باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله " : الصبر من المقامات العظيمة ، والعبادات الجليلة التي تكون في القلب وفي اللسان وفي الجوارح ، وحقيقة العبودية لا تثبت إلا بالصبر ؛ لأن العبادة أمر شرعي ، أو نهي شرعي ، أو ابتلاء ، بأن يصيب الله العبد بمصيبة قدرية فيصبر عليها .
فحقيقة العبادة : أن يمتثل الأمر الشرعي ، وأن يجتنب النهي الشرعي ، وأن يصبر على المصائب القدرية التي ابتلى الله - جل وعلا - العباد بها . فالابتلاء حاصل بالدين وحاصل بالأقدار ، فبالدين كما قال - جل وعلا - لنبيه صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى : إنما بعثتك لأبتليك ، وأبتلي بك » . فحقيقة بعثة النبي عليه الصلاة والسلام الابتلاء ، والابتلاء يجب معه الصبر ، والابتلاء الحاصل ببعثته بالأوامر والنواهي .

فالواجبات تحتاج إلى صبر ، والمنهيات تحتاج إلى صبر ، والأقدار الكونية تحتاج إلى صبر ؛ولهذا قال طائفة من أهل العلم : إن الصبر ثلاثة أقسام : صبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وصبر على أقدار الله المؤلمة .
ولما كان الصبر على المصائب قليلا أفرد له الشيخ - رحمه الله - هذا الباب لبيان أنه من كمال التوحيد ، ومن الواجب على العبد أن يصبر على أقدار الله ؛ لأن تسخط العباد وعدم صبرهم ، كثيرا ما يظهر في حال الابتلاء بالمصائب ، فعقد هذا الباب لبيان أن الصبر واجب على أقدار الله المؤلمة ، ونبه بذلك على أن الصبر على الطاعة واجب ، وأن الصبر عن المعصية واجب .
وحقيقة الصبر في اللغة :الحبس ، ومنه قولهم : قتل فلان صبرا ، إذا حبس أو ربط فقتل من دون مبارزة ولا قتال . ويقال للصبر الشرعي إنه صبر ؛ لأن فيه حبس اللسان عن التشكي ، وحبس القلب عن السخط ، وحبس الجوارح عن إظهار السخط من لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك ، فحبس هذه الأشياء هو حقيقة الصبر ، فالصبر إذًا في الشرع هو : حبس اللسان عن التشكي ، وحبس القلب عن التسخط ، وحبس الجوارح عن إظهار السخط بشق أو نحو ذلك .

قال الإمام أحمد - رحمه الله - : ذكر الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعا ، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ؛ لأن من لا صبر له على الطاعة ، ولا صبر له عن المعصية ، ولا صبر له على أقدار الله المؤلمة ، فإنه يفوته أكثر الإيمان .
وقوله : " باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله " يعني : أن من خصال الإيمان بالله الصبر على أقدار الله ، والإيمان له شعب ، كما أن الكفر له شعب ، فنبه بقوله : « من الإيمان بالله الصبر » على أن من شعب الإيمان الصبر ، ونبه في الحديث الذي رواه مسلم على أن النياحة من شعب الكفر ، فيقابل كل شعبة من شعب الكفر شعبة من شعب الإيمان ، فالنياحة على الميت شعبة من شعب الكفر ، يقابلها في شعب الإيمان الصبر على أقدار الله المؤلمة .

" وقول الله تعالى : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ التغابن : 11 ] قال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم " (1) . هذا تفسير من علقمة - أحد التابعين - لهذه الآية ، وهو تفسير ظاهر الصحة والصواب ؛ وذلك أن قوله : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } إنما ورد في سياق ذكر ابتلاء الله بالمصائب ، فـ { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ } يعني : يعظم الله - جل وعلا - ويمتثل أمره ويتجنب نهيه { يَهْدِ قَلْبَهُ } للصبر ، و { يَهْدِ قَلْبَهُ } لعدم السخط ، و { يَهْدِ قَلْبَهُ } للعبادات ؛ ولهذا قال : " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله " وهذا هو الإيمان بالله " فيرضى ويسلم "

