرية [83].
أدلة هذا القول:
أولاً: أنه فات شرط وجوب الزكاة وهو الحول، فلا فرق بين أن يكون على وجه يعذر فيه أو لا يعذر [84] كما لو أتلفه قبل الحول لحاجته [85].
وأجيب عن هذا بأمور:
1- بالفرق بين من له عذر ومن ليس له عذر ومن أتلف المال لحاجته ومن فرّ من الزكاة فإن من أتلف المال لحاجته لم يقصد قصداً فاسداً بخلاف الفارّ من الزكاة فإن قصده فاسد خبيث [86].
2 أن من فوّت شرط الوجوب وهو الحول فراراً من الزكاة مخادع لله في الحقيقة، لا يريد أداء الزكاة ولو فعل ذلك كل حول لم تجب عليه زكاة أبداً [87].
3 أن تفويت شرط الوجوب فراراً من الزكاة مع أنه خداع لله رب العالمين فهو أيضاً هوس لا حقيقة له [88] قال ابن القيم: " فيا لله العجب، أيروج هذا الخداع والمكر والتلبيس على أحكم الحاكمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ ثم إن هذه الحيلة كما هي مخادعة لله، ومكر بدين الإسلام، فهي باطلة في نفسها، فإنها إنما تصير للقنيّة إذا لم يكن من نيته إعادتها للتجارة، فأما وهو يعلم أنه لا يقتنيها ألبتة ولا له حاجة باقتنائها، وإنما أعدها للتجارة، فكيف تتصور منه النيّة الجازمة للقنيّة وهو يعلم قطعاً أنه لا يقتنيها ولا يريد اقتناءها، وإنما هو مجرد حديث النفس أو خاطر أجراه على قلبه بمنزلة من يقول بلسانه" أعددتها للقنيّة" وليس ذلك في قلبه؟ أفلا يستحيي من الله من يسقط فرائضه بهذا الهوس وحديث النفس؟ " [89].
ثانياً: أن الفرار من الزكاة امتناع عن الوجوب لا إسقاط للواجب [90].
وأجيب عن هذا: بأن الأمر في كلا الحالين واحد قال ابن تيمية: " لكن شبهة المرتكب أن هذا منع للوجوب لا رفع له وكلاهما في الحقيقة واحد" [91].
القول الثاني: أن الزكاة لا تسقط بالحيلة بل هي واجبة في ذمة المتحيل في قيمة هذه الأراضي وهذا قول المالكية [92] وهو الذي عليه جماهير الحنابلة [93] واختاره جمع من المحققين [94] كما قواه بعض محققي الشافعية [95].
وقد شرط جماعة من فقهاء الحنابلة: أن يكون ذلك عند قرب وجوبها؛ لأنه مظنة قصد الفرار، بخلاف ما لو كان في أول الحول أو وسطه؛ لأنها بعيدة أو منتفية، وحدده بعضهم: بما قبل الحول بيومين، وقيل: أو بشهرين لا أزيد والمذهب أنه إذا فعل ذلك فراراً منها أنها لا تسقط مطلقاً أطلقه أحمد [96]. وحدده بعض المالكية بشهر ونحوه [97].
وقد دلّ لهذا القول عدة أدلة منها:
أولاً: استدل جماعة من الفقهاء بقوله - سبحانه -: ( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَ ا مُصْبِحِينَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) [98] فإن الله - تعالى -عاقبهم بذلك، لفرارهم من الصدقة [99].
ثانياً: حديث عمر - رضي الله عنه -: (( إنما الأعمال بالنيات)) [100] فهو حجة واضحة على إسقاط الحيل المحرمة وإنما يخادع بالنيات من لا يطلع عليها [101].
ثالثاً: حديث أنس - رضي الله عنه - أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)) [102].
فهذا الحديث فيه النهي الصريح عن إسقاط الزكاة بالحيلة وما نهى عنه الشارع فهو ملغي باطل [103].
ولذلك قال الشاطبي: " وأما مع القصد يعني قصد رفع حكم السبب وهو حولان الحول إلى ذلك فهو معنى غير معتبر لأن الشرع شهد له بالإلغاء على القطع ويتبين ذلك بالأدلة المذكورة إذا عرضت المسألة عليها فإن الجمع بين المتفرق أو التفرقة بين المجتمع قد نهى عنها إذا قصد بها إبطال حكم السبب بالإتيان بشرط ينقصها حتى تبخس المساكين فالأربعون شاة فيها شاة بشرط الافتراق ونصفها بشرط اختلاطها بأربعين أخرى مثلاً فإذا جمعها بقصد إخراج النصف فذلك هو المنهي عنه كما أنه إذا كانت مائة مختلطة بمائة وواحدة ففرقها قصداً أن يخرج واحدة فكذلك وما ذاك إلا أنه أتى بشرط أو رفع شرط يرفع عنه ما اقتضاه السبب الأول فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه من وجوب الإخراج" [104].
