التشبه
خالد بن عثمان السبت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
اسأل الله -عز وجل- أن يجعل هذا المجلس عامراً بذكره، وسبيلاً للتقرب إليه، وأن يعيننا على طاعته وذكره وشكره وحسن عبادته.
حديثنا سيكون عن موضوع تدعو الحاجة إليه، ويكثر السؤال عنه، ويحتاج المسلم أن يتبصر فيه، وأن يعرف أحكامه، ذلكم هو أحكام التشبه، وأرجو وأؤمل أن يكون هذا الحديث شاملاً لأطراف هذا الموضوع، وسأذكر ضمنه قواعد يسهل حفظها بإذن الله -عز وجل- فيستطيع المسلم أن يتعرف على التفصيلات والأحكام التي تمر به من خلال حفظ هذه القواعد.
حديثنا يتضمن عشر نقاط هي:
الأولى: لماذا هذا الموضوع؟.
الثانية: في بيان حقيقة التشبه.
الثالثة: في ذكر بعض القواعد والضوابط العامة في موضوع التشبه.
الرابعة: في بيان الحكمة التي من أجلها حرم الله - عز وجل - التشبه بمن لا ينبغي التشبه بهم.
الخامسة: في ذكر الأبواب التي يدخلها التشبه.
السادسة: لا تتشبه بهؤلاء.
السابعة: من صور التشبه في واقعنا المعاصر.
الثامنة: أسباب الوقوع في هذه المشكلة.
التاسعة: آثار التشبه ونتائجه السيئة على الأفراد والمجتمعات والأمم.
العاشرة: علاج ظاهرة التشبه.
أولاً: فلماذا نطرح هذا الموضوع؟:
لقد اتسعت دائرة علاقة المسلمين في هذا العصر اتساعاً لا يخفى على أحدٍ، وصار الناس مختلطين، وتقاربت الأمم والشعوب، وصار العالم كما يقال: كقرية صغيرة واحدة.
كما سيطر الكفار في الغالب على الوسائط الإعلامية المؤثرة في العالم، وكذلك الثقافية، وصاروا ينقلون فكرهم وحضارتهم وآدابهم وأخلاقهم وما إلى ذلك، ينقلونه إلى غيرهم من الأمم، هذا بالإضافة إلى غلبتهم كما هو معروف.
ومعلوم أن الغالب يعمل جاهداً على فرض حضارته وأخلاقه وذوقه على سائر الناس؛ ذلك أنه هو المسيطر، ومن عزَّ بزَّ، ومن غلب استلب، فهم يريدون من الآخرين أن يحاكوهم في كل شيء، وأن يذوبوا في شخصيتهم فلا يبقى لأحد كيان مستقل، ولا يكون لأحدٍ وجود مؤثر خارجٌ عن نطاق إرادتهم، هكذا يريدون، والله - عز وجل - يهيئ لهذه الأمة ما شاء.
إن المجتمعات لا تخلو من وجود الفساق، ولا تخلو من وجود المبتدعة، وذلك لا شك أنه يؤثر، والخلطة لا شك أنها تكون سبباً لإيصال أخلاق الآخرين وعاداتهم، وقد أحسن وصدق من قال: "الطبع سرَّاق".
والناس كأسراب القطا جبلوا على تشبه بعضهم ببعض، فكان لابد من بيان هذه الأحكام، ولابد من طرح هذا الموضوع؛ من أجل أن يكون عند المسلم حصانة تقيه -بإذن الله تبارك وتعالى- من الوقوع في مثل هذه المتاهات، وهم لا يشعرون بذلك.
ثانياً: ما هي حقيقة التشبه؟:
التشبه هو المحاكاة، فإذا حاكيت غيرك في قوله أو في فعله أوفي سائر شؤونه فإنك تكون قد تشبهت به.
وحقيقته في معناه الشرعي: هو محاكاة من تقصد مباينته في شيء من خصائصه مطلقاً، وفي غير ما يختص به قصداً.
إذا حاكينا غيرنا ممن أراد الله - عز وجل - أن نباينه في شيء من خصائصه والأمور التي أختص بها دون غيره فإن هذا هو التشبه، سواء قصدنا بذلك المشابهة أو لم نقصد ذلك، وأما في الأمور التي لا تختص به فإن ذلك يعود إلى قصد الفاعل.