والمصائب من القدر ، والقدر راجع إلى حكمة الله - جل وعلا - ، وحكمة الله - جل وعلا - هي وضع الأمور في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها ، فالحكمة بعامة مرتبطة بالغايات المحمودة من وضع الأمر في موضعه ، فمن وضع الأمر في غير موضعه فقد ظلم ، ومن وضع الأمر في موضعه عدل ، وقد يكون غير حكيم ، أي قد يكون عادلا ولكن غير حكيم ، فإذا وضع الأمر في موضعه الموافق للغاية المحمودة منه فذاك هو الحكيم ، والله - جل وعلا - منفي عنه الظلم ومثبت له كمال العدل سبحانه حيث يضع الأمور في مواضعها ، ومثبت له - جل وعلا - كمال الحكمة حيث إن وضعه الأمور في مواضعها موافق للغايات المحمودة منها ، فنعلم بذلك أن المصيبة إذا أصابت العبد فإن الخير له فيها ، إما أن يصبر فيؤجر ، وإما أن يتسخط فيؤزر على ذلك ، وهذا في حق الخاسرين ، فالله - جل وعلا - له الحكمة من الابتلاء بالمصائب ؛ لهذا يجب على العبد أن يعلم أن ما جاء من عند الله هو قدر الله - جل وعلا - وقضاؤه الموافق لحكمته فيجب الصبر على ذلك .
قوله : " يعلم أنها من عند الله " : يعني : أن الله هو الذي أتى بها ، وهو الذي أذن بها قدرا وكونا .


" فيرضى ويسلم " : الرضا بالمصيبة مستحب وليس بواجب ؛ ولهذا يختلط على كثيرين الفرق بين الرضا والصبر ، وتحرير المقام في ذلك :أن الصبر على المصائب واجب من الواجبات ؛ لأن فيه ترك السخط على قضاء الله وقدره ، والرضا له جهتان : الجهة الأولى : راجعة إلى فعل الله - جل وعلا - ، فيرضى بقدر الله الذي هو فعله ، ويرضى بفعل الله ، ويرضى بحكمة الله ، ويرضى بما قسم الله - جل وعلا - ، وهذا الرضا بفعل الله - جل وعلا - واجب من الواجبات ، وتركه محرم ومناف لكمال التوحيد .
والجهة الثانية :
الرضا بالمقضي ، أي بالمصيبة في نفسها ، فهذا مستحب ، ليس واجبا على العباد أن يرضوا بالمرض ، وأن يرضوا بفقد الولد ، وأن يرضوا بفقد المال ، لكن هذا مستحب وهو رتبة الخاصة من عباد الله ، لكن الرضا بفعل الله - جل وعلا - بمعنى الرضا بقضاء الله من حيث هو واجب ، أما الرضا بالمقضي فإنه مستحب ؛ ولهذا قال علقمة هنا : " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى " يعني : على قضاء الله " ويسلم " لعلمه أنها من عند الله - جل جلاله - ، وهذا من خصال الإيمان .


وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اثنتان الناس هما بهم كفر » : يعني . خصلتان من شعب الكفر قائمتان في الناس ، وستبقيان في الناس : « الطعن في النسب ، والنياحة على الميت » (1) .
وجه الشاهد من هذا الحديث : قوله : " والنياحة على الميت " لأن النياحة مخالفة للصبر ، والصبر الواجب فيه : حبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك ، وحبس اللسان عن التشكي والعويل وهذا هو النياحة ، فالنياحة من شعب الكفر ؛ لأنها منافية للصبر.

وكونها من شعب الكفر لا يدل على أن من قامت به فهو كافرٌ الكفر المطلق المخرج من الملة ، بل يدل على أن من قامت به قامت به خصلة من خصال الكفار ، وشعبة من شعب الكفر ؛ ولهذا قال هنا : « اثنتان في الناس هما بهم كفر » فنكر كلمة " كفر " ، والقاعدة في فهم ألفاظ الكفر التي تأتي في الكتاب والسنة : أن الكفر إذا أتى معرفا بالألف واللام فإن المراد به الكفر الأكبر ، وإذا أتى منكرا - أي بدون الألف واللام - فإنه يدل على أن الخصلة تلك من شعب الكفر ، ومن خصال أهل الكفر ، وأن ذلك كفر أصغر كما قال عليه الصلاة والسلام : « لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض » لأن ذلك من خصال الكفار ، ونحو ذلك قوله : « سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر » هذا في الكفر الأصغر .
وأما الكفر المعرف بالألف واللام فالقاعدة التي حررها الأئمة كشيخ الإسلام وغيره : أنه إذا أتى فيراد به الكفر الأكبر ، كقوله عليه الصلاة والسلام : « بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة »



