نوضح لطّالب العلم والايمان المنهج الصّحيح في طّلب العلم - يقول جل وعلا :{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]، فكلّ شيءٍ له باب وعلى العبد ان يلج العلم من بابه؛ حتى يجنى ثماره ويوفق بإذن الله .والطَّريق الأمثل للبناء وللتأسيس العلميّ ان يبدأ بالأهم فالأهم من واجبات الإيمان، وأركان الإسلام، وينتقل درجة درجة من الأعلى إلى ما دونه. ثم بعد ذلك يتعلم ما يجب من الحقوق في الإسلام، بخلاف ما يفعله بعض الطلبة من الاشتغال بالفروع والذيول؛ وفي كلام شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: من ضيع الأصول حرم الوصول، ومن ترك الدليل ضل السبيل.---- وفيما يلى بيان أقسام العلوم الشرعية
العلم الشرعي هو العلم بدين الله عز وجل، وهو ثلاثة أقسام كما قال ابن القيم -رحمه الله-:
والعلم أقســـامٌ ثلاث ما لهـــــــــا ... من رابعٍ والحـــقُّ ذو تبيــــــان
علمٌ بأوصافِ الإلــــــــهِ وفــعلــــهُ
... وكــــــــذلكَ الأسماءُ للرحــمـنِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
...وجــــــزاؤه يـــــوم المعــــاد الثاني

فقسم أنواع العلوم الشرعية النافعة إلى ثلاثة أقسام:
• القسم الأول: علم التوحيد و العقيدة، ومداره على بيان حقيقة توحيد العبادة ومعرفة الأسماء والصفات، وما يُعتقد في أبواب الإيمان .
• والقسم الثاني: علم أحكام الأمر والنهي، والحلال والحرام .
• والقسم الثالث: علم الجزاء؛ وهو جزاء المرء على أفعاله في الدنيا والآخرة، ولو أنه قال: "وجزاؤه بالعدل والإحسان" لكان أعمّ وأجود؛ ليشمل الجزاء الدنيوي والجزاء الأخروي، وليبيّن أنّ ما يجازي الله به عباده دائر بين العدل والإحسان، ولا يكون فيه مثقال ذرة من ظلم.
فهذا تقسيم العلوم الشرعية باعتبار أصول موضوعاتها؛ لأن مسائل العلوم الشرعية متوقفة على الإيمان سواء بتوحيد المعرفة والاثبات او بتوحيد القصد والطلب او بتوحيد الاتِّباع بامتثال الأمر واجتناب النهي، وإما أن يكون فيها بيان حكم متّبع الهدى وحكم مخالفه وجزائِهما.

علوم المقاصد وعلوم الآلة:
مدار العلم الشرعي على التفقّه في الكتاب والسنة، ودراسة ما يعين على ذلك، ولذلك فإن العلوم التي يعتني بها علماء الشريعة يمكن تقسيمها إلى قسمين:
1. علوم المقاصد: وهي العلوم المتّصلة بالاعتقاد والعمل والامتثال والتفكّر والاعتبار؛ كعلم التوحيد و العقيدة والتفسير والحديث والفقه والسلوك والجزاء والفرائض والسيرة النبوية والآداب الشرعية.
2. وعلوم الآلة:
وهي العلوم التي تُعين على دراسة علوم المقاصد وحسن فهمها، ومنها: العلوم اللغوية، وعلم أصول الفقه، وأصول التفسير، ومصطلح الحديث.

كما تقدم العلوم الّتي يتعلمها طالب العلم على قسمين: علوم تسمى بعلوم الوسائل، والقسم الثّاني علوم الغاية. ------------------------- علوم الوسائل : وتسمى أحيانًا علوم الآلة كما تقدم أو العلوم الصّناعيَّة، هي العلوم الّتي يتوصل من خلالها إلى فهم مراد الله ومراد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وإقامة اللسان وبناء الأقوال والأفعال والتّصورات بناءً سليمًا. هذه تسمى بعلوم الوسائل أو علوم الآلة أو العلوم الصّناعيّة هي علوم يتوصل من خلال معرفتها إلى فهم مراد الله ومراد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وإقامة اللسان قيامًا صحيحًا وبناء الأقوال والأفعال والتّصورات بناءً سليمًا.