فهذا الماء لا شك أنه شيء حلال ولا يقول أحد بأنه محرم، ولكن متى يأثم الإنسان إذا شرب هذا الكأس؟
لو أن أحداً من الناس شرب هذا الماء على طريقة شرب الخمر -كما يفعل شُرّاب الخمور- حيث يضرب كأساً بالآخر، ثم يضربه ويقول بعض الكلمات، عند ذلك لا شك أن هذه المحاكاة محرمة، ويأثم بهذه الطريقة التي شرب فيها هذا الماء الزلال، وقد ذكر هذا جمع من أهل العلم كالشاطبي - رحمه الله - وغيره.
إذن: إذا حاكينا غيرنا ممن قُصد مباينته في أمر يختص به فهذا أمر لا يرجع إلى القصد، ولا يلتفت فيه إلى نية الفاعل، وإذا حاكينا غيرنا في الأمور التي يشترك بها هذا الغير مع غيره من الناس فإن ذلك ينظر فيه إلى قصد الفاعل، فإن قصد بذلك التشبه بهذا الذي لا يجوز أن يتشبه به فإنه يكون بذلك آثماً، وقد فعل شيئاً محرماً...فما معنى محاكاة الكفار والتشبه بهم؟
هو محاكاتهم في شيء من عقائدهم أو عباداتهم أو عاداتهم المختصة، أو غير ذلك من أنماط سلوكهم التي تكون من خصائصهم، والتي يتفردون بها دون غيرهم، والتي عرفوا بها وصارت شعاراً عليهم.
فالقضايا الدينية لا يجوز أن نشابههم بها بحال من الأحوال -على تفصيل سيأتي- وأما القضايا العادية فإنها على قسمين:
القسم الأول: لا يجوز أن نتشبه بهم فيه، وهي الأمور التي هي بمثابة الشعار لهم، أو التي يفعلونها دون غيرهم، وهي من خصائصهم في العادات والأزياء، وما إلى ذلك، فهذا أمر يحرم محاكاتهم فيه.
القسم الثاني: أمور العادات الأخرى فالأصل فيها الإباحة، ويجوز للناس أن يفعلوها، لكن بشرط أن لا يكون ذلك بقصد محاكاة الكافر، وعلى أن يكون ذلك فيما ليست من خصائصهم.
ثالثاً: في ذكر بعض القواعد والضوابط العامة في باب التشبه:
القاعدة الأولى: "كل ما كان من خصائص الكفار الدينية والعادية فإنه يحرم التشبه بهم فيه مطلقاً دون التفات إلى القصد": وقد أشرت إلى هذا المعنى قبل قليل في شرح ضابط أو معنى التشبه.
هذه القاعدة إذا حفظناها انحلت كثير من الإشكالات، فكل ما كان من خصائص الكفار الدينية والعادية فإنه يحرم التشبه بهم فيه مطلقاً دون التفات إلى قصد الفاعل.
فلو أن أحداً من الناس لبس زُنَّاراً -وهو ما يشده النصارى على أوساطهم- فإن ذلك لا ينظر فيه إلى قصد الفاعل، بل يحرم عليه ذلك مطلقاً؛ لأنه من خصائصهم الدينية.
وكذلك لو أنه فعل شيئاً من خصائصهم العادية، وقال: أنا لا أقصد ذلك، فإنه لا يجوز له هذا الفعل، وإن كان قصده سليماً.
فالقصد لا يتعلق بهذه القضية، بل إذا وجد القصد السيئ في المحاكاة فإن الذنب يكون أعظم وأشدّ، وبهذا نعرف أن الأمور المشتركة بين الناس من قضايا العادات والأزياء وما إلى ذلك لا تدخل في باب التشبه، وبهذا نعرف أن القضايا الدينية والعبادية تتعلق بموضوع التشبه سواءً انتشرت عند الناس أو لم تنتشر.
فلو أنه انتشر بين الناس موضة من الموضات -وهي لبس الزنار مثلاً- فهذه لا تغير من حقيقة الحكم ولو لبسه أهل الأرض جميعاً؛ فإنه لا يجوز للمسلم أن يلبسه.
