شُعْلَةُ النُفُوس
عبد الله بن أحمد بيه



في حياتنا نلحظ أن المرء يأتي مسروراً متفائلاً سعيداً تارة، وتارة نراه دجاً متشائماً عبوساً، هكذا الحياة لا يأمنها أحد، والاطمئنان إليها قصير الأجل، تأتيك الراحة ضحىً وتذهب عشيةً، نتفاءل ونيأس وننجح ونفشل.
تأملت حولي.. فتذكرت ذلك الطفل الذي كنا نلعب سوياً ونحن في براءة طفولتنا وإذ بي اليوم أراه رجلاً كبيراً، وذلك الذي كان يرافقني للمدرسة أصبح معلماً، هذه الحياة سنةً تعقب سنة وشهراً بعد شهر ويوماً تلو يوم، حتى نتفاجأ بكبرنا دون الإحساس بتلك المرحلة. اليوم ها أنا قد تخطيت خطوات وحققت الكثير من الطموحات، أنجز وأبدع، وكل ما أريده بمجرد سعيٍ له تحقق، منةً منه - سبحانه - وفضل، بالأمس كان جل طموحي حلوى أو بسكويت، كنت أبكي وأتألم ليشفق عليَّ والدي لأرافقه لعمله أو إلى السوق، كانت طلباتي ريالاً واحداً بل أحياناً أقدم النصف ريال عليه.
هكذا كنت وهكذا كنا، أما الآن اختلفنا كثيراً، آمالنا عظمت، وحساباتنا اختلفت، وخططنا تطورت، لقد تغيرت مفاهيمنا وكثرت أعمالنا ومسؤولياتنا، الكل أصبح يسعى ويحرث، يبحث عن لقمة عيشٍ له، والآخر أراد أن يضمن لأبنائه عيشاً كريماً، فالكل يدب فوق البسيطة ساعياً لشؤون حياته وحياة أسرته، إنها الحياة.. والسؤال الذي لابد أن يكون.. من أمسه مثل يومه لا جديد فيه ولا تقدم؟!، لا حاضر شريف له يوحي لمستقبل كريم له، متى نشعر بالإنجاز ونفرح به، متى نرضا عن أنفسنا ويرضى الكل بما نقدم لهم، بالأمس كنا نسير خلف الأيام هممنا بحجم أعمارنا، أما اليوم فلا لابد أن نعلوا بها، لابد أن نسير نحو النجاح بجدية وخطاً ثابتة.
واهجر النوم وحصله فمن *** يعرف المطلوب يحقر ما بذل
لا تقل قد ذهبت أربابه *** كل من سار على الدرب وصل
إننا نحتاج لجدية تملأ أوقاتنا.. برامجنا.. أهدافنا، جديةٌ تشعل نفوسنا، تميز خططنا، فلا نحيد عنها يمنة ولا يسرة، الجدية هي التي تميز النجاح من الفشل، تجعل صاحبها لا يهتم بعسر أمره أو يسره، بل يسعى لتحقيق هدفه وإن كان الطريق غير سوي، الآن نحن كبار قد انتهى زمن اللهو وحان موعد البناء، انتهى وقت الاستهتار والترف، إن بقينا كذلك فلا ننتظر تقدماً ولا نصراً، نريد تلك الجدية التي سطرت سيَر فضلاء ونبلاء في جميع مجالات الحياة.



نَحنُ المشَاعل فِي طَريقِ المَجْدِ تَسْيقِنا
أَنْوَارنا ووهجهَا تَتَقَهْقَر الظلم
نَحنُ النُّجوم لوامِع والليلُ يَعْرفنا
والكَون يعْجَب مِن تَألقِنا وَيبْتَسِم
إننا بحاجة إلى طلاب علم جادين خطباء جادين، معلمين جادين، موظفين جادين، نريد مجتمعاً جاداً، حيثما سرنا نرى الجدية في العمل وفي السوق وفي البيت حتى على مستوى الوزارات والمؤسسات والشركات، نحتاج لجدية تنهض بنا نحو الأفضل، نطور بها عقولنا وأعمالنا ونتاجنا، فإن كان المعلم جاداً لاهتم بتحضير دروسه ورعاية طلابه وتوفير كل ما ينمي مهاراتهم بالشرح والتطوير إلخ..، ولو كان الخطيب جاداً لحرص كل الحرص في استغلال منبره لتذكير الناس بربهم وإصلاح حالهم ومعالجة مشكلاتهم إلخ..، ولو كان الوزير جاداً لعلم قدر مسؤوليته وما دوره وكيف يخدم غيره ويسعى لتأدية واجبه بشكل جيد لأصبحت وزارته نافعة مثالية، وهكذا..



والآكد في ذلك الجدية في عبادتنا بالمحافظة عليها واتقانها سواءً الأركان أو الواجبات أو السنن، والجدية في السعي للآخرة وإيثار الدنيا وملذاتها وشهواتها، فالكثير من الناس مقصرون في ذلك غاية التقصير، حتى تكاد بعض العبادات تصير لعادات، أصبح العبد يمارسها ممارسة عادية دون الجدية واستشعار ما يقوم به من عبادة وطاعة، يريد أن يعيش إسلاماً بارداً، يريد إسلاماً سهلاً بلا كلفة قال - تعالى -: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى..) الآية.



الجَدُّ في الجدِّ والحِرمانُ في الكَسَلِ *** فانصبْ تُصِبْ عنْ قريبٍ غايةَ الأملِ
لا تعجب من مقدمة مقالتي هذه واختلافها عن لبها، ولكن.. أردت ذلك لأقول (للأسف الكثير من الناس ما زال يعيش ذكرياتي تلك " بالرغم من كبره!! "، فما زال صغيراً، لأنه عديم الجدية في حياته)، وفي المقابل لا أدعوكم للتعب والكلل، وأن نكون عبوسين متشددين، لا.. فلا يعني أن الجاد لا يمرح ولا يلعب ولا يضحك، لكن يزن أموره في ميزان منصف الوسطية .
لنكن جادين في أقوالنا وأفعالنا، جادين مع الله ومع الناس، ولتكون الجدية في مظهرنا ومخبرنا، ونفوسنا بها مشتعلة عاملة.
فِي الروحِ إِصْرَارٌ وَفِي أَعْمَاقنا أمَل
لا يَعْتَري خُطوَاتنا يَأس وَلا سَأم
وإِذا الحَيَاة مَصَاعِب سنَخوضهَا جلدا
وإذا الجِبَال طَريقها فطُمُوحنا القِمَم