رابعاً: أن من أتى بسبب يسقط الواجبات على وجه محرم وكان مما تدعو النفوس إليه ألغى ذلك السبب وصار وجوده كالعدم ولم يترتب عليه أحكامه وهذه قاعدة فقهية ذكرها ابن رجب في قواعده وقال: " ويتخرج على ذلك مسائل كثيرة: منها الفارّ من الزكاة قبل تمام الحول بتنقيص النصاب أو إخراجه عن ملكه تجب عليه الزكاة ولو صرف أكثر أمواله في ملك ما لا زكاة فيه كالعقار والحلي فهل ينزل منزلة الفارّ؟ على وجهين [105]. ولذلك احتج جماعة من الفقهاء على الفارّ من الزكاة بنصب اليهود الشبك يوم الجمعة وأخذوا يوم الأحد ما سقط فيها وأنه شرع لنا [106].
خامساً: أن الفارّ من الزكاة قصد قطع حق من انعقد سبب استحقاقه، فلم تسقط عنه الزكاة، كما لو طلق امرأته في مرض موته [107].
وقد أجيب عن هذا:
بالفرق بين الفرار هنا والفرار بطلاق المرأة بائناً في مرض الموت؟ وذلك من وجهين:
أحدهما: أن الحق في الإرث لمعين، فاحتيط له بخلاف الزكاة.
والثاني: أن الزكاة مبنيّة على الرفق والمساهلة وتسقط بأشياء كثيرة للرفق، كالعلف في بعض الحول والعمل عليها وغير ذلك بخلاف الإرث [108].
ويمكن أن يناقش هذا: بأن كون الزكاة لغير معين أو أن مبناها على المساهلة لا يعني سقوطها بالتحايل فإن الحرام أو الضرر ممنوع إحداثه على المعين وغيره.
سادساً: أن فعل هذه الحيل يؤدي إلى إلحاق الضرر بالفقراء [109].
سابعاً: أن الفارّ من الزكاة لما قصد قصداً فاسداً، اقتضت الحكمة معاقبته بنقيض قصده [110] يقول ابن القيم: " قد استقرت سنة الله في خلقه شرعاً وقدراً على معاقبة العبد بنقيض قصده، كما حرم القاتل الميراث، وورث المطلقة في مرض الموت، وكذلك الفارّ من الزكاة لا يسقطها عنه فراره ولا يعان على قصده الباطل فيتم مقصوده ويسقط مقصود الرب - تعالى -، وكذلك عامة الحيل إنما يساعد فيها المتحيل على بلوغ غرضه ويبطل غرض الشارع" [111].
الراجح في المسألة:
بعد النظر في هذه المسألة وأدلتها يتبين رجحان القول الثاني وهو عدم سقوط الزكاة بالحيلة وذلك لقوة الأدلة التي ذكرها أصحاب هذا القول ولضعف أدلة القول الآخر خاصة إذا قلنا إن الفارّ من الزكاة مؤاخذ بعمله هذا في الباطن وأنه مطالب فيما بينه وبين الله - تعالى -وهذا ما ذكره أكثر الفقهاء حتى من الذين قالوا تسقط عنه الزكاة في الظاهر [112].
فعلى هذا القول الراجح تجب الزكاة في الأرض التجارية التي يتحايل أصحابها ببيعها قبل الحول أو يتحايلون بتغيير النيّة من التجارة إلى غيرها على أنه لو كان عند الإنسان أرض تجارية وباعها قبل الحول بنقد أو كان عنده نقد واشترى به قبل حوله أرضاً يريد بيعها فراراً من الزكاة فإن الزكاة واجبة عليه عند رأس الحول للمال الأول كما لو اشترى بنقد عروض تجارة أو باع العروض بعرض أو بنقد وقد صرح بهذا فقهاء الحنفية [113] والمالكية [114] والشافعية [115] والحنابلة [116].
المطلب الثالث: اشتراط العمل في الأرض المعدة للبيع.
يذكر كثير من الفقهاء أن الشرط الثاني من شروط وجوب الزكاة في عروض التجارة بعد النيّة هو: العمل والمراد بالعمل المؤثر في زكاة العروض يختلف تفسيره في نظر الفقهاء القائلين بهذا القول فمنهم من قال: إن العمل هو: أن يمتلك الإنسان العرض بفعله كالشراء أو نحوه من المعاوضات المالية فقط وبعضهم قال: العمل هو: أن يمتلك الإنسان العرض بفعله بمعاوضة مالية كالشراء أو غير مالية كالمعاوضة في عقد النكاح والخلع وبعضهم قال: العمل المؤثر هو: أن يمتلك الإنسان العرض بفعله ولو بغير معاوضة مالية كالهبة [117].