كذلك لو أن الناس لبسوا الصليب -مثلاً- أو أن النساء لبست القلائد التي عليها الصليب، فإن ذلك لا يجوز ولو فعله أهل الأرض جميعاً؛ لأن هذا من خصائصهم الدينية، فهذا لا يؤثر فيه الانتشار وغلبة الفعل على الناس من المسلمين والكفار.
وبهذا نعرف أيضاً أن قضايا العادات يتغير الحكم معها بالانتشار، فالأمور التي هي من عاداتهم ولا تتعلق بدينهم إذا صارت من غير ما يختص بهم فإنه يجوز للناس أن يفعلوها، وأن يقوموا بها، أو يلبسوا هذه الأزياء؛ لأن ذلك لم يعد مما يتميز به الكفار.
فقضايا العادات ينكسر فيها الحظر إذا انتشرت وتفشت بين الناس، ولكن ذلك لا يلغي التبعة عن أولئك الذين بادروا أولاً، فصاروا يتشبهون بهم في هذه العادات حينما كانت مختصة بهم، فهم آثمون بذلك، مع أن هذا الحكم قد تغير حينما صار ذلك متفشياً بين المسلمين والكفار.
وأما ضابط كون الشيء من خصائص الكفار فذلك بأن يكون مما يفعلونه دون غيرهم، أو أن يكون ذلك شعاراً لهم بحيث يُظن بمن فعله أنه منهم، وإن وجد من يفعله من بعض الأفراد الذين قد يحسبون على المسلمين، فإن ذلك يبقى من خصائصهم، وفعل هؤلاء الأفراد ممن تقحموا هذا الفعل وأقدموا عليه لا يغير من حقيقة الحكم شيئاً.
ومرجع هذا -أي أن الشيء يكون من خصائصهم في باب العادات أو ليس من خصائصهم- مرجع ذلك إلى العرف، فإذا شاع في أعراف الناس وذاع أن هذا الأمر يفعله سائر الناس وهو ليس من قضاياهم الدينية فإنه يجوز للمسلم أن يفعل ذلك.
القاعدة الثانية: "كل ما زال اختصاصه بالكفار من العادات فإنه ليس من التشبه": وهذه ذكرتها مفردة من أجل أن تحفظ وتضبط، وإلا فقد أشرت إليها في شرح القاعدة السابقة.
كل ما زال اختصاصه بالكفار من العادات فإنه ليس من التشبه، والمثال على ذلك: الأكل على الطاولة: فلربما كان ذلك قد فعله ابتداءً غير المسلمين، ولكنه انتشر في الناس وليس من خصائص الكفار الدينية، فصار ذلك مشتركاً بين المسلمين وبين الكفار، فهذا يجوز للمسلم أن يفعله، أي يجوز لنا أن نأكل على هذه المقاعد وعلى هذه الطاولات وما إلى ذلك؛ لأن ذلك لم يعد مما يختص بهم.
كذلك لبس البنطال -مثلاً- والقميص إذا لبسها المسلم فما الحكم من ذلك؟
نقول: ذاك صار شائعاً في بعض بلاد المسلمين، وصار هو الزي المنتشر المتعارف بينهم، فصار مما لا يختص بالكفار ولا يتميزون به عن غيرهم، ولم يعد ذلك من شعارهم الذي يميزهم عن غيرهم، ولا يظن بمن لبس هذه الألبسة أنه من الكفار، ومن ثمَّ فلا يقال: إن هذه الأشياء من اللباس المحرم، اللهم إلا إن وجد في بعض هذه الألبسة أنواعاً خاصة بهم كالشعار لهم بحيث إذا لبسه المسلم فإنه يذكر بأولئك، ففي هذه الحال يُقال: لا يلبس هذا النوع بخصوصه، وأما بقية الأنواع من هذه الألبسة التي انتشرت في بلاد المسلمين فلا بأس بها، وإن كانت في أول أمرها مأخوذة من الكفار.