علوم الوسائل يجمعها أربع : العلم الأول علم أصول التّفسير ويدخل فيه علم التّجويد، العلم الثّاني علم مصطلح الحديث [ نعم - علم مصطلح الحديث من العلوم الصناعية وقد تجد كثير من المنشغلين بهذا العلم ضيعوا الاصول والاهتمام بأهم المهمات من تحقيق التوحيد والكفر بالطاغوت والولاء والبراء وغيره من اصول الاسلام]، والعلم الثّالث علم أصول الفقه، والعلم الرابع علم اللغة العربية بأقسامها الثّلاثة الغريب والنَّحو والبلاغة.

القسم الثّاني: علوم الغاية - وهي العلوم الّتي يتوصل بها إلى فهم كلام الله وكلام رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ومعرفة الأحكام الشَّرعيَّة، إذن علوم الغاية هي الّتي من أجلها نتعلم علم الوسائل لنصل إلى هذه الغاية. وهي أن نفهم كلام الله وكلام رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ونعرف كذلك الأحكام الشّرعيَّة، هذه العلوم هي الّتي من أجلها يتعلم الطّالب ومن أجلها يلتحق بركاب العلم والعلماء ويجمعها كذلك أربع علوم: العلم الأول علم العقيدة والتّوحيد، والثّاني علم التّفسير، والثّالث علم الحديث، والرّابع علم الفقه فهي كذلك أربعة علوم. فلدينا أربع علوم تسمى علوم آلة أو وسائل وهي علم أصول الفقه مصطلح الحديث وأصول التّفسير واللغة العربية وكذلك لدينا أربع علوم تسمى بعلوم الغاية وهي علم العقيدة وعلم التّفسير وعلم الحديث وعلم الفقه.


ومما ينبغي أن يُتنبّه له أنّ الانهماك في الوسيلة قد يكون سبباً للحرمان من الوصول للغاية، ولذلك أمثلة كثيرة :
منها: أن طالب العلم قد ينهمك في تعلّم علوم الآلة حتى ينشغل بها عن علوم المقاصد، وهو إنما أراد دراسة علوم الآلة ليستعين بها على فهم علوم المقاصد.

فلو أن طالب علم أراد دراسة أشعار العرب التي يحتجّ بها في اللغة ليستعين بها على معرفة التفسير وشرح الحديث لكنّه انهمك فيها وتوسّع جدّا في دراستها حتى انشغل بها عن دراسة العقيدة والتفسير والتفقه في الحديث؛ فإنّه قد يحرم بسبب هذا الإفراط في الوسيلة وافتتانه بها من الغاية التي أرادها بتعلّمها أصلاً.
ومن أخطر ذلك وأدقّه أن يشتغل العبد ببعض النوافل التي يحبّها ويألفها حتى يفرّط في بعض الفرائض التي أوجبها الله عز وجل وحرّم تضييعها والتفريط فيها، فيكون ذلك سبباً لحرمانه من بركة الوقت والعمل،