" ولهما عن ابن مسعود مرفوعا : « ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية » دل هذا الحديث على أن من فعل هذه الأفعال فهو ليس من أهل الإيمان ، وقد سبق بيان أن كلمة " ليس منا " تدل على أن الفعل من الكبائر ؛ ولهذا فإن ترك الصبر وإظهار التسخط كبيرة من الكبائر ، والمعاصي تنقص الإيمان ؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، ونقص الإيمان قد ينقص كمال التوحيد ، بل إن ترك الصبر مناف لكمال التوحيد الواجب .


" وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة »: هذا فيه بيان حكمة الله - جل وعلا - التي إذا استحضرها المصاب ، فإنه يعظم عنده الصبر ، ويتحلى بهذه العبادة القلبية العظيمة وهي ترك التسخط ، والرضا بفعل الله - جل وعلا - وقضائه ؛ لأن العبد إذا أريد به الخير فإن العقوبة تعجل له في هذه الدنيا ؛ لأن رفع أثر العقوبة عن العبد يكون بعشرة أشياء ، منها : أن تعجل له العقوبة في الدنيا ، يعني : أن يعاقب في الدنيا بمرض ، أو بفقد مال ، أو بمصيبة ؛ لأن مخالفة أمر الله في ملكوته لا بد أن تقع لها عقوبة ، إن لم يغفر الله - جل وعلا - ويتجاوز ، فإذا كانت العقوبة في الدنيا فإنها أهون من أن تكون في البرزخ ، أو أن تكون يوم القيامة ؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر الذي رواه البخاري وغيره قال عليه الصلاة والسلام : « من يرد الله به خيرا يصب منه » ؛ ولهذا كان بعض السلف يتهم نفسه إذا رأى أنه لم يصب ببلاء أو لم يمرض ونحو ذلك ، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحمى مثلا : « لا تسبوا الحمى
فوالذي نفسي بيده إنها لتنفي الذنوب عن العبد كما ينفي الكير خبث الحديد » ففي المصائب نعم على العبد ، والله - جل وعلا - له الحكمة البالغة فيما يصلح عبده المؤمن .
" وقال صلى الله عليه وسلم : « إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط » : دل قوله : " من رضي فله الرضا " على أن الرضا عبادة ؛ لأن رضا الله عن العبد إذا رضي عنه دال على أن ذلك الفعل محبوب له ، وذلك دليل أنه من العبادات ، وكذلك الجملة الثانية دليل على أن السخط محرم ، . قال : " ومن سخط فله السخط " يعني : من الله - جل وعلا - .


وحقيقة السخط على الله - جل وعلا - :أن يقوم في قلبه عدم محبة ذلك الشيء ، وكراهته ، وعدم الرضا به ، واتهام الحكمة فيه ، فمن قامت به هذه الأشياء مجتمعة فقد سخط ، ويظهر أثر السخط على اللسان أو على الجوارح ، أو في القلب من جهة عدم الرضا بالأوامر ، وعدم الرضا بالنواهي ، وعدم الرضا بالشرع ، فيتسخط الأمر ، ويتسخط النهي ، ويتسخط الشرع ، فهذا كبيرة من الكبائر ، ولو امتثل ذلك فإن تسخطه وعدم الرضا بذلك قلبا دليل على انتفاء كمال التوحيد في قلبه ، وقد يصل بالبعض إلى انتفاء التوحيد من أصله إذا لم يرض بأصل الشرع وسخطه بقلبه واتهم الشرع أو اتهم الله - جل وعلا - في حكمه الشرعي [ كفاية المسنزيد للشيخ صالح ال الشيخ]