القاعدة الثالثة: "ما كان منهياً عنه للذريعة فإنه يفعل للمصلحة الراجحة": وهذه من أنفع القواعد؛ ذلك أن الأمور المنهي عنها إما أن تكون منهي عنها قصداً، وإما أن تكون منهي عنها من باب النهي عن وسائل الفساد، يعني نهي عنها لا لضرر فيها، وإنما لما تفضي إليه من المفاسد، فهذه يقال لها: الذرائع، فمثلاً:
البناء على القبور وتجصيص القبور أمر محرم، لكن هل هو محرم لذاته؟ أو أنه محرم لأنه يفضي إلى أمر نهى عنه الشارع وحرمه، وهو عبادة هذه القبور من دون الله -تبارك وتعالى-؟
لا شك أن النهي عن الكتابة على القبور وعن تجصيصها، وعن البناء عليها، وعن الصلاة في المقابر إنما كان من باب الوسائل؛ لأنه يفضي إلى عبادة هؤلاء المقبورين وتعظيمهم من دون الله -تبارك وتعالى-.
فالقاعدة في هذا الباب أن كل ما كان منهياً عنه للذريعة -يعني من باب الوسائل- فإنه يفعل للمصلحة الراجحة، وأمثلة ذلك كثيرة، ومنها:
جاء النهي عن زخرفة المساجد، وأن ذلك من فعل غير المسلمين، وفي عهد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - لما ولي الخلافة كان جامع دمشق قد زين بألوان التحف والأحجار النفيسة، فلما كانت خلافة عمر أراد أن ينزع ذلك جميعاً من سواري المسجد ومن جدرانه، وقد بذل المسلمون فيها الأموال الطائلة، فلما قال ذلك لخاصته قالوا له: إن هذه قد بذلت فيها أموال المسلمين، وجلبت من بلاد الروم، وتعب المسلمون فيها، فبينما هم كذلك يتشاورون في هذا المعنى، إذ جاء رجل عظيم من أهل دين النصارى من الروم، فلما دخل جامع دمشق نظر إليه فعظمّه، وقال: إن أمة قد بنت هذا إنها أمة عظيمة لها شأن!.
عظمت هذه الأمة في عينيه، فلما رأى ذلك عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - امتنع من إزالة تلك الأحجار من سواري المسجد ومن جدرانه، فتزيين هذه الجدران منهي عنه من باب الوسائل، فتركه عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - لوجود مصلحة راجحة وهي ما ذكرنا.
ومن أمثلة ذلك: تغميض العينين في الصلاة، إذ لا شك أنه أمر مذموم؛ لما فيه من مشابهة اليهود في عبادتهم وصلاتهم، ولكن لو صلى المسلم في مكان يعج بالملهيات، فأغمض عينيه من أجل أن يحصل الخشوع في مثل هذه الحالة خاصة -وليس دائماً- فنقول: له ذلك؛ لأن ما نهى عنه من باب النهي عن الذرائع، فإنه يجوز للمصلحة الراجحة.
ومن أمثلة ذلك: أن يلبس المسلم زي الكفار، إذا كان في بلادهم وخشي على نفسه الضرر فإنه يجوز أن يتزيا بزيهم، ولا يكون في هذه الحال مذموماً، ولا متشبهاً بهم؛ كما ذكر ذلك الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه: "اقتضاء الصراط المستقيم"-؛ وذلك لدفع مفسدة، وهي خشية الضرر على نفسه، أو لتحصيل مصلحة راجحة، كأن يأتي بأخبارهم للمسلمين، وأن يطلع على عوراتهم.
وبالمقابل يقال: إن الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة فإنه ينهى عنه، كالصلاة في أوقات النهي، فنحن منهيون أن نصلي بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب، وقد علل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الشمس تطلع بين قرني شيطان، وتغرب بين قرني شيطان، وعندئذٍ يسجد لها الكفار[1].
فنحن منهيون عن الصلاة في هذه الأوقات لما فيه من محاكاة الكفار ومن التشبه بهم، وليس فيه مصلحة راجحة.
وكذلك أيضاً اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، ليس فيه مصلحة راجحة، بل فيه مفسدة راجحة، وهي أن تعبد هذه القبور من دون الله -تبارك وتعالى-.