ظاهر العلم وباطنه
ومما ينبغي أن العلم له مظهر ومخبر وظاهر وباطن:
·
فظاهر العلم : ما يُعرف من دراسة أبوابه ومسائله، وتقييد قواعده وفوائده، وتلقّيه عن أهله، وقراءة كتبه، وإتقان تحصيله.
·
وباطنهما يقوم في قلب طالب العلم؛ من التبيّن واليقين والبصيرة في الدين، والإيمان والتقوى حتى يجعل الله له فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال؛ فيكون على بيّنة من أمره، مهتدياً بهدى ربّه، وهذا العلم اليقيني النافع منّة ربّانيّة جعلها الله في قلوب أوليائه لما قام فيها من خشيته، والإنابة إليه، والقيام بأمره، وتعظيم شرعه، وصدق الرغبة في فضله، والرهبة من سخطه وعقابه، واتباع رضوانه.
وقد قال الطحاوي -رحمه الله- في شرح مشكل الآثار كلامًا خلاصته: أن أهل العلم الذين يُسَمَّوْن في الشريعة علماء على صنفين:
· الصنف الأول: الفقهاء في الكتاب والسنة الذين تعلموا الأحكام والسنن وعلّموها؛ وهم الذين يُرحل إليهم في طلب العلم، وفقه مسائل الأحكام في العبادات والمعاملات والقضاء .
· والصنف الآخر: أصحاب الخشية والخشوع على استقامةٍ وسداد.

فأصحاب الخشية والخشوع قد تبين في الأدلة من الكتاب والسنة أنهم من أهل العلم، قد يكون أحدهم أميًا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يشتغل بما اشتغل به كثير من المتفقهة، لكنَّه عند الله من أهل العلم، وفي ميزان الشريعة من أهل العلم، وعند الرعيل الأول والسلف الصالح هو العالم الموفق، وإن كان لا يقرأ ولا يكتب، وذلك بسبب ما قام في قلوبهم من الخشية والإنابة، واليقين الذي يحملهم على اتّباع الهدى، وإحسان العبادة.
وهم بما يوفقون إليه من حسن البصيرة، واليقين النافع الذي يُفْرق لهم بهِ بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وما يوفقون إليه من حسن التذكر والتفكر، والفهم والتبصر، يعلمون علمًا عظيمًا، قد يُفني بعض المتفقهة والأذكياء - من غيرهم - أعمارَهم ولمّا يُحصّلوا عُشْره؛ ذلك بأنهم يرون ببصائرهم ما يحاول غيرهم استنتاجه، ويصيبون كبد الحقيقة وغيرهم يحوم حولها، ويأخذون صفو العلم وخلاصته، لانصراف همّتهم إلى تحقيق ما أراده الله منهم، وتركهم تكلّف ما لا يعنيهم، فأقبلوا على الله بالإنابة والخشية واتّباع رضوانه؛ فأقبل الله عليهم بالتفهيم والتوفيق والتسديد.
وغيرهم قد يفني وقته ويضني نفسه في البحث والتنقيب، فيبعد ويقترب من الهدى بحسب ما معه من أصل الخشية والإنابة؛ فكان أهل الخشية والاستقامة - بما عرفوه وتيقنوه وانتفعوا به - أهلَ علمٍ نافعٍ.
ومن أدلة ذلك قولُ الله تعالى:
{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
الحذر والرجاء من الأعمال القلبية؛ فلما قامت في قلوب هؤلاء قيامًا صحيحًا أنتجت أثرها؛ وهو القنوت لله عز وجل آناء الليل ساجدين وقائمين، فكان هذا هو أصل العلم النافع، ولذلك قال الله عز وجل بعدها:
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}؛ فجعلهم الله عز وجل أهل العلم، وغيرُهم قسيمُهم الذين لا يعلمون.
ونفي العلم في قوله تعالى :
{وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فيه وجهان للعلماء:
· الوجه الأول: نفي حقيقته،
أي: هل يستوي الذين يعلمون والذين ليس لديهم علم؟
· والوجه الآخر: نفي فائدته؛ فيكون
المعنى هل يستوي الذين يعلمون والذين لا ينتفعون بعلمهم؟ لأنّ الذي لا ينتفع بعلمه بمنزلة الذي لا يعلم، وهذا نظير وصف الذين لا ينتفعون بأسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم بالصمّ العمي الذين لا يعقلون.