وعلى كلٍ فالمراد باشتراط هذا الشرط هو: إخراج ما دخل ملك الإنسان بغير فعله كالميراث فإنه لا تجب في الموروث من العروض زكاة ولو نوى بها التجارة ومثله ما دخل ملكه بمجرد قبوله كالهبة والوصية عند بعضهم أو دخل ملكه بمعاوضة ليس المقصود منها المالكعوض النكاح والخلع عند آخرين.
ومن هنا يلاحظ اختلاف الفقهاء القائلين باشتراط هذا الشرط في تفسيره.
ولا أرى أن الحاجة تدعو إلى تفصيل هذا الاختلاف لأن ذلك يطول ويبعد عن مقصود البحث [118] لذا سأكتفي بمناقشة هذا الشرط من أصله وذلك ببيان سبب اشتراط هذا الشرط وأدلته ثم بيان وجهة النظر الأخرى في اشتراط هذا الشرط والراجح في هذه المسألة.
فأما سبب اشتراط هذا الشرط: فهو أن كثيراً من الفقهاء يرون أن النيّة غير كافية لجعل العرض تجارياً بل لا بد من عمل يوضح هذه النيّة ويبينها ولا يكون هذا العمل إلا بامتلاك العين عن طريق الاختيار للملك - سواء كان بمعاوضة أو غير معاوضة مع مصاحبة نيّة التجارة.
فأما ما يدخل الملك من غير اختيار كالإرث فإنه لا تؤثر فيه النيّة حتى لو كان الموروث من العرض تجارياً فإنه لا تجب فيه زكاة حتى يبيعه ويشتريه بنيّة التجارة ومثل ذلك عند الأكثرين ما لو دخل العرض ملكه باختيار منه - بعقد معاوضة كالشراء أو بغير معاوضة كالهبة - لكنه دخل ملكه من غير مصاحبة لنيّة التجارة وذلك كمن اشترى أرضاً ولم ينو أنها للتجارة فلا تكون للتجارة بحال حتى لو نوى فيما بعد بيعها تجارة وذلك لأنه لا بد من كون النيّة مصاحبة للشراء.
وإذا تبين ذلك فإن هذا القول بجملته هو قول أكثر فقهاء المذاهب كما سبق فقد نص عليه فقهاء الحنفية [119] والمالكية [120] والشافعية [121] والحنابلة [122].
وقد استدل أصحاب هذا التوجه بعدة أدلة أهمها في الجملة ما يلي:
أولاً: استدلوا بحديث: (( إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ما لم يَتَكَلَّمُوا أو يَعْمَلُوا بِهِ)) [123].
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن مجرد النيّة لا عبرة به في الأحكام فلا تكفي مجرد نيّة التجارة ليكون العرض للتجارة [124].
ومعنى ذلك أن الزكاة إنما وجبت في العرض لأجل التجارة والتجارة تصرف وفعل والحكم إذا علق بفعل لم يثبت بمجرد النيّة حتى يقترن به الفعل [125].
ويمكن أن يجاب عن هذا:
بأن الحديث دليل على عدم مؤاخذة الإنسان بخواطر نفسه ووساوسه التي لا يتبعها عمل أو كلام وليس فيه عدم اعتبار للنيّة أو إلغاء لها بل الثابت - كما سيأتي - اعتبار النيّة في كل الأحكام ومن ذلك اعتبارها في زكاة العروض لكن النيّة تحتاج إلى بيان والبيان يكون بالفعل أو القول الذي هو فعل والتجارة فعل وتصرف فإذا نواها المالك للسلعة بحيث كان يعرض هذه السلعة في الأسواق أو ينتظر وقت غلائها ليبيعها فهذه هي حقيقة التجارة بلا شك وإن كان فعل التجارة ليس فيها ظاهراً [126].
ثانياً: استدلوا بعدة أقيسة منها:
1 قالوا: أن العروض إذا كانت للاقتناء، فنوى بها التجارة فقد نوى التجارة ولم يفعلها، فلم يبطل حكمها، فتبقى للاقتناء ولا تصير للتجارة، كما لو كان مقيماً فنوى السفر ولم يسافر لا يصير مسافراً ويبقى مقيماً، والمعنى أنه نوى السفر ولم يخرج فبقي على الإقامة، كذلك هذا والمعنى فيه أن السفر والتجارة عمل، فما لم يوجد العمل لا يحكم به [127].
ويمكن أن يجاب عن هذا القياس:
بأنه قياس لا يستقيم حيث إن بين المقيس والمقيس عليه فروق كثيرة فإن الحكم بالسفر تترتب عليه كثير من الأحكام التي يتطلبها السفر وما فيه من مشقة ومكابدة وعمل بينما التجارة قد تكون بمجرد تبييّن النيّة وذلك بعرض هذه السلعة من الأرض أو غيرها للبيع فاشتراط العمل مع نيّة التجارة يختلف عن اشتراط السفر لنيّة السفر.