القاعدة الرابعة: "المخالفة للكفار تكون في أصل الفعل أو في وصفه أو في حكمه": فتكون في أصله إذا كان هذا الفعل في أصله ليس مشروعاً لنا، كعيد الميلاد عند الكفار أو ما يسمى بعيد رأس السنة، فهذا ليس مشروعاً لنا من أصله، فعندئذٍ لا يجوز لنا أن نفعله أصلاً، وتكون المخالفة في وصفه إذا كان أصله مشروعاً لنا، وذلك أننا نصوم يوم عاشوراء واليهود يصومون في يوم عاشوراء؛ لأن الله نجى فيه موسى - صلى الله عليه وسلم - فعندئذٍ نخالفهم في وصفه، وذلك أننا نتسحر واليهود لا يتسحرون، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن الفرق بين صومنا وبين صوم أهل الكتاب أكلة السحر.
وكذلك أرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صوم يوم التاسع من محرم حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع))[2].
كل ذلك لتحقيق مخالفة الكفار في مثل هذا، فلذلك نقول: إذا كان أصل الفعل مشروعاً فإنه يُشرع لنا أن نخالفهم في وصفه.
الحالة الثالثة: في حكمه، وذلك إذا كان هذا الفعل قد شرعه الله - عز وجل - لنا، وهم أيضاً يفعلونه وقد استوت فيه الصورة الظاهرة فنختلف معهم ونفترق في الحكم، فمثلاً: القيام للجنازة، إذا مُرّ بجنازة محمولة فإننا نقوم عندئذٍ -على خلاف في هذه المسألة بين الفقهاء - رحمهم الله - هل هذا منسوخ أو ليس منسوخاً- فطائفة من أهل العلم يقولون: القيام ليس بمنسوخ، ولكنه مستحب ولا يجب، أما عند اليهود فإنه يجب عليهم.
فمن هنا نلاحظ أن الفعل واحد في الصورة الظاهرة، فنحن نقوم وهم يقومون، ولكننا نختلف معهم في الحكم، هم يقومون وجوباً في اعتقادهم، ونحن نقوم استحباباً.
إذن: قد نختلف معهم في أصل الحكم؟ وقد نختلف معهم في الوصف؟ وقد نختلف معهم في الحكم؟ كما رأينا.
القاعدة الخامسة: "كل ما يعمله المسلم من تشبه بالكفار أو ما يفضي إلى التشبه فإنه لا يُعان عليه بأي لون من الإعانة؛ لأن الله - عز وجل - يقول: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[(2) سورة المائدة]": فإذا كان هذا المسلم -مثلاً- يريد أن يشارك المشركين في عيد الميلاد، أو هذه المرأة أرادت أن تلبس لباساً هو من خصائص الكفار العادية، أو من خصائصهم الدينية، فإنها لا تُعان على ذلك، فلا يجوز للخياط أن يفصل لها هذا الثوب، ولا يجوز للبائع أن يبيعها هذا الثوب.
إذا جاء من يشتري هذه الكعكة ليشارك اليهود أو النصارى في عيد من أعيادهم، فإنه لا يجوز للمسلم أن يبيعه ذلك، ولا يجوز له أن يعينه على هذه المشاركة بحال من الأحوال.
القاعدة السادسة: "الأمر بمخالفة الكفار إما أن تكون مقصودة لذاتها، وإما لما يتضمن ذلك من المفسدة أو في تركه المصلحة": فما كان مقصوداً لذاته، يعني أنه قُصد فيه فقط المخالفة، فإن هذا لا يجب على المسلم أن يفعله، ومثال ذلك: صبغ الشيب وتغيير لون الشيب بالحناء والصفرة، والكتم وما إلى ذلك -أي بغير السواد- فهذا أمرٌ مطلوب شرعاً، ولكنه لا يجب علينا، وهل هو مطلوب لذاته أو أنه مطلوب من أجل مخالفة المشركين؟ هو مطلوب من أجل مخالفة المشركين فقط، وإلا فليس فيه مصلحة خاصة، لو تجرد من مخالفة المشركين، فعندئذٍ لا يجب علينا أن نصبغ هذا الشيب، وأن نغيره، ولكنه يستحب ويحسن ويجمل بالمسلم أن يفعله.