والخشية والإنابة عبادتان قائمتان على العلم قيامًا صحيحًا لأن أصل الخشية والإنابة لا يكون إلا باليقين، واليقين هو صفو العلم وخلاصته؛ وقد قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه لجبير بن نفير: (إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع؛ يوشك أن تدخل مسجد جماعةٍ فلا ترى فيه رجلا خاشعًا). رواه الدارمي والترمذي وغيرهما.
فسمَّى الخشوع علمًا، وهو كذلك؛ لأن الخاشع مقبل بقلبه على كلام ربّه، معظّم له، كثير التفكر والتدبر له، فيوفّق لفهمه والانتفاع به انتفاعًا لا يحصّله من يقرأ مئات الكتب، وهو هاجر لكتاب ربه، ولا يحصّله من يقرأُ القرآنَ وصدرُه ضائق بقراءته، يصبّر نفسه عليه، ويفرح ببلوغ آخر السورة لينصرف إلى دنياه.
وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
(كفى بخشية الله علمًا وكفى بالاغترار به جهلًا). رواه ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان.
ورُوي نحوه عن الفضيل بن عياض وابن المبارك، رواهما ابن الأعرابي في معجمه وغيره.
وقد قال الله عز وجل:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وقد فسرت الحكمةُ بالخشية في قول الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}، قال الربيع بن أنس البكري في قوله: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} الآية.. الحكمة: الخشية؛ لأن رأس كل شيء خشية الله، وقرأ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}). هذه رواية ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم موصولا إلى أبي العالية الرياحي قال: (الحكمة: الخشية؛ فإن خشية الله رأس كل حكمة).

وأهل الخشية والإنابة بما يجعل الله لهم من النور والفرقان الذي يميزون به بين الحق والباطل، والهدى والضلالة، والرشاد والزيغ، وما يحبه الله وما يبغضه؛ يحصل لهم من اليقين والثبات على سلوك الصراط المستقيم ما هو من أعظم ثمرات العلم، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (فرقان يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان). رواه ابن جرير.
وبهذا يتبيّن أنّ أهل الخشية والإنابة أعظم الناس حظًا بهذا الفرقان، وهو فرقان في القلوب التي استنارت بنور الله فمشت على هدى من الله عز وجل، تتبع رضوانه، وتستقيم على أمره، وتفرح بفضله ورحمته، كما قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}.
فيوفَّقون للتذكّر والتبصّر: {سيذكّر من يخشى} {وما يتذكّر إلا من ينيب}، {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} ويوفقون للانتفاع بعلومهم، ويُجعل لهم فرقان في قلوبهم يميزون به بين الحق والباطل؛ فهم أصحاب العلم الخالص، وانتفاعهم بالعلم الظاهر أعظم من انتفاع غيرهم، فيهديهم الله هداية خاصّة يقرّبهم بها إليه، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}، وقال الله تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}.
وقد كان من السلف الصالح أئمة كبار عُرفوا بخشية الله تعالى، ورُويت أخبارهم وآثارهم، واستفاض الثناء عليهم من أهل العلم، ومَنْ تأمّلَ وَصاياهُم وأخبارهم عَلِمَ من فِقْهِهم و بَصيرَتِهم ما يدلّه على هذا المعنى الجليل.
فمنهم الرَّبيعُ بن خُثَيْم الثَّوْرِي الذي كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا رأه مُقْبِلا قال:
(بَشّرِ المُخْبتين؛ أما والله لو رآك رسولُ الله لأَحَبّك). رواه ابن أبي شيبة، وكان يقول له: (ما رأيتُكَ إلا ذكرتُ المُخبتِين).
وللربيع بن خثيم وصايا جليلة، من تأمّلها عرف قدر هذا العلم، وعظيم ثمرته، وقد ذكر ابن أبي شَيْبة في مصنّفه طائفة من وصاياه التي تدلّ على ما أنعم الله به عليه من بصيرة وعلم؛ ومن ذلك وصيّته لبَكْر بن مَاعز التي رواها ابن أبي شيبة من طريق سفيان بن سعيد الثوري عن أبيه عن بكر بن ماعز أن الربيع بن خثيم قال له:(يا بكر، اخْزنْ عليكَ لسانكَ إلا ممّا لكَ ولا عليكَ، فإني اتهمتُ الناس على ديني، أطِعْ الله فيما علمتَ، وما استُؤثرَ به عليك فكِلْهُ إلى عالِمه، لَأَنا عليكم في العَمْدِ أخوَفُ منّي عليكم في الخطأ، ما خيركم اليوم بِخَير، ولكنّه خير من آخرَ شرٍّ منه، ما تتبّعون الخير كلَّ اتباعه، ولا تفرّون من الشرّ حقَّ فِراره، ما كلّ ما أنزل الله على محمّد أدركتم، ولا كلّ ما تقرؤون تدرون ما هو، السّرائر اللاّتي يخفين على الناس هنّ لله بَوَادٍ، ابتغوا دواءها)
ثمّ يقول لنفسه: (وما دواؤها؟ أن تتوب ثمّ لا تعود)
.