ثم إن نيّة التجارة شرط لوجوب الزكاة في العروض أما نيّة السفر فليست شرطاً لحقيقة السفر بل الشرط وجود السفر ولو لم ينوه.
2 قالوا: ولأنه ما لم يكن للزكاة من أصله لم يصر للزكاة بمجرد النيّة، فالنيّة لا تنقل عن الأصل كالمعلوفة إذا نوى إسامتها [128].
ويمكن أن يجاب عن هذا القياس:
بالفرق أيضاً فإن النيّة في إسامة المعلوفة ما لم يكن هناك إسامة لا تغير من واقع المعلوفة شيئاً لكن نيّة التجارة في العرض تغيّر العرض من القنيّة والانتفاع إلى الرغبة في البيع والاستثمار ولكل عمل ما يناسبه فمجرد نيّة التجارة مع العرض للسلعة والرغبة في بيعها يثبت حكم التجارة وتجعل العرض تجارياً بدلاً من كونه مستهلكاً أو منتفعاً به.
ثم إن نيّة التجارة شرط لوجوب الزكاة في العروض، أما نيّة السوم فليست شرطاً لزكاة البهائم بل الشرط وجود حقيقة السوم [129].
القول الثاني في المسألة:
أن العرض - من الأراضي وغيرها - يصير للتجارة بمجرد النيّة ; فعلى هذا لا يعتبر أن يملكه بفعله واختياره كالموروث، ولا أن يكون في مقابلة عوض كالهبة والمنحة بل متى نوى بالعرض التجارة صار للتجارة وبهذا القول قال جماعة من الفقهاء فهو رأي الكرابيسي وغيره من الشافعية [130] وهو مذهب إسحاق بن راهوية [131] وهو رواية عن الإمام أحمد قال بعض أصحابه: هذا على أصح الروايتين واختاره جمع من فقهاء الحنابلة [132] كما اختاره جماعة من العلماء المعاصرين كالشيخ ابن باز [133]، وابن عثيمين [134] و د/بكر أبو زيد [135] وغيرهم.
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولاً: استدلوا بحديث سمرة المتقدم: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع" [136].
والإعداد للبيع تكفي فيه مجرد النيّة ولا يحتاج لشيء آخر فيدخل هذا الحكم في عموم الحديث [137].
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن الحديث ضعيف الإسناد جداً فلا تقوم به حجة.
ثانياً: استدلوا بحديث" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فإن عموم هذا الحديث يدلّ على أن من نوى التجارة في العروض التي يملكها كانت لها من غير شرط العمل أو التصرف فيها [138].
ثالثاً: القياس على ما إذا كان عنده متاع للتجارة ثم نوى به القنيّة صار للقنيّة بمجرد النيّة فإذا كانت نيّة القنيّة بمجردها كافية، فكذلك نيّة التجارة، بل أولى ; لأن الإيجاب يغلب على الإسقاط احتياطاً [139].
لكن أجيب عن هذا:
بالفرق بين ما إذا نوى القنيّة بمال التجارة أو نوى التجارة بمال القنيّة ; لأن القنيّة هي الإمساك بنيّة القنيّة، وقد وجد الإمساك والنيّة، والتجارة هي التصرف بنيّة التجارة، وقد وجدت النيّة ولم يوجد التصرف، فلم يصر للتجارة [140].
وقد يناقش هذا الجواب:
بأن هذا منازعة في محل الخلاف فإن الخلاف في نيّة التجارة هل تحتاج معها إلى شيء آخر فغاية ما في هذا الجواب إثبات الدعوى بمجرد الدعوى.
رابعاً: قالوا: ولأن ذلك أحظ للمساكين، فاعتبر كالتقويم [141].
خامساً: ولأنه نوى به التجارة، فوجبت فيه الزكاة، كما لو نوى حال البيع [142].
الراجح من هذين القولين:
بعد النظر في هذين القولين وما استدل به لكل منهما يترجح - والعلم عند الله - القول الثاني وهو: أن العرض - من الأراضي وغيرها - يصير للتجارة بمجرد النيّة وأنه لا يشترط في وجوب زكاتها تملكها بطريق المعاوضة أو غيرها بل كيفما دخلت ملكه بطريق شرعي وجعلها للتجارة أخذت حكم عروض التجارة ووجبت فيها الزكاة وإنما ترجح هذا القول لقوة أدلته الأثرية والنظرية ولأن غاية ما ذكره أصحاب القول الأول تعليلات وقياسات لا تعارض بها الأدلة وقد وردت عليها المناقشة القوية والله - تعالى -أعلم.
يتبع