كما أن الحكم قد يتغير بتغير الزمان، فمثلاً: في بعض الفترات كان أهل الذمة يلزمون بالعمائم الزرقاء، وفي ذلك الوقت لا يجوز للمسلم أن يلبس عمامة زرقاء؛ لأنه يكون متشبهاً بأهل الذمة، وأما في هذا العصر، فإن أهل الذمة لا يلبسون العمائم أصلاً فضلاً عن العمائم الزرقاء، فهل يحرم على المسلم الآن- أن يلبس عمامة زرقاء؟
الجواب: لا، لأن المخالفة قد انتفت.
لكن الشيء قد ينهى عنه للمخالفة ولما في فعله من تحقيق مصلحةٍ مطلوبة شرعاً، وذلك كإعفاء اللحية -مثلاً-، فلا شك أن إعفاءها مطلوب؛ لأنها من سنن الفطرة، وكما أن في تركها مخالفة للمجوس، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعفائها وبحف الشوارب، وكل ذلك من أجل مخالفة المشركين، أو من أجل مخالفة المجوس، فلو صار المجوس يعفون لحاهم في وقت من الأوقات فهل يُقال للمسلمين: إن ذلك قد لا يطلب فيه إعفاء اللحية؟
الجواب: لا، لأن إعفاء اللحية مقصود ومطلوب للشارع، وبهذا نُفرق بين ما كان المقصود فيه هو مجرد المخالفة، وبين ما كان مطلوباً ومقصوداً للشارع، وإن تجرد من المخالفة.
وهنا أمر يحسن التنبيه عليه؛ حيث يسأل الناس عنه ويلتبس على كثير منهم، وهو أنه ينبغي أن نفرق بين ما اتخذ على سبيل الأزياء، وبين ما فُعل عرضاً للحاجة، فمثلاً: الإمام أحمد - رحمه الله - كره أن يلبس المسلم نوعاً من النعال لها صوت يُقال لها: النعال الصرارة، والنعال الصرارة في ذلك الوقت كانت من زي الأعاجم من أهل السند من غير المسلمين، فكرهها الإمام أحمد في ذلك الحين، أما لو وجد الآن نوع من هذه النعال فإنها لا تختص بهم، لكن في ذلك الوقت كرهها الإمام أحمد لما فيها من التشبه بهم، ولكن هل كرهها مطلقاً؟ الجواب: لا، قال: إن لبسها لنحو الخلاء والوضوء فلا بأس بذلك.
وقال عن النعل السندي: "إذا كان للطين والمخرج -يعني للخلاء- فأرجو أن لا يكون به بأس، أما للزينة فلا".
وبناءً على ذلك نقول في مسألة اللباس: لو أن الرجل تدثر بعباءة امرأته في بيته، هل يكون متشبهاً بالنساء، ويدخل في قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال"[3].
فالجواب: لا.
لو أن الرجل لبس نعل امرأته في البيت ليدخل فيه الخلاء أو ليعبر في بيته من ناحية إلى ناحية، ولم يجد سواها، فلبس ذلك لا على سبيل التزيّ والتزين به واتخاذ ذلك لباساً يخرج به إلى الناس، فهل يُقال: إنه قد ارتكب نوعاً من المشابهة، وأنه فعل شيئاً من المحرمات؟
الجواب: لا، وعليه ينبغي أن نفرق بين ما اتخذ على سبيل التزيّ والتزين وبين ما فعل عرضاً لحاجة عرضت.
ولو أن الرجل في حال من البرد -ومعلوم أن النساء لهن نوع من الجباب معروفة وملونة- فلو أنه جلس في خيمته، وهم في البادية -في الصحراء أو في نزهة أو نحو ذلك- فلبس جبة امرأته، فهل يُقال: إن هذا الرجل متشبهاً بالنساء ويحىم عليه أن يلبس ذلك؟ الجواب: لا، ليس متشبهاً بالنساء ولا يحرم عليه أن يلبس ذلك في مثل هذه الحالة، والله - تعالى -أعلم.