فتأمّل هذه الوصايا والحكم التي تدلّ على ما وراءها من العلم الخاصّ الخالص الذّي يفيض رحمة وفقهًا ونصحًا، لا يكدّره تكلّف، ولا يشينه تعنيف، ولا إزراء بالمنصوح.
وقال الفقيه الحنبلي ابن مفلح في كتابه "الآداب الشرعية": ((ذُكِر عن الإمام أحمد أنه قال: (كان مَعْرُوف الكَّرْخِي من الأبدال مجاب الدعوة) وذُكر في مجلس أحمد، فقال بعض من حضر: هو قصير العلم. فقال له أحمد: (أمسك عافاك الله! وهل يُراد من العلمِ إلا ما وَصَل إليه معروف؟!")).
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: (قلت لأبي: هل كان مع معروف شيء من العلم؟ فقال لي: يا بنيّ كان معه رأسُ العلم: خشية الله) ا.هـ.
والمقصود من التنبيه على هذين النوعين من العلم أن لا يشتغل المرء بظاهر العلم عن عمران باطنه به، فإنّ الشأن كل الشأن فيما ينتفع به طالب العلم من علمه؛ فيصلح قلبه، وتزكو نفسه، وتستنير بصيرته، ويكون على بيّنة من ربّه، لا يتذبذب ولا يتحيّر، ولا يتكلّف ما لا يعنيه، ولا يغفل عمّا أمامه؛ فهذا العلم هو خالص العلم وأفضله وأعلاه وأجلّه قدراً عند الله جل وعلا.
والتفقّه في أحكام الكتاب والسنة علم نافع لكنّه إذا لم يصحبه العلم الأصلي الباطن -وهو خشية الله والإنابة إليه- كان وبالًا على صاحبه وحجّة عليه.
وأكثر ما يكون التقصير من طلاّب العلم والمتفقّهة، أنهم يُقصِّرون في هذا العلم الباطن فيضعف أثر الخشية في قلوبهم، ويقع التقصير في واجب الإنابة إلى الله، وهذا الضعف والتقصير له أثر بيّن في ضعف انتفاعهم بما يتعلّمون، وتعرّضهم لفتن كثيرة، وله أثر في ضعف سلوكهم سبيلَ الهداية في كثير من الأمور، فأما إذا وفّق الإنسان لصلاح قلبه وصلاح نيّته وقصده، وعَمَرَ قلبه بخشية الله عزّ وجلّ، وأحسنَ الإنابةَ إليه فإنَّ الله عزّ وجلّ يهديه ولا يُضلّه، ويوفّقه ولا يخذله، ويُرشِده ويُسَدِّدُه.