رابعاً: ما الحكمة من تحريم التشبه بالكفار وبغيرهم ممن حرم الله - عز وجل - التشبه بهم؟:
ابتداءً ينبغي أن نعرف أن الله حكيم عليم خبير، يعلم بواطن الأشياء، وأنه لطيف يعلم دقائق الأشياء، فالله - عز وجل - لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
فالله -تبارك وتعالى- حكيمٌ في أقداره، وحكيمٌ أيضاً في شرائعه وأوامره الدينية، فينبغي للمسلم أن يسلم لأحكام الله - عز وجل - الكونية، كأن تكون وقعت به مصيبة فعليه أن يرضى وسيُسلِّم، وينبغي للعبد أن يسلم لله - عز وجل - في أحكامه الشرعية، والله - عز وجل - يقول: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)[(65) سورة النساء].
ويقول: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[(51) سورة النور].
فهذا هو الواجب على المسلم سواء عرف الحكمة من وراء هذا التشريع أو لم يعرف.
بعد ذلك أقول: هناك حِكمٌ واضحة جلية من تحريم التشبه بالكفار، ومن حرّم الله - عز وجل - التشبه بهم ممن سنعرف حالهم؛ فمن ذلك:
أولاً: قطع الطريق المفضية إلى محبة هؤلاء الكفار، وما يتبع ذلك من استحسان ما هم عليه، وذلك لا شك أنه ينافي الإيمان، حيث إن موالاة المشركين أمر محرم، والله - عز وجل - يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[(22) سورة المجادلة]، إضافة إلى ما تفضي إليه هذه المشابهة في الظاهر من الميل في الباطن.
ومعلوم أن الموافقة في الظاهر تورث مشاكلة وموافقة في الباطن، فهناك ملازمة بين الظواهر والبواطن، فالمشابهة في اللباس -مثلاً- تورث نوعاً من المجانسة والموافقة والموالاة.
إذا لبس الواحد منا زي أهل الرياضة فإنه يجد في نفسه نشاطاً وحركة وخفة وتوثباً، وإذا لبس زي العلماء فإنه يجد في نفسه ميلاً إلى الوقار، وإذا لبس الإنسان زي الجند والمقاتلة فإنه يجد في نفسه اندفاعاً إلى القوة والشدة وأخلاق المقاتلين دون التميع وما إلى ذلك من الأخلاق التي لا تناسب هؤلاء، فلا شك أن اللباس يؤثر، وأن ما يجده الإنسان في الظاهر يؤثر في داخله وفي باطنه.
وأنت الآن جالس في هذا الموضع من الأرض تصور أنك في الدور التاسع عشر كيف يكون شعورك؟ هل يكون شعورك كما هو شعورك الآن؟ الجواب: لا، بل ستجد شعوراً مبايناً
تخيل الآن أنك دخلت في بلد كما قيل:
ولكن ما الفتى العربي فيها *** غريب الوجه واليد واللسانِ
لو دخلت بلداً لا تعرف أهلها، ولا تعرف لغتهم، وهيئتهم تغاير هيئتك، ولغتهم تغاير لغتك، فجلست في قاعة كبيرة فيها أقوام من هؤلاء الذين يختلفون عنك في كل شيء، وأنت غريب بينهم، فدخل رجل آخر يلبس كما تلبس، أما تجد في نفسك انجذاباً قوياً إلى هذا الإنسان؟ لا شك أنك تجد ذلك.
تصور لو أنك الآن نظرت إلى أحد الحضور فوجدت أنه يلبس كساعتك، وعمامةً كعمامتك، وثوباً كثوبك ويركب سارة كسيارتك، وتزيّ بزيك، وبينك وبينه شبه في الوجه وفي هيئة الجسد وما إلى ذلك، أما تجد في نفسك انجذاباً إليه، وإن حاولت أن تسيطر على نفسك بأن لا تبدي هذا الانجذاب؟ لا شك أنك تجد ذلك.
فأقول: الظاهر يؤثر في الباطن؛ ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن الإنسان لربما يكون له معارف في بلده لربما يراهم حتى لا يُسلم عليهم، فإذا سافر إلى بلد غربه ووجد أحداً من أهل بلده فإنه يكون بينه وبينه من الود والألفة والمصافاة والمجالسة وما إلى ذلك ما لا يقادر قدره، أليس هذا من الأمور الواقعة؟ لا شك أنه كذلك.
